خمس سنوات ونصف مرت على انطلاق الثورة السورية، قضيتُ نصفها تقريباً خارج حدود وطني، وأكادُ لا أنسى أياً من تفاصيل تلك السنوات. النجاحات القليلة، والإخفاقات المتكررة، وخيبات الأمل الكثيرة جداً. أتمنى دائماً أن أنسى الإخفاقات والخيبات، لكن الذاكرة تعمل بمزاجها، وغالباً ما تذكرنا بأسوأ الذكريات، في أصعب الأوقات.
في دردشة فيسبوكية، سألني صديق قديم: «هل تذكرُ أيامنا في الجامعة؟». شردت لدقائق، لأكتشف أن ذاكرتي الجامعية قد مُسِحَت تماماً، ولم أستطع أن أتذكر أي تفاصيل عن تلك الأيام. ما تذكرته كان مجرد مواقف عادية، وبعض الوجوه، دون أي تفاصيل.
آخر ما أذكره من الجامعة كان في يوم 15 آذار 2011. كانت هنالك دعوات على الإنترنت لمظاهرات في سوريا تحت عنوان «يوم الغضب»، وذهبتُ يومها إلى الجامعة لأقابل صديقتي، وكانت طالبة في كلية التربية أساعدُها في إعداد بحث عن «حياة الأطفال المتسربين من المدارس الابتدائية». تأخرت صديقتي عن الموعد المحدد، فاتصلتُ لأسألها عن السبب. أجابت أن أباها، الضابط برتبة عميد في الجيش، طلب منها ألا تذهب للجامعة إن لم يكن الأمر ضرورياً، وذلك بسبب احتمال حدوث «مشاكل» في البلد.
أغلقتُ الهاتف وخرجتُ من الجامعة. كان الازدحام اعتيادياً، ولا شيء يلفت الانتباه سوى بعض الرجال، حليقي اللحى، وذوي شوارب كبيرة، يذهبون جيئة وذهاباً دون أن يتعرضوا لأحد. عرفت فوراً أنهم عناصر أمن. غادرت المنطقة موقناً أن لا شيء سوف يحدث، وأن لا استجابة لدعوات التظاهر.
على عكس ضعف ذاكرتي حول فترة ما قبل الثورة، فهي قوية جداً للفترة التي تلتها، حتى أنني أكاد لا أنسى أي وجه رأيته في المظاهرات السلمية التي اندلعت في مدينتي منذ 18 آذار 2011. أذكر كل شخص قابلته، وكل شخص تحدثت معه أثناء المظاهرات، وحتى من رغبت بالحديث معهم ولم يُتَح لي ذلك.
واحدٌ من الذين لم يتسنَ لي الحديث معهم كان شاباً في بداية العشرينيات من عمره. رأيته في الجمعة الثالثة من جُمَعِ التظاهر. تجمّعت يومها مظاهرات عدة من أحياء مختلفة عند دوار القاهرة، الواقع بين حيي الخالدية والبياضة بمدينة حمص، وما هي إلا ربع ساعة من التجمع والهتاف حتى بدأ إطلاق الرصاص على المظاهرة من مقر الأمن الجنائي القديم، وبدأ الناس بالركض في كل اتجاه، في مشهد أشبه بيوم الحشر. الجميع فرَّ من الرصاص، باستثناء شاب واحد، وقف في منتصف الشارع وفتح يديه في مشهد مماثل لما نراه في الأفلام السينمائية.
من مخبئي في مدخل أحد الأبنية كنتُ أشاهدُ الرصاص وهو يلامس قميصه وسرواله دون أن يجرحه، إلى أن استقرت رصاصة في قدمه اليسرى فوقع على الأرض، ثم زحف إلى الطرف الآخر، وتم إسعافه. لم أفهم ما كان يدور في بال ذلك الشاب، وكيف قرر فعل ذلك، وتساءلت: هل كان يرغب أن يواجه الرصاص بجسده؟ أم أنه كان يود إيصال رسالة أن رصاصكم لا يرعبنا؟ أم أنها إحدى نوبات الجنون التي لا تفسير لها؟ لم أجد لسؤالي جواباً، وتمنيت لو أُتيح لي الحديث مع ذلك الشاب لأسأله عما كان يدور في باله في تلك اللحظة. سألتُ عنه لاحقاً، علمت أن اسمه محمود، من سكان حي البياضة، وأنه استشهد لاحقاً برصاصة قناص أثناء محاولته إنقاذ أحد الجرحى.
لطالما اعتبرت نفسي محظوظاً كوني من أبناء حي الخالدية الحمصي، فالحي الذي كان من أبرز الأحياء الثائرة، وبؤرة هامة من بؤر التظاهر، ولاحقاً معقلاً من معاقل الجيش الحر، شكّل مكاناً أروي فيه شغفي بأن أكون شاهداً على الأحداث. أكره بطبعي سماع الروايات عن الأحداث المهمة، وأفضل مشاهدتها بنفسي، وأشعر بشغف دائم لمواكبة جميع الأحداث ورؤيتها رؤية العين. هذا الطبع، أيضاً، جعل إيماني بالثورة السورية راسخاً إلى أبعد حد، وبات تغيير نظرتي الإيجابية تجاهها أمراً مستحيلاً. فلا التقارير الصحفية، أو التلفزيونية، قادرة على تغيير قناعاتي، ولا كلام من هنا وهناك عن انتهاكات أو سواها، قادر على تغيير إيماني المطلق بشباب الثورة، بمختلف توجهاتهم.
من منزلي في حي الخالدية، كنت شاهداً مباشراً على الثورة السورية بكل مراحلها، من المظاهرات السلمية، إلى المظاهرات المحمية من بعض المنشقين، ومن ثم مرحلة العسكرة وحمل السلاح، وصولاً إلى مرحلة تحرير المناطق وتعرضها للقصف. وقُدِّرَ لي أيضاً أن أشاهد بعض معارك الجيش الحر مع قوات النظام في مراحلها الأولى. لم أذهب إلى تلك المعارك، بل هي من أتت إلى حيث أقيم، فجيش النظام قرر في شهر تموز من عام 2011 تحويل المدرسة الملاصقة لمنزلي إلى ثكنة عسكرية، وتعرضت هذه الثكنة الجديدة لهجمات عدة من عناصر الجيش الحر في نهاية عام 2011، وقُدِّرَ لي أن أشاهدها من نافذة منزلي.
خمسة من أعز أصدقاء الطفولة فقدتهم أثناء المظاهرات السلمية، ذرفتُ كثيراً من الدموع، وبكيت دماً، وأحياناً تمنيت لو أني مت معهم، لكن عجلة الأحداث السريعة كانت تجبر الجميع، وأنا منهم، على نسيان كل شيء، والالتفات إلى ما يجري على الأرض من أحداث. ولاحقاً، أقنعتُ نفسي أن هذه الدموع التي يذرفها أبناء سوريا هي «دموع على سفوح المجد»، مقتبساً هذه الكلمات من عنوان رواية كنت قد قرأتها قبل سنوات. لم أتذكر سوى العنوان، ولا أتذكر محتواها أبداً، لكنها شكلت دافعاً أقنعني أنه لا بد من هذا المخاض الطويل، والدموع الغزيرة، للوصول إلى المجد المطلوب.
في إحدى المظاهرات كنتُ مع ثلاثة من أصدقائي، بقينا في المظاهرة قرابة الساعتين. أخرجتُ هاتفي ونظرت إلى الوقت وقلت لأصدقائي «الساعة 2 إلا خمسة، بكفي اليوم خلونا نمشي»، فأجابني صديقي: «خلينا للساعة 2 ومنمشي»، وما هي إلا ثلاث دقائق حتى دخلت مدرعة تابعة لقوات النظام وبدأت بإطلاق النار العشوائي. ركضتُ هارباً من الرصاص، وذهبتُ إلى البيت فوراً. بعد ساعة من الزمن عرفت أن 9 متظاهرين قد استشهدوا، ومن بينهم كان صديقي الذي طلب أن نبقى في المظاهرة لخمس دقائق إضافية! هذه الحادثة هي أكثر ما يؤلمني من ذكرياتي جميعاً، وهي من هيّأتني حينها لأتقبّل قيام بعض الشبان بحمل السلاح دفاعاً عن المتظاهرين العزل، بعد أن كنت مصرّاً على الالتزام بالعمل السلمي على مدى أشهر من عمر الثورة. الآن أدرك أن خمس دقائق إضافية ليست زمناً قصيراً، وقد تشكل تحوّلاً جذرياً في فكر وحياة الإنسان.
أذكر جيداً كيف بدأت أشاهد انتشار السلاح في الحي مع نهاية عام 2011. كنت أعرف كثيرين ممن كانوا يحملون السلاح، وجميعهم من أصدقائي وأبناء حيي. كنت مُحبّاً لهم، ومتعاطفاً معهم، وأتمنى أن ينتصروا في أي موقعة ضد الحواجز المنتشرة في محيط الحي. لم يكن أحد يفكر بالإيديولوجيا التي يحملها المقاتلون، ولا بمشروعهم السياسي، ولا بأي من هذه المصطلحات التي ظهرت لاحقاً. كل ما كان يفكر فيه الناس هو أن هؤلاء يقاتلون من يُذل ويعتقل الأبرياء على الحواجز، ويطلق الرصاص على المظاهرات السلمية. كانت الحاضنة الشعبية بأكملها معهم، وتتمنى انتصارهم.
نقاشي الأول مع قائدٍ في الجيش الحر كان في بدايات العام 2012، إبان الهجوم الشهير على حي بابا عمرو. كان خريجاً من كلية الشريعة، وإماماً لمسجد في الحي. سألته عن مشروعهم السياسي المستقبلي، فأجاب أن لا مشروع لديهم سوى إسقاط النظام. فسألته: «وماذا بعد ذلك؟ أنترك البلد للفوضى؟». فأجابني: «مهمتنا كجيشٍ حر إسقاط النظام، ثم يقرر الشعب شكل الحكم الذي يريده. جلسةٌ موسعة لحكماء هذا البلد كفيلة بحل جميع مشاكله، وتحديد مستقبل شعبه». قد يكون كلامه رومانسياً، ولا مجال لتنفيذه على أرض الواقع، لكن كلماته لا تزال في ذاكرتي نموذجاً لما كان عليه تفكير عناصر الجيش الحر عندما حملوا السلاح ضد النظام.
تعرضَ منزلي للقصف أول مرة في السابع من نيسان من العام 2012. خمس قذائف هاون سقطت على سطح بيتي، وصنعت فتحة في سقف الطابق الرابع. كنت أنا وإخوتي في الطابق الأول، ولم يصب أحد منا بأي أذى. تكرر القصف بعدها عشرات المرات، وكان الشارع الذي أقطن فيه يحظى بمرتين أو ثلاث من دفعات القصف يومياً. تساءلت كثيراً عن السبب الذي يجعل شارعنا بالذات مستهدفاً، فتذكرت أن جارنا «أبو ربيع» قد استضاف صحفيين أجانب قَدِموا لتغطية المظاهرات السلمية في وقت سابق. كان ذلك جريمة لا تغتفر، واستحق شارعنا بسبب ذلك، من وجهة نظر النظام طبعاً، التدمير الكامل. بالمناسبة، استشهد «أبو ربيع» تحت التعذيب في فرع فلسطين بدمشق، والتهمة كانت «الخيانة وتقديم المأوى لجواسيس أجانب!».
بقيت شهراً كاملاً في المنزل، أتعرضُ للقصف يومياً، وكانت كمية الرعب التي أشعر بها تتناقص مع كل قذيفة تسقط. لا أصدق أن أحداً لا يخاف أبداً من أصوات الانفجارات الرهيبة، وتتفاوت النسب، لكن الخوف الطبيعي من الموت يبقى حاضراً في كل لحظة.
في الخامس من شهر أيار من عام 2012 خرجتُ من حي الخالدية في زيارة إلى بيت أختي الواقع في مناطق سيطرة النظام. قررتُ أن أقضي أسبوعاً هناك، ومن ثم أعود إلى بيتي، ولم تمضِ سوى أربعة أيام حتى أطبق النظام الحصار على أحياء حمص القديمة، وأحياء الخالدية والقصور وجورة الشيّاح. ذلك الحصار الذي استمر لعامين، ومات خلاله كثيرٌ من الناس بسبب الجوع أحياناً، وبسبب نقص الأدوية والقصف العشوائي أحياناً أخرى. ربما كنت محظوظاً مجدداً لتواجدي خارج الحي هذه المرة!
أمضيت بعدها خمسة أشهر في المنزل، لا أخرج منه أبداً. لم أكن أضمن المرور على حاجز أمني، ولم أكن أعرف فيما إذا كنت مطلوباً أم لا. ومع بداية شهر كانون الأول من عام 2012 قررت المخاطرة والخروج، وكانت النية هي التوجه إلى لبنان، ومنه إلى تركيا، ومن ثم إلى الشمال السوري المحرر. وفعلاً، خرجتُ من منزلي ولا أعرف إلى أين أتوجه بالضبط، فالوجهة النهائية معلومة، لكن الطريق إليها كان مجهولاً تماماً.
عبرتُ الحدود وقلبي يخفق بشدة، فعلى الرغم من عدم خوفي من الموت، ومواجهتي له مرات عدة، إلا أنني كنت أخشى من الاعتقال. عبرتُ الحدود بهدوء، وصلتُ إلى بيروت، وقضيتُ ليلتين في منزل أحد الأصدقاء، ومن ثم توجهتُ إلى تركيا، ومنها دخلت من معبر باب الهوى إلى محافظة إدلب. قضيت عاماً كاملاً متنقلاً بين إدلب وحلب والقلمون ومحافظات الشرق السوري، وقُدِّرَ لي أن أقضي شهراً كاملاً في مدينة الرقة بعد تحريرها، وقبل سيطرة رايات الظلام عليها.
كان كل شيء في إدلب مختلفاً عما عشته في حمص، ولاحقاً لاحظت أن كل شيء في حلب مختلف عما عشته في حمص وإدلب، وهكذا في كل المناطق التي زرتها. كان لكل منطقة خصائصها وطريقتها في إدارة حياتها، وأسلوبها في حل خلافات أبنائها. شعرتُ حينها أن عبارة «الثورة السورية» ليست دقيقة تماماً، وأن الاختلافات والتناقضات الكبيرة بين المناطق تجعل عبارة «الثورات السورية» هي الأصح.
أكثرُ المشاهد حضوراً في ذاكرتي من فترة تواجدي في المناطق المحررة هو لحظة وداع شاب يبلغ من العمر 17 عاماً لأبيه وأمه وإخوته الأربعة، الذين فارقوا الحياة نتيجة قصف منزلهم ببرميل متفجر. كانت عباراته مليئة بالرغبة بالثأر والانتقام. ما زلت أبرر له كل ما قاله، ففي زمن غياب العدالة والمحاسبة لن يُطلب إلا الانتقام. ولاحقاً، تحوّل ذلك الشاب إلى مقاتل، وقتل في إحدى المعارك.
في الذكرى الخامسة للثورة، 15 آذار 2016، كانت حسابات فيسبوك مليئة بالقصص عن ذلك اليوم! واكتشفت على الفور أن الجميع كانوا أبطالاً، وساهموا بإشعال الثورة منذ يومها الأول، إلا أنا! كمية الادعاء والكذب التي قرأتها في فيسبوك يومها كانت لا تصدق!
في غمرة الكذب ذاك، خطر لي أن أبحث عن حساب فيسبوك الخاص بصديقتي، ابنة الضابط. كنتُ قد قطعتُ أي تواصل معها منذ بدء الثورة، وفعلاً وجدته. تذكرتُ حديثي الأخير معها، كان ذلك بعد خطاب بشار الأسد الأول، خطاب الضحك والتصفيق. حدثتني يومها عن المؤامرة الكبيرة التي تحاك ضد سوريا، وعن قوة سوريا، واختلافها عن مصر وتونس، وعن استحالة اندلاع ثورة في بلد يحكمه بشار الأسد! كررت جُمَل بشار ذاتها وكأنها جمل مقدسة. أحسست بالاشمئزاز من كلامها، وباحتقار شديد لها. اعتذرتُ يومها عن متابعة الحديث متعللاً بالنعاس، وودعتها على أمل أن نلتقي في الجامعة بعد أيام، ولم أشاهدها منذ ذلك الوقت، ولم أفكر أن أتصل بها هاتفياً أبداً.
لم أقوَ يوماً على خوض نقاش مع مؤيد للنظام، ليس لأنني لا أستطيع إقناعه، أو مجاراته، بل لمعرفتي بالطريقة البائسة التي يفكر بها، وكثيراً ما قلت لنفسي: «ليس من المعقول أن أخوض نقاشاً مع من يفتخر بوضع حذاء عسكري فوق رأسه!».
دخلتُ إلى حسابها، وكانت قد وضعت مكان الصورة الشخصية صورةً لأبيها وعليها شريط أسود من الزاوية اليمنى، وكتبت أنه قد قتل أثناء قتاله مع قوات النظام في معارك ادلب بداية العام 2015. الصور والمنشورات التي قرأتها في صفحتها كانت مليئة بعبارات الحزن على والدها، فخطر لي أن أسألها: ألم يكن حريّاً بوالدك الذي نصحك بالابتعاد عن «المشاكل» منذ اليوم الأول للثورة أن يوجه تلك النصيحة لنفسه ويبتعد عن «المشاكل»؟ ألم يكن من الأفضل له ألا يقف في صف القاتل ضد أبناء شعبه؟ أدركتُ قبل أن أسأل أن عبارات التخوين ستكون ردَّها القطعي على أسئلتي، وألا مجال للنقاش معها بأي شكل كان، وعزز ما قرأته في صفحتها من منشورات هذا الاعتقاد، فكمية الحقد، والكراهية، والدعوات لحرق المناطق المحررة وإبادة سكانها، تؤكد أن النقاش معها سيكون عقيماً. عدَلتُ عن الفكرة، وأغلقتُ صفحتها دون أي حديث.
«شغلتنا مطوّلة»، كانت هذه الجملة أول ما خطر في بالي لحظة إغلاق صفحة صديقتي. فهذا الموقف، ومواقف أخرى تشبهه، بالإضافة إلى ما عشته على مدى سنوات، تؤكد جميعها أن الحل في سوريا بعيدٌ جداً. لو انتهت الحرب اليوم بتسوية سلمية، ودون تحقيق العدالة، ترى ما الذي قد يكون كفيلاً بإنهاء الحقد، وإصلاح ما حطمته الحرب في النفوس؟