ما هو الحل في سورية؟
لا يمر وقت دون أن نسأل، نحن السوريون المشتغلون بالشؤون العامة، عن تصورنا للحل في سورية. قلما كان السؤال استفهاماً خالصاً في شأن ما يمكن أن يكون حلاً عادلاً لصراع السوري، بل هو أقرب إلى تسليم بأن الأمر «معقد»، وأن المسألة مستحيلة الحل، أو قد لا يكون لها من حل غير الرجعة إلى ما قبل آذار 2011. وفضلاً عن ذلك، فالسؤال مبنيٌ غالباً على جهل مطبق بتاريخ الاعتراض السياسي في سورية، وبالكفاح المحبط لجيل سابق من السوريين من أجل التحول الديموقراطي، وهو منفصل من جانب آخر عن إحاطة، ولو متواضعة، بمراحل الطور الحالي من صراعنا وديناميكياته وتحولاته.
هذه المقالة تتعامل، مع ذلك، مع هذا السؤال بجدية، واضعةً في البال قارئاً مجهولاً مُخلِصاً، يتطلع بالفعل إلى حل عادل أو قريب من العدالة للمحنة السورية المتمادية.
فلندخل في صلب الموضوع مباشرة: الحل العادل في سورية يقوم على بناء أكثرية سياسية جديدة في البلد، تتعرف فيها أكثرية متسعة من السوريين على تمثيلها السياسي، فتقطع مع الحكم الأقلي (الأوليغاركي)، وتؤسس لسورية جديدة بنظام سياسي استيعابي. وهو ما يقتضي التخلص من الحكم الأسدي، ومن داعش وأي مجموعات سلفية جهادية، والمساواة السياسية والثقافية للكرد دون سيطرة قومية، والتأسيس لسورية ديموقراطية قائمة على المواطنة.
من شأن ذلك أن يلبي مطلب العدالة السياسية، ويوسع قاعدة الحكم، ويفتح آفاقاً أقل قتامة للتطور السياسي في البلد، ويحدّ على مدى أطول من احتمالات التفجر السياسي العنيف.
كان الطابع الأقلّي لحكم البلد قد تمأسَس في مطلع القرن بفعل توريث السلطة في السلالة الأسدية، أو التحول السلطاني الذي أجهز على الجمهورية في سورية، وتغيّر الدستور الباطن للدولة ليصير ضمان استمرار السلالة. وتعززت الصفة الأقلية للحكم بفعل لبرلة الاقتصاد وفق الوصفات الليبرالية الجديدة، والتلاحم غير المسبوق بين الاستئثار بالسلطة والنفاذ الامتيازي إلى الموارد الوطنية من قبل برجوازية جديدة من القرايب والحبايب والمحاسيب. وخلال سنوات الأب والابن اعتمدت الدولةُ الأسديةُ الطائفيةَ أداةً أساسيةً للحكم، تُفرقُ بها المحكومين وتُخوِّفهم من بعضهم، وتوفر تماهياً تفاضلياً بالدولة لقطاع أهلي من السكان، العلويين، يتشكل منه أساساً درعها الأمني.
وهذا الطابع الأقلي المتعدد الوجوه، الذي تتراكب فيه القِلّة بالمعنى الاجتماعي مع الأقلية بالمعنى الطائفي، كان مصدر توتر وحرب أهلية باردة، نعلم أنها تفجرت ساخنة مرتين خلال ثلاثة عقود. ولا تسمح البنية إذا استمرت إلا بتفجرات عنيفة من هذا النوع، لأنها قائمة جوهرياً على الحجر السياسي على السكان وتغذية عدم الثقة والخوف بينهم، والاستئثار المتصاعد بالموارد العامة من قبل المركز السلطاني وقطاع البرجوازية الجديدة الذي سميته في تناول آخر «البرجوازية المركزية» أو أيضاً «البرجوازية الخارجية»
قطْعُ هذا التاريخ الدوري يقتضي القطع مع الحكم الأقلّي، وتشكل أكثرية سياسية جديدة.
أي أكثرية سياسية؟
الأكثرية الجديدة في سورية لا تعني الأكثرية العربية السنية، بل هي بالضرورة تعني أكثرية اجتماعية عابرة للجماعات الأهلية. وهذا ليس فقط لأن السنيين ليسوا موحدين أو متقاربين سياسياً، تُفرِّقهم انقسامات جهوية وطبقية تعادل أو تفوق الفوارق بينهم وبين غيرهم، وإنما بخاصة لأن الصفة السُّنّية لا تحول دون الحكم الأقلّي إلا بقدر ما حالت العروبة دونه، والعرب أكثرية كبيرة جداً بين السوريين. وهو قدر معدوم.
يمكن تصور أن أكثرية الأكثرية الجديدة مكونة من منحدرين من منابت سنية، هذا مرجحٌ فعلاً، لكنه بحد ذاته لا يهدد فرص قيام أكثرية مستقرة إلا إذا توحد السنيون السوريون أو تصرفوا كجماعة متجانسة خاصة. وهذا ممتنعٌ في رأيي على ما يُظهرُ تاريخ خمس سنوات ونصف تقريباً من الثورة السورية. وهو لا يتحقق، إن تحقق، دون إكراه واسع يستهدف البيئات السنية قبل غيرها، فيؤول إلى حكم أقلي مضاعف: أقلي سنياً وأقلي سورياً.
ورغم أنه يمكن تعريف الإسلاميين بإرادة تطييف السنيين وتوحيدهم، فإنه إذا دانَ الحكم للإسلاميين، فلن يناسبهم بقاء ثلثي السكان موحدين ناشطين. فإما أن يعملوا على تفريقهم وإعادتهم إلى السلبية، أي فرض حكم أقلي سني وتجديد الاستبداد على أرضية إسلامية، أو، إن بقي السنيون ناشطين، فستجد قطاعات منهم شركاء وحلفاء من الجماعات الأهلية الأخرى. ويُحتمل أن تتشكل من المجموع أكثرية سياسية من الصنف الذي ظهر في مطلع ثلاثينات القرن العشرين ضد الفرنسيين، أو ضد الشيشكلي إثر مؤتمر حمص عام 1954.
الأكثرية السياسية المأمولة في سورية هي أكثرية اجتماعية عابرة للجماعات الأهلية، لا تستبعد مبدئياً غير الموالين النشطين للدولة الأسدية (تقضي العدالة بأن يُحاكم بعض، ويُحجر سياسياً على بعض، مع تعريف هؤلاء وأولئك بأفعالهم وليس بأصولهم)، وتعملُ على تقريب قطاعات السكان الأوسع من مختلف الجماعات الأهلية التي لم تكن شريكاً للأوليغاركية الأسدية في سورية الجديدة.
وليس في هذه الكلام أي اختراع جديد. فهو مضمون التطلعات الديموقراطية التي جرى التعبير عنها مراراً وتكراراً منذ ما قبل الموجة الأولى من مقاومات الحكم الأسدي إلى اليوم، وبالتزامن مع تفاقم الطغيان الأسدي وبدايات ظهور البرجوازية الجديدة في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي. لكن يكتسب الكلام على الديموقراطية خصوصية في سورية اليوم بحكم تصاعد حضور التكوينات الأهلية في الحياة العامة، والخشية على الأقليات وحقوقها، مما لا بد من قول شيءٍ في شأنه.
معلوم أن في أنساب (جينيالوجيا) فكرة «حماية الأقليات» الصعودُ الإمبريالي في أوروبا وظهور «المسألة الشرقية» (وهي في الواقع «مسألة غربية» بحسب أرنولد توينبي). ومن الأنساب أيضاً أن من يُخشى منهم على الأقليات هم تحديداً وحصراً الأكثرية المسلمة. نحن هنا حيال دراما رومنسية، يتولى فيها الأوربيون العادلون العاقلون حماية أقليات مسكينة ضعيفة من المعتدين المسلمين الأشرار. لم يكن سياقُ الحماية هذا في أي وقت سياق عدالةٍ وحريات، ولا حتى «عقلنة» (من جهة فُرِضَت تنظيمات «عقلانية» من فوق، ومن جهة أخرى واكبتها على الفور استثناءات وحمايات وامتيازات لمحظيي القوى الأوروبية). كان السياق بالضبط سياق توسعٍ وسطوٍ مسلح، وتكالبٍ من «الضواري الإمبريالية» على المجال العثماني. هذا مسوغٌ كافٍ للحذر الشديد في استخدام التصور، الذي عاد إلى الظهور في أجواء دولية مشابهة، وبينما تعاني بيئات الثورة السورية ذات الأكثرية السنية، وقد تطلعت إلى الحماية الدولية صراحة منذ صيف 2011، من الانكشاف وانعدام الحماية والحيلولة دون تمكينها من الدفاع عن نفسها.
الجديد في حماية الأقليات المعاصرة عن سابقتها هو توسيع الأقليات المرعيّة لتشمل الكرد، وبالحركة ذاتها تحديدٌ أكبر للأكثرية المهدِّدة لتكون العرب المسلمين السنيين. لكن ما يقوله المفهوم قبل التوسيع وبعده هو أن «الأقليات» مهدَّدَة حصراً من قبل الأكثرية المسلمة أو العربية المسلمة، وأننا نحن، القوى الغربية وروسيا، عازمون على بذل «الحماية» لها من هؤلاء المهدِّدين، مع إعطاء الانطباع بأن العدالة وحدها هي دافعُ الحُماة. نظام الحماية سبقَ الاستعمار التقليدي في معظم بلداننا، فأسهمَ بقوة في صنع المشكلة الطائفية، قبل أن يقترن بالاستعمار وبسياسات طائفية صريحة في سورية ولبنان، وطبعاً في فلسطين، من قبل المستعمرين والمنتدبين الغربيين. ووُجِد دوماً وكلاءُ محليون للحُمَاة، الفرنسيين والبريطانيين والروس في وقت سبق، واليوم الأميركان والروس وغيرهم، يُروِّجون في الوقت نفسه لخطر الأكثرية الإثنية والدينية وتوحشها.
لماذا ليس نظام محاصصة؟
ألا يمكن بناء أكثرية سياسية عبر نظام تحاصٍّ طائفي في سورية، يوفر «حمايةً» للأقليات ويضمن حقوقها (سأناقش البعد الكردي من الحل السوري في فقرة مستقلة)؟ الغريب أن أحداً من دعاة حماية الأقليات والقلقين على حقوقها لم يَدعُ إلى ذلك في أي وقت. ولا يصعب تبين السبب وراء ذلك، فنظام المحاصصة لا بد أن يراعي النسب السكانية، ومن شأنه تالياً أن يضع في يد ممثلي الأكثرية العربية السنية ثلثي السلطة، وإن وفر لممثلي الأقليات مشاركة مضمونة في السلطة. وليس في هذا ما تريده أمهات حنون للأقليات، من مثل روسيا وأميركا وإيران. يمكن التفكير في نظام يقوم على «مناصفة» بين مجموع الأقليات و«ضمانات» لمصلحتها، وهو ما دعا إليه كمال ديب في كتابه «أزمة في سورية»، الكندي اللبناني الموالي لبشار الأسد، بعد مزايدة لائقة في وجوب العلمانية. ليست «المناصفة» بين ربع السكان وثلاثة أرباعهم، وهذه هي النسب التي يعطيها ديب نفسه، غير خطوة إلى الأمام في العنصرية، لا في العلمانية ولا في الديموقراطية. وليس في المثال اللبناني القائم على مناصفة بين ثلث السكان وثلثيهم مما يُقتدى به.
لكن الديموغرافيا السورية التي حالت دون دعوة الغيارى على حقوق الأقليات إلى نظام تحاصٍّ طائفي في البلد، تحول بذاتها من وجه آخر دون قيام هذا النظام، حتى لو سعى إليه هؤلاء الغيارى. وهذا بسبب ما سبقت الإشارة من امتناع توحد السنيين السوريين. ناقشتُ هذه القضية في مقالة موسعة قبل سنوات قليلة
ومبعثُ الخشية في نظام أكثري من هذا الصنف ليس هيمنةً سنيةً تُقصي الأقليات أو تستتبعها من مواقع أدنى، ذِمّية؛ مبعثُ الخشية، بالأحرى، هو احتمالُ أسر الحياة السياسية السورية في ائتلافات مركبة، جهوية-طائفية-طبقية، بما يُهمش ما يُحتمَل ظهوره أو انبعاثه من تشكيلات سياسية غير طائفية. ليس هناك ضمانات مسبقة بعدم حدوث مثل ذلك للأسف. لكن ما يتيحه النظام الأكثري من مساحات مستقلة لا طائفية، ينشط فيها يساريون وليبراليون ومنظمات نسوية وشبابية وثقافية…، هو موضع الرهان على نزع طائفية الحقل العام. ولدينا من تاريخ سورية قبل البعثي مثال نستأنس به. فمحور انقسام الحقل العام وقتها كان جهوياً (شامياً حلبياً بصورة خاصة) وليس طائفياً، وهو لم يَحُل دون ظهور تيارات وتنظيمات لا طائفية مثل الحزب الشيوعي وحزب البعث نفسه. كانت الجماعات الأهلية أقل تجانساً داخلياً وأقل تعازلاً.
والحال أن الثورة السورية أظهرت من جديد انقسامات جهوية، كان أخفاها الحجْر السياسي العام والحضور الطاغي للانقسام الطائفي في الوعي العام (الجزيرة و«سورية المفيدة»). أظهرت الثورة أيضاً انقسامات طبقية جهوية على محور ريف مدينة (علاقة دمشق بريفها وأحيائها الطرفية، مما لا يمكن فهم ديناميكيات الصراع حول العاصمة دون وضعه في مركز الاعتبار، وكذلك انقسام حلب)، وهذا فضلاً عن الانقسام الإثني على محور عربي كردي بخاصة. والتقابل الطائفي السني العلوي ذاته هو بقدر كبير تقابل اجتماعي سياسي جهوي، يستوجب لتجاوزه إعادة نظر واسعة في هياكل توزيع السلطة والموارد العامة في البلد لمعالجته.
ومحاور الانقسام هذه تفيض من كل الجوانب على الانقسام الطائفي، وعلى دوغما «حماية الأقليات» التي لا تصلح لمعالجة الانقسام الطائفي (هي مصدر تغذية له في واقع الأمر)، ولا من باب أولى لمعالجة الانقسامات الاجتماعية السورية المتنوعة. ومن شأن تعدد محاور الاستقطاب أن يكون مصدر تعقيد للحياة السياسية في سورية ما بعد الأسدية، لكن له فضيلةَ كسرِ الاستقطاب الطائفي والحدّ من الشحن الخفي المستمر للحياة العامة في البلد بالنوازع والمخاوف والانقسامات الطائفية.
تُزكّي تلك الانقسامات المتعددة إعادة نظر جذرية بالنظام السياسي السوري فيما وراء الحقبة البعثية والأسدية، وبالتأكيد فيما وراء الحقبة السابقة أو زمن ما بعد الاستقلال، باتجاه مزيد من اللامركزية ومن مشاركة السكان المحليين في إدارة مناطقهم وفي الحياة السياسية العامة. وباتجاه العلنية. كانت الصفة السرّية المتأصلة في تكوين الدولة الأسدية مصدراً لتسميم الحياة العامة بالشكوك والمخاوف والأساطير، وحائلاً دون تفكر السوريين في أوضاعهم ونشر المعلومات والتحليلات والتصورات العملية في شأنها.
يبقى أنه كان للحقبة الأسدية المديدة، وسنوات الحرب الأسدية الثانية الطويلة، أثرٌ مُحوِّلٌ عميقٌ على المجتمع السوري يُسوِّغ التحفظ على القياس على ما قبلها، والحنين إلى ما قبلها. لكن لا يبدو أن هذا الأثر المحوِّل يطال امتناع التوحد السني على ما أظهرت سنوات الثورة، وتالياً عدم وجاهة الخشية على الأقليات من إجماع سني ضدها.
وماذا بشأن التهديد السلفي الجهادي؟
ربما يقال: لكن ها هم السلفيون والسلفيون الجهاديون يتكلمون على النصيريين والجيش النصيري والنظام النصيري، ويصدرون عن نظام فكري يخفض من شأن الأقليات في أقل تقدير. هذا صحيح جداً، وهو مثار قلق واسع، «نصيري» وغير «نصيري»، ويشمل قطاعات من السنيين.
والحال أن البلاء الأشد لهذه المجموعات وقع، حتى اليوم، على سنيين في مناطق الجزيرة والشمال السوري وغوطة دمشق الشرقية، ويكفي للقول إننا هنا نخرج من إشكالية «حماية الأقليات» كلياً. يغدو الموضوع هو حماية حياة السوريين والأمن المتساوي للسوريين، أياً تكن أصولهم وفصولهم، وأياً يكن مهدِّدوهم، من أسديين وسلفيين. فإذا كان هذا هو منطلقنا، أوجبَ الأمن المتساوي إدراجَ حماية وأمن أي سوريين في سياقٍ يكفل حماية وأمن كل السوريين. وما أصاب منحدرين من أقليات على يد المجموعات الطائفية السلفية، وقد وقع بحق علويين في مناطق شمال اللاذقية وبحق درورز ومسيحيين في مناطق إدلب، وبحق علويين من جديد في عدرا العمالية…، ينفتح تالياً على قضية المساواة الحقوقية والسياسية، ومنها المساواة في الأمن. وهو ما يوجبُ إقرارَ مبدأ المساواة التأسيسية بين الجماعات واللاجماعات (مرة أخرى، أي أفراد أو مجموعات لا يعرّفون أنفسهم بأي أصول موروثة) السورية، فيما يتجاوز تعريف سورية ذاتها تعريفا قومياً أو دينياً، ومن باب أولى نسبتها إلى سلالة. الأمان العام يتأسس على ميثاق وطني يقضي بأن سورية للسوريين المتساوين، لا أحد منهم ضيفٌ عند أحد، ولا أحد محميٌ من أحد، ولا أحد ذِمّيٌ لأحد.
هناك نقاش سوري غائب في هذه الشؤون للأسف، وغيابه يُكمّل المصادرة الأسدية للحقل العام، وقد اقترنت على الدوام بتشدد في قمع نقاش هذه القضايا، وبالتزام أكثر المثقفين بممارسة رقابة ذاتية عالية في هذا الشأن، بل وتطوعِ بعضِهم لحراسة التابو الطائفي ونهشِ من يتجاسر على تحديه.
ونحن ندفع اليوم ثمن النقاش الغائب حين نسأل في كل وقت: ما الحل؟
في شروط اليوم، كيف يمكن أن تتشكل أكثرية سورية جديدة؟
قبل كل شيء، بطيّ صفحة الحكم الأسدي. لا حلَّ في سورية دون ذلك. لا يرتد الأمر إلى أننا حيال حكم أقلي تكوينياً، وإنما يتعداه إلى ما استوجبه هذا التكوين من اعتماد موسع متكرر على إخضاع المحكومين بالقوة المسلحة.
لكن بات واضحاً منذ عام 2013، وبخاصة بعد ظهور داعش، أنه يتعذر بناء أكثرية سورية جديدة ضد الدولة الأسدية وحدها. داعش تثير نفور الأقليات كلها، وأكثرية السنيين السوريين أيضاً. وهي فوق ذلك ليست مجرد قوة طائفية متطرفة، إنها قوة احتلال خارجي أيضاً، أو هي تشكيل خاص يمتزج فيه استعمار استيطاني إحلالي مع سلطة فاشية طاحنة للبشر مع منظمة إرهابية تمارس عنفاً عشوائياً لا يبالي بحياة المدنيين. وهي ليست خطراً سياسياً واجتماعياً على سورية، وإنما هي خطر كياني لا مناص من القضاء عليه.
الأكثرية السورية الجديدة لا يمكن أن تتكون دون مواجهة داعش أيضاً.
لكن ليس داعش وحدها بحال، مثلما تتوجه السياسة الأميركية منذ التدخل الأميركي في سورية والعراق في أيلول 2014، بل داعش والنظام. هذا أيضاً ليس مجرد خطر سياسي واجتماعي، لقد تطور منذ ما قبل الثورة إلى حكم سلطاني لا وطني، مالك للبلد والسكان، وتطور أثناء الثورة إلى خطر كياني مباشر، واحتمى بمحتلين أجانب لا يُكنّون وداً لأكثرية السكان في سورية ولتاريخ البلد.
لا أحد تقريباً من جمهور الثورة السورية مستعد لمحاربة داعش إن لم يكن جرى التخلص من الدولة الأسدية، أو في سياق مُفضٍ قطعاً إلى التخلص منها. هذه نقطة مركزية، ولا ينبغي أن تكون مجهولة من أحد، وهي تفسر فشل الأميركيين المتكرر في بناء قوة سورية عربية وازنة تحارب داعش وحدها. من له أجندة سورية عامة، لن يحارب داعش إلا كوجه من وجوه عملية سياسية وعسكرية تتضمن طيَّ صفحة الدولة الأسدية نهائياً. لن يضع من هم أمثالنا، من يساريين وعلمانيين وليبراليين أيديهم في أي أيدٍ تحارب داعش حصراً، مستندة إلى الأميركيين و/أو الروس، لنحصل في النهاية على أسدية جديدة، بفجور طائفي أشد، وبتشبيح إجرامي أكبر. هذا لن يكون خيانة لقضية الثورة، ولا لأرواح ما لا يحصى من الضحايا، بل اندراجاً في مخططات قوى لا تشغل العدالة للسوريين موقعاً ولو ثانوياً في أجنداتهم.
وليس تقديرُ أن الأسدية المتجددة ستكون أكثر توحشاً من أسدية ما قبل الثورة تقديراً ذاتياً، إنه «قانون موضوعي» إذا انتصر الأسديون. المنتصرون سيكونون في وضع يحررهم من أي عوائق أمام التشبيح والتوحش، وأكثر تحرقاً للانتقام ممن تجاسروا على تحديهم وكسروا احتكارهم للقوة طوال سنوات، وتسببوا للمعسكر الأسدي بخسائر بشرية كبيرة. لدينا على كل حال من تاريخنا السوري القريب سابقة تمثيلية. بعد عام 1982 أي بعد قتل عشرات الألوف في حماة وتدمير ثلث المدينة، وكان عشرات الألوف في السجون وقتها، ومنهم يساريون ونقابيون و«حالات فردية» لا تُعد، تحققت «ثورة» في الاعتقال والتعذيب وكتابة التقارير والنهب والسرقة، وفي الكذب وعبادة حافظ الأسد. سيكون الحال أسوأ بمائة مرة إذا انتصر أسديو بشار، وهم سلفاً تحت حماية غزاة أجانب أكثر توحشاً: شيعة لبنانيون وعراقيون وإيرانيون، فضلاً عن الغزاة الروس.
وخلاصة الكلام أنه لا يمكن بناء أكثرية سورية جديدة ضد الدولة الأسدية وحدها منذ صعود داعش، ولكن لا يمكن بناؤها ضد داعش وحدها. ما يمكن أن يبنى ضد داعش وحدها هو حكم أقلي متجدد تحت حماية أجنبية، وبكفالة دولية.
وغير داعش، ماذا بشأن الآخرين؟
يثارُ حتماً في شأن التساؤل عن مستقبل سورية وضع مجموعات مقاتلة إسلامية، ومنها سلفية جهادية مثل «جبهة النصرة»، «فتح الشام» حالياً (وهي تضم عناصر غير سورية بنسبة 10% على الأقل)، ومجموعات أخرى صغيرة، أو مجموعات كبيرة تنضبط بمقادير متفاوتة بالباراديغم السلفي الجهادي مثل «أحرار الشام» و«جيش الإسلام». في السياقات السورية الراهنة تجمع هذه المجموعات بين مواجهة الدولة الأسدية وبين السيطرة على مجتمعات محلية. وهي سيطرة أثارت مقاومات متنوعة، وارتكبت المجموعات المعنية جرائم متنوعة في سياق مواجهتها. وقت معركة حصار حلب في أواخر تموز 2016 انحازت أكثرية جمهور الثورة إلى مقاومة هذه المجموعات للأسديين وحلفائهم، بما فيها مجموعة نور الدين زنكي التي كانت أثارت اشمئزازاً واسعاً باحتفائها بذبح أسير يافع في وقت أبكر من الشهر نفسه. هذا لأن مصير 300 ألف في حلب كان على المحك، وبصورةٍ ما مصيرُ الثورة ككل.
والقصد أن هذه المجموعات تضطلع بوظيفة مقاومة عامة، مع كون تشكيلات أساسية بينها ذات تكوين إيديولوجي طائفي وبالغ الضيق. هنا التناقض المكوِّن لهذه المجموعات: مقاومة عامة ضد تحالف عدواني طائفي، تتعارض عموميتها في كل حين مع بنيتها الطائفية الضيقة. وهذا تناقضٌ لا يُحلُّ خارج إطار تغير أوسع في البيئة السياسية السورية يطال الدولة الأسدية.
ومن المفهوم أن قاعدة هذه المجموعات تتسع حين تقوم بوظيفة دفاعية، أو حين ينحصر صراعها بمواجهة الدولة الأسدية المعتدية، بينما يضيق حين تفرض مثالها الاجتماعي على السكان المحليين أو تواجه غير الأسديين، لتظهر كمجموعات نخبوية مترسخة في عقيدتها الخاصة ومشروع سلطتها، وليس في بيئة اجتماعية حية، على ما أظهرت مقاومات محلية ضد «جبهة النصرة» في معرة النعمان وغيرها، وضد جيش الإسلام في الغوطة الشرقية ودوما نفسها. هذا التشكيل الأخير يفرض سلطته بالاغتيالات والخطف والحرب، مثلما فعلت النصرة في مناطق إدلب. لكن لا سبيل لبناء اعتراض اجتماعي قوي في وجهه هذه التشكيلات طالما هي تواجه تحالفاً أسدياً إيرانياً روسياً عدوانياً.
من شأن التخلص من الأسديين ومن الدواعش في إطار التوجه العازم نحو سورية جديدة أن يكشف التكوين النخبوي الأقلي لهذه المجموعات، وأن يساعد في عزلها. مقاومات أهالي معرة النعمان، وهم مسلمون سنيون محافظون، ضد «جبهة النصرة» بمجرد وقف إطلاق النار في شباط الماضي ترجح فكرة أن قطاعات أوسع من السوريين ستكون في وضع أفضل لمقاومة هذا التشكيل في شروط التخلص من الأسديين والدواعش. ومثل ذلك بخصوص مقاومة سلطة «جيش الإسلام». وأُرجح أن تجنح مجموعات أخرى، أقرب إلى التكوين الأصلي لـ«الجيش الحر» إلى الاندراج في الحياة السياسية لسورية الجديدة ما بعد الأسدية، أو إلى أن تكون مشكلة أمنية مزعجة، لكن ستكون الشروطُ أنسبَ لمواجهتها أكثر من أي وقت مضى.
وماذا بشأن الكرد السوريين؟
في فقرات سابقة جرت مناقشة الأكثرية السورية الجديدة المرغوبة من مدخل الطوائف. لكن في سورية مشكلة كردية، ولا حل عادلاً في سورية دون معالجة هذه المشكلة. فكيف يمكن أن تكون هذه المعالجة؟
المبدأ يبقى نفسه: الكرد جزء من الأكثرية السياسية السورية الجديدة، مع الحقوق اللغوية والثقافية لجماعة قومية مساوية تأسيسياً لغيرها، ومع أوضاع خاصة في مناطق الكثافة الكردية في عفرين وكوباني/عين العرب، وأجزاء من محافظة الحسكة.
ويتعارض هذا التصور الأولي مع ثلاثة أوضاع. أولها بطبيعة الحال الوضع السابق للثورة الذي ينكر الوجود العام للكرد (الجميع «عرب سوريون»)، لكنه يتعامل معهم سياسياً ببراغماتية، ويحرص على تقسيم وإضعاف تعبيراتهم السياسية. الثاني هو الوضع الذي نراه اليوم بعد الثورة، بما يتضمنه من تعاون قوات بي واي دي مع النظام وإيران، ومع الروس والأميركان، ومن فرض نظام حزب واحد في مناطق سيطرته، ومن نزعة توسع قومي في مناطق ذات أكثرية عربية. ثم إن هذا التصور يتعارض ثالثاً مع مشروع قومي خاص يطلق عليه كردياً «كردستان الغربية».
لا وجه عادلاً للكلام على كيان كردي مستقل يشمل جزءاً من سورية، إلا في إطار قيام دولة كردية تتشكل من كردستان العراق الحالية وأجزاء من تركيا وإيران. ربما يكون هناك استمرار أرضي وسكاني في هذه الحالة للمناطق الكردية مع مناطق من سورية، وإن كان محتملاً أن يشمل هذا الكيان الكردي الكبير أقليات عربية وغير عربية. لكن في النطاق السوري الحالي، هذا الاستمرار غير قائم. وهذه واقعة جغرافية وديمغرافية صلبة، هي ما يطمسها متخيل «كردستان الغربية» أو «روجافا»، وهي ما لا يمكن لمعالجة سياسية وحقوقية عادلة للمشكلة الكردية أن تقفز فوقها.
هنا أيضاً لدينا تناقض بين وظيفة المقاومة العامة في وجه الدواعش أو أي اعتداءات على البيئات الكردية، وبين أفعال عدوانية متواترة معلومة بحق عرب وغيرهم، تصدر عن أجندة فئوية خاصة مستقوية بداعمين أقوياء. وهنا أيضاً سنكون في وضع أفضل لحل هذا التناقض إن تخلصنا من الأسديين والدواعش.
لدينا في سورية، والإقليم، قضية كردية عادلة وتحررية، استولى على مضمونها التحرري من قبل التنظيم الكردي الأكثر حصرية واستبعاداً لغيره والأضيق أفقاً، لكن الأفضل تأهيلاً للعسكرة بحكم روابطه المُكوِّنة بحزب العمال الكردستاني في تركيا، على نحو يذكر بتأهيل السلفيين في السياق السوري العربي. وهو مثل الأخيرين يشمل لا سوريين، ويبدو أن مركز القيادة والتخطيط لا سوري كلياً. التنظيم المذكور وضع نفسه في إطار استراتيجيات الأميركان والروس غير العادلة وقصيرة النظر، مستعدياً البيئات المحلية العربية وغير العربية في سورية. وله علاقات مريبة بالدولة الأسدية، وبإيران، وضعته منذ وقت مبكر في موقع غير متفهم للثورة السورية وللمجموعات الكردية الأقرب لها، وهو موقف متسق ومستمر، بلغ ذروةً رمزيةً مشينةً حين روّج صالح مسلم، الوجه السوري للتنظيم، لإنكار مسؤولية الدولة الأسدية عن المذبحة الكيماوية قبل ثلاث سنوات.
وتطورت خلال السنوات الثلاثة نفسها، على نحو مفاجئ جداً ومن العدم تقريباً، سردية تفوق قومية كردية تخلق تماهيات مع الطبقات الوسطى الغربية بقدر ما هي تنزع التماهيات الاجتماعية والسياسية بالسكان المجاورين في البيئة السورية، وتحل محلها تعبيرات عدائية صادمة في حدتها وعنفها.
تُورِّد هذه السردية إلى السياق السوري خبرة تنظيم بي كي كي الكردي التركي المنتشر في أوروبا في مخاطبة الرأي العام في الغرب والتشكل وفق توقعاته. في سورية قامت هذه السردية بدور مزايدة رخيصة، جمعية وهوياتية، تفتقر إلى البعد التحرري والعمق الاجتماعي، وبلا أساس فكري أو نقاش على الإطلاق، ودون إدماج القضية الكردية في قضية سورية عامة من أي نوع. حلت الدعاية الحزبية في أسوأ أشكالها محل النقاش، وسردية التفوق المفتقرة إلى سند اجتماعي محل الأفعال التحررية والعادلة.
ولقي الدعم الاجتماعي والإعلامي الغربي ترجمة عملية فيما تلقاه التنظيم القومي الكردي المسيطر في مناطق من شمال وشرق سورية من دعم أميركي ضد داعش، ودعم روسي ضد مجمل معارضي الدولة الأسدية. وظاهرٌ أن العدالة ليست بين دوافع القوتين الداعمتين. لو كان الأمر كذلك لساعدوا الثائرين على الأسديين، لعاقبوا المتصرف الأسدي على المذبحة الكيماوية، إن لم يكن على سجل جرائمه كلها، وهي موثقة جداً. الدافع هو إيجاد سند وركيزة موثوقة في إقليم يتبادلون مع أكثرية سكانه عدم الثقة.
لكن أليس هذا منهجاً استعمارياً تقليدياً؟
وليس لمواجهة داعش أن تسوغَّ تطلعات خاصة، تعبر عن نفسها بصيغ متعجلة وقصيرة النظر، وتعمل على تطوير نظريات ماهوية عن الحق التاريخي، اقترنت في كل مكان بالتوسع القومي.
فإذا حاولنا النظر من وراء سحب الترويج والتضليل، والتسفيه، كان مسوغاً لنا الخشية من أن يكون هذا المشروع نذيراً بصراعات دموية في منطقة لم يسبق أن عرفت صراعات عنيفة بين سكانها.
لماذا هذا الطرح متفوق على غيره؟
لأنه ديموقراطي، يشكل من جهة استمراراً لجولات سابقة من كفاح السوريين ضد الطغيان، ويتجاوب من جهة ثانية مع ما يُفترض أنه إجماع عالمي على الديموقراطية.
ولأنه، من جهة ثانية، عادل، يأخذ باعتباره الجماعات السورية كلها، وليس تعبيراً عن غلبة أهلية، لا يمكنها إلا أن تكون باباً لحروب متجددة ولتبعيات إقليمية ودولية على ما يُظهر المثال العراقي.
ولأنه، من جهة ثالثة، قابل للاستدامة. الوضع الحالي متفجر. بقاء الأسديين يقتضي عملياً وقوع البلد تحت الاحتلال الخارجي. والروس والإيرانيون وأتباعهم الذين حموا الأسديين لن ينصرفوا إلى شؤونهم إذا تحقق لهم وللأسديين ما أرادوا. سيكون الأسديون واجهة لنفوذ الحُماة، المتنازعين أو المتوافقين. هذا بينما من شأن العمل على بناء أكثرية سورية جديدة أن يكون أساساً صلباً لحل مستدام، يعزز نفسه بعد حين بالانتخابات الحرة وبدستور يُجرِّم التمييز الطائفي والقومي.
وتتضح ميزات هذا التصور الاستيعابي الإيجابية إن قابلناه بثلاثة تصورات استبعادية قائمة اليوم لسورية. أولها بطبيعة الحال «سورية الأسد»، أي سورية قاعدة لحكم سلالي أقلي. وسورية القائمة على أكثرية سياسية ديمقراطية عابرة للجماعات الأهلية، تطوي الصفحة الأسدية دون أن تلحق الضيم بالعلويين، بل هي الأضمن لأمانهم وحقوقهم وكرامتهم على المدى الأطول. وثانيها التصور القومي العربي لسورية كقطر عربي، سكانه «عرب سوريون». وليس في تصور سورية كجمهورية ديمقراطية، دولة لسكانها العيانيين، ما يُلحق الضيم بالعرب، أو ما يحول بينهم وبين الاهتمام بقضايا محيطهم، مع كونه يوفر المساواة التأسيسية والسياسية للكرد، دون أن يفصلهم بدورهم عن الاهتمام ببيئات كردية حولهم. وثالث التصورات هو الدولة الإسلامية في سورية، مما يتطلع إليه السلفيون الجهاديون وأشباههم.
التسوية التاريخية في سورية يمكن أن تقوم على استبعادٍ متبادلٍ للأسدية والإسلامية. وليس في استبعاد الدولة الإسلامية ما يُلحق الضيم بالمسلمين السنيين بوصفهم كذلك. المشروع الإسلامي في بلد معقد التكوين وصفةٌ لتحطيم المجتمع السوري على يد نخبة حكم لا يمكن إلا أن تكون أقلية، ولا يمكن لحكمها إلا أن يكون طغيانياً متوحشاً. وكرامة المسلمين المؤمنين تصان في مجتمع حر عادل أكثر مما تصان في مجتمع يسوده الإسلاميون، بشهادة ما نرى في بلدنا بالذات.
إجرائياً، كيف يمكن التأسيس لقيام نظام أكثري؟
الأكثرية السورية الجديدة، العابرة للطوائف، تتكون في إطار تسوية تاريخية كبرى، يمكن أن يبلورها مؤتمر وطني سورية بمساعدة دولية، تطوي صفحة الدولة الأسدية وأجهزة القتل التابعة لها، فتكسبُ بيسرٍ أكثريةً ساحقة من السوريين ضد داعش وأشباهها، وتكسب كل العالم.
يمكن التفكير في أن يتمخض المؤتمر عن مؤسسة حكم عليا، تجسد المساواة التأسيسية للجماعات الأهلية السورية، ومنهم الكرد طبعاً، في الوقت الذي تطوي فيه صفحة حكم الفرد أو السلالة. السوريون محتاجون إلى إبداع مؤسسي، والصراعات الكبرى مناسبة لهذا الإبداع. لسنا ملزمين بفكرة الدولة المركزية القائمة على المجانسة، ولا بنظام المحاصصة التوافقي. ما نحن ملزمون به فقط هو توفير أقصى حد من العدالة لأكبر أكثرية من السوريين. إن لم يتحقق شيء من هذا، الباب ينفتح لحروب وصراعات وانتقامات لا تهدأ حيناً إلا كي تتفجر مجدداً بعنف أكبر.
سؤال: لماذا ينبغي للدول الكبرى والأمم المتحدة أن تدعم تحولاً سورياً في هذا الاتجاه؟ جواب: بالضبط لأنه الأكثر ديموقراطية وعدالة والأكثر قابلية للاستدامة.
سؤال: لكن هل الدول معنية بحلول عادلة، تضع نصب عينيها مصلحة السكان المحليين؟ جواب: حسناً، كل ما تقدم هو محاولة سورية لقول شيء عن كيف يمكن أن يكون الحل عادلاً في سورية. إذا كان المطلوب حلاً آخر، فليس السوريون العاملون من أجل العدل في بلدهم هم من يُسألون عنه.
لكن «العالم» جزء من مشكلة سورية، أليس كذلك؟
ولمصلحة القارئ المجهول، ينبغي القول بوضوح تام إن مشكلة سورية اليوم لا تقتصر على النظام وداعش وجبهة النصرة وتنظيم البي واي دي القومي الكردي. هناك طرفٌ ثالثٌ كبير، بل الأكبر، هو القوى الدولية، بخاصة الأميركان والروس، وقد عرض موقفهما منذ عام 2013 على الأقل تقارباً لافتاً، وصل إلى مستوى التنسيق العسكري والسياسي المباشر بعد التدخل الروسي في أيلول 2015. وهؤلاء، مساندو الأسدية الصرحاء كالروس، أو الرافضين لسقوط الأسدية كالأميركيين، ليسوا فقط قوى لا يمكن تجاهلها في تصور الحل السوري، وإنما هم القوى التي تُسأل اليوم عن تصورها للحل وعن موقع العدالة في هذا التصور. ولم يعرض الطرفان خلال سنوات الصراع السوري اهتماماً يذكر بقضايا العدالة والديموقراطية والاستدامة.
هذه القوى تتحكم بمجلس الأمن والأمم المتحدة ووسائل الإعلام الأقوى، وتحدد أجندات النقاش العالمي في الملتقيات الدولية التي تشارك فيها، على ما تفاخرَ باراك أوباما قبل شهور.
فإذا أخذنا هذا البعد الثالث للصراع السوري، البعد الدولي، كبعد أساسي من المشكلة، توجب طرح سؤال الحل على تلك القوى الدولية المتدخلة، وهي أقوى بكثيرٍ من الدولة الأسدية وحلفائها، وأقوى بكثيرٍ من أي مقاومين سوريين، ومن داعش، ومن «البيدا».
ومن موقع سوري يبدو أن الحل الذي تدفع باتجاهه هذه القوى يتراوح بين التسليم باستمرار الأوضاع الحالية من حرب وانقسام واقعي للبلد، أي التضحية بسورية من أجل بقاء النظام الأسدي، ودون حتى أفق واضح للقضاء على داعش، وهذا ما يبدو أنه التفضيل الأميركي اليوم، وبين استعادة المناطق الخارجة على سيطرة الدولة الأسدية لمصلحتها، اي استعادة «سورية الأسد».
هنا نحن، على كل حال، وراء الأقليات والأكثريات، في عالم القوة المحض التي قد تفرض منطقها إلى حين، مع بقاء الباب مفتوحاً للسؤال: متى موعد الانفجار القادم؟
إن كان العالم جزءً من المشكلة، فمن أين يأتي الحل؟
ليس هناك حل في سورية، أيها القارئ المجهول العزيز، لأن القوى التي تقود العالم جزء من المشكلة، إن لم تكن المشكلة كلها. هذه القوى غير عادلة، وحال العالم كله، وليس سورية وحدها، يمعن في التدهور بسبب سياساتها. لا يسمح هذا الواقع باقتراح مخارج عادلة وعقلانية، بل هو عامل تفجير في سورية وتوتير في محيطها، ويبدو الحال العالمي ككل مستسلماً لميول التوتر والتفجر.
نحن اليوم أمام طريق مسدود: من تعنيهم العدالة يفتقرون إلى القوة، ومن يملكون القوة لا تعنيهم العدالة.
نشعر مع ذلك أن الوضوح واجب. نشهد على أنفسنا وعلى زمننا، وعلى العالم. ونخاطب عبرك، أيها القارئ المجهول، قراءً آخرين متجردين، قد لا يوافقون على عناصر من هذا الطرح، قد يرون وجوب التركيز بقدر أكبر على بعض عناصره، أو إدخال عناصر واعتبارات إضافية، لكن يحركهم مثلنا مطلب العدالة، أكبر عدالة لأكبر عدد من الناس.
ورأي كاتب هذه السطور في النهاية أن المشكلات واضحة، والمسؤوليات واضحة، وأوجه اللاعدالة واضحة، وأفق العدالة واضح. نحتاج إلى كثيرٍ من الانتباه والشغل على التفاصيل، وإلى كثيرٍ من الأفكار العملية المبدعة، وقبل ذلك إلى مشاركة أكبر عدد من الناس في التفكير والنقاش والعمل. ما نتكلم عليه ليس مجرد حل لأزمة سياسية في سورية، بل إعادة تأسيس وطني، يطال بنيان الدولة وعلاقات المجتمع ووعي الهوية، مما يتعين أن يُقَارَب بروحٍ من الاعتدال والبراغماتية والإنصاف.
ما لا نحتاج إليه هو انقضاء جيل من اليوم، وكوارث جديدة أكبر، كي يقول أيٌ كان إنه لم يكن يعرف. الجميع يعرفون، وإن لم يكونوا قلة من يمشون بعيون مفتوحة نحو الهاوية.