ضجت وسائل الإعلام الغربية بصورتين خرجتا من رحم المأساة السورية. الأولى صورة الطفل إيلان الكردي، الذي غرق ووجد على الشواطئ التركية أثناء محاولة عائلته الهرب به وبأخيه من جحيم ما يجري في سوريا، والثانية صورة عمران الطفل الناجي من تحت الأنقاض في حلب. وبدا السوريون مذهولين بتعاطف العالم المفاجئ مع هاتين الصورتين دوناً عن غيرهما من آلاف الصور المسربة والموثقة لجرائم تفوق التصور، ارتكبتها ولا تزال ترتكبها قوات النظام السوري بالتعاون مع حلفائها.
توقع السوريون الذين انحازوا للثورة أن ما سيهزّ العالم، ويقلب موازين القوى، ويحرك العدالة، هو خمسةٌ وخمسون ألف صورة مسربة من قبل قيصر لأحد عشر ألف شهيد قتلوا تحت التعذيب، بالإضافة لصور المجازر التي مرت خلال السنوات الخمسة ونيف الماضية، ومنها صور مجزرة الحولة والبيضا وحلفايا وراس النبع وكرم الزيتون وجديدة عرطوز والفضل ومجزرة الكيماوي في الغوطة. إلا أن ذلك لم يحصل إلا على نطاق أضيق بكثيرٍ من المفترض، لذا يمكننا تفهم الحيرة التي أصابتهم حيال انتشار هاتين الصورتين بالذات دوناً عن غيرهما. فما الذي جعل هاتين الصورتين تنتشران بكل هذه الكثافة؟
بدت صورة إيلان الكردي لمن يراها دون تدقيق، صورة طفل غافٍ على شاطئ البحر بهدوء وسلام، فيما كان قميصه الأحمر النظيف، وهندامه المرتب، والتفات وجهه بعيداً عن الكاميرا عناصر إضافية في جعل الصورة توحي، بصريّاً، بالسكينة أكثر من أي شعور آخر، وكان التناقض الذي ترسمه في الخيال فكرةُ أن هذا الطفل غرق قبل قليل هي ما يجعل أثر الصورة مضاعفاً، لأنها تروي نهاية الحكاية وتترك لذهن مشاهدها رسم ما جرى قبل ذلك.
أما صورة عمران، فكانت أيضاً صورةً لطفلٍ جميل، يرتدي بيجاما رُسمت عليها شخصيات كرتونية معروفة للعالم أجمع، وقد تلطخت بغبار الركام، فيما بدا وجهه الذاهل واضح المعالم، وكان للخلفية البرتقالية أي الكرسي الذي جلس عليه عمران في سيارة الإسعاف أثرٌ عميقٌ في إظهار التناقض بين واقعه والألوان المرتبطة عادة بالطفولة وبالسعادة، وكانت عيناه اللتان تظهران بوضوح، ووجود الدماء على طرف وجهه دون أن تكون خادشة ودون أن يبدو على وجهه أي أثر للألم عناصر أساسية في جعل الصورة تدخل في وعي المتلقي، وتدفعه للتفاعل معها. وكانت، كصورة إيلان، تترك للخيال أن يتصور ما جرى مع هذا الطفل قبل هذه اللحظة.
كانت الصور التي أنتجتها الثورة السورية على مر سنواتها الماضية شديدة القسوة، فقد اعتذرت معظم القنوات الفضائية عن عرض الصور الواردة من الناشطين السوريين لأنها تفوق احتمال طاقة مشاهدي التلفزيون. وقام يوتيوب بحذف كثيرٍ من الفيديوهات لاحتوائها محتوى لا يمكن تركه مفتوحاً للعموم، وقامت إدارته بوضع كثيرٍ من التحذيرات التي تسبق بعض الفيديوهات لإعلام المشاهد أن المحتوى الذي يقبل على مشاهدته فائق العنف، ولا يناسب أصحاب المشاعر المرهفة والقلوب الضعيفة.
وعانى السوريون من مفارقة أن العالم لا يستطيع مشاهدة الواقع الذي يعايشونه هم بشكل يومي، بالرغم من أن معظمهم يعتبر أن الصور لم تنقل إلا جانباً من المعاناة اليومية لمن يعيش تحت القصف، وقد تكون صورة جثة حمزة الخطيب المشوهة تعذيباً المثال الأوضح على القسوة التي لا يمكن للمؤسسات الإعلامية والصحفية قبولها، ولكن السؤال الذي يتبادر إلى أذهان السوريين عنا هو: كيف لا نستطيع نحن المشاهدة والعرض، ويستطيع أهل حمزة الخطيب رؤية ابنهم بهذا الحال؟ وكيف نستطيع التمييز بين معايير النشر الصحفية وبين نقل الحقيقة إلى العالم؟ ومتى يكون حجب الصور احتراماً للمشاهدين، ومتى يكون حجباً للحقيقة والواقع المرير؟ ربما لن تستطيع أي مؤسسة إعلامية أن تفيدنا بإجابة، لكن صورة إيلان وصورة عمران ظهرتا مناسبتين لمعايير النشر الصحفي والإعلامي، وسمحتا للقنوات بتداولهما دون أن يكون هناك حاجة للتحذير، كما استطاعت الصورتان نقل المعاناة التي تحملها الحكاية، دون أن تكون تلك المعاناة ظاهرة بصرياً في الصورة إلا بحدّها المحتمل.
تبع انتشار صورة إيلان وصورة عمران ظاهرة «التصاميم» التي يقوم بإنجازها عموماً ناشطون سوريون، حيث يستخدمون صورة الطفل للتعبير عن وجهة نظر سياسية، فيبدو إيلان غافياً في وسط مجلس الأمن، أو عمران جالساً بذهوله بين بوتين وأوباما، وافتقرت هذه التصاميم عموماً إلى سوية بصرية مقبولة، كما أنها كانت فجة وتشير إلى استسهال في التعاطي مع صورٍ قد يكون مصورها عانى أشد المعاناة لإظهارها إلى العالم.
كان من الطبيعي أيضاً أن يتفاعل فنانون في العالم، سواء كانوا من العالم العربي أم الغربي، مع هاتين الصورتين، وأن يعبروا عن أثر الصورتين العميق في نفوسهم، إلا أن الرسوم التي تناولت الطفلين كانت في مجملها أقل أثراً ولم تضف شيئاً للصورة الأصلية التي كانت، بلاغياً، أكثر من كافية لإيصال رسالتها.
استطاع العالم ومن خلال الإعلام أن ينقل من خلال هاتين الصورتين للرأي العالمي المعاناة السورية، لكنه بالمقابل استطاع عزلهما عن السياق الذي أدى إلى حدوثهما أصلاً، فكان إيلان نموذجاً لسوريين ماتوا غرقاً وهم يهربون من جحيم حرب لا يعرف أحد من تسبب بها ومن هو المسؤول عنها، كما لم تُشر معظم وسائل الإعلام التي نقلت صورة عمران إلى الجهة التي قصفت منزله، وقد تكون دموع مذيعة قناة سي إن إن الأمريكية التي روت لنا حكاية عمران خير مثالٍ على رغبة العالم بالتعاطف معنا كسوريين بمعزل عن المجرم، إذ قالت في معرض تقريرها: من فعل ذلك؟ لا نعلم.
قد يكون العالم لا يعلم، وقد يعلم ويتجاهل، أما نحن السوريون فنعلم تماماً أن نظاماً استبدادياً اتخذ القرار بقتلنا وإفنائنا لأننا رفضناه، فهل لنا يوماً أن نقنع العالم؟ وكم صورةً نحتاج لنفعل ذلك؟