العودة إلى الدين تتصدر المشهد في إسرائيل (مقدمة المترجم)
تشهدُ إسرائيل، حسب محللين إسرائيليين، مداً دينياً وعودة متنامية لدور الدين والمتدينين في السيطرة على الحياة السياسية والاجتماعية، على الرغم من أن إسرائيل هي نتاج حركة يسارية علمانية «الصهيونية»، ترفع شعار الديمقراطية.
وبالفعل، تعتبر عدم قدرة اليسار على الوصول إلى سدة الحكم خلال ما يربو على عقدين من الزمن في ظل هيمنة اليمين «الليكود» ويمين الوسط «كاديما»، ترجمةً حقيقيةً للمدّ الذي يقوده التيار الديني داخل المجتمع الإسرائيلي. فأحزاب اليسار التي كانت تستمد قوتها من الصهيونية العلمانية في تراجع مستمر، كان آخره ما ذاع من أن يتسحاق هرتسوغ، زعيم المعارضة الإسرائيلية، ورئيس حزب العمل، تحالف مع نتنياهو مقابل بعض المقاعد الوزارية.
كما يعود رجحان كفة اليمين والأحزاب الدينية وتصدرها للمشهد السياسي والاجتماعي في إسرائيل على حساب اليسار المنهار، حسب مراقبين للشأن الإسرائيلي، إلى حقيقة أن الجمهور الإسرائيلي لم يعد يلمس وجود فروق إيديولوجية ذات مغزى بين أحزاب اليسار وأحزاب اليمين.
وبينما تتغنى إسرائيل بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، نراها تطرح شعار عنصرياً «يهودية الدولة» في ظل تنامي دور الأحزاب الدينية التي تسعى إلى «هودنة الديمقراطية» على حساب «دمقرطة الدولة»، إن جاز التعبير.
في هذا السياق ترى وزيرة العدل الإسرائيلية أييلت شاكيد من حزب «البيت اليهودي»، أنه كلما كانت إسرائيل يهودية أكثر، ستكون أكثر ديمقراطية. ونشرت الوزيرة الشابة مقالاً قبل أسابيع، وهو الأول من نوعه، أوردت صحيفة «يديعوت أحرونوت» مقتطفات منه: «أؤمن أننا سنُصبح دولة أكثر ديمقراطية كُلما كُنا دولة أكثر يهودية».
دَعَت شاكيد إلى تعزيز الطابع اليهودي لإسرائيل من خلال خطوات تشريعية، لافتةً إلى أنها لا ترى تناقضاً بين تشريع يُفضي إلى تعزيز الطابع اليهودي لإسرائيل، وبين أسس الديمُقراطية. ووصفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» آراء شاكيد بأنها ستكون في حالة تطبيقها «أعتى عاصفة سياسية على الإطلاق»، حيث تطالب الوزيرة بأن تتعامل الدولة مع اليهودية على أنها أكثر من مصدر رمزي، مشيرة إلى أنها وضعت هدفاً أمامها وهو أن تطرح قانوناً أساسياً يزيد من ثقل الهوية اليهودية لإسرائيل، ويعمل على إرسائها ضمن مفاهيم عملية، بموازاة حجم القوانين الأساسية الليبرالية والشمولية.
كما ذهبت شاكيد إلى الادعاء بأن المُنظرين السياسيين الذين صمموا ووضعوا أسس الديمقراطية المُعاصرة، مثل جون لوك وتوماس جفرسون، استندوا في ذلك على التوراة، وأن المبادئ الغربية الشاملة المتعلقة بحرية التعبير عن الرأي ومبدأ تغليب الأكثرية كلها تنبع من التقاليد اليهودية.
إذاً، هي محاولة إصباغ هوية دينية محددة على دولة متعددة الأديان، وهنا يرى الباحث الإسرائيلي يارون كوهين تسيمح أنه عندما تتوقف الدولة عن تزويد مواطنيها بالخدمات الأساسية، وتتوقف عن كونها مصدراً للهوية والتضامن الاجتماعي، فإن الدين يعود إلى الواجهة ويقوم بهذا الدور الذي لم يتخلَ عنه واعتاد على تأديته عبر التاريخ ويؤديه في الحاضر، وسيواصل تأديته في المستقبل.
يستعرض تسيمح في بحث مفصّل، نشرته صحيفة «هآرتس» بتاريخ 2 تشرين الأول (أكتوبر)، تحت عنوان «الحمد لله، تبارك الله، لماذا رجعنا إلى الدين؟»، معارك «السيادة» بين الدين والدولة. ويرى أن تنامي النَفَس الديني في إسرائيل ما هو إلا جولة جديدة لما كان يحدث عبر التاريخ من الحروب على السيادة بين «المذبح» و«التاج»، بين الدين والدولة.
ويشرح الباحث كيف كان الدين مسيطراً على حياة البشر قبل نشوء الدولة، التي ألغت الدين، وكيف أن العولمة ألغت الدولة؛ إلا أن حاجة الإنسان للتضامن وبحثه عن هويته الخاصة أسبابٌ دفعته للانضمام إلى جماعة، أي عودة الدين، وهكذا ألغت الجماعاتية العولمة. لذلك يحذر «الدولة» من ترك أي فراغ، كي لا يستغله خصمها، «الدين».
*****
على ضوء قضية «أحداث السبت» بخصوص عمل القطار يوم السبت قبل أسبوعين، هناك تساؤل يطرح نفسه، هل سنشهد عودة الدين للتحكم بالفضاء العام في إسرائيل؟ إذا كان كذلك، مَن الذي يمنع هذه العودة غير لعبة المصالح السياسية متعددة الأطراف؟ وهل هناك «عودة» إلى الدين في عصرنا؟ إذا كان الجواب نعم، لماذا؟
تجدر الإشارة إلى أن هناك وظيفتين يشغلهما الدين في حياة الإنسان والمجتمع: من الناحية الداخلية، الدين يعطي لمعتنقه تصوراً جاهزاً ومبلوراً عن طبيعة النفس البشرية، والهوية والتضامن والتكافل الاجتماعي. أما من الناحية الخارجية والاجتماعية، فهو يساعد على خلق التضامن المطلوب لتشكيل الجماعة والحفاظ عليها عبر التزام أفرادها بانتهاج طرق سلوك معينة وفقاً لمعتقدات مشتركة حول العالم. ووفقاً لهاتين الوظيفتين، فالدين يسعى لتحقيق سيادة كاملة وحصرية، ونوع من الحكم الذاتي أو الاستقلالية في حياة الناس، أفراداً أو جماعات على حد سواء، وصولاً إلى درجة إلغاء الحد الفاصل بين ما هو خاص وما هو عام. فهوية الإنسان هي جزء من المظهر الذي يمارسه في المجتمع، ونظرته إلى العالم تعطيه تصوراً روحياً بخصوص ما يعتقده كقديس.
عندما يحقق الدين هذا الهدف، يصطدم مع مؤسسات بشرية أخرى تحاول هي بدورها تحقيق السيادة ذاتها. إحدى هذه المؤسسات هي الدولة، وبشكل خاص الدولة القومية التي ولدت في العصر الحديث، والتي تتطلع هي أيضاً لبلورة أطر ناظمة للهوية والتضامن والجماعاتية في المجتمع. من هنا يبدو طريق التصادم بين الدين والدولة قصيراً جداً.
الدين فوق الدولة
لمحاولة فهم مصادر الصراع في الدول الغربية، ومن بينها إسرائيل، لا بد من فهم أن الثورة الحضارية والاقتصادية التي حدثت في نهاية العصور الوسطى، بدأت عند ولادة الدول القومية على حساب الدولة الإقطاعية. في العصور الوسطى لم يكن الفصل نهائياً بين وحدات السيادة الصغيرة والكبيرة – التي تختلف في اللغة والثقافة، ولها نظام نقود وضرائب مختلف، والتي حُكمت من قبل طبقة النبلاء وأصحاب النفوذ وإقطاعات الأراضي. إضافة إلى هؤلاء، وعلى درجة أعلى منهم، حكمت الكنيسة الكاثوليكية من مقرها في روما، وفرضت على أرجاء أوروبا وجهة نظر واحدة، بما في ذلك تعليمات سلوك وتصرف في هذا العالم، ومنح صكوك الغفران للآخرة.
حددت الكنيسة المسموح والممنوع، مَن الحاكم ومَن المحكوم، وفي الوقت نفسه، قدمت الخدمات الطبية والتعليم والتربية. ولكن القضية الأهم هي أنها منحت نوع الهوية والتضامن والتكافل الاجتماعي المطلوب كي يستطيع شخص ما الانضمام إلى الجماعة، إلى درجة أنها امتلكت القدرة على دعوة جميع المسيحيين لترك أراضيهم وأسرهم وأسيادهم الاقطاعيين، للخروج في الحملة الصليبية لمحاربة الكفار في الطرف الآخر من العالم.
الدولة تلغي الدين
هذا الوضع بدأ بالتغير في القرن الـ 16، مع انهيار الإقطاعية والكنيسة، والتحسن الاقتصادي ونمو الصناعات الحديثة وظهور مدن جديدة. كل هذه الأسباب أدت إلى ظهور أنظمة سياسية جديدة من بينها الدولة القومية، وما يميز الدولة القومية أنها تحت سيادة حاكم واحد على أرض واسعة، ولغة واحدة وعاصمة واحدة وإدارة واحدة، ولكن في الأساس مع منظومة اقتصادية واحدة تخضع لمصالح الدولة، ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالدولة كوحدة مستقلة.
خلقت الحروب الدينية الكثيرة وظهور التيارات المتنافسة في تلك السنوات، الحاجة للدعوة إلى التسامح الديني، الأمر الذي فرض ضرورة أن تكون السيادة حيادية من الناحية الدينية، وأن على الدين ألا يتدخل في منصب الحاكم.
في المقابل، الدولة – التي حكمها بدايةَ الأمر ملكٌ ذو نفوذ وقوة، ولكنها مع مرور الزمن تحولت إلى ديمقراطية – بدأت تسعى للحصول على التزام الجماهير وثقتهم، وفقاً للحالة الوطنية باعتبارها مصدراً للسلطة والهوية، كما بدأت بإبعاد الدين عن وظائفها هذه، أو على الأقل بلورة دين محلي يخضع لسيادة الدولة.
وقد ساهمت العلوم والاكتشافات الحديثة في هذه العملية، البداية كانت مع كوبرنيكوس وغاليلو اللذين أزاحا الكرة الأرضية من مركز الكون، ووضعا الشمس مكانها (ومنذ ذلك الحين تحولت الأرض إلى مجرد كوكب من مليارات الكواكب). مروراً بـ«نيوتن» وفيزيائيين آخرين توصلوا إلى أن الإنسان يمكنه تدبّر أموره بدون الإله للوصول إلى التفسير الحقيقي للعالم ولما يجري حوله، وكذلك داروين الذي أكد أن الإنسان كائن متطور وليس من صنع الإله. كل هذه الأمور قدمت حقائق متعددة ومناقضة لما جاءت به الكتب المقدسة. من هنا يجب أن نخلص إلى أن العلم، وليس الدين، هو الطريق إلى الحقيقة والتقدم، وينبغي الاعتراف أن الدين هو محض هراء حتى يمكننا التخلي عنه، وإغلاق مؤسساته ومصادرة أمواله، وبكل تأكيد عدم السماح له بالتأثير على حياة البشر.
علاوة على ذلك بدأ الاقتصاد يكتسب أهمية متزايدة، ومع بداية الـقرن 17 بدأت المصالح المحلية وحياة الرفاهية والربح والتطلع إلى الثراء والسعادة تتحول إلى أمور أكثر شرعية، ومطلوبة. وبات مطلوباً من الإنسان العمل بذكاء لتحقيق أكبر قدر ممكن من السعادة والثراء، طالما أنه يستمتع بحياته هذه كل ما كان ذلك أفضل. وفي نهاية القرن الـ 18، قال «آدم سميث» إن العمل انطلاقاً من الرغبة الطبيعية لتحقيق الأرباح والمكاسب يعتبر من صلب الحياة الاجتماعية، لذا على الدولة والدين عدم التدخل لمنع هذه الرغبة.
هكذا، على مشارف القرن الـ 20، كان المجتمع الأوروبي مجتمعاً صناعياً ورأسمالياً، وعلمياً وعقلانياً (على الأقل كما يرى نفسه)، وآمن بالفكرة الساذجة «بالعلم يزدهر العالم»؛ والاقتصاد هو الميدان الذي يجسد طبيعة هذا الازدهار، والتكنولوجيا تساهم في تقدم الإنسانية؛ وعلاوة على ما سبق يولي المجتمع الأوروبي أهمية للدولة القومية الحديثة، كسيادة ناظمة للنظام الاقتصادي والاجتماعي، تمنح الفرد انتماءً وهوية وواجبات.
ماذا عن الدين؟ على الرغم من ذلك لم يختفِ كما هو متوقع، وتم التعامل معه كشأن خاص، وقيم أخلاقية مستمدة (وفق اعتقادٍ خاطئ) من قوة عليا. وتحولت المؤسسات الدينية ذاتها لمؤسسات خدمية مجتمعية ونفسية فقط، تخضع لسيطرة الدولة واحتياجاتها، من دون التأثير على الفضاء العام الذي تشكّلَ من جديد وفقاً للروح القومية. هكذا وفي نهاية المطاف تحوّل الدين إلى نوع من الخدمات التي تقدمها الدولة لمواطنيها. أما في إسرائيل فقد توّلت تقديمَ هذه الخدمات الأحزابُ الدينية التي تمثل المؤسسات الدينية والتقليدية في الحكومة، حتى أن جزءً من القوانين في الدولة عبرت عن معتقدات دينية وتقليدية، الأمر الذي أعتبر حلاً وسطاً نبع من المصلحة السياسية، حتى لا يتأذى الناسُ الذين لم يتخلوا عن دينهم ولم يتجهوا نحو الحداثة بعد.
في الواقع، إن الدول التي أقيمت في القرن الـ 20، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، مثل الهند وإسرائيل واليابان وتركيا، هذه الدول وُلدت (أو وُلدت من جديد) كدول ديمقراطية علمانية بمزيج يجمع بين الاقتصاد الوطني والرأسمالية، بينما كانت تحاول التقليل من دور الدين الذي كان يفرض نفسه داخلها على مر التاريخ. حيث بلور جمهور اليسار، وكذلك بالنسبة للمتدينين، وعياً وطنياً يقدم الهوية والانتماء على الدين، والطقوس والأعياد الوطنية على تلك الدينية، والمصالح الوطنية على المصالح الدينية، وخدمات رسمية ووطنية لرفاهية المواطنين كالتعليم والخدمات الاجتماعية والصحة والأمن والإسكان والغذاء.. إلخ. والسكان بدورهم سعوا وراء معيشتهم، ودفعوا الضرائب المستحقة عليهم وخدموا في الجيش، ولم يكن لديهم شك بأن هذه الدولة هي لخدمتهم وتعمل لصالحهم ولصالح الأمة والدولة. وإذا كان هناك شعور بأن الحكومة تقصر في عملها أو أنها تسير في الاتجاه الخاطئ، يقوم المواطنون والأطراف السياسية بتقديم بدائل لتصحيح المسار.
العولمة تلغي الدولة
كل شيء على ما يرام، ولكن مع مطلع القرن الـ 21 بدأت تظهر شروخ في هذا الانسجام، من بينها أن الدولة القومية بدأت بالتفكك بعد سلسلة تغيرات اقتصادية وعالمية. ومع نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، وُلدَ انطباعٌ بأن الرأسمالية والتفكير العلمي بالمصالح (الذي أفرز تكنولوجيا متقدمة بشكل سريع)، وأن الليبرالية، قد انتصرت لدرجة إعلان نظرية «نهاية التاريخ»، ورافقَ ذلك ظهورُ العولمة الاقتصادية الواقعية، وتحول العالم إلى قرية عالمية يتداول فيها الناس السلع والأفكار بأريحية تامة، ويستطيعون التنقل إلى أي مكان ومن أي مكان. وفي قلب هذا العالم كان الإنسان المُعولم، إلى درجة أنه في أكثر الفترات ليبراليةً أُلغيت الفكرة السائدة حول أن خبرة الإنسان هي التي تجعله يفهم العالم ويفسر ما يجري حوله بصورة علمية. ووفقاً لذلك بات مصطلح «الحقيقة»، مثل مصطلح «الأمة»، فاقداً لمعناه.
بدأت العولمة والاقتصادية العالمية بتنظيم الدول والاقتصادات المحلية وفقاً لاحتياجاتها، وبتقويض سلطة الدولة في التأثير على مواطنيها. وأجبر عرابو العولمة الدول على فتح أسواقها المالية والتجارية، والابتعاد عن أي شكل من أشكال سياسات الحماية الاقتصادية الوطنية بحجة دعم وتفضيل المنتج المحلي. وتحسين النظام الضريبي والانفاق الحكومي، بما في ذلك الامتناع عن كل ما من شأنه أن يثقل كاهل الميزانية والاقتصاد.
بالفعل، ما حدث هو أن «القومية» تحولت إلى بضاعة كاسدة، وعبء لا بد من التخلص منه للدخول إلى عالم العولمة، أو على أقل تقدير أصبحت شيئاً غير واقعي فيما يخص العمليات الاقتصادية أو الهوية الشخصية. وإذا بقي شيء ما من «القومية» ومن «الدولة الرسمية» المحلية، فهذا يعتبر ضرباً من ضروب التلاعب العاطفي وأداة للسيطرة على الجماهير، أو مجرد مصطلح فارغ من المحتوى، وليس كما يهذي كثيرون بأنها الطريق الصحيح، والماضي المشترك والحاضر الذي يبشر بمستقبل واعد.
إذا ما أخذنا إسرائيل نموذجاً على سبيل المثال، فقد قامت الدولة بخصخصة معظم خدماتها مثل الصحة والرفاهية وأمن المواطن، وأعفت نفسها من كل الالتزامات بتأمين حياة مريحة لمواطنيها. ومن ناحية أخرى، الناس في إسرائيل باتوا يشعرون أن الدولة لا تقوم بدورها المنوط بها حسب العقد الوطني، لذلك يشعرون بأنهم مخدوعون، لأنهم في الحقيقة لم يعودوا مؤثرين، فالانتخابات بين اليمين واليسار لا تغير في الواقع شيئاً، لا سيما بخصوص ما ستقوم به الدول تجاه مواطنيها. وفي كل مرة، إن مَن يحدد ما يحدث هنا هو رأس المال وخاصة في الاقتصاد العالمي، لا سيما في إطار العولمة.
هكذا، يجد الإنسان نفسه في قلب العالم، حراً في تقديم مصالحه الشخصية على غيرها، وحراً في اختيار وبلورة هويته في العالم الذي يمكنه شراء أي شيء، وحراً في أن يعيش في أي مكان. فالإنسان مُلزم بتدبير أمور حياته بنفسه، وفقاً «لعمق جيبه»، ومع شبكة أمان بدرجة ما، هذا بشكل عام. ولكن هناك مَن نجحوا بذلك بالفعل، وبلوروا هويتهم وفقاً للعالمية. وفي المقابل هناك من بقي حائراً وغارقاً في سيول العولمة، لدرجة إحساسه بالضياع وبأنه بحاجة إلى نوع من التوجيه والإرشاد والمساعدة، وفي خضم هذا الارتباك وُلِدَ الدِين من جديد.
الجماعاتية تلغي العولمة
الهوية، الاستغاثة في وقت الشدائد، قيمة الحياة والشعور بالتضامن الجماعاتي، وخدماتٌ من قبيل الصحة والتعليم والإرشاد الروحي والتقليدي، كل هذه الأمور يعود الدين إلى تلبيتها، بدلاً من الدولة، كما كان يفعل على مدى آلاف السنين. وانطلاقاً من المكانة الداخلية والرمزية التي تمركز فيها الدين في العصر الحديث، ومنها الحفاظ على طبيعة المجتمع الديني وصورته التقليدية التي لم تختف فعلياً، بدأ الدين ينمو من جديد على هيئة «ملتزمين» أو «تائبين»، فهؤلاء بدأوا بإنشاء طائفة «جماعة» ذات معتقدات وأسلوب حياة مشترك، وطالبوا أيضاً بتغيير الفضاء العام بما يتناسب ومعتقداتهم، سواء فيما يخص ثقافة المجتمع (ممنوع عمل المرأة، على سبيل المثال)، أو فيما يخص الاقتصاد (متى يفتح التاجر حانوته ومتى يغلقه)، وما هو مسموح العمل به وما هو ممنوع، ممن حلالٌ أن تشتري ومن أي محل؟ ومن يُحرّم التعامل معه؟ وطالبوا الدولة أن تولي اهتماماً بمشاعر أعضاء الجماعة في الفضاء العام بخصوص الخدمات الرسمية، سواء في الجيش أو الإعلام أو التدخل في مناهج التعليم، وما هو مناسب وما هو غير مناسب.
هذا النهج لاقى تأييداً من قطاع العمل من الناحية الاقتصادية، وعلى المستوى السياسي من تلك الأحزاب الدينية التقليدية التي راحت تمثل جمهور المتدينين المتجدد. فهؤلاء اكتسبوا كثيراً من القوة والقدرة على تحقيق إنجازات سياسية جوهرية على شكل خلق الفضاء العام وإعطاءه صبغة دينية، من خلال السعي المستمر لإضفاء بعد ديني على «القومية» التي أُفرغت من محتواها.
هذا، وساهم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في إبراز المفاهيم الدينية للقومية. ومع الزمن توقف الصراع عن كونه بين أمتين (وهو أطلاقاً لم يكن بهذه الصورة) وتحوّل إلى صراعٍ بين الأديان. كما يعود الدين في أوروبا إلى الساحة كلاعب قوي وذلك بسبب حركة الهجرة الإسلامية إلى القارة العجوز، وتنامي النَفَس الإسلامي في أحياء كاملة داخل المدن الكبرى في أوروبا، ما يثير غضب اليمين، الأمر الذي يضفي بعداً دينياً على القومية ويحولها إلى عصبية عندما تتم الدعوة إلى حملة صليبية جديدة على الكفار الذين احتلوا «أوطانهم».
أديان هجينة
أتاحت العولمة وسياسات الخصخصة مساراً آخراً، قياساً على قدرة كل فرد في توليف دين مناسب لنفسه ولاحتياجاته من الأمور المتاحة، والتي في متناول اليد. دينٌ لا يحتاج إلى سندٍ لاهوتي ولا يعترف بسلطة العرش المقدس لتحديد ما هي الديانات الصحيحة. تُعرَفُ هذه الديانات في إسرائيل بديانات العصر الحديث، وانتشرت بكثرة في التسعينيات من القرن الماضي، ومنحت معتنقيها بعداً روحياً بصورٍ مختلفة، مثل الرضا وتجليات وتأملات داخلية. ويمكننا أن نسميها اليوم بالأديان الهجينة، أو الديانات متعددة المعتقدات. أي وفقاً لهذه الديانات يمكن للإنسان أن يقيم يوم السبت وفي اليوم التالي يذهب إلى البحر، ولا يلتزم بعدم تناول الأطعمة المحرّمة ومع ذلك تراه يصوم يوم الغفران، ويفسر التلمود وفقاً لروح تعاليم بوذا، ويشعر بالتقرب من الله في قداس عيد الميلاد أو في معبد في الهند.
في سنوات «التوبة» أو التقرب إلى الله في مراحله الأولى، يرى الإنسان ضرورة إقامة مؤسسة دينية كي يسيطر الدين على جوانب الفضاء العام. وخلافاً للتيار التقليدي القائم على المتدينين الأتقياء والمتشددين طوال الزمن، فإن الديانات الهجينة توجه انتقادات إلى الاحتكار الديني بغطاء الدولة التي اعتنقت اليهودية الأرثوذكسية، الأمر الذي يؤثر سلباً على إمكانية تجسيد تطلعات الديانات مختلفة ومتعددة المعتقدات. ونرى ذلك في قضايا وأمور مثل الحلال والحرمانية، وأحكام الزواج والطلاق، وأحكام السبت والإعفاءات المتعددة التي يحصل عليها من هم في تيار الدين الأرثوذكسي.
ومع ذلك، وإن بقدر معين، تشكل هذه الأديان الهجينة أو متعددة المعتقدات حافزاً للأشخاص الذين لا يرغبون بالعيش في إسرائيل، في الوقت الذي يتيح فيه عالم العولمة للإنسان العيش في أي مكان يراه مناسباً وفقاً لما تمليه عليه حاجاته الاقتصادية والنفعية. في هذه الحالات يثبت الإنسان لنفسه على وجه الخصوص، بأنه لا يزال متمسكاً بالمعتقد اليهودي، بعيداً عن الحاخامية.
في الفجوة بين أولئك الذين يدعون إلى التمسك بالطابع الديني في الفضاء العام، وإضفاء بعد ديني على القومية التي أُفرغت من محتواها، وبين مَن يعتنقون الديانات الهجينة ويطالبون بإلغاء الاحتكار الروحي للدين، لا تزال هناك أغلبية صامتة، تسمى لدينا خطأً بـ «العلمانية»، شكلت هويتها المختلطة سواء من الدين أو القومية، والعالمية والمحلية، وتعترف بإمكانية العيش في أي مكان في العالم، وإيجاد مصادر للهوية والبحث عن التضامن والتكافل مع أي إنسان آخر في العالم. على ظهر هذه الأغلبية، وعلى مر العصور، جرت وتجري حرب السيادة بين المذبح والتاج (الكاهن والملك)، وبين الدين والدولة.
ولكن الدولة الحديثة، أو ما بعد الحديثة، بحاجة إلى أن تضع في حسبانها، أنه لا ينبغي أن يكون هناك فراغ. وعندما تتوقف الدولة عن تزويد المواطن بالخدمات الأساسية والدعم، وتكف عن كونها مصدراً للهوية والتضامن والتكافل الاجتماعي، فإن الدين سيقوم بهذا الدور، الذي كان يقوم به على امتداد التاريخ في الماضي، ويقوم به الآن، وسيستمر بالقيام به في المستقبل.
مع ذلك، قد يكون هناك أيضاً من يعتقدون أن الدين هو مجموعة من الخرافات، وأن الدولة لا تفي بالتزاماتها أمام مواطنيها حسب العقد، لذلك يقطعون صلتهم بالثقافة الوطنية التي امتلأت بأمور غريبة عنهم.