خلال أشهر الصيف المنقضي، أخذت كولومبيا موقعاً متواتراً في أروقة الإعلام والسياسة الدوليين مع تسارع مجريات عملية السلام بين الحكومة الكولومبية برئاسة خوان مانويل سانتوس من جهة، والقوات المسلّحة الثورية الكولومبية (فارك، أي الأحرف الأولى من الاسم بالاسبانيّة) من جهة أخرى. كان توقيع وقف إطلاق النار النهائي بين الطرفين تتويجاً لعملية سياسية دامت نصف عقد، بوساطة كوبيّة وتغطية دولية قويّة، عبّرت عن نفسها في الاحتفال البروتوكولي الذي نُظّم في كارتاخينا لتوقيع اتفاق السلام بين الطرفين نهاية أيلول الماضي، حيث شوهد تمثيلٌ إقليمي ودولي كبيران، احتضن لحظة مصافحة قادة الطرفين المتصارعين الرئيسيين بعد أكثر من نصف قرن من الصراع الدموي، صراع أدى لمقتل نحو ربع مليون، وتغييب وخطف عشرات الألوف، وتهجير الملايين داخلياً نحو أحزمة الفقر حول المدن الكبرى، أو نحو الدول المجاورة.

في حفل كارتاخينا، وتحت قمصان بيضاء بدت زيّاً موحداً لبسه ممثلو الأمم المتحدة، وممثلو الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن، ورأس النظام الكوبي، الراعي والوسيط لعملية التفاوض الطويلة، وممثلون عن كل الدول الأوروبية المهمة، وزعماء إقليميون مثل الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو والرئيس الأرجنتيني ماوريثيو ماكري، اجتمعوا -بسلام- لاحتضان حفل توقيع اتفاق السلام، رغم أن ما يجمعهم عادةً لا يتعدى حملات الشتم المقذع المتبادل على وسائل الإعلام الموالية لكلا الطرفين. بدا واضحاً وجود إجماع إقليمي ودولي حاسم على دعم نهاية آخر صراع مسلّح في أميركا اللاتينية، وأحد جروح حقبة الحرب الباردة التي لم تندمل مع نهاية تلك الحرب. التقى الإجماع الدولي مع التوجّه الحاسم للأطراف المتصارعة داخلياً، إذ أن عهد خوان مانويل سانتوس بُني، خلال سنواته الست، على موقف حاسم يبحث عن إنهاء الحرب، طُبِعَ بوضع الرئيس الكولومبي كل ثقله وذخره في سبيل الوصول إلى اتفاق، ودون أن يترك أي خط رجعة عن هذا التوجّه.

من جهتها، وبعد أكثر من ثلاثة عقود من صورة شنيعة، انتفى فيها أي معنى نضالي متّسق مع ما يُفترض أنه حجّة الوجود في الصراع مع الحكومة الكولومبية لصالح سلوك إجرامي بحت، وعلاقة فضائحية مع عالم المخدرات والجريمة المنظمة، كان على «فارك» أن تبحث عن إعادة إنتاج نفسها كفاعل سياسي ضمن حياة سياسية بعيدة عن مناخ الحرب. لم يعد ممكناً البقاء عقوداً إضافية في الأدغال والأرياف النائية، خصوصاً بعد الضربات العسكرية الموجعة التي تلقّتها خلال العقد الأول من القرن الحالي.

بانتظار أن يكون الاستفتاء العام في الثاني من تشرين الأول أكتوبر عبارة عن خطوة بروتوكوليّة تضفي شرعية داخلية على اتفاقات الهافانا، بدا لمتابع ردود الفعل السياسية والإعلامية الدولية أن العالم يهنئ نفسه على سلوكه مع كولومبيا خلال السنوات الأخيرة، وأن هذا الإجماع الحاسم مع دعم الأطراف المتصارعة على الوصول إلى اتفاق سلام هو موقف قوي يعيد الاعتبار لدور المجتمع الدولي. لكن نتيجة الاستفتاء الشعبي أدت إلى عكس المشتهى، حيث تغلّب خيار رفض الاتفاق بفارق ضئيل جداً (50,21%  مقابل 49,78%).

صُدِمَ العالم بهذه النتيجة، وتواتر ظهور تعليقات ومانشيتات صحفية متحسّرة على «فرصة السلام الضائعة». بدا أنه كان هناك مسار منسجم من أجل السلام في كولومبيا، وأن النشاز فيه -ياللمفارقة- هو الرأي العام الكولومبي! لم تمتنع نخب ليبرالية وتقدمية إقليمية وعالمية عن توبيخ الكولومبيين بشكل متعالٍ على «سلوكٍ غير مسؤول»، وضاع وضوح الصورة في لحظات عديدة: من هو ولي الدم حقيقة؟ كاتب مقال رأي في نيويورك تايمز أو إل باييس، أم الكولومبيون؟

بقي المجتمع الدولي في موقفه الداعم لاتفاق السلام في كولومبيا، وتجلى ذلك -رمزياً- مع منح الرئيس خوان مانويل سانتوس جائزة نوبل للسلام يوم الجمعة الماضية. كانت الجائزة تعبيراً عن دعم جهود الرئيس الكولومبي خلال السنوات السابقة، وتمثيلاً لاستمرار الوقوف معه في الجهود المستقبلية لبقاء عملية السلام على قيد الحياة، كما أشارت رسالة لجنة جائزة نوبل حين إعلان الفائز، رسالة لقيت موافقةً كبيرة في أروقة المجتمع الدولي.

لا شك أن رفض اتفاق السلام في الاستفتاء كان ضربةً موجعة للباحثين عن نهاية صراعٍ عمره أكثر من نصف قرن. لقد عمل «فريق السلام» في كولومبيا بقوة على تجاوز خلافات داخلية كبيرة، عمرها ووجعها لا يقل عن عمر وأوجاع الصراع نفسه، من أجل خلق قطب يبحث عن بناء أغلبية جديدة تريد تجاوز زمن الحرب نحو زمن السياسة. لا يمكن الحديث عن كولومبيا اليوم دون التنويه لحجم هذا الجهد، ولا شك أيضاً أن دور المجتمع الدولي، على قصوره، كان إيجابياً وحاسماً في دعم جهود هذا القطب وتغطيته وتقديم العون له. ما تريده هذه السطور، عبر الإشارة لعناوين وتفاصيل غائبة عن الغالبية الساحقة من النقاشات والتحليلات، هو الإشارة لتهافت الاختزالات والعناوين التوبيخية، التي تعامت عن مشاكل بنيوية هائلة في الدولة الكولومبية، ونواقص كبيرة في الاتفاق لم ينفِها حتى من وقّعه، والعلاقة السلبية للغاية، وباتجاهين، بين قطاعات واسعة من المجتمع الكولومبي والدولة، التي أدت إلى أن تكون نتيجة الاستفتاء، ليس فقط بانتصار الرفض بل بنسب المشاركة المتواضعة أيضاً، تعبيراً عن عدم نضوج ظروف أساسية وحيوية من أجل بناء هذه الأغلبية الجديدة، وقصور في العمل على محاور جوهرية لا يمكن تجاوزها، وليس مجرد انتصارٍ لليمين المتطرف بزعامة الرئيس السابق ألبارو أوريبي، أو عدم وعي الكولومبيين لضرورة إنهاء حرب نهشتهم إنسانياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً على مدى عقود.

في هذا الجزء ستُناقَش مسألة نقص شرعية وتمثيل الدولة الكولومبية ومؤسساتها ونظمها الانتخابية بالتركيز على النسبة العالية جداً من الامتناع عن التصويت في الاستفتاء، وفي جزء لاحق ستُناقَش تمثيلات أقطاب المدافعين عن الاتفاق والرافضين له، وأحقية تصوير الرفض وكأنه خطاب اليمين المتطرف وحده، بالإضافة لعرض في سيرة النخب السياسية الكولومبية التقليدية، ممثلة بالرئيس خوان مانويل سانتوس.

لا يكفي تحليل نتائج الاستفتاء على اتفاقيات الهافانا لتكوين صورة متكاملة عن تعقيدات الوضع السياسي-الاجتماعي الكولومبي، فهذه الصورة تحتاج لمراجعة تاريخية دقيقة لا تتوقف عند بداية الفصل الأخير (والأطول) من الصراع المسلح في كولومبيا، بل يجب أن تمتد وصولاً إلى حرب الاستقلال عن التاج الاسباني في العقد الثاني من القرن التاسع عشر. قلقُ الإطار الكولومبي عمره قرنان، وتجتمع فيه صراعات مريرة بين مراكز القوى السياسي والاقتصادي، والمسألة الزراعية والإقطاع، والعلاقة مع الجوار القريب والقوى الإقليمية الدولية، ثم الحرب الباردة وتعفّن نهايتها وتمفصل هذا التعفّن مع تفجّر تجارة المخدرات. كل هذه عوامل أدت إلى أن البلد لم يعش استقراراً مديداً في أي حقبة من حقب استقلاله، فتاريخه هو تاريخ سلسلة متتالية من الصراعات الدموية.

لكن نظرة، وإن سريعة، إلى أرقام الاستفتاء تفيد في الإشارة لعدة عوامل أساسية غائبة في القسم الأكبر من النقاش حول المسألة الكولومبية، ليس فقط عند مراقبين بعيدين مثلنا، بل أيضاً في الساحة الكولومبية نفسها.

تحقّ الإشارة إلى أن أول ملاحظة في تدقيق نتائج الاستفتاء يجب أن تقع على النسبة العالية جداً من الممتنعين عن التصويت، فهذا التفصيل يفوق نسبة الرافضين أو الموافقين أهمية، ولذلك سيُناقش بشكل منفصل في هذا الجزء. في موعد مع الصناديق لمقابلة أهم حدث سياسي كولومبي في العقود السبعة الأخيرة، امتنع عن التصويت أكثر من 62% من الكولومبيين الذين يحق لهم التصويت. أي أن أكثر من ستة من بين كل عشرة كولومبيين لم يشعر بأنه معنيّ بالمشاركة في «موعد ديموقراطي مع السلام». صحيحٌ أن السلبية الانتخابية في المجتمع السياسي الكولومبي بنيوية، وأن نسب الامتناع عن التصويت لم تنقص يوماً عن 40٪، وفاقت في أغلب الاستحقاقات الانتخابية نسبة النصف، ما يدعو، على الأقل، للقلق على الشرعية الديموقراطية لمؤسسات الدولة التي تُقدّم -دولياً على الأقل- على أنها ليست الأسوأ في أميركا اللاتينية، لكن هذا الثابت التاريخي غير كافٍ لعدم الوقوف مطولاً أمام هذا الواقع، والتساؤل جدياً عن جدوى التفكير في بناء أغلبية جديدة في كولومبيا انطلاقاً من مؤسسات ونظم انتخابية عاجزة (بل غير مكترثة، كما سيُشار بعد قليل) عن الوصول على الأقل إلى نسب المشاركة العادية في الانتخابات البلدية لدول الجوار، في استفتاء مصيري حول اتفاق سلام كان يفترض أن يعني بداية جديدة لكولومبيا.

بالإمكان الحديث عن نوعين أساسيين من الممتنعين عن التصويت في كولومبيا. من جهة هناك ممتنعون إراديون، يعبّرون بوضوح عن أن الدولة الكولومبية ومؤسساتها ليست منبعاً للثقة، وأنهم لا يرغبون بالتفاعل معها ولا يعتبرون أنفسهم جزءاً منها، ويدعم الخيار السلبي لهولاء تجاه التعاطي مع الدولة الكولومبية سجل تاريخي طويل من ممارسات إرهاب الدولة والفساد والزبائنية. لكن النسبة الأكبر من السلبيين هم الذين لا يعنون شيئاً للدولة الكولومبية، بغض النظر عن رغباتهم هم. نتحدث هنا عن ملايين واسعة تستوطن أحزمة الفقر المدقع حول المدن الكبرى والأرياف النائية، خصوصاً في المناطق التي عاشت أسوأ فصول الصراع المسلّح، وتلك التي وقعت فريسة الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات، وأصبحت الكارتيلات بالنسبة لهم هي السلطة، ليس فقط في ممارسة القسر بل أيضاً في الدور الاجتماعي. لا يمكن فهم ظاهرة الكارتيلات دون الوقوف عند التاريخ الاجتماعي لهذه المناطق بما يتجاوز سردية الصراع السياسي-العسكري المختزل.

في فضيحة «التفاعلات الإيجابية الكاذبة» مثال مهم لتصوير وضع هؤلاء المهمّشين المغيّبين، وتفاعل الدولة وعلاقتهم بها، وأيضاً غيابهم حتى عن شبكة الهيئات والمنظمات الإنسانية والحقوقية، المحلية منها والدولية. هذه الفضيحة هي الأحدث من سلسلة فضائح إرهاب الدولة الكولومبية خلال عقود صراعها مع «فارك»، والتي هي أيضاً عقود سلوكها القمعي مع الحركات الاجتماعية المناهضة لسياساتها. تفجرت هذه الفضيحة عام 2008، بعد أن عُلم أن وحدات في الجيش الكولومبي عملت، طوال عقد على الأقل، على اختطاف شباب من المناطق النائية وأحزمة الفقر وقتلهم في مناطق أخرى وتقديمهم كنتيجة لمعارك وهمية مع «فارك» للحصول على المكافآت والامتيازات المرصودة في النظام العسكري الكولومبي، الذي رصد مكافآت نقدية وإجازات وترقيات للعسكريين على كل «متمرد» يُقتل في المعركة. كانت وحدات الجيش الكولومبي تداهم مناطق التهميش، وتقتاد عدداً من الشباب إما بالاعتقال أو بالخداع بحجة أنها تتعاقد معهم كمياومين في مشاريع بناء أو زراعة، إلى مناطق التماس مع «فارك» حيث تُلبسهم لباساً عسكرياً وتقتلهم، وتصوّر ساحة المعركة الوهمية وتكتب التقارير الروتينية التي تفيد لصرف المكافآت. كانت هذه الممارسة ممنهجة وواسعة الانتشار في الغالبية الساحقة من قطع الجيش الكولومبي، باعتراف القيادة العسكرية والنظام القضائي الكولومبي نفسه، وعدد الحالات الموثّقة لدى القضاء الكولومبي يُعد بالآلاف، رغم أن العدد الحقيقي قد يكون بعشرات الألوف.

استغرق الأمر سنوات طويلة حتى كُشف الغطاء عن هذه الممارسة الإرهابية. لم يكن لدى ذوي المفقودين أي إمكانية للوصول إلى أجهزة الدولة للإبلاغ عن اختفاء ذويهم، أو أي تماس مع المنظمات الحقوقية لتساعدهم على نفي رواية أن ابنهم مقاتل في «فارك» كما كان يظهر في السجلات العسكرية.

كعادتها، تعاملت الدولة الكولومبية بكسل مع الفضيحة. جلّ المعتقلين كانوا من العسكريين الأفراد والضباط المتوسطين، وتلقوا أحكاماً هزلية على ما اقترفوه، ولم تخفِ المؤسسة العسكرية وقوفها الحاسم معهم ووضع ثقلها وأجهزتها القانونية للمرافعة عنهم، والجنرال الوحيد الذي استقال بعد الفضيحة عُين فوراً في منصب دبلوماسي كتقاعد فخري، وأُلغي نظام المكافآت الذي يذكّر بأفلام الكاوبوي دون أن يُساءل من صمّمه وقدّمه كفكرة جيدة لضمان فاعلية القوات المسلحة.

لكن الكسل لم يكن تهمة الدولة الكولومبية وحدها. في تموز عام 2013، أي بعد نحو خمسة أعوام على الفضيحة، وبعد عامٍ على بدء المرحلة الحاسمة من عملية السلام، قُرأ حكم المحكمة العُليا في بوغوتا على خمسة عسكريين متورطين في مذبحة «تفاعلات إيجابية كاذبة» جرت بحق شباب من منطقة سواتشا، أحد أحزمة الفقر المدقع قرب بوغوتا. كان هذا الحكم تاريخياً من حيث أنه أضاف وصف «جريمة ضد الإنسانية» على قائمة جرائم التغييب القسري والقتل العمد والتزوير بحق مرتكبي الجريمة. وحدها باتريثيا سيمون، مراسلة موقع «الصحافة الإنسانية» الاسباني، وهو موقع غير ربحي يديره صحفيون يقدمون تغطيات صحفية من منظور حقوقي، كانت متواجدة في القاعة لتغطية الحكم صحفياً. ولا وسيلة إعلام، محلية كانت أم دولية، من أصحاب القلب القوي في توبيخ الكولومبيين على سلبيتهم الديموقراطية، كانت متواجدة لتغطية هذا الحدث.

بالمناسبة، وزير الدفاع عند ظهور الفضيحة عام 2008 كان خوان مانويل سانتوس، رئيس كولومبيا الحالي، وحامل جائزة نوبل للسلام. لا يمكن القول إنه كان وحده مسؤولاً عن هذه الجريمة، بل يُحسب له أنه صاحب المبادرة في الإجراءات الخجولة التي اتُخذت لإيقاف العمل بنظام المكافآت، لكنه جزء أساسي من تركيبة الصقور في عهد أوريبي، وقد بُنيت شرعية اختياره خلفاً لألبارو أوريبي على أنه الأقدر على الاستمرار في النهج المتشدد في التعامل مع «الإرهاب».

فضيحة «التفاعل الإيجابي الكاذب» هي واحدة فقط من فضائح إرهاب الدولة في كولومبيا، وهي مثال واحد عن انتهاك مريع لحقوق الإنسان ارتُكب بحق الكولومبيين، أكان من قبل الدولة والتنظيمات العسكرية الرديفة، أو من قبل «فارك». اللافت هنا، مجدداً، هو الإحساس بالحصانة عند التعامل بوحشية مع قطاعات واسعة من الكولومبيين لا يراها أحد، قطاعات مهمشة ومعزولة ولا تعني لها الدولة وحياتها السياسية شيئاً، لكنها توبّخ على «سلبيتها» وعدم التزامها بنهج السلام، ولم تؤخذ أسباب سلبيتها بعين الاعتبار عند تحليل النتائج، على الأقل مقارنةً بالتركيز الهزيل على سوء الأحوال الجوية في بعض المناطق الساحلية، أو بأن الناخبين كانوا واثقين من فوز الموافقة لدرجة أنهم اعتقدوا بعدم ضرورة نزولهم للتصويت، وهي حجج متواترة في التغطية الصحفية التالية للاستفتاء.

واقعُ وجود نسبة عالية جداً من الكولومبيين «خارج الدولة» بالمعنى السياسي، هو أحد الأسباب الجوهرية لتواتر النسب العالية من الامتناع عن التصويت تاريخياً في الاستحقاقات الانتخابية. لكن الذنب مضاعف في حالة الاستفتاء على خطة السلام، وثمة نقطتان تستحقان الوقوف عندهما لتأكيد هذا التذنيب:

الأولى، أن نسبة الامتناع في الاستفتاء على عملية السلام كانت أعلى نسبة امتناع منذ 22 عاماً. ليس صحيحاً أن سوء الأحوال الجوية يُبرر هذا الواقع ولو جزئياً، فأي قطاعات امتنعت عن التصويت بسبب هذا الواقع كانت ستُعوّض نتيجة أن هذا الاستفتاء كان سيجري في أفضل ظروف أمنية منذ عقود. هناك فرق عشر نقاط مشاركة بين هذا الاستفتاء وانتخابات جرت في أسوأ سنوات «الحديد والنار». أي أن الدولة الكولومبية لم تعجز فحسب عن إدماج سلبيين تاريخيين إزاء العملية الديموقراطية، بل أنها فشلت حتى في إقناع من سبق وأن صوّت في مناسبات انتخابية بضرورة مشاركته.

الثانية، وجود مؤشرين يدلاّن على أن الحكومة الكولومبية تعاملت مع الاستفتاء بطريقة «غير ديموقراطية»، من حيث أنها اعتبرته أمراً إجرائياً يجب أن يتم بسرعة ودون شوشرة. أول هذه المؤشرات هو تصميم الاستفتاء ليتم بعد أقل من خمسة أسابيع على إعلانه، أي أنها لم تخطط أبداً لتوفير البنية التحتية اللازمة لإشراك أكبر عدد من الناس (بما في ذلك تحديث القوائم الانتخابية بشكل جيد، أو تجديد البطاقات الشخصية للناخبين)، ولا للقيام بجهد سياسي حقيقي من أجل تسويق الاتفاق وإقناع قطاعات شعبية واسعة بأنه مفيد لمصالحها وتطلعاتها خارج الضغط الإعلامي الابتزازي بأن ما يُطرح هو إما السلام أو الحرب. في كثير من النظم الديموقراطية لا يجوز الإعلان عن موعد انتخابات دورية وروتينية بهامش أقل من ثلاثة أشهر، فكيف يمكن تنظيم استفتاء بهذه الأهمية، في سياق بالغ التعقيد كالكولومبي، خلال شهر واحد فقط؟

المؤشر الآخر نجده في شرط الحد الأدنى للمشاركة الذي وضعته الحكومة الكولومبية عند إصدارها، على عجل، القانون الناظم للاستفتاء: كانت مشاركة 4.5 مليون ناخب (من بين 35 مليون ناخب يحق لهم، افتراضياً، التصويت) كافية لاكتمال النصاب. أي أن مشاركة 13 % من الناخبين كانت كافية لكي تكون نتيجة الاستفتاء، حسب قانونه الناظم شرعية ومُلزِمة. الدولة الكولومبية كانت تبحث عن عنوان فوز خيارها السياسي الفوقي في استفتاء، دون أي اكتراث لتفاصيل هذا الاستفتاء ومدى شرعيته ومدى صحة تمثيله للشعب الكولومبي.

لقد كانت نسبة الممتنعين عن التصويت أبرز نتائج التعامل السلبي وغير المكترث لمحاولة تسويق عملية السلام بطريقة أكثر تركيزاً وتركيباً، وإهمال العمل السياسي مع قطاعات شعبية مختلفة تضررت تاريخياً من الصراع الدموي لإقناعها بأن ما يُقدّم أمامها هو الطريق نحو مستقبل أفضل. هذه المسألة، التي خُصص الجزء الأول من النص لمناقشتها، هي الأفدح في مشهد تعامل فوقي للسياسة، داخلياً ودولياً، مع قضايا ونزاعات مركّبة ومعقدة ومغرقة في القدم، وذات تبعات اجتماعية خطيرة، والاكتفاء بتعاملات إجرائية سريعة، تجعل الاجتماعي والديموقراطي مجرد تفصيل شكلي -في أفضل الأحوال- في مشهد جلّه أروقة وقاعات اجتماع مغلقة.

ستتكرر الإشارة لهذه الفداحة عند مناقشة عوامل أخرى في الجزء اللاحق.