الله
وردَ اسم الله 2707 مراتٍ في القرآن، بمعدلٍ يتجاوز ثلاثة بالمائة من عدد كلمات الكتاب البالغة 77934. هذه النسبة عالية، ولعل نظائرها نادرة في ما نعرف من كتب، مقدسة وغير مقدسة. وهي تصلح مؤشراً على تمركزٍ عالٍ للنص القرآني حول الله. الله هو مصدر النص، على ما يلح النص بالفعل، وهو مصدر الفاعلية الخاصة المنشئة للإسلام الذي هو «دين الله»، الدين الذي أتى من الله والذي يحتفي بالله، يتعبد له ويرجو رضاه، ويدور حوله. فإذا أدرجت في الحساب صفات الله و«أسماؤه الحسنى» والإحالات عليه، وهي لازماتٌ متكررةٌ في النص القرآني، جاز وصف القرآن بأنه «كتاب الله» بمعنى مباين للمعنى الشائع (الكتاب الذي أنزله الله)، معنى الكتاب الذي يروي قصة الله، رضاه وغضبه، وعده ووعيده، ما يفعل وما يريد.
وما تقوله القصة هو، باختصار، إن هناك خالقاً قديراً غير مرئي، خلق الأرض والكون والبشر، وأرسل إلى البشر رسلاً، منهم محمد إلى العرب و«الناس»، كي ينضبطوا في سلوكهم بأصول مُحددة يُحرّم الخروج عليها، وإنه يعلم كل شيء، وسيحاسب البشر يوم القيامة الذي ينتهي فيه العالم ويُبعث فيها الموتى أجمعين، فمن أطاع وفعل وفقَ الأصول التي قررها الله يُثاب بالجنة ومسرّاتها الدائمة، ومن عصى وتولى يُجزى بالنار وعذابها الأبدي. هذه القصة أبلغها الله بالذات لمحمد، رسوله، عن طريق وسيط أمين، جبريل.
المخاطَبون هم الناس، وليس أي كائنات حيّة أخرى، ولا كائنات خيالية مثل تلك المذكورة في القرآن ذاته، كالجن والشياطين. والإنسان كائن تتعدد أجناسه ولغاته، ولا يكفُّ أفراده وجماعاته عن التغيّر، وقد يُبطن غير ما يُظهر، وقد يضل بعد هدىً أو يهتدي بعد ضلال. الحيوانات والنباتات لا تفعل ذلك، لا تضل ولا تهتدي، لأنها «مبرمجة» على أنظمة تفاعل محددة مع بيئاتها. أفعالها غير «حرة» خلافاً للإنسان، الذي يقوم اليوم بأفعالٍ ما كانت متصورة قبل عقود قليلة. يمكن لذلك أن يعني أن الإنسان كائن تاريخي. ويبدو أن الكائنات الخيالية أكثر حرية بعد حيال إكراهات الطبيعية، ورغم أننا لا نعرف طبيعتها، فإنه يبدو أنها مفارقة لعالم الطبيعة الذي يتشاطره الإنسان والحيوان والنبات، والجماد.
وبقدر ما إن «كتاب الله» مركزي في الإسلام، ديناً وعالماً، فإن الله، الحر المطلق، الفعّال لما يريد، الذي لا قيود لقوته ولا حدود، هو المركز الأعلى، مركز القوة والمبادرة. وصفات الله الإسلامي معلومة من القرآن ذاته، إنه متعالٍ وقوي وخالق وعالم بكل شيء، ومالك يوم الدين، لكنه أيضاً كريم ورحيم وعادل وعَفُوّ. وهو معطٍ كريم، لكن منّان يتوقع مقابلاً لما يعطيه في صورة طاعة تامة، يكافئ عبيده المطيعين بجِنان لا ندرة فيها لمباهج حياتهم في الدنيا ولا قصور فيها لطاقاتهم على التمتع بها، وقد يغفر لمن لا يعبدونه، لكنه شديد العقاب، ولا حقوق لديه للإنسان بما هو إنسان.
وقبل كل شيء، الله واحد. لا آلهة أخرى غيره، ولا دين آخر له غير الإسلام. آلهة العرب قبل الإسلام هُزِمت وحطمت، والتبليغات السابقة عن الله التي يقرر الإسلام بأنها تبليغات سابقة مشكوك بصحتها، تعاني من التحريف في أقل تقدير.
وعبر عمليات الإقصاء هذه، وعمليات استيعاب (اندراج في التراث الإبراهيمي)، صار الله مسلماً. هذه مفارقة. فأسلمة الله تعني تقييده، والله مطلق لا قيد له أو عليه. هذه قضية أساسية في أي فلسفة إسلامية جديدة، تمسّ الحاجة إليها اليوم.
وبقدر ما كان الله، في القرآن بالذات، واحداً متعالياً، غير مرئي وغير قابل للتمثيل، فقد كان التركيز على الراوي الموحى إليه، محمد، سبيلاً إلى امتلاك التجربة الدينية. هذا لا يقتصر على فكرة «الذات المحمدية» عند المتصوفة، والموالد والأذكار التي تدور حول شخص الرسول، بل يتعداها إلى مفهوم السنة النبوية كما سنرى، حيث محمد هو المركز.
الدولة
في حياة الرسول ذاته تحوَّل الإسلام، الدين الذي كان لا يزال الله ينزله في واقعة خارقة للاتصال بين السماء والأرض، إلى قوة سياسية مؤثرة. كان رسول الله، محمد بن عبد الله، هو الشخصية الرئيسية في الدين، وفي القوة السياسة الناشئة.
تلقي النبي العربي الوحي في مكة، حيث كان يعيش بين قومه، وحيث أوذي وكُذِّب وعُزِلَ وهُزِئَ به وحُرِّض عليه. وبعد 13 عاماً من الدعوة في مكة، جرى خلالها إرساء الأساس العقدي للدين الجديد، وتكونت خلالها جماعة محدودة من المؤمنين، رحل النبي إلى المدينة، وهناك اتسعت الجماعة، لكن اتساعها لم يقتصر على «انشراح الصدور» للدعوة، وإنما شمل «تأليف القلوب»، أي السياسة. القرآن الذي كان ينزل تباعاً سَجَّلَ هذه التحولات، ومنها ظهور ضرب من الكيان السياسي الإسلامي والتشريع له، والصراعات التي خاضها هذا الكيان مع العرب المعادين للرسالة والرسول، ومع اليهود. والمسألة العويصة التي يثيرها نزول الوحي من عالم الغيب الذي لا تاريخ له ولا تغيّر فيه إلى عالم تاريخي متغير، لها حلُّ إيماني من صنف ما قاله ترتوليان في تاريخ المسيحية: أُؤمن، لأنه محال! لكن الفلسفة هنا أيضاً احتياج مُلِحّ.
ومع موت النبي وانقطاع الوحي، خلفه كيان سياسي لم تكن له هوية واضحة، أُطلق عليه اسم الخلافة، نسبة إلى من «خلفوا» الرسول في موقعه السياسي بعد رحيله. وبعد عقود قليلة مضطربة من تاريخ هذا الكيان، منها حرب إخضاع في الجزيرة العربية، وحروب فتح خارجية امتزجت فيها السيطرة السياسية والاستيلاء على أراض وموارد كبيرة بالدعوة الدينية وبالحماسة الدينية، ثم حرب أهلية إسلامية، انتقل مركز الخلافة جغرافياً إلى الشام، وأخذ محتواها يتشكل على نسق الامبراطوريات التي توسع المسلمون على حسابها، البيزنطية والفارسية: دولة تجبي وتتوسع وتسيطر، وتُقِرُّ الجماعات على أوضاعها عموماً، وتستمد شرعيتها من بعد ديني لا يمكن تجاهله ولا وجه للتقليل من شأنه.
شغلت الدولة الامبراطورية (تسيطر على أقوام وشعوب وجماعات دينية متنوعة، وتمتد على أراض شاسعة) السلاليّة (على رأسها «خلفاء» من بيت واحد) المركز الإسلامي، وتجسد فيها استمرار ميراثه، كما عملت على إعادة تعريفه بصورة تجعل منها الوصية الشرعية عليه.
كان الإسلام قد ظهر كدعوة واجهت صعوبات كبيرة في مكة، ثم شكل ضرباً من دولة إثرَ هجرة محمد إلى يثرب، لكن «الحديث»، وهو متن نصي ثانٍ اعتبر مؤسساً للإسلام، جُمِعَ في القرن الثاني الهجري وبعده، في إطار امبراطوري، تخترقه صراعات متنوعة، أعنفها صراعات بين المسلمين أنفسهم. الحديث والسيَر هي قصة محمد أو كتاب محمد بالمعنى الذي يكون فيه القرآن كتاب الله الذي يروي قصته، وهما (السيَر والحديث) المرويات التي تتكلم على مؤسس الإسلام كدين، وعلى قائد الأمة المسلمة.
بعد عقود قليلة من وفاة الرجل كانت تقوم امبراطورية متوسعة حكمها أصحابه وتابِعوهم، وسيُرى بمفعول راجع أن كل هذا الملك الشاسع يدين إلى سلسلة وقائع خارقة، متصلة برجل توفي في بيت طيني في يثرب قبل عقود. وسرعان ما تحول جمعُ مرويات عنه وروايةُ سيرته ونسبةُ قدرات استثنائية إليه إلى صناعةٍ في مجتمع لم يكن أمّياً تماماً، لكن كان يصعب وصفه بمجتمع متعلم متحضر مستقر.
الدين
ميَّزتُ في مكان آخر
يُفيد هذا التمييز لفهم عدم تدوين «الحديث»، لا في حياة النبي ولا في حياة أصحابه، ويُرجِّح صحة مرويات تقول إنه نهى عن حفظ كلامه الشخصي، خشية أن يختلط بالكلام الإلهي، الموحى به، الذي واجه النبي تشكيكاً متواصلاً في صدقه. كان حفظ القرآن ذاته عملية غير ميسورة، كما يمكن أن نقدر، ويعرض لها ما يعرض للذاكرة البشرية من سهو وغلط ونسيان وتحريف. وما كان للانشغال بتأمين أفضل حفظ ممكن للوحي أن يترك مجالاً لحفظ شيء آخر بأية درجة من الموثوقية.
في القرآن يحضر البعد الأول، الله، ويحضر محمد حضوراً متنحياً كرسول ومبلغ للوحي، مع جوانب من تاريخه كقائد سياسي وعسكري، وكرجل في بيئة اجتماعية بعينها. الله هو الفاعل، الرسول مبلغ ومأمور، منصور، لكنه بشريٌ فانٍ.
في «الحديث»، بالمقابل، الرسول هو المتكلم وهو المبادر والفاعل. حضوره هنا سائد.
هناك فرق كبير بين تدوين القرآن (قصة الله) وتدوين الحديث وكتابة السيَر (قصة محمد). غير التأخر الزمني لعقود أو أجيال، كتبت السيَر والأحاديث في إطار امبراطوري مختلط، بعد أن كان توفي كل أصحاب النبي وكل التابعين وتابعي التابعين. البخاري ولد بعد نحو قرنين من هجرة الرسول، وبدأ بجمع الحديث بعد أن كان قد انقضى نحو قرنين على وفاة نبي الإسلام، أي نحو ثمانية أجيال (الجيل 25 عاماً) من رحيل النبي. ومسلم ولد بعد البخاري بـ 12 عاماً، وجامعو «الصحاح» الباقون ولدوا بعدهما. وجامعو الحديث هؤلاء، وغيرهم، ليسوا في أكثريتهم عرباً، وهم تجولوا لجمع الحديث في أرجاء الامبراطورية. هذه الواقعة عظيمة الأهمية في دلالتها على إيمان أغراب من مناطق نائية بدعوة النبي العربي، وتكرسهم لجمع المنسوب إليه، لكن محصول ما جمعوه يبقى مفتوحاً لتشكك الذهن المتفكر والناقد. القرآن، بالمقابل، جُمِعَ وثبت نصه في إطار عربي محض، في يثرب، وبعد نحو جيل واحد من وفاة الرسول، وبينما كان الكثير من صحابته أحياء (موت العديد من «الحفاظ» كان دافعاً مباشراً إلى «جمع القرآن»). فكأننا، بخصوص الحديث، نروي اليوم شيئاً جرى عام 1850 أو قبله، ودون استناد إلى وثائق غير «صدور الرجال». هذا يسوغ تشككاً واسعاً في صحة معظم هذه المرويّات، بخاصة بعد فناء الجيل الأول، والتحارب الإسلامي العنيف والمتعدد المستويات.
وغير البعد الزمني، كانت هناك طلبات متعارضة في الإطار الامبراطوري، وانتشرت أحاديث من كل نوع لتسويغها، في بيئة يبدو أنها كانت تتداول على نطاق واسع أحاديث عن العربي الذي كان وراء كل هذا، وأحاديث له أو منسوبة إليه. ومن المحتمل أن جمع الحديث كان في جانب منه جهداً لمقاومة التقوُّل على الرسول، وضبط هذه الفوضى عبر «الصحاح»، وإن يكن مُحفّزاً في جانب آخر بتعظيم المؤسس، النبي الذي أنزل الله إليه وحياً محفوظاً، وإليه ينتسب الجميع من وراء وفوق تخاصمهم، والذي سبق ظهوره انقسامات وصراعات جماعة المسلمين المحتدمة وقتها، القرن الثالث الهجري.
وعلى كل حال، لا أدلَّ من تأثير التنازع على مضامين المرويات من اختلاف المرويات الشيعية عن السنية، علماً أن المجموعتين كانتا تتشكلان وقت جمع الحديث، وأن الجمع كان أحد وجوه عمليات تشكلهما، إلى جانب وجوه سياسية وعسكرية وفكرية أخرى.
بطّن جمعَ الحديثِ افتراضٌ أساسي في تصور التاريخ، يقوم على استمرارية طبيعية، لا تردد فيها ولا تقطّع، بين دعوة النبي وبين الامبراطورية، أو أن هذه كانت نتاجاً طبيعياً لتلك، وتحققاً لـ «وراثة الأرض» المذكورة في القرآن. هذا الافتراض لا يمكن أن يكون مقبولاً من وجهة نظر تاريخية نقدية. ومحمد الحديث الذي جرت رواية قصته وتركيبه بعد رحيله بأجيال هو وليد الامبراطورية، وإن قامت الإيديولوجية الموجهة لعملية جمع الحديث على العكس، على أن الامبراطورية مولود طبيعي لدعوة القرشي اليتيم.
أُعيد صنع الإسلام في ظل الامبراطورية، بالصراع ضدها وبالتوافق معها، لكن في كل حال في شروطها السياسة والاجتماعية والفكرية. بل نجازف بالقول إن الصنع الثاني للإسلام، عبر جمع الحديث وتكون «السنة»، كانت توجِّهه نوازع ضبط الدولة ومقاومتها. كان الإسلام عند وفاة محمد بن عبد الله هو القرآن، وبعد قرنين كان هو القرآن والسنة التي قرر الشافعي (150-204 هـ) أنها موحى بها، واستمر هذا «الوحي» قرناً إضافياً على الأقل بعد الشافعي، عبر عملية جمع الأحاديث.
وفر مفهوم السنّة سنداً لمقاومة سلطات استبدادية كما يُظهِرُ مثال أحمد بن حنبل الذي ولد عام 154 هجرية، قبل البخاري بثلاثة عقود، و«امتُحِنَ» في قضية «خلق القرآن» عام 218 هجرية. وعبر السنّة سيتشكل استمرار للإسلام مغاير للاستمرار الذي مثلته الدولة، وهو إن لم يكن دوماً مواجهاً لها، فإن تمايزه عنها ظاهر في كل حال. السنّة ستبدأ في هذا الوقت، القرن الثالث والرابع الهجريين، تعني الجماعة التي تماهت بـ «السنّة النبوية» وتشكلت هويتها حولها في سياق مزدوج: صراع سنّي شيعي، أخذ شكلاً متفجراً في ظل السلالة البويهية التي سيطرت على الخلافة العباسية وبغداد في القرن الرابع الهجري، وصراع مع الدولة ذاتها على من له الكلمة في شأن الدين، أو التنازع بين سلطة الدين ودين السلطة.
الدولة في الحقيقة كانت استمراراً للحرب، أي لدور الرسول كقائد عسكري، وهو دور استولت عليه العصبية الأقوى، الأموية، بعد وفاة الرسول بثلاثة عقود، ثم تحالفٌ متنوعٌ، يعيد الاعتبار لأسرة الرسول عبر عمه العباس، لكن من مدخل العصبية، وليس من مدخل الحديث والسنّة التي ستأخذ بالتشكل بعد ظهور دولة العباسيين.
وبينما يقتضي الأمر تفحصاً مدققاً أوسع للسجل التاريخي، يبدو أن ظهور السنّة مثّل جهداً لضبط الدولة وتقريبها من جماعة المؤمنين، أو لتكوّن الكيان السياسي الديني للمسلمين المؤمنين، لأولئك الذي يُعلون من معتقدهم الديني فوق أي شيء آخر، «كنيستهم». مفهوم السنّة يدل على جملة قواعد لا تتبدل منسوبة للرسول، ثم إلى جماعة بشرية منضبطة بهذه القواعد، وهو ما يسوغ التكلم على كنيسة إسلامية، متميزة مبدئياً، وفي الغالب واقعياً أيضاً، عن الدولة. كان المسيح هو الكلمة، أو تجسد الكلمة الإلهية، والكنيسة هي وريث التجسد وتحققه المؤسسي والروحي. في الإسلام «الكلمة»… كلمة، والإلهي نصٌ وليس إنساناً أو «ابن الإنسان»، وكنيسةُ المسلمين، إن جاز التعبير، هي كلماتٌ تُعلِّقُ على النص وتكمله، وتتكون كسنّة. السنّة هي دين المسلمين، كنيستهم. وإذ تعني السنّة القواعد والجماعة المتماهية بها، وليس الدلالة الاصطلاحية المعلومة اليوم، فإنه يمكن التكلم أيضاً على سنّة شيعية
بالمقابل، كانت الدولة تاريخياً أقرب إلى استمرار الامبراطوريات كبرى، ليس تلك التي هزمها المسلمون قبل أجيال قليلة وقتها فقط، وإنما كذلك لتلك الأقدم في بلاد ما بين النهرين، التي ظهر تصور الله في إطارها. هناك جدلية طويلة الأمد بين دين (أو كنيسة) مسلمين وبين دولة «كونية» (بين قصة النبي وقصة الله، بين السنّة والامبراطورية)، وهذه الجدلية متموجة، تصعد وتنكفئ عبر القرون إلى اليوم.
ومثلما أن مركزية الله يحد منها بصورةٍ ما مفهوم السنّة، فإن السنّة ككنيسة إسلامية تحد من مركزية الدولة. وما يستحق أن يُستبقى في البال ويُفكَّر فيه ملياً هو أن في قلب المركزيتين توتراً، ولعله يصلح مدخلاً لتجديد النظر في التفكير الديني والسياسي الإسلامي (إلى جانب ما سبقت الإشارة إليه من مفارقة تصور الله المسلم، ومن تنزل الثابت اللاتاريخي إلى عالم التغير والتاريخ).
السُّنّة
بعد مركزية الله في قصة يرويها النبي، وسيشغل الرواي موقعاً متصاعداً في الرواية يتكرس عبر مفهوم السنّة، هناك مركزية إسلامية أخرى للدولة، هناك ذات اجتماعية وعقدية، «السنّة»، تنازع الدولة وتُحوِّرها، وتتغيران معاً عبر ذلك. الدولة العباسية لم تولد دولة سنيّة، صارت دولة سنّية بعد ظهور «السنّة»، هذا وقت كانت الشيعة تظهر كسنّة مضادة، تحاول بدورها التحكم بالدولة أو ضبطها. القرابة بين العباسيين والطالبيين كانت عنصر خصم من السنّة الشيعية وليست عنصر دعم، وإدارة الاستئثار بالسلطة في مواجهة نسل علي بن أبي طالب دفعت العباسيين في اتجاه السنة السنيّة التي ستصبح السنّة بأل العهد، على حساب السنّة الشيعية التي خسرت معركة السلطة.
هل يتمايز الدين (السنّة) عن الدولة؟ في مسار التاريخ يتمايزان جيداً، حكام الدول بعد زمن «الخلفاء الراشدين» ليسوا هم المشتغلين بالدين وفي خدمته، والمشتغلون بالدين وفي خدمته لم يكونوا حكاماً وقادة سياسيين وعسكريين. التمايز في الأصل النبوي محدود. كان محمد هو نبي الإسلام (علاقته بالله مباشرة) وهو قائد المسلمين (يقود الجماعة التي هو مؤسسها ورئيسها وقائدها العسكري). وبفعل إشغاله موقع التقاطع بين السماء والتاريخ، كانت إمكانية تعديل السماوي متاحة في كل وقت وفق مقتضيات التاريخي، فتأخذ في اعتبارها واقع البشر الدنيوي المتبدل.
في أزمنة لاحقة، وبخاصة في القرن العاشر وما بعد، تدهوت السلطة الامبراطورية وظهرت دول متعددة، ذات مضمون سنيّ أكبر (وإن تكن سنّة شيعية في حالات، الحمدانيون، ثم الفاطميون). تمازج السنّة والسلطة أفقد السنّة جذورها الاعتراضية، وفي مسعى المشتغلين بالسنّة لضبط الدولة إسلامياً كانوا ينضبطون بها إلى درجة تشريع «إمارة الاستيلاء». الواقعة تقول إنه لم تكن للإمارة من غاية غير ذاتها، ودوامها الخاص، وإن الإطار السياسي للتفكير الديني أثر بقوة على محتوى هذا التفكير.
وخلال هذه الوقت لم تستطع الدولة أن تكون واحدة إلا لزمن قصير، وإن ظلت وحدتها المثال الذي لا يحيل إلى غيره الفقهاء. الواحد مركزي في المتخيل الإسلامي، ضداً على الجزء وعلى الكثرة.
تعدد الدول الواقعي عنى تشظي المركز. وهذا بعد أن كان تشكل السنّة، وإسلام قطاعات متسعة من السكان، قد أتاح للإسلام العيش خارج الدولة، في المجتمع. حين كان المسلمون أقلية في مجتمعات «الشرق الأوسط»، ولعلهم كانوا كذلك لقرون ربما امتدت حتى الثاني عشر الميلادي، كان الإسلام أشدَّ احتياجاً إلى الدولة. استغنى عنها بعد ذلك على نطاق واسع، وعاش في غيابها. الواقع أنه استغنى بخصوص أكثرية السكان عن «الكنيسة» أيضاً، أي عن السنّة والفقه المنظم، لكن ليس بطبيعة الحال عن شكل مخفف جداً من الكنيسة، قواعد وأصول وضوابط ظلت مرعية في السلوك عبر القرون، ومن وراء الدول والفقهاء، الدولة والسنّة والقائمين عليهما. ومهما بدا هذا الواقع البديهي غريباً في عين كثيرين اليوم، فقد كان الإسلام… ديناً، عقيدة حيّة ونظاما أخلاقياً لمؤمنين في مناطق شاسعة في آسيا وأفريقيا طوال معظم تاريخه. هذا هو الأساس الصلب للتفكير في العلمانية في العالم الإسلامي.
ما لا يعيش دون دولة هو الإسلام الامبراطوري، أو الإسلام كامبراطورية، كتطلع للسيطرة ينتمي إلى صنف السيطرات الامبريالية المعاصرة. الإسلام كدين للمسلمين يعيش جيداً دون امبراطورية، ودون دولة. وما كان قد أتاح للإسلام هذه الحياة المستقلة، وما يمكن أن يتيحها في كل وقت، هو مكونه الإيماني والأخلاقي القوي، المتصل باطمئنان القلوب لذكر الله، وبالتقوى والبرّ والإحسان وعمل الخير والصالحات من الأعمال، وبالصلاة والزكاة. وهو البعد الذي استثمر فيه المتصوفة و«أهل القلوب»، مقابل الفقهاء و«أهل الحروف».
الدين والدولة
نشأت «الحضارة الإسلامية» من تفاعل الدين كما تشكل بكتاب الله (القرآن) وبـ «كتاب محمد» (أحاديث رسول الله) التي جُمعت في إطار امبراطوري، مع هذا الإطار الامبراطوري نفسه. كان هذا الإطار قد تولد عن الأنشطة الحربية للمسلمين دون أن يتشكل إلا على نحو سطحي جداً بدينهم. وهو لن يتشكل بدين المسلمين إلا بعد أن تشكل دين المسلمين بالتفاعل معه، في عملية صراعية، آلت عبر القرون إلى ظهور «السّنة». هذه العملية اقترنت تاريخياً (وليس سببياً) بتمزق الإطار الإسلامي إلى دول وسلطنات عديدة.
في العصر الحديث انبعثت جدلية الدين أو السنّة والدولة من جديد، أو «كنيسة المسلمين» والدولة الكونية. أعني بهذه الأخيرة إطار حكم موروث، خبرناه في الزمن الامبراطوري الإسلامي قبل نهاية الألف الميلادي الأول وتكونت «السنّة» في ظله، وخبرناه في الأزمنة المعاصرة في دولنا القائمة اليوم، المستعارة من متاح عالمي، مفروض جزئياً، لكنه في كل حال ظلَّ أقرب إلى قوة غريبة، قوة لذاتها وليست قوة لنا. كانت الدولة في كل مثال معروف تقريباً، قوةً علينا، دون أن يعني ذلك أن أعداءً مغرضين هم من يسخرونها لذلك. يتصل الأمر بمحصلة راهنة للصراعات الاجتماعية والسياسية والفكرية، لم تتمخض عن تطوير «كاتالوغ» أو قواعد لاستخدام الدولة، «سنّة» لها. ظلت قوة بلا قواعد ولا سنّة، ولا دين. ولعلنا اليوم في قلب صراع، أُفضّل تصوره كصراع من أجل أن يكون للدولة «دين» أو «شريعة»، أعني دستوراً وقيماً موجهة وضوابط ذاتية، وليس بين الدين والدولة. وخلافاً لما يفضّل الإسلاميون، فإن القرآن لا يمكن أن يكون دستورا للدولة، أو الإسلام ديناً لها. ما نحصل عليه من ذلك هو دولة مطلقة تعسفية، كافرة وفاجرة ولا ذمام لها، والتاريخ مُحكِّم.
كان من شأن انضباط الدولة بـ «دين» ذاتي يحول دون أن تبقى تركزاً للعنف لا هدف له غير بقائه الخاص، أن يُخمد تلهف الدينيين عليها، وربما يحفزهم إلى معالجة مشكلات مجالهم، في صورة تساعد المسلمين المؤمنين على حياة أفضل في عالمهم وزمنهم.
وقد لا يكون هذا أنسب سياق للكلام على العلمانية، لكن تصورها كفصل سلبي للدين عن الدولة، دون انشغالٍ بتكوين الدولة وبتطويرها وظائفَ تربوية وقانونية وأخلاقية، أي عقيدة وضميراً ذاتياً لها كدولة، هو ما يفسر أكثر من غيره ركاكة العلمانية العربية وفقرها الفكري والقيمي، وسلبيتها: تريدُ أن تفصل بين شيئين، لكنها لا تفكر بماذا يتصل أي منهما، وبماذا يتصل المحكومون. علمانيتنا لا تفكر بحقوق السكان وحرياتهم السياسية وأوضاعهم الثقافية والروحية. وكي نصوغ الأمر بصيغة صادمة، فإن الفصل بين الدين والدولة غير ممكن، بل غير مرغوب، إن لم تطور الدولة أبعاداً روحية ودينية ذاتية لنفسها. علمانيونا يغفلون عن هذا الواقع التاريخي الكبير المتمثل في ظهور الدولة الأمة الحديثة، التي تقوم بأدوار اجتماعية وتربوية وقانونية وأخلاقية واقتصادية. بالمقابل، يبدو أن من شأن تراجع الدولة الأمة عن وظائف عامة، اجتماعية واقتصادية وتعليمية وخدمية، أن يفضي إلى صعود الدين
العربية الفصحى
لغة الحضارة الإسلامية هي العربية، طبعاً. وقد أخذت تتشكل وتتقعّد في القرن الثاني الإسلامي. مركزية اللغة العربية الفصحى في الإسلام الدين، وفي الإسلام الدولة، وفي الحضارة الإسلامية، تَرِثُ بصورة ما المركزية الإلهية ومركزية الدولة. الله هو المتكلم الفصيح بإطلاق، وكلامه في القرآن مرجع في فصيح اللغة ونحوها وصرفها، وهو طبعاً دولة العالم أو حاكمه السيد الذي لا شريك له في سيادته. والدولة هي المتكلم البليغ، وفي كنفها يتعين أن يتقعّد الكلام ويكون واحداً، مشتركاً. والفصحى هي «دولة» الكلام، صاحبة السلطة فيه، وهي اللغة الإلهية، و، بصورة ما، «إلهة» اللغات، وبها دون غيرها يتكلم أهل الجنة. وهي واحدة تعريفاً، خلافاً للعاميات الكثيرة. ومثلما الإسلام هو الوحي الفصيح في مواجهة أديان الآلهة المتعددة وأديانه السابقة «العامية»، تواجه الفصحى العاميات المحكية من جهة، وهي معمل الخطأ مبدئياً ودوماً، ثم من جهة ثانية اللغات الأخرى التي سادتها العربية في عصر الإسلام الذهبي دونما صعوبة كبيرة فيما يبدو.
القصد أن هناك ضرباً من التمركز اللغوي في الإسلام يستنسخ بنية مركزية الله ومركزية الدولة. ورغم الانتشار العالمي للإسلام فقد ظلت لغته عربيةً إلى اليوم. في صلاته وفي نجواه مع ربه، كل مسلمٍ عربيٌ، وإن يكن أكثر المسلمين اليوم غير عرب. وعربية الإسلام هي، بطبيعة الحال، «عربية فصحى»، لغة صارت «أجنبية» بين أكثر العرب، قبل استعادتها الحديثة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. والعربية المطلقة أو المتعالية هي، اليوم، لغة الأجهزة الإسلامية في وظائفها الدينية بصورة خاصة. وأعني بها عربية أصلية، مُنكِرةً للتاريخ، بوصفه مبدأ لـ«اللحن» و«العجمة»، والتباعد عن الأصل. وتقترن الأصولية الدينية في مجالنا بضرب لا يقل صلابة من الأصولية اللغوية، التي تنظر حتى إلى الفصحى الميسرة المعاصرة بالذات كضرب من المروق من الأصل الصحيح.
وبقدر ما إن الإسلام دين كتاب، أو أن الإلهي فيه هو نص لغوي، القرآن، فإن هذا سيمنح للمكتوب أفضلية ورجحاناً كبيرين على المحكي والشفهي. ولعل في ذلك ما كان حافزاً إضافياً إلى تدوين الحديث الذي ظل، مع ذلك، لا يُعتدُّ به في تشكيل العربية الفصحى (لأنه لم ينقل بحرفه حسب اللغويين الأوائل). الفصحى لغة مكتوبة ومحفوظة، ولغة كتابة أساساً. لغة ثبات واستمرار وميراث جمعي، خلافا للمحكية التي هي لغة ما هو متغير وفردي وأرضي.
والفصحى، خلافاً لإيديولوجيا ضمنية سائدة، ليست مرحلة من مراحل العربية، جرى الابتعاد عنها بفعل أثر الزمن المخرب وفقا لمتخيل أصولي راسخ، بل هي مستوى من مستوياتها البنيوية، الموجودة في كل وقت، وإن تفاوتت مساحة وجودها. كانت هناك محكيّاتٌ طوال الوقت، حتى في زمن القرآن، لكن اللغة التي اعتُرِفَ أنها فصحى وعامة هي اللغة التي جرى تقعيدها كلغة للكتابة في عصر التدوين، استناداً إلى القرآن و«الشعر الجاهلي». وبهذا المعنى، الفصحى هي دولة الكلام.
وليس القرآن مكتوباً بالعربية الفصحى، بل اللغة الفصحى نتاج القرآن. وهي، تالياً، نتاج سياسي من حيث أن لغة قريش هي التي صارت الفصحى، ومن حيث أن هذه اللغة هي التي تعممت عبر الانتشار العالمي للإسلام، ومن حيث حاجة الدولة إلى لغة تَخَاطُبٍ عامة يفهمها الجميع.
ومركزية الفصحى ذاتها تاريخية رغم أن الإيديولوجيا المضمنة في مفهوم الفصاحة تنفي التاريخ، مثلما هو الحال في كل نزعة أصولية. كانت الفصحى ضيقة النطاق جداً بعد الزمن التأسيسي، عصر التدوين الذي هو زمن «الوحي» بها إن جاز التعبير. أعني أنه الزمن الذي صُنِعت فيها الفصحى، ووضعت معايير الصحة الخاصة بها. جرى الاستناد إلى نصوص سابقة للوحي اللغوي الأمين، بخاصة كتاب الله الموحى، و«الشعر الجاهلي»، وهو ما روّج إيديولوجيا الفصحى كأصل و«العامية» كانحراف عن الأصل. وفي زمن القرآن بالذات هناك كلام منسوب إلى النبي عن أكثر من قراءة مشروعة له، تُحيل فيما يبدو إلى عربيات أو «أحرف» غير متطابقة. الفصحى، مرة أخرى، نتاج شغل على اللغة، ليس مبرأً من وقائع السياسة والسلطة وعلاقات القوة.
وثنائية الفصحى والعامية مفعمة بالسياسة، كما هو ظاهر. فالعامية لغة العامة، وهي «كافرة» من وجهة نظر الأصل للغوي الصحيح. لكن الفصحى لم تكن لغة الخاصة بالمعنى الاجتماعي للكلمة، بل كانت لغة اللغويين، ثم لغة أهل الدين. اللغويون صنعوا اللغة وأصولها الصحيحة، الدينيون امتثلوا لها، وهي أصلاً انضبطت بالمتن القرآني. أما العامة فتكلموا عاميات متنوعة.
وبما هما مستويان من الممارسة اللغوية، والعلاقة بينهما ليست علاقة أصل ثابت مقدس بتحريف تاريخي، فإن العلاقة بين الفصحى الواحدة والعاميات ليست علاقة صراع واستبعاد حتماً إلا من زاوية نظر الأصولية اللغوية، إنها علاقة تنوع مجالات وميادين عمل وحياة.
الرجل
كان رأس الدول الإسلامية المتعددة ذكراً على الدوام. وليس في القرآن أو غيره من النصوص الإسلامية ما يتصل بجنس الله، لكن يُحال إليه في القرآن دوماً بضمائر تذكير. وفي المجتمع يشغل المركز الرجل، الذكر، وفي الأسرة الرجل الأب. الأب هو رب الأسرة، وهو الحاكم الآمر الناهي فيها، وهو مصدر المعرفة والكلام الصحيح. وهو مثل الحاكم راعٍ ومسؤول عن رعيته، من نساء وأطفال، وعبيد إن كان غنياً. ومثلما الحاكم، هو حتماً رجل بالغ، فإن الرجل في أسرته حاكم. قضية الاستعباد لم تطوَ من تاريخنا، إن هي طويت في أي تاريخ. وداعش اليوم تبشر بعودتها، وتعيدها، ومعها أيضاً السبايا والاستعباد الجنسي. طيُّ هذه القضايا مرتبط بإعادة هيكلة واسعة للمركزيات الإسلامية، وبعمل اجتماعي وسياسي وفكري وأخلاقي جذري، يعمل على طيّ الاستعباد في الأعيان والأذهان.
لا حاجة إلى القول إن البطريركية الإسلامية مزامنةٌ لتعمم عالمي للبطريركية في كل إطار تاريخي معروف، لكن هذا لا ينفي تفاوت ما عرفنا في المجال الإسلامي من أشكال للبطريركية ودرجاتها تبدو من الأشد نفياً للمرأة في العالم.
للأمر صلة محتملة بكلٍ من الواحد، والحرب. هناك جدال ممكن حول شكل الصلة، لكن يبدو الواحد أكثر توافقاً مع الذكورية والأبوية، ومع الحرب. ويبدو هذا «الإشراط المضاعف»، الواحد والحرب معاً، أقوى تثبيتاً لمركزي الذكر والأب، البطريركية أو بصيغة عربية أفضل: الشيخية، حيث يضاف للذكر والأب، السن المتقدم.
بفعل مركزيته الاجتماعية، الرجل واحد، لكن ما في بيته من نساء يمكن أن يكن كثيرات. ومن يقرر العدالة بينهن، ومن يحتمل أن يخاف من ألّا يعدل بينهن، هو الرجل نفسه. لهذا الواقع التمييزي مستندات مقدسة في القرآن بالذات.
في واقع حياة المسلمين قلما طابقت الحال هذه الصورة. في الحياة الأسرية، حازت نساء دوراً أكبر مما يظهر، لكن في الفضاء العام ظل مكانهن ضيقاً ومحدوداً. وفي التاريخ أيضاً. ليس هناك تاريخ للنساء في الإسلام. الرجل ظل الرأس والوجه، السياسي والفقيه. هذا واقع يتعرض لتحدٍ مرغوبٍ وواجبٍ اليوم. وقد تكون الأصولية الإسلامية في أشكالها المجنونة بخاصة، داعش والسلفية الجهادية، محفزةً بنازع رد النساء على أعقابهن، إلى النطاق الخاص. تلك الأصولية المتوحشة ذكورية بإفراط، وتصدر عن خبرة إذلال سياسي وحضاري، لعلها تُرى كانتهاك جمعي للذكورة المسلمة وتأنيث لها.
بنية مشتركة
ليست العلاقة محتومة بين هذه المركزيات، مركزية الله والدولة والفصحى والرجل، ولا هي علاقة تَولُّد. لكن لها بنية مشتركة تقوم على المركزية والواحدية والسلطة، وإن لم تخل من توترات وقوى تباعد.
دخل الإسلام التاريخ بقوة بينما هو بالكاد تشكل كدين، فكان أن تشكل كدين في ظل أطر سلطة امبراطورية تشكلت باسمه في وقت باكر جداً إثر انبثاقه. ومثل غيرها تأسست امبراطورية المسلمين بفعل الحرب والفتح، وهي أنشطة ذكورية جداً. وإن كان صحيحاً أن الدين لم يستسلم للدولة، وحصل أن قاومها مراراً، وتبنين في شكل سنة/ سنن متمايزاً عنها، إلا أن الاحتكاكات والمقاومات جرت في كنف دولة/ دول تنتسب إليه بصورة ما.
والفصحى تقعدت في إطار الدولة، وبارتباط بالنص التأسيسي المقدس.
ولم يُنشئ الإسلام مركزية الرجل، لكنها ترسخت عبر نصوص قرآنية، إباحة تعدد الزوجات دون تعدد الأزواج، ومبدأ القوامة، وثبتتها وقائع الحرب الباكرة.
وبمجموعها، وبتوتراتها، تعطي هذه المركزيات الأربعة، والمركزيتان الزمانية والمكانية اللتان سيجري الكلام عليهما للتو، عالم الإسلام أو «الحضارة الإسلامية» طابعها الخاص المميز.
الإسلام ككل متشكل بالتاريخ مثل جميع العقائد الدينية وغير الدينية، ينبغي القول. فإذا أعطينا استثناء للقرآن من حيث أنه يتمتع بتاريخية خاصة به، تاريخية مؤسِّسة أو تأسيسية، تاريخية «النبأ العظيم»، وليس التاريخية العادية، المؤسَّسة، فإن «السنة» والدولة، والعربية المعيارية، أظهرُ اندراجاً في التاريخ، ولا تُفهم دون الإحالة عليه، وإن تكن اكتسبت القداسة بدرجات متفاوتة. هذا والقرآن ذاته قلما يُقرأ باستقلال عن التفاسير والسيَر والاستثمار الفقهي والكلام و«علوم» الناسخ والمنسوخ، وكلها ظهرت متأخرة عن القرآن قرناً وأكثر.
أما من وجهة نظر التاريخ العام، وليس تاريخ الإسلام حصراً، فلا تحوز الرسالة تاريخية جذرية خاصة بها. هناك رسائل سبقت، ورسالة النبي العربي ذاتها تندرج بصورة واعية في ميراث إبراهيمي كان مألوفاً للعرب في حينه.
«أطهر أرض»
فوق أن العلاقة بينها غير محتومة ولا تَولُّدية، ليست هذه المركزيات الأربعة، الله والدولة واللغة الفصحى والرجل، هي الوحيدة في عالم الإسلام. ويمكن أن تضاف إليها مركزية مكانية تتمثل في مكة ثم المدينة، وإليهما يحجُّ في الزمن المعاصر ملايين المسلمين كل عام في موسم فريضة الحج وخارجه، بما يُثبت هذه المركزية فلا تبقى في إطار الارتباط الوجداني.
التمركز الجغرافي مميز لكل الأديان الكبرى، لكن المركزية الجغرافية الإسلامية اقترنت في عصرنا الحالي بالدولة السعودية، المنتج الأكبر للبترول في العالم، المحكومة من أسرة فاحشة الثراء، عظيمة الفساد ومعدومة الكفاءة، وتابعة للنظام الأمني الأميركي والغربي. وهذه من الوقائع المهمة تاريخياً، والمذلة نفسياً وسياسياً: المركز الإسلامي مكانياً ليس غير مركزي سياسياً فقط، وإنما هو طرفيٌ وتابعٌ لنظامٍ للسيادة والسياسة، له مركزياته الخاصة، ومركزه الجغرافي في أميركا. وهذا النظام ليس غير إسلامي فقط، وإنما هو يعرض عناصر عداء متكثّرة للمسلمين ودينهم.
بيد أن اغتراب الأديان أو انزياحها عبر تاريخها عن مركزها الجغرافي المقدس واقعة مألوفة: لنفكر على الأقل باليهودية والمسيحية.
ويأخذ الانزياح الإسلامي شكل فقدانٍ للسيادة الروحية، إن جاز التعبير، وليس تحطيماً للمركز كما حصل لليهودية في أزمنة النفي والسبي، وبما يشبه وقوع القدس بيد المسلمين بخصوص المسيحية. وإن يكن هذا وقع بينما كانت المسيحية انزاحت نحو مراكز سياسية، القسطنطينية وروما، ولم تعد القدس تشغل غير موقع رمزي في مراكزها. الشكل الإسلامي الراهن للاعتراض على فقدان السيادة الروحية يمزج بين حروب الاستقلال الوطني وبين متخيل الجهاد الإسلامي. الظاهرة السلفية الجهادية هي نتاج هذا المزج. وهي تقوم على ما يشبه منعكساً شرطياً إسلامياً إن جاز التعبير، أعني ما يثيره المساس المُتَصَوَّر بالكرامة من تخيل المواجهة بالعنف والنزوع إلى العنف انتقاماً، ما لا يترك مجالاً لتصور ردود أخرى يمكن أن تكون أنجع في بعض الحالات أو الظروف، كالسياسة والفكر والفن، والتنظيم الاجتماعي والسياسي.
«خير القرون»
ثم إن هناك مركزية زمانية تحيل إلى العهد النبوي، ثم خلفائه الراشدين وصحابته وتابعيهم، مركزية القرن الأول الذي يُنسَبُ للرسول القول إنه خير القرون. هنا أيضاً ليس هناك ما هو خاص بالإسلام، لكن تطورت لدينا مركزية زمانية مضاعفة لتلك الحقبة، إن جاز التعبير، تتكون حولها اليوم طائفة إسلامية خاصة، الطائفة السلفية. ما يميز هذه الطائفة ليس الانشداد النفسي والوجداني نحو حقبة التأسيس، بل درجة عالية من التمثّل الحرفي لما يفترض أنها طرق العيش والكلام والزي والعمل في تلك الحقبة، مستخلصة من «الحديث» (مع توسع عصبي في قبول «الحديث»)، ومن الفقه. ثم إنه يميزُ الطائفيةَ السلفيةَ العملُ على فرضه كنموذج مُعرِّفٍ للإسلام ومُلزِمٍ للمسلمين، وهو ما يمتنع دون عنف منظم وشامل.
هذه المركزية الزمنية، مثل المركزية المكانية، استفادت من شروط تاريخية عارضة، تتمثل كما جرت الإشارة فوق في ظهور دولة مركزية (وإن تكن تابعة) ومال ريعي وفير في قلب جزيرة العرب، لا تحمي امتيازها وتبعيتها بغير إضفاء القداسة الدينية عليهما، وحولت حقبة التأسيس الإسلامية ومهود الإسلام الأولى من نِصاب جغرافية وتاريخ الروح، إن جاز التعبير، إلى نِصاب مادي حرفي.
التاريخ
تاريخ الإسلام هو في أبرز وجوهه تاريخ إضعاف المركزية أو كسرها وتلطيفها، على نحو يبحث عن سند في الأصل الإسلامي ويعثر عليه. الإسلام دين المسلمين الذي كانوا قلّة في امبراطوريتهم، لكنهم صاروا الأكثرية على مدار القرون. تقرَّبَ الناس من الله المتعالي وقربوه إليهم بالمساجد والقبور والأولياء والشفعاء، وبالتعبد والصلاة والدعاء طبعاً. عاشوا طوال معظم تاريخ الإسلام بعيداً عن الدولة أو خارجها. كان الإسلام ممكناً بلا دولة طوال معظم تاريخه. وحيث كانت هذه موجودة، كانت في الغالب تكتفي من رعاياها بدفع الخراج أو الجزية. كانت الدول تتكاثر على كل حال بعد قرنين من الفتح والامبراطورية (لم يكد يتوقف الفتح، حتى بدأت النزعات النابذة، المولدة لدول مستقلة). وكان التعاقب السريع نسبياً للدول في البلد نفسه، مفاقماً لاستبدادها من وجه، لكنه حدَّ من رسوخه وثقله من وجه آخر. مجتمعات المسلمين في عمومها عاشت بما يتراوح بين قليل من الدولة وبين غياب الدولة. وهو ما انعكس على اللغة وعلى الدين ذاته. اللغة المعيارية، الفصحى، تراجعت لمصلحة محكيات متنوعة، وانحسر متكلموها بين من لم تكن لغتهم الأم، وصارت الفصحى لهجة مهنية خاصة، لا ينطق بها أهل المهنة ذاتهم، رجال الدين، خارج ممارستهم الدينية، قبل أن يعاد إحياؤها في القرن التاسع عشر، في سياق مغاير جداً.
وبنظرة عامة، تاريخ الإسلام هو تاريخ تحوله من دين من فوق إلى دين من تحت، أو بعبارة أخرى هو تحوله من دين الفاتحين إلى دين العامة، يتملكونه ويتفاوضون مع إلزاماته، يكيِّفونها ويتكيفون معها. وبموجب هذا التحول توسع هامش مبادرة المؤمن، وتحولت السنة إلى نِصاب الروح والرمز و«الثقافة». وبموازة ظهور هذا الدين العامي، إن جاز التعبير، الضعيف التقنين، وقع تحول لغوي لا مركزي، المبادرة فيه للمتكلم، وتحولت الفصحى إلى لغة العبادة والشعائر.
وهو كذلك تاريخ انتزاع النساء مقادير من السلطة، وفرض أنفسهن على نطاق الأسرة والنطاقات الخاصة، لكن ليس في النطاقات العامة.
وهو أيضاً تاريخ نشوء دول محلية، ومحكيات محلية.
ومن الظواهر التاريخية المميزة في هذا الشأن هو أن السنة المقننة التي ظهرت في أكناف الدول، وإن في جدال معها ومنازعة، تراجعت في غياب الدول أو تدهورها. العلاقة بين «الكنيسة» والدولة في الإطار الإسلامي ليست علاقة محكومة بمحصلة صفرية، بحيث يتوافق المزيد من الدولة مع القليل من السنة المنظمة، أو العكس، بل هي علاقة تناسب طردي: مزيد من الدولة يتوافق مع مزيد من السنة، والقليل من الدولة مع غياب السنة المنظمة والكنيسة، أو الإسلام الفصيح. وفي كل حال ظل الدين المقعّد، برجاله وقواعده وسلطته الخاصة، محصوراً في نطاق المراكز الحضرية، وليس بحال في البلدات والأرياف والبوادي. وبهذا المعنى هناك إسلامان على الأقل: إسلام عامي في المواقع الأبعد عن المدن والسلطة، وإسلام فصيح أو عالِم حيث هناك مدينة وجهاز حكم.
الأصولية و«نفض الغبار»
في وجه آخر من وجوهه، تاريخ الإسلام هو تاريخ «إصلاحـ»ـه و«نفض الغبار» عنه، عبر إعادة المركزية الإلهية ناصعة دون وسطاء وشفعاء، وعبر محاربة الصوفية، واستعادة السنة المقننة فقهياً. وهو تاريخ محاولة توحيد الدولة واستعادة مركزيتها عبر الدين، وهو أيضاً تاريخ استعادة العربية الفصحى ضد المحكيات وضد اللغات الأجنبية، وهو أخيراً تاريخ استعادة سلطة الرجل الأب في الأسرة على حساب المرأة، النساء، والأطفال وغير البالغين، والتابعين. هذا وجه متكرر في تاريخ الإسلام.
ومن يستثمر في هذا المسعى الإصلاحي المتواتر اليوم هو الأصولية الإسلامية المعاصرة. فهل تكون هذه مجرد حلقة معاصرة من حلقات المسعى الإصلاحي المتكرر؟
ليست كذلك في تقديرنا، هي أقرب إلى ردٍّ على القطيعة التي تمثلت بزوال الخلافة في سياق تدهور عالم المسلمين ووقوعه تحت سيطرة المستعمرين الأوربيين، و«امبراطورية الغرب» عموماً. تستولي الأصولية الإسلامية المعاصرة على المسعى الإصلاحي في سياق مشروع يستمد من الزمن المعاصر، من ظهور الدولة القومية السيدة، محركاته وحوافزه، ومستند إلى المتخيل الامبراطوري الإسلامي في مواجهة الواقع الامبراطوري (أو الإمبريالي) الغربي. هذا الشرط المزدوج، الدولة المعاصرة في بلداننا، وهي دولة بلا شرعية ولا مشروع، والسيطرة الامبريالية الغربية، يكمن وراء الإسلامية المعاصرة، بقدر ما كمنت الامبراطورية وراء ظهور السنة والتشكل الثاني للإسلام في القرون الهجرية الثاني والثالث والرابع.
تتمرد هذه الأصولية على تاريخ الإسلام ككل، وتجهد لاستعادة المركزيات الإسلامية معزولة عن التاريخ ومتعالية عليه. أصولية التوحيد الصافي ضد الإسلام العامي والصوفية، أو أي تصور لوسطاء أو شفعاء، وضد الثقافة والفن والجمال، ودون علم كلام، فضلاً عن الفلسفة؛ السيادة الإسلامية الموحدة في كيان واحد هو دينٌ ودولة، لكن دون تفكر جديد في شأن الدين والدولة والسياسة، والتاريخ السياسي الإسلامي؛ ضرب متشدد من الأصولية اللغوية تنطق بفصحى صلبة ومتصلبة، دون تفكير في اللغة وشغل عليها؛ مجتمع ذكوري بطريريكي عازل للنساء صورةً وصوتاً، دون تفكير متجدد في شأن الرجل والمرأة، والإنسان، والمجتمع؛ سلفية متشددة محاربة لا تثبت صلاحية معتقدها لكل زمان ومكان إلا بإلغاء لا يتوقف للزمان، ومركزية مكانية تتطلع إلى مطابقة المراكز الروحية والسياسية للمسلمين، وتتشهى في الوقت نفسه فتحاً امبراطورياً للعالم.
والأصولية المعاصرة في كل حال لا تنظر في تاريخ الإسلام ذاته دون بتر معظم هذا التاريخ، ولا تنظر إلى العالم دون بتر معظم هذا العالم. أصوليتنا في مجملها، وليس السلفية الجهادية المعاصرة وحدها، لا تفكر، والبعد الفكري والأخلاقي والروحي في تكوينها ضامر. ولأن التفكير هو ما يميز الإنسان ويرفعه عن المحسوس، وما يتيح له مساءلة نفسه فيُربّي ضميره، وما يعيد بث الروح والمعنى في موروثه وأنظمته المعاصرة، فإن الإسلامية المعاصرة التي لا تفكر تنتج الشر الكثير منهجياً، ولا تنتج خيراً. الشر ينتج عن المسلك التطبيقي الذي يفترض أننا نحوز سلفاً كل الفكر الصحيح، فلا داعي لأن نفكر. لكن بهذا يرتد الفكر الصحيح المزعوم ذاته إلى قواعد وحروف ميتة، ولا ينتج عنها غير الموت.
ولعل من جذور هذه الظاهرة أن عمليات التباعد عن المركز التي عرفها تاريخ الإسلام ظلت هامشية في التاريخ العالِم المكتوب وغير معترف بها في الثقافة العالِمة، على نحو ما عممتهما الدولة الحديثة في العالم العربي على الأقل. عممت هذه الدولة متخيلات إسلامية مفرطة المركزية (مركزية المجد الحضاري والعسكري في الدولة التي حكمتها نخب قومية عربية، ومركزية «خير القرون» في السعودية والخليج)، وغير تاريخية. كان ذلك من لوزام شرعيتها، لكنه أسس لشرعية نفيها بقدر أكبر لكونها أخفقت في أن تكون شيئاً آخر غير دول هشة، لا توفر عدالة أو حرية لسكانها، ويتعذر كل التعذر نسبة معنىً حيٍّ لها.
الإسلام الذي سرعان ما تشكل في تاريخ امبراطوري، فحمل مشكلات فكرية وسياسية خاصة به من هذا التشكل المخصوص، شهد إعادة تشكل واسعة مع ظهور الدولة السعودية والبترول، تشكل لم يُدرَس بصورة كافية بعد. لكن لعله يمكن منذ الآن القول إن الوحي بهذا الإسلام الجديد جاء من تحت الأرض وليس من فوقها. الإسلام المعاصر، في صيغته الجهادية، نتاجُ تلاقي وفرة الريع البترولي مع نقص معنى الدول.
خلخلة
في الختام، عملت هذه المقالة على خلخلة المركزيات الإسلامية، والنظر إلى ما فيها من توترات داخلية كامنة. وكذلك «استغرابها» والنظر إليها بعين خارجية مندهشة. نحتاج إلى النظرين معاً وفي كل وقت.
والغرض من الخلخلة في كل حال هو… الحرية، أن نستطيع الذهاب أبعد، أن نرى بعين مختلفة، وأن نخلق أفعالاً جديدة.