أدت الأحداث المتلاحقة حول العالم إلى تبعثر أحلام كثيرين ممن راهنوا على الإيمان بقيمِ العدالة والمساواة القادمة من الغرب، وأُصيبَ كثيرون بالصدمة حين واجهوا، عن كثب، الفارق الكبير بين سياسة هذه الدول ونُظُمِها الداخلية، وبين سلوكها في السياسات الخارجية، حيث انعدام الشفافية أثناء اتخاذ القرارات التي تتعلق بالأحداث الساخنة خارج حدودها، وحيث يتم تقييم الأمور وفق أجندات غير معلنة، تخدم نتائجُها أهدافاً محددة تصب في مصلحة هذه الدول، مهما كانت النتائج كارثية على الآخرين خلف الحدود.

يتطلب تبني أفكارٍ حيال هذه المسألة العودة إلى التاريخ، لإدراك الأسس التي تم البناء عليها وتبيّن قاعدة مواقف الدول الكبرى في سياساتها الخارجية بصورتها الحالية. وفي سياق هذه العودة يمكن أن نضع مؤتمر لاهاي الأول 1899، والثاني عام 1907، نقطة انطلاق.

كانت الغاية من عقد المؤتمرين هي العمل على اتخاذ خطوات جادة تهدف إلى تجنيب المدنيين ويلات الحروب التي قد تدور رحاها في أي مكانٍ من العالم. لذلك، وضعت الدول المجتمعة لوائح صارمة، مهمتها تقييد سلوك الجيوش أثناء خوضها المعارك، للتخفيف ما أمكن من حجم الكوارث. كانت الدعوة إلى إلزام الطرف الذي يخلُّ بأحكام اللوائح المنصوص عليها بالتعويض على الضحايا أمراً لا لبس فيه، وكذلك كان الإصرار على محاسبة الطرف المسؤول عن الأعمال التي يرتكبها أشخاص ينتمون إلى قواته المسلحة، ما يعني ضبط رعونة أفراد الجيش وكبح حماستهم.

في عام 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى في أوروبا، وكانت حرباً طاحنة استمرت أربع سنوات، في نهايتها تم إحصاء أربعين مليون ضحية ممن فقدوا حياتهم أو أصيبوا بعاهات رافقتهم طيلة عمرهم. المثيرُ للصدمة أن الضحايا من المدنيين فاقَ عددُهم الضحايا من العسكريين، وقد قضى كثيرٌ من المدنيين العُزَّل نحبهم نتيجة الاستخدام الكثيف والمفرط للأسلحة الكيماوية في مناطق كان قادة الجيوش يعرفون أن أثر استخدامها فيها سيمتد خارج نطاق الأهداف العسكرية، وأن العُزَّل من المدنيين سيدفعون ثمن ذلك. أيضاً فقد كثيرٌ من الضحايا حياتهم نتيجة القصف المباشر للأحياء السكنية، أو نتيجة أعمال إبادة متعمدة، ما يؤكد أن الدول الكبرى التي شاركت في مؤتمري لاهاي لم تلتزم باللوائح التي وضعتها بنفسها، ولم تكترث بالقيود والنُظُم التي رسمتها ووقّعت عليها. هنا يمكن تحديد بداية مسار تمييع أعمال المؤتمرات، والإطاحة بكافة القرارات التي تتخذ خلالها، خدمةً لمصالح لا تزال غامضةً إلى حدٍّ ما.

إثرَ انتهاء هذه الحرب، اتخذت الدول الكبرى خطوتها التالية بتأسيس عصبة الأمم، وعبرَ هذه المنظمة تم العمل على وضع الدول الفقيرة تحت سلطة وسيطرة الدول التي سجلت انتصاراتها نهاية هذه الحرب الكبرى، بعد أن تم ابتكار نظام «مدهش» أُطلِقَ عليه «الانتداب». أي أن الحرب العالمية الأولى انتهت إلى نتائج غير معلنة، وهي بسط نفوذ الدول المنتصرة على مناطق جديدة في العالم، وتوسيع رقعة مستعمراتها. كانت الدول الفقيرة آنذاك عاجزة عن الدفاع عن نفسها، كونها لم تكن تملك أسلحة العصر المتطورة، ولا مفاتيح العلوم أيضاً.

قيلَ إن الحرب العالمية الأولى حين انتهت لم تحسم المشاكل العالقة بين الدول المتنازعة، ما فتحَ الباب واسعاً أمام حرب أخرى أكثر شراسةً واتساعاً، شملت مناطق جديدة من العالم!

 أياً يكن سبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، فإننا هنا معنيون بأهم نتائجها، العدد الهائل من الضحايا الذي قاربَ ثمانين مليون ضحية، أي ضعف عدد ضحايا الحرب الأولى. لقد فاقَ عددُ الذين فقدوا أرواحهم خلال هذه الحرب عددَ ضحايا الحرب الأولى من القتلى والجرحى وممن فقدوا أعضاءَ من أجسادهم مجتمعين، وبلغَ استخدام الأسلحة الفتاكة مستويات غير مسبوقة، اختتمت باستخدام القنابل الذرية لكبح تفوق اليابان العسكري، وهو عذرٌ لا يزال حتى الآن مقبولاً لدى القوى العظمى التي سجّلت بهذا العمل ذروة التوحش البشري، وصنعت انتصاراً مخزياً على الصعيدين الإنساني والأخلاقي، دون أن تبدر عنها بادرة ندم أو خجل واحدة حتى الآن.

لقد سجلت عصبة الأمم فشلاً مدوياً أُضيف إلى فشل مؤتمرات لاهاي ذات الأهداف النبيلة والنتائج الخائبة، ولم تتمكن المنظمة الدولية من تنفيذ أهم شروط تأسيسها، وهو العمل على حل المشاكل العالقة بين الدول بالطرق السلمية، ومحاولة إيجاد طرقٍ لحسم النزاعات يمكنها أن تبعد شبح الحروب ونتائجها الكارثية عن المجتمعات الإنسانية. حصلَ ذلك نتيجة عدم التزام الدول الكبرى بأهداف المنظمة التي عملت على تأسيسها ووضعت نُظُمها بنفسها، ثم جرى العمل بسرعة لتأسيس منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن كبديلٍ متطورٍ لعصبة الأمم.

لم تكن هذه أهم نتائج الحرب العالمية الثانية كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، ولا انقسام أوروبا إلى معسكرين متباينين، بل كان الاتفاق على تجنب خوض حروب داخل القارة الأوروبية هو النتيجة الأهم. بموجب هذا الاتفاق تم تغيير المشهد العالمي، ونُقِلَت ساحات الصراع إلى خارج القارة الأوروبية، أما الولايات المتحدة فقد كانت بحكم موقعها الجغرافي بمنأىً عن الأحداث الساخنة. وبالنتيجة دفعت كثيرٌ من دول العالم، وما زالت حتى الآن تدفع، خوَّة هذا الاتفاق من استقرارها الداخلي، ومن دماء أبنائها أيضاً.

بعد انتهاء الحرب الثانية بدأت أوروبا داخلياً بترميم جراحها، والعناية ببناء نُظُمها الداخلية والعمل على تعويض أفراد شعوبها عن الثمن الباهظ الذي دفعوه، بالعمل على ضمان رفاهيتهم واستقرارهم، وكان لنظام الحكم الذي استند على انتخابات تعتمد المصداقية الدور الفاعل في ضمان تحقيق هذا المطلب.

غير أن الرفاهية تحتاج إلى موارد ضخمة ودائمة، وليس هناك أجدى من تجارة السلاح التي برزت أهميتها خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية كأهم رافد للاقتصاد يمكنه تحقيق نمو يؤتي ثماره سريعاً. وهكذا نُقِلَت الأحداث الفاقعة كالحروب وإدارة الفتن الداخلية إلى مناطق متفرقة من العالم خارج الحدود التي رُسِمَت بعناية للدول الكبرى، وكان لدول العالم العربي من الأحداث الظالمة النصيب الأكثر إيلاماً.

هنا تظهرُ ازدواجية معايير القوى الكبرى في التعاطي مع المشاكل العالقة، ليس كموقفٍ سياسي بل كنهجٍ يُحتذى لعقلية قديمة من الصعب إحداث تغيير فيها. لقد حظي المواطنون ضمن حدود هذه الدول بالمساواة في الحقوق والواجبات، وتم إقرار الحرية الفكرية كأمر لا يمكن المساس به، وفي الوقت ذاته شهدت جنوب إفريقيا سياسة تمييز عنصري وأعمال إبادة أيضاً، في الجزائر سقط مليون شهيد هم ضحايا شعب رغب باستقلال وحرية بلده.

جاءت مقررات مؤتمر جنيف سنة 1949 صريحةً في منع تهجير السكان بالقوة من مناطق سكنهم، وفي السنة التي سبقتها كان قد حدث تهجير الفلسطينيين من بلدهم إلى دول الجوار، واستُبدِلَت دولتهم بدولة أخرى محدثة قوامها أساس ديني، دون أن تكلف أي من الدول المجتمعة نفسها النظر إلى ما جرى في تلك البقعة من الأرض ولو على سبيل حفظ ماء الوجه.

أيضاً خلال الحرب في فيتنام استُخدِمَت الأسلحة الفتاكة وقنابل النابالم على نطاق واسع، وفي أمريكا الجنوبية تمت إدارة الانقلابات العسكرية ودُعِمَت حكوماتها الاستبدادية التي ارتكبت مجازر وحشية ضد شعوبها. كذلك قامت حروبٌ داخليةٌ مريبةٌ في أفريقيا، وتم السكوت عن المجازر الهائلة والمريعة التي حدثت خلالها.

تدميرُ غروزني بالكامل من قبل روسيا، واستخدامُ الأسلحة المحظورة في الحرب على العراق بحجة العمل على نشر العدل في دولة يتولى حكمها دكتاتور يقتل شعبه، ثم تقديم هذا البلد كهدية باذخة لدولة يروجون أنها عدو مارق. وأخيراً، السكوت الكامل على تدمير سورية من قبل حاكمها.

لقد تحوَّلت اللعبة الآن عن مسارها وأصبحت أكثر دهاءً مما كانت عليه خلال عصر الاستعمار، وبسبب فقدان الدول الكبرى لأرواح الجنود الذين يتم إرسالهم لتنفيذ المهام الكبرى، بدأت نظرية الحرب بالوكالة تلقى قبولاً لدى السياسيين والرأي العام أيضاً، باعتبارها أقل كلفة دون أن يؤثر ذلك سلباً على تحقيق النتائج المطلوبة.

إدارةُ الحروب عن بعد، والحرب بالوكالة، سياسةٌ جديدة لعقلية قديمة لم تتغير، تقوم على أساس عقد اتفاقياتٍ في الخفاء، يتولى تنفيذ أجندتها رؤساء أو أشخاصٌ نافذون يملكون القدر الكافي من الغباء السياسي الذي يسمح للآخرين بإدارتهم ضد مصلحة شعوبهم أولاً، وضد مصلحتهم ثانياً، كأدواتٍ لا تلبث أن ينتهي دورها ثم يتم التخلص منها لاحقاً.