ليس هناك وجه عادل لاعتراض أي كان على حق الكرد السوريين في تقرير مصيرهم. يتعلق الأمر بشعب له ثقافته ولغته، وتطلعاته السياسية وأحلامه القومية، وبخاصة منها حلم الدولة التي حُرِمَ منها بفعل ترتيبات القوى الأوربية التي هندست «الشرق الأوسط» قبل ما يقترب من قرن. ولم تُظهِر دول المنطقة الأربعة التي يعيش فيه هذا الشريك التاريخي في تكون مجتمعات سورية والعراق وتركيا وإيران وتاريخها الحديث، والأقدم، من العدالة والإرادة ما يوفر المساواة للكرد كقومية. فلا كانت لهم دولة مثل غيرهم، ولا تشكل في الدول الأربعة أو في أي منها اتحاد جامع، يتشارك الكرد مع غيرهم ملكيته وسياسته.
وما إن نُقرّ بحق تقرير المصير حتى لا يبقى هناك وجه عادل لأن يُستبعد الانفصال من هذا الحق، وإقامة دولة أو كيان مستقل. هذا غير مشروط بغير إرادة الشعب المعني، على نحو ما يُستدل عليها من تعبيراته السياسية، أو، إن أتيحت الفرصة، تصويتاً على الانفصال يدعى الكرد دون غيرهم إليه.
بيد أنه سرعان ما تواجهنا، ونحن نتكلم على السياق السوري المخصوص، مشكلات كبيرة حين ننتقل من المبدأ العام إلى التفاصيل، هذه التي يكمن فيها الشيطان حسب القول الشائع. إشاحة النظر عن التفاصيل ليست متاحة للأسف حيال واقع اليوم الحارق، والوقوف عند المبدأ العام المُجْمل في أوضاع كهذه قد يكون علامة جبن فكري وسياسي، أو أسوأ، علامة انتهازية وشطارة.
وتتصل التفاصيل المعنية بالخصائص التاريخية والجغرافية والاجتماعية والسياسية للكرد وانتشارهم في سورية، وهي غير معلومة على نطاق واسع، خارج سورية، ولا تكاد تكون معلومة بقدرٍ وافٍ في سورية ذاتها. وراءَ هذا الواقع قلةُ اطلاعٍ على شؤون بلدٍ ليس هناك إنتاج كتابي مهم في شأنه، ولم يجر فيه نقاش عام طوال أكثر من نصف قرن، ولم يشارك مثقفوه طوال عقود في نقاش حر في ملتقيات سياسية إقليمية أو دولية، وليس هناك تراكم معرفي في شأن تكوينه الجغرافي والبشري والاجتماعي، ولم يكد يعيش أحد ممن يحصل أن يتناولوا شأناً سورياً على الأرض وبين المعنيين مباشرة بهذا الشأن. بفعل هذا الواقع المديد نجد، نحن السوريون المهتمون بشؤون بلدنا بالذات، أننا لا نعرف الكثير عن بلدنا، أن سورية بلد مجهول لنا بالذات. ولا يملك الواحد منا إلا الشعور بالحنق والحسد معاً حيال صحفيين عرب وغربيين يتناولون شؤوننا باطمئنان قلّما يميزُ من يعرفون حقاً.
هذه المقالة محاولة اجتهادية، إن جاز التعبير، في قضية كان يُفترض أن يكون جرى الكلام في شأنها مراراً وتكراراً وبأوسع قدر من التفاصيل. أما وأن الحال ليس كذلك رغم كثرة الجلبة، فعسى أن يجرَّ الكلام كلاماً، وأن ننخرط في نقاش مثمر.
خصائص الوجود الكردي في سورية
من الناحية التاريخية، لا يسجل وجود الكرد في سورية نسقاً مغايراً لوجود العرب، بعضه قديم وبعضه أحدث. وهو وجود مديني في دمشق وحماة، مُتعرِّب لغوياً، وذائب بقدر كبير في البيئات المحلية بفعل وحدة الدين وأنماط الحياة. وهناك وجود فلاحي قديم في مناطق شمال حلب، ووجود أحدث في شرق حلب، وفي أقصى الشمال الشرقي السوري (محافظة الحسكة). في سورية المعاصرة، يتركز الكرد في مناطق من شمال سورية، مختلطين بعرب وتركمان وسريان وأرمن.
قبل الزمن الأسدي عرفت سورية حياة سياسية عاصفة، وكانت القومية العربية في صعود طوال خمسينات القرن العشرين وستيناته. كانت النخب السياسية في سورية المستقلة مدينية في عمومها، منحدرة من دمشق وحلب وحمص وحماة أساساً. ورغم قوة النزعة العربية في سورية منذ تكونها في نهاية الحرب العالمية الأولى، إلا أن النخب السياسة والعسكرية في البلد كانت تنحدر في معظمها من بيئات أعيان متعربين، من أصول تركية أو تركمانية أو كردية (حسني الزعيم). العروبة السورية كانت مفتوحة وشديدة التنوع قبل الزمن البعثي، الذي استهل حقبة من تعريب العرب، فجعل العربي الحقيقي هو القومي العربي، وبالصيغة البعثية، صيغة «العروبة المطلقة»
على أن العروبة البعثية السورية، وهي نزعة قومية علمانية، وفرت مساحة تلاقٍ بين سوريين منحدرين من منابت دينية ومذهبية مختلفة، فضيقت الفجوة بين السنيين والعلويين والاسماعيليين والدروز، وكذلك بين المسلمين والمسيحيين، لكنها استبعدت الكرد المتمسكين بهويتهم. أخذ الاستبعاد شكل فرض العنوان «العربي السوري» على الجميع، على نحو يجعل الكرد غير مرئيين وغير ممثلين سياسياً بصفتهم القومية. إلا أن الحزب الشيوعي أتاح لمنحدرين من جماعات إثنية مختلفة، فضلاً عن الجماعات الدينية والمذهبية، فرصاً لنشاط سياسي، ومن هذه المجموعات الكرد بخاصة. وفي هذا الشأن، كان الأصل الكردي لخالد بكداش (كردي دمشقي متعرب)، الزعيم التاريخي للحزب طوال أزيد من نصف قرن، عنصراً مشجعاً، يضاف إلى الصفة العابرة للقوميات للمعتقد الشيوعي. كان كرد الشمال والشرق السوري ريفيين في أكثريتهم وقتها، ولا يكاد يكون لغير عدد قليل جداً منهم نشاط سياسي. كان بطلهم في ستينات القرن العشرين وسبعيناتها هو الملا مصطفى البرزاني.
بصورة مجملة يمكن القول بخصوص سورية قبل الحقبة الأسدية إن الكرد، الموجودين كسكان، لم يكونوا موجودين كإرادة قومية إلا على نطاق ضيق. وفي خلفية ذلك الصفة الريفية الغالبة على القوم الكردي وقتها أكثر من أي استبعاد منظم، بخاصة قبل الزمن البعثي. لم تكن هناك مدينة كردية في سورية. أكثر الكرد المدينيين في حلب، والرقة والحسكة، هم مثل أكثر عرب الرقة والحسكة مقيمون في المدن منذ جيلين بالكاد. كان أول حزب قومي كردي في سورية قد تشكل عام 1957 بارتباط مع الحركة الكردية في شمال العراق في حينه، لكنه كان محدود الانتشار، وظل الحزب الشيوعي إطاراً أبرز للنشاط السياسي لمناضلين كرد حتى وقتٍ ما من ثمانينات القرن العشرين.
اجتماعياً، لا يسجل الكرد فارقاً يُذكر عن بيئات السوريين الآخرين حولهم، لا من جهة الدخول، ولا المهن، ولا التقسيم الجنسي للعمل، ولا أنماط الحياة. المدينيون مثل المدينيين، والريفيون مثل الريفيين، والنساء مثل النساء، والرجال مثل الرجال.
بيد أن الديناميات الاجتماعية الثقافية تتجه خلال الجيل الأخير نحو تباعد نفسي واجتماعي أكبر عن العرب السنيين (لا يجاور الكردُ عرباً آخرين في سورية)، الذين أخذ يتطور في كثير من بيئاتهم نزوع إسلامي محافظ في بضع العقود الماضية (مرتبط كما سأوضح أدناه بالافتقار للحياة السياسية). الميلُ الكرديُ العام نزعَ في العقود ذاتها باتجاه قومي، وعلماني، وتحديثي. أخذت التماهيات الغالبة للمجموعتين الاجتماعيتين الثقافيتين تعرض مناحي متفارقة، وليست هذه التماهيات متولدة عن تباين هويات سابق عليها، وإنما هي بالذات ما تصنع الهويات وتكشف الطابع الديناميكي لتشكلها.
ومن العناصر المهمة في هذا التشكل المتفارق عنصر سياسي قلما حظي بانتباه في سورية، ومن باب أولى خارجها. إذ بينما استمر إنكار وجود الكرد القومي في الحقبة الأسدية، فإن المنظمات السياسية الكردية لم تُستأصل قط، ولم يُسجن أي مناضلين كرد في معسكر التعذيب في تدمر. تواتر اعتقال مناضلين كرد في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، لكنه لم يكن اعتقالاً استئصالياً ولم يقضوا في السجن مدداً ماراثونية كتلك التي قضاها يساريون سوريون (منهم كرد)، دع عنك الإسلاميين.
في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، وقتَ كانت الدولة الأسدية تُمعِن تحطيماً للمنظمات السياسة السورية المستقلة والمعارضة، وتروِّع المجتمع السوري ككل، تسنت حياة سياسية مستقلة معقولة للكرد السوريين. ارتبط هذا الوضع الخاص بمقتضيات السياسة الكردية للدولة الأسدية في كل من العراق وتركيا، وهذا في سياق العداوة الأسدية الصدامية، وامتلاك ورقة لعب إقليمية عبر علاقة خاصة بحزب العمال الكردستاني في تركيا. وفي الخلفية أن الساحة الكردية في سورية كانت محدودة النشاط دوماً، وغير سيادية (لم تشهد عنفاً في أي وقت قبل عام الانتقاضة الكردية في آذار 2004)، قياساً إلى نظيراتها العراقية والتركية والإيرانية بحكم نسبة الكرد بين السوريين (8-10% حسب مراجع غير مغرضة: جوناثان راندل، غسان سلامة، فيليب خوري…)، ولحداثة بعض الوجود الكردي في سورية (تالٍ لنشوء الكيان السوري، ومرتبط بقمع الجمهورية التركية الناشئة للثورة الكردية عام 1925 في جنوب شرق تركيا)، ولخصائصه الجغرافية التي سيجري الكلام عليها تحت.
أياً يكن الأمر، كانت التنظيمات السياسية الكردية مكسباً مهماً في مجتمع شهد استئصال الحياة السياسية تماماً في الحقبة الأسدية من تاريخه. فرغم أن كل شيء في سورية كان منذ عام 1963 «عربياً سورياً»، إلا أن هذه الواقعة الشاملة لم تجد ترجمة سياسية خارج الحكم الأسدي الذي كان يتطور باتجاه الحجر السياسي الشامل على السكان، ويخفض حتى من وزن حزب البعث ذاته لمصلحة الأجهزة الأمنية. وهو ما لقي تعزيزاً من أولوية النظام العليا، البقاء في الحكم «إلى الأبد».
كان الكرد السوريون غير موجودين كهوية وقوم، بالمقابل، إلا أنهم تمتعوا بحياة سياسية لم يحز مثلها أحد في «سورية الأسد». كان النظام يتلاعب بالأحزاب الكردية ويضعفها ويتسبب في انقسامات متواترة لها، إلا أنه لم تجر إبادة الكرد سياسياً خلافاً للعرب، وبخاصة البيئات الاجتماعية الأدنى تماهياً بالدولة بفعل التكوين الطائفي التمييزي لهذه الدولة، وهو ما ينطبق بخاصة على العرب السنيين. وصحيح أن عشرات ألوف الكرد كانوا محرومين من الجنسية خلال نصف قرن، إلا أن المتمتعين بالجنسية من عموم السوريين كانوا محرومين سياسياً، أجانب في بلدهم من وجهة نظر حقوق المواطنة.
والخلاصة أن وقائع السياسة تتعارض مع وقائع الهوية في الشأن الكردي في سورية (والشأن العربي)، ولا يستدل من الأخيرة على الأولى. وإلى وقائع السياسة تلك، يعود الفضل الأول في تقديري لظهور الكرد كشعب، وتشكل وعي الكرد السوريين في صورة قومية (مقابل وطنية سورية). كان من شأن حياة سياسية نشطة في البلد أن تنشط الكرد السوريين بالقدر نفسه وربما أكثر، ولكن أن تنشط الجميع، فتتخلق في الوقت نفسه روابط جامعة، وربما منظمات سياسية مشتركة أو اتئلافات. وكان من شأن ذلك أن ينمي النزعة القومية الكردية والرابطة الوطنية السورية في الآن نفسه، ليس واحدة دون الأخرى أو واحدة ضد الأخرى. بيد أن سورية كانت تتطور إلى مملكة أسدية تقوم جوهرياً على التمييز بين السكان وضربهم ببعض، وكان من لا يتماهون بها مُساقين إلى تطوير تماهياتهم الخاصة، الدينية أو القومية.
لا يعني ما سبق أن الكرد كانوا أحراراً، لم يكن هناك أحدٌ حرٌ في «سورية الأسد»، لكنه يعني أنه توفرت للشباب الكردي أقنية تنظيم وتعبير وتثقف لا بأس بها، أي مساحات استقلال سياسي نسبية، مراقبة دون شك، لكنها وفرت خلال ثلاثين عاماً أو أكثر فرصاً فوق المستوى السوري العام بكثير للتداول في الشأن القومي الكردي، العراقي والتركي بخاصة، دون فرص مقابلة تشدُّ نحو أي شأن سوري مستقل عن الدولة الأسدية. ولعل تلك المساحات كانت أقل اختراقاً بالمخبرين من طرف النظام بفضل الحاجز اللغوي، المخبر الكردي لا يُحتمل أن يتحمس في وشايته ببني قومه لأجهزة المخابرات الأسدية التي تتكلم العربية، وتنكر عليه وعليهم تعلم لغتهم والتكلم بها علانية. ولا ننسى أنه طوال نحو 15 عاماً، بين بدء مقاومة حزب العمال الكردستاني المسلحة للحكم التركي وإخراج عبد الله أوجلان من سورية عام 1998، كانت هناك مشاركة واسعة للشباب الكردي السوري في هذه الحرب، ووقع منهم شهداء للقضية بالمئات. وهذا جرى بعلم النظام وتسهيله، وليس من وراء ظهره بطبيعة الحال.
جغرافياً، هناك ثلاث مناطق كثافة كردية في شمال البلاد، هي عفرين وأرياف حولها شمال غرب حلب، ثم عين العرب وقرى حولها شرق حلب (يبدو أن عين العرب تعريب لاسم تركي، أراب بينر، وفيما بعد صار يطلق عليها سكانها الكرد كوباني، وهي تحريف لكلمة كومباني الفرنسية، على اسم شركة كان مقرها هناك، وبهذا الاسم عُرفت عالمياً أثناء وبعد معركة فك الحصار عندها في مواجهة داعش في 2014 ومطلع 2015)، ثم مناطق في محافظة الحسكة أقصى الشمال الشرقي للبلد، منها مركز المحافظة، الحسكة، ومدينة القامشلي (وهما مختلطتان بقدر كبير) وبلدات وقرى أخرى. وبين هذه المناطق مناطق ذات أكثرية عربية كبيرة، اشتهرت منها عام 2015 منطقة تل أبيض وأريافها، وقد انتزعها من داعش تنظيم PYD القومي الكردي، المدعوم من الأميركيين، في حزيران 2015، ومنبج التي انتزعت بالطريقة نفسها من داعش في تموز 2016، ومنها جرابلس أيضاً التي انتزعتها من داعش قوات تركية ومقاتلون سوريون في آب من هذا العام.
أكثرية كبيرة من سكان هذه المناطق، التي قد تشكل أكثر من نصف طول الحدود السورية التركية، عرب. هناك شريط من الأرض في شمال محافظة الحسكة أطلق عليها «الحزام العربي»، وأُسكِنَ فيه بعيداً عن مناطقهم قرويون عرب غمرت قراهم بحيرة سد الفرات في مطلع سبعينات القرن العشرين. وحركت المشروع وقتها اعتبارات قومية تمييزية، وليس اعتبارات تنموية. في هذا الشأن هناك مذنب سياسي معلوم، الحكم البعثي والأسدي.
بيد أن ذلك لا ينطبق على معظم منطقة الشمال السوري، التي وقع قسمان منها، منبج وتل أبيض، تحت سيطرة التنظيم الكردي المشار إليه للتو، وفي سياق الاستراتيجية الأميركية لمواجهة داعش حصراً (وإبقاء بشار الأسد عملياً). وهو لا ينطبق أيضاً على جرابلس. وبالمناسبة، تجري مقاربة موضوع جرابلس من زاوية صراع تركي كردي، دون أن يقول الصحفيون والكتاب شيئاً عن سكان المنطقة وتفضيلاتهم. من كانوا غُيبوا أسدياً، يجري تغييبهم من جديد. وبينما تعمل السلطات التركية على إعطاء انطباع بأنها تهتم بالسكان (زيارة فاطمة شاهين، رئيسة بلدية عنتاب لجرابلس، وإمداد المدينة بالكهرباء)، إلا أنه كان ظاهراً دوماً أن التدخل التركي معنيٌ أولاً بإحباط مطامح حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، المرتبط برابطة بنوّة مع حزب العمال الكردستاني، الكردي التركي. يستأنف الحكم التركي في سورية حرباً يخوضها في تركيا ضد الحزب الأم، تماماً مثلما يخوض الحزب الابن في سورية حرب الحزب الأم في تركيا.
هذه الوقائع الجغرافية والديموغرافية لتوزع الكرد في الشمال السوري لم تتولد عن تهجيرٍ للكرد في أي وقت، أو عن استملاك لأراض كانوا يعيشون فيها، أو على حساب إقليم سياسي أو إداري كردي سابق. وليس هناك مذنبٌ سوري في شأن هذه الوقائع، لا النظام الأسدي ولا أي عرب أو غيرهم.
مشروع «روجافا»
تقف هذه الوقائع الجغرافية والديموغرافية الصلدة في تعارض مع تصور «روجافا» أو«كردستان الغربية» الذي يشيعه قوميون كرد (ليسوا حتماً من تنظيم PYD)، يطابقون بين هذا الإقليم المتخيل وكامل شمال سورية، بعمق متفاوت، يحصل أن يشمل حلب والرقة أحياناً. أنحدرُ شخصياً من قرية في ريف تل أييض، لكني لم أسمع بكلمة روجافا التي يبدو أني تابع لها اليوم إلا في تركيا في أواخر عام 2013.
وليس الاعتراض على تصور روجافا على كل حال مسألة ملكية أراضٍ أو تقرير هوية قومية لمناطق، بقدر ما هو متصل بوجود السكان وإنتاج حياتهم وتملكهم لعالمهم واستقرارهم فيه. تعامل تنظيم PYD مع سكان المنطقة العرب هو التعامل القومي، وهو الذي يشكل استمراراً لتعامل الدولة الأسدية معهم من أكثر من وجه. فقد كانوا في عمومهم مزدرين، مجردين من أي حياة سياسية، يُعاملون باحتقار في الجيش وأجهزة الحكم، وتنهب موارد منطقتهم كمستعمرة داخلية. هذا يتكرر اليوم: يُمنع السكان من العودة إلى بلداتهم وقراهم على نحو متواتر في منطقة تل أبيض (يقدر أن 55 ألفاً منعوا من العودة إلى بلداتهم في نواحي سلوك وعين عيسى ومنطقة تل أبيض). ويُصحَب هذا النهج باستيلاء على ملكيات وإهانات شخصية وجمعية، وتوسع في أفعال التفتيش والاعتقال والتعذيب، والجميع موصوفون بأنهم دواعش بغرض خلق قضية مشتركة مع الأميركيين، وتجريد السكان المحليين من أي ذاتية. وقبل أشهر تكلمت منظمة العفو الدولية على جرائم حرب ارتكبت بحق سكان في المنطقة. نحن هنا أمام نسق سيطرة قومية استبعادي، لا يخفي تطلعاته التوسعية، وليس حيال مشروع تحرر ديموقراطي استيعابي. لا شيء يجتذب عربياً أو تركمانياً كان معارضاً للدولة الأسدية إلى الحاكمين الجدد الذين يعاملون المحليين بتعالٍ لا يجد المرء له سنداً (إن كان من سندٍ لأي تعالٍ)، علماً أن هؤلاء الحاكمين لم يكونوا معروفين للسكان خارج البيئات الكردية (جماعة الـ PYD كانوا الأقل اختلاطاً بالحياة السياسة والاجتماعية والثقافية السورية بين التنظيمات الكردية)، وأنهم محكومون هم ذاتهم بصورة «تتجاوز كل خيال»، على ما يُتداول في أوساط كردية سورية، لحاكمين أعلى منهم في جبال قنديل (كرد من تركيا، ضرب من «القيادة القومية» لحزب العمال الكردستاني). وفعلياً لم ينجذب أحد من معارضي الأسدية، بمن فيهم الكرد، إلى مشروع PYD، والجماعة من جهتهم لم يتصلوا بأحد أو يُرحبوا بأحد أو يعبروا عن احترام لأحد، أو يعطوا لمعارضي الدولة الأسدية أدنى انطباع بقضية مشتركة. ولا يبدو عملهم من زاوية النظر هذه استمراراً للنشاط السياسي والثقافي الكردي في سورية، بل هو على قطيعة معه، وعلى استمرار بالمقابل لنهج وخطاب وأفعال حزب العمال الكردستاني في كردستان تركيا.
يستفيد هذا المشروع الذي انخرط فيه بشرياً كرد من تركيا (ومعهم كرد من إيران ومن أذربيجان حسب ناشطين كرد سوريين) من تقاطع عمليتين: مواجهة داعش التي يبدو العالم كله موحداً ضدها، والدعم الأميركي والروسي، وهذا بعد مرحلة عام 2012 و2013 التي جرى فيها تلقي دعم وتسهيلات لا ريب فيها من الدولة الأسدية نفسها.
هذا الاندفاع غير المحسوب لحزب أوثقُ ارتباطاً بتجربة تنظيم كردي في تركيا منه بالييئة السورية، يولد تباعداً اجتماعياً ونفسياً شديداً بين عرب المنطقة وكردها، لا يبدو مرشحاً لغير التفاقم. النفوس مشحونة. وليس هناك آليات نقاش وتداول مستقلة في شأن أوضاع السكان في المنطقة. بعد طرد داعش من تل أبيض التي كان يقول قوميون كرد إن نسبة الكرد فيها نحو 35% (هذا رقم سياسي منفوخ في تقديري) تم اقتراح تشكيل مجلس محلي لإدارة المدينة يتكون من 65% من العرب، لكن سلطة الأمر الواقع رفضت الاقتراح، وألحقت المدينة بكانتون كوباني/ عين العرب دون استشارة أحدٍ من السكان. فإذا كان الاستقلال القومي للكرد السوريين هو ما يسوّغ الكلام على حق تقرير المصير، فإن مسلك الحزب الأوجلاني يسوّغ، منذ الآن، مطلب حق تقرير المصير للعرب والتركمان وغيرهم في مناطق سيطرة هذه التنظيم.
إلا أنه يُتداول في الأوساط الكردية السورية تشكك في نسبة مشروع قومي كردي جدي إلى تنظيم PYD، وأن الأمر يتعلق بالأحرى بمشروع سلطة حزبية ضيقة على أي مناطق تستطيع أن تسيطر عليها، لا يهمها إن كان سكانها من الكرد أو غير الكرد. هذه السلطة الحزبية على استعداد لتطعيم الأطر السلطوية التي تقيمها بأشخاص من غير الكرد، بشرط الموالاة لقيادة الحزب، وتصور «الأمة الديموقراطية» لا يكاد يتجاوز هذه الدلالة. وفي التداول الكردي أيضاً أن المشروع ككل «وظيفي» في خدمة الحزب الأم في تركيا، بكل تقلبات أوضاعه، حرباً أو سلماً، مع السلطات التركية. وتبدو هذه تقديرات أقرب إلى الواقع مما تعرضه نظرة خارجية ينساق وراءها عموم الناشطين العرب، ممن يسهلون عمل التنظيم الأوجلاني في انتحال تمثيل الكرد السوريين ككل لنفسه، حين هم ينكرون حقوق الكرد، أو ينخرطون في هجمات كلامية أو طبعاً عسكرية عليهم، بدل الدفاع عن المساواة في الحقوق والكرامة والعيش المشترك.
السكان ومصيرهم
تشكل سياسة الـ PYD في التعامل مع سكان منطقة الشمال السورية استمراراً لنهج الدولة الأسدية من أكثر من وجه. فهي أولاً تُغفل تطلعات السكان، بمن فيهم الكرد، على مذبح رؤية خارجية مفروضة في انفصال تام عن الوقائع الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، وعن تفضيلات المحكومين. ومن جهة ثانية فإن الكرد الذين كانوا غير مرئيين كوجود قومي في الشمال السوري، هم من يفرض حزبيوهم القوميون اليوم نظاماً سياسياً في الشمال يجعل غير الكرد من عربٍ وغيرهم هم غير المرئيين (يوصفون جمعيّاً بأنهم دواعش أو بعثيون أو الاثنين معاً)، ويثير منذ الآن مشاعر استلاب متزايدة، قد تأخذ شكلاً قومياً في أي وقت. وأخيراً فإن المنطق القومي القائم على السيطرة وفرض هوية عليا على السكان يقود في الحالة الكردية منذ الآن إلى ما قاد إليه المنطق القومي العربي في سورية ككل: إنكار الحياة السياسية على السكان، ليس على العرب الواقعين تحت سيطرته، بل وعلى الكرد المستقلين أو المنتظمين في أحزاب أخرى. وهذا نسخٌ للتجربة البعثية يسوغ لكثيرين، كرداً وعرباً، القول إن جماعة الـ PYD هم في الواقع البعثيون الكرد. وهم بالفعل «فرع قُطر روجافا» أو «كردستان الغربية» لحزب العمال الكردستاني.
ويفاقم من فوقية هذه المنطق وخارجيته أننا حيال حزب تشكل تبعيته للتنظيم الأم في تركيا العنصرَ الجوهري في تكوين هويته، بما فيها تقديس الزعيم المعتقل في تركيا عبد الله أوجلان. ويفاقمها أكثر بعد اندراج الفرع السوري راهناً في الاستراتيجية الأميركية التي تخص داعش وحدها بالمواجهة، ليس دون اهتمامٍ بتحولٍ سوريٍ عامٍ فقط، وإنما بتثبيت حكم بشار الأسد عملياً.
وما أريد الخلوص إليه هو: (1) أن المعنيين منا بحق تقرير المصير للكرد في سورية لا يحتاجون إلى شيء غير مبدأ حق تقرير المصير ذاته للدفاع عن السكان العرب والتركمان في مناطق الشمال السوري في وجه قوة توسع قومية، تحتل مناطقهم وتتطلع إلى احتلال المزيد، ولا يبدو أنها استطاعت كسب ثقة طوعية لأحد من السكان المحليين؛ (2) ولا نحتاج إلى غير المبدأ ذاته بخصوص الكرد السوريين الذين يُسلب حقهم في تقرير المصير لمصلحة تنظيم «قومي»، لا يشغلون فيه مواقع مقررة، ولا تتاح لهم فرص في الاعتراض السياسي، هذا بينما يزج مجتمعهم بكامله في مغامرة سياسية لا يتحكم المغامرون بحظوظهم فيها.
ليس الغرض افتعال مشكلة بين الكرد السوريين وإخوانهم من الكرد في تركيا، أو تحريض نزعة سورية عند الأولين ضد الأخيرين. لكن هناك منذ الآن، وقبله، فوارق في الأصول والمسارات والتاريخ الحديث، فضلاً عن الجغرافيا والديموغرافيا، وفضلاً عن ثمار مرة للتجربة حتى الآن، ترجح التشكك في صلاحية النهج المعتمد من قبل التنظيم الأوجلاني في سورية، وتزكي مقاربة مغايرة كلياً، غير قومية. في تجربة القومية العربية في المشرق دروس يمكن أن ينتفع منها المناضل الكردي، هذا إن لم يضلل نفسه بالاعتقاد أن «القومجية» صفة حصرية لقوميي الآخرين.
أولوية السكان
هل من صيغة عملية لحق تقرير المصير، بما فيه الانفصال، للكرد في سورية؟ لا يستقيم الأمر للأسباب الجغرافية الديموغرافية المشار إليها. يمكن أن يستقيم في حال تشكل كيان كردي يضم مناطق الكرد في تركيا و/أو العراق. هذه مناطق أوسع بكثير، ومتواصلة أرضياً خلافاً لما هو الحال في سورية.
وهذا ما يحتاج إلى معرفته سوريون وغير سوريين ممن يفكرون في المسألة الكردية بمنطق يحيل ضمناً إلى العراق أو تركيا. هذا المنطق خاطئ جداً. الواقع أن جانباً من تعقيد المشكلة الكردية السورية متولد عن توريد الخبرة التركية، سواء من طرف الحكومة التركية، أو من طرف حزب العمل الكردستاني التركي، الذي يتولى توجيه سياسة فرعه السوري عن قرب، على الأرض مباشرة. وكما في كل تصدير إلى الخارج تقع مشكلات كبيرة وكوارث، تتولد عن ارتطام التوجهات المجردة لغرباء عن الواقع بهذا الواقع، أو أسوأ، عن التعامل مع السكان كأوراق في حسابات حزبية وسياسية ضيقة.
وما يغيب في كل هذه المقاربات التي خلقت أو أسهمت في خلق مشكلة عربية كردية، هو دور الدولة الأسدية في تفجر هذه المشكلة في نطاق التفجر العام في البلد. كان الأسديون سهلوا عمل حزب العمال الكردي التركي، الذي كان زعيمه أوجلان ينفي في كتاباته وجود كردستان في سورية (كان يقول إن كرد سورية جاؤوا من كردستان الشمالية، أي من الدولة التركية الحالية)، مثلما سيسلهون في زمن لاحق عمل السلفيين الجهاديين في العراق. وبعد الثورة ارتدت التجربة السلفية الجهادية إلى سورية من العراق، مثلما ارتدت تجربة حزب العمال الكردستاني إلى سورية من تركيا. وبسبب خارجية التجربة في الحالتين وغربتها عن الوقائع الاجتماعية المحلية، اقترنت بالفوقية والعنف والعدوان على السكان، وبتغيبب المشكلة الأساسية: تلاعب دولة السلالة الأسدية المديد بالنسيج الاجتماعي السوري، وتحريض تماهيات متباعدة ومتنافرة. هذا الدور المديد يتجاوز تأليب قطاعات من السكان على بعض خلال سنوات الثورة. يتعلق الأمر بالأحرى بسياسة «فرِّق تسُد» عمرها يقترب من نصف قرن، ولم يعرف غير أطرها الاجتماعية النازعة إلى التباعد والتنافر نحو 90% من مجتمع السوريين ذي التركيب العمري الفتي. ولا تظهر فاعلية هذه السياسة أكثر مما في واقعة أن الشرير النمطي في سردية القوميين الكرد في السنوات الثلاثة أو الأربعة الأخيرة هو العرب السنيون، وليس بحال الدولة الأسدية. وهذا في واقع الأمر لومٌ للضحايا الذين لم يكن لهم يوماً قرارٌ في شأن وضع الكرد، أو وضعهم هم بالذات. ويخطئ أي ناشطين سوريين، عرب بخاصة، الخطأ المقابل، حين يرون أن الشرير في قصة روجافا هو الكرد السوريون، وليس تنظيماً كردياً بعينه.
يغيب من النقاش السوري بالذات أن ما لحظناه فوق من عدم تطابق منطق الهوية والسياسة بخصوص الكرد ينطبق بالقدر نفسه على العرب. كان الكرد غير موجودين كهوية، لكنهم موجودون كسياسة. العرب موجودون جداً كهوية، لكن غير موجودين كسياسة. بيد أن الهوية دون سياسة تموت، وهو ما حدث للعروبة فعلاً لمصلحة الطوائف والروابط الجهوية. بالمقابل، يمكن أن تبث حياة سياسية ولو متواضعة الحياة في هوية مقموعة وضعيفة التماسك، وتجعلَ منها مشروعا سياسياً.
والقصد في كل حال هو أن تكون الأولوية في التحليل للسياسة العملية وللبشر العيانيين: ليس المهم أن ترفع رايات العروبة في سورية، المهم أن يكون للسكان حقوق سياسية ووجود سياسي. ووجود أو عدم وجود كردستان في سورية أقل أهمية من وجود كرد، لهم حقوق سياسية، ويلزم أن يعترف بهم ليس كمواطنين فقط، بل كشعب وهوية وثقافة. وهو ما يبقى صحيحاً حتى لو قدِم كل الكرد السوريين من «كردستان الشمالية» على قول أوجلان، وهو غير صحيح. والمهم ليس الكلام الكثير على «فدرالية شعوب» أو على «الأمة الديموقراطية»، مما يشكل غطاء لهيمنة حزبية، بل الاعتناء بأوضاع السكان الفعلية، وهي أوضاع لا حقوق فيها لغير المتحكمين الجدد.
بنظرة عامة، ختاماً، لدينا جماعة قومية مستلبة في سورية تُشكِّل نحو عُشر السكان، وقد قضت المقادير أن تتوزع هذه الجماعة على بقع جغرافية غير متواصلة، وهو ما يجعل الانفصال كشكل لتقرير المصير خياراً غير عملي. يمكن أن نفكر بحل «قومي» لهذه المعضلة، وهو الحل الذي يطبقه تنظيم PYD، والمُضمَّن في تصور روجافا أو كردستان الغربية بالذات. هذا الحل القومي يقوم على فرض تواصل أرضي بالقوة، وإطلاق تسميات كردية على المناطق المحتلة. والمشكلة أنه إن لم يقترن هذا المشروع بتهجير السكان غير الكرد، فإنه لن يتأخر عن إثارة مطلب حق تقرير المصير لغير الكرد، الواقعين تحت سيطرة حكم قومي كردي.
الحل الثاني، والأنسب فيما نرى، ينطلق من أخذ الوقائع الجغرافية والديموغرافية القائمة بعين الاعتبار، والعمل على ابتكار صيغة سياسية ومؤسسية تلبي حق تقرير المصير للكرد، دون انفصال. وهذا الحل أنسب لاعتبارات عملية حاولت المقالة توضيحها، وليس رُهاباً من كلمة «انفصال»، ولا تمسكاً بـ «وحدة» سورية تُعطى، قبْلياً، أولوية عليا ثابتة.
بالطبع يمكن التفكير في حل يقوم على إعادة هيكلة شاملة للمنطقة، بما يلبي في آن حق تقرير المصير للكرد والتوحيد القومي. هذا حلم كبير، لكنه منفصل عن الديناميكيات السياسية والاقتصادية والدولية لواقع اليوم ومتوقعه، وهو ما يُقرّبه من حلم «الوطن العربي الكبير». هناك مشكلة كبيرة حين يحلم المقهورون أحلاماً امبراطورية، ونقترب من حلول حين تصير أحلامنا ديموقراطية. وبين المشكلات والحلول، هذه مجرد محاولة لصوغ المسألة.