طيران النظام الحربي ومدفعيته وحملات التهجير والإبادة التي نفذها، ثم سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على أغلب مناطق دير الزور وريفها، وما رافق هذه السيطرة من معارك وقصفٍ وتردٍ في الأوضاع الاقتصادية والخدمية والأمنية، ومن قمعٍ للسكان وتهجيرٍ لأعدادٍ منهم، كل لك جعل خيار الهجرة واللجوء مفضلاً وربما وحيداً أمام كثيرين من أبناء دير الزور.
كانت تركيا وجهة النزوح الوحيدة لأبناء دير الزور، وذلك لأسباب أبرزها موقف الحكومة العراقية من جهة، وسيطرة تنظيم الدولة على المنطقة الحدودية مع العراق من جهة ثانية. وتبدأ معاناة اللاجئ منذ اللحظة التي يقرر فيها السفر، فالأمر يجب أن يكون سرياً حتى يستطيع الخروج بأمان من منطقته، أما من كان مطلوباً للتنظيم، فخروجه من مناطق سيطرته يشبه المعجزة.
يروي لنا أبو محمود حكاية نزوحه مع عائلته من دير الزور في أواخر عام 2015، وحكاية نزوح عائلةٍ أخرى التقى بها في طريق الهجرة الطويل والقاسي.
بداية رحلة النزوح
عقدتُ العزمَ على الخروج من دير الزور فاراً بأهلي ونفسي بعد سيطرة التنظيم على المدينة، وبعد التغيير الكبير الذي طرأ عليها وعلى ريفها، وجراء ممارسات تنظيم الدولة وخاصة جهاز الحسبة وعناصره، وكذلك التقارير الكيدية التي كانت السبب في اعتقال كثيرٍ من أبناء المحافظة وتصفيتهم.
بدأتُ التجهيزَ للخروج ببيعِ كل ما أملك من أغراض بيتي التي قضيت سنواتٍ في شراءها وتجميعها، كنتُ أعلمُ أن تجار الأزمات سيشترون تعبَ العمر بأبخس الأثمان، ولكن لم يكن ثمة خيار آخر أمامي. قمتُ بتحويل ثمن ما بعته إلى الذهب والدولار واليورو، وجهزتُ مع أفرادِ عائلتي قليلا ًمن اللباس وبعض ما خف حمله وغلا سعره، استعداداً للرحلة الطويلة إلى الحدود التركية، حيث كثرة الحواجز والعوائق واختلافها تجعل المرء في حيرةٍ من أمره.
ثمة رحلة أخرى ستبدأ بعد الوصول إلى المناطق الحدودية، حيث سماسرة مهربي البشر، الذين يختلفون حسب الجهة المسيطرة على هذا الجانب من الحدود، فكل فصيل له ترتيب في إدخال اللاجئين إلى تركيا.
هناك عوامل تؤثر في كيفية دخول اللاجئين إلى تركيا، أهمها الحالة الأمنية التي تمر بها تركيا خلال فترة الدخول إليها، والفصيل المسيطر على الحدود في منطقة عبور اللاجئ، حيث تختلف الفصائل المسيطرة وتتوزع بين كردية وجيش حر وفصائل إسلامية، بالإضافة إلى صفة المهرب وارتباطاته.
كان هذا ما حدثنا به كثيرون حول مصاعب الدخول إلى تركيا، لكن ذلك لم يمنعني من البدء بالبحث عن خطة للخروج، خاصة بعد أن منع تنظيم الدولة السفر من المنطقة إلا بإذن خطي واتباع دورة شرعية، فكان لا بد من طريقة للحصول على إذن السفر.
إذن السفر
كانت الطريقة الوحيدة هي الحصول على تقريرٍ طبي من أجل السفر، وهو ما يحتاج معاملاتٍ تشبه تلك التي كانت أيام النظام. كان مرضي وحاجتي إلى قثطرة قلبية سبباً للحصول على التقرير الطبي، كون عملية القثطرة غير موجودة في «الولاية»، حيث وافقت لجنة الأطباء التي شكلها التنظيم على إعطائي التقرير.
كان رأيُ ما يسمى «أمير الطبية» ضرورياً للموافقة على التقرير، وعلى الرغم من أنه كان لا يملك أي معرفة طبية، فقد كان يرفض كثيراً من تقارير الأطباء الأخصائيين بحجج كثيرة. رأيته يرفض سفر نساء ورجال كبار في السن يحتاجون لجرعات كيماوية لمعالجة مرض السرطان الذي أصابهم، وكان سبب رفضه أنها غير إسعافية، وقد حاول المرضى مراراً التوضيح له أن هذه الجرعات يجب أن تؤخذ في وقت محدد، لكن عبثاً ما كانوا يحاولون.
وبعد عدة أيام من المحاولات استطعتُ الحصول على موافقة أمير الطبية، الذي وجه موافقته إلى ديوان الحسبة الذي يمنح الموافقة النهائية. رفضَ أمير الحسبة في البداية، ثم وافق بعد محاولات استمرت عدة أيام، لكن وحيداً دون أهلي.
كانت هذه معضلةً أخرى في طريق سفري، وكنتُ بسببها مضطراً للسفر تهريباً دون موافقة، وبالاتفاق مع أحد سائقي سيارات السفر.
طريق السفر والمعاناة
وصلنا مدينة الباب بعد ثمان ساعاتٍ مضنية، كان الطريق طويلاً وكنا نخبر كل حاجزٍ قصةً مختلفة. كانت ملاحظتنا الأولى في الباب هي الظهور الكثيف لعناصر التنظيم في المدينة، في المطاعم والمقرات وحتى الشوارع.
اضطررنا أن نقضي الليل في مدينة الباب، لأن الحاجز الأخير الذي يبعد عنها حوالي 20 كم كان مغلقاً. شاهدتُ على الطريق عشرات السيارات التي تحمل عائلات أغلبها من دير الزور، بعض المسافرين كانوا ينامون داخل سياراتهم التي كانت بالكاد تتسع لهم، وبعضهم ينام تحت الأشجار على جانبي الطريق. بحثنا عن بيت أو غرفة للإيجار إذ لا يوجد فنادق في الباب، لكن وبسبب الازدحام في المدينة لم نستطع العثور على مكان، فاضطررنا للنوم في أماكن خصصها عناصر التنظيم للعائلات، حيث تم فصل النساء وتجميعهن في مكان، والرجال في مكان آخر.
كان المكان عبارة عن صالات كانت سابقاً مستودعاً، وهي غير مجهزة بأي مرافق خدمية. لم يستطع أحدٌ منا النوم، كان الطقس البارد والخوف والقلق وبكاء الاطفال هو المسيطر على تلك الليلة، كانت أماكن التجمع تلك أشبه بسجنٍ كبير.
على الحاجز
مع ساعات الفجر توجهنا صوبَ الحاجز الذي سنعبر من خلاله إلى مدينة إعزاز الخاضعة لسيطرة الجيش الحر، استغرقَ الطريق نصف ساعة، وبعدها ثلاث ساعات من الانتظار حتى وصلنا إلى عناصر الحاجز الذين طلبوا منا موافقة سفر، وعندما أخبرناهم أننا من دير الزور قالوا لنا إنهم لا يعترفون إلا بموافقة ديوان الحسبة في منبج، وأن علينا العودة للحصول على الموافقة. حاولنا أن نشرح لهم أنه لدينا حالة مرضية تحتاج علاجاً مستعجلاً، لكن كل محاولاتنا باءت بالفشل، ما اضطرنا للعودة إلى منبج التي تبعد حوالي 60 كم. لم نكن الوحيدين، بل كان معنا عشرات السيارات كلها للاجئين بعضهم أخبرنا أنه موجود منذ أسبوع ولم يستطع العبور.
عادت بنا السيارة إلى منبج، حيث توجهنا إلى ديوان الحسبة، لكن عناصر الديوان قالوا لنا إن الموافقات هي من اختصاص ديوان الرقابة والتفتيش في منبج. توجهنا من فورنا إلى المكان لنُفاجأ بوجود مئات الأشخاص يتجمعون أمام باب صغيرٍ لمكتب، كان عليَّ تسجيل اسمي ضمن قائمة انتظار وصل رقمي فيها إلى 210. هناك سمعت أناساً يتحدثون أنهم قضوا أسبوعاً كاملاً ولم يحصلوا على موافقة. كان المسؤول عن المكتب يرفض كل الطلبات المقدمة للسفر.
كان حظنا جيداً عندما وافق المسؤول على تقرير طبي حصلتُ عليه من أحد الأطباء بعد سبع ساعات من الانتظار، ووافق عليه المكتب الطبي في منبج أيضاً. كانت الموافقة عبارة عن تصريح سفر ينتهي خلال ثلاثة أيام من لحظة الحصول عليه، لذلك كان علينا الإسراع باتجاه الحاجز مرة أخرى، حيث كنا نسابق الزمن لأن الحاجز كان يغلق طريق العبور حوالي الساعة السادسة مساءً.
تركنا مدينة منبج وطوابيرُ اللاجئين لا تزال تنتظر على باب المكتب، الذي أُغلق في وجههم خلال النهار أربع مرات بداعي الصلاة وغداء أعضائه، ومن ثم تركهم المسؤول وأغلقَ الباب لينتظروا يوماً أخر.
لم نستطع الوصول إلى الحاجز في الوقت المحدد بسبب الازدحام وكثرة السيارات المنتظرة على الطريق، خاصة شاحنات النقل التي كانت تنتقل بين مناطق سيطرة الجيش الحر والتنظيم. تأخرنا عن الوقت المحدد لإغلاق الحاجز دقائق معدودة، لكن عناصر الحاجز رفضوا أن يتركونا نعبر، وقالوا لنا أن نرجع صباحاً. كان طريق العودة إلى الباب صعباً، لذلك اضطررنا إلى قضاء ليلتنا داخل السيارة مثلنا مثل كثيرين ممن افترشوا الأرض على جانبي الطريق المقفر بسبب الاشتباكات، حيث هجر أهل تلك المنطقة بيوتهم التي تحولت إلى ركام، ولذلك فلم نستطع الحصول على طعام أو ماء، وقد نفدَ ما كنا نحمله معنا.
استطعنا أن نحصل على القليل من الماء من أحد المساجد، كانت ليلة باردة ولا توجد أغطية سوى ما نلبسه، كان الكبار يخلعون ألبستهم ليغطوا بها أطفالهم.
عاودنا الكرة في الصباح الباكر لنجد مئات السيارات قد سبقتنا، كان الانتظار طويلاً حيث كان الدخول يتوقف لساعةٍ أو أكثر. كان حاجز التنظيم يبعد عن حاجز الجيش الحر نحو كيلومترين، وكانا يتبادلان الاتهامات بالمسؤولية عن إيقاف حركة السيارات.
منعَ حاجز تنظيم الدولة دخول السيارات إلى مناطق سيطرة الجيش الحر، فأوقفَ حاجز الجيش الحر دخول سيارات الخضار والأغذية إلى مدينة الباب، حتى تدخَّلَ بعض الناس بين الطرفين ليعود الطريق مفتوحاً من جديد. استغرقت المسافة المقدرة بين مكان توقفنا وحاجز التنظيم ما يقارب الثلاث ساعات، وحين وصلنا إلى عناصر الحاجز كان الخوف والترقب يسيطر علينا. كنا خائفين ألا نتمكن من العبور الذي كان بالنسبة لنا كالعبور من الظلام إلى النور، كانت لحظات صعبة قبل الوصول للحاجز.
المفاجأة الكبرى كانت عند وصولنا للحاجز، إذ كان عناصره يحملون رأساً لشخص قطع منذ لحظات، وكانوا يتكلمون مع بعضهم والتهكم والفرحة على وجوههم. وبسبب انشغالهم بالرأس المقطوع الذي لم نعرف سبب قطعه، مررنا من الحاجز نحن وعشرات السيارات دون أن يسألنا أحد عن موافقة سفر، أو يوقفنا حتى.
بين حاجز التنظيم وحاجز الجيش الحر مسافةٌ بسيطة، لكنها بالنسبة لنا كانت طويلة وشاقة، وكأنك تخرج من بئر عميق لتصل إلى سطح الأرض وتتنفس الهواء.
أوقفنا عناصر الجيش الحر، وبعد تفتيش روتيني وبعض الأسئلة عن مكان إقامتنا ووجهتنا، سمحوا لنا بالعبور إلى مدينة إعزاز.
معاناة عائلة أخرى
على الحدود التركية في مدينة إعزاز، التقينا بعائلة أبي إبراهيم في منزل أحد مهربي البشر الذين جعلوا من تهريب اللاجئين السوريين مصدراً للثراء الفاحش، ليكتمل مشهد اللجوء السوري بلقائنا بهذه العائلة.
كانت العائلتان، عائلتي وعائلة أبو إبراهيم، من دير الزور، وكان لكلٍ منا قصة مختلفة، تكاد تكون روايةً أو فيلماً سينمائياً.
في انتظار الترتيبات والاتصالات التي كان سمسار المهرب صلاح يقوم بها، جلستُ أنا الأب الهارب بعائلتي من جحيم القصف وتسلط أفراد تنظيم الدولة، استمعُ إلى قصة أخرى لا تقل مأساوية عن قصتي، يرويها لي ربّ العائلة التي التقيت بها للتو.
أبو إبراهيم خرج بعائلته من حي الجورة الخاضع لسيطرة النظام السوري في دير الزور، يروي قصته التي هي قصة كل لاجئ هرب من ظلم وقع عليه أياً كان مصدره، إذ لا تمييز بين الجلادين ما دامت الضحية واحدة، لكن أبو إبراهيم يضيف إلى تلك المعاناة معاناة أخرى.
حصار النظام والتنظيم لدير الزور
يقول أبو إبراهيم:
كان خروجنا من الأحياء الواقعة تحت سيطرة النظام أشبه بالمعجزة، إذ يقطن في هذه الأحياء ما يقارب الـ 200 ألف نسمة ليسوا جميعهم مؤيدين للنظام أو مستفيدين منه، بل هناك كثير منهم ممن تقطعت بهم السبل ولم يجدوا مفراً من البقاء تحت رحمته، لكن ومع اشتداد تعسف النظام وسطوته الأمنية والحصار الذي يفرضه كل من النظام وتنظيم الدولة، كان لا بد أن نفكر بالنزوح بعد الارتفاع الشديد للأسعار وفقدان كثيرٍ من متطلبات الحياة.
كان الخروج من مناطق النظام يحتاج إلى معجزة، فبعد عدة محاولات للخروج هرباً عن طريق نهر الفرات، والفشل المتكرر لهذه المحاولات بسبب انتشار عناصر الأمن والشبيحة على شكل دوريات متنقلة على طول النهر، بقي الإصرار موجوداً للهروب من هذا الحصار، ومن تسلط عناصر الدفاع الوطني الذين يعيثون فساداً.
كان هذا الفساد هو وسيلة خروجنا من المنطقة، فقد كان ضباط الأمن وعناصره وقيادات الجيش يسمحون بالخروج عن طريق مطار دير الزور العسكري مقابل مبلغٍ مالي، ويصل المبلغ الذي يدفعه الشخص الواحد ليستطيع الخروج من هذه المناطق إلى ما بين 200 و250 ألف ليرة سورية. هذا المبلغ الكبير لا يستطيع كل شخص دفعه في ظل الحصار الذي نعيشه، والغلاء وانقطاع الرواتب التي لم تدفعها دوائر النظام منذ أشهر، في حين كان عناصر الدفاع الوطني يأخذون رواتبهم دون انقطاع.
كان النظام قد وضع شروطاً لمن يريد الخروج تتعلق بالحالات المرضية الحرجة، لكن حقيقة الأمر أن الخروج كان لمن يدفع أكثر، كما أن العميد محمد خضور، قائد المنطقة الشرقية في جيش النظام، هو من يوافق أو يرفض خروج الناس.
هناك طريقتان للحصول على موافقته، الأولى هي الوصول إلى أشخاص يستطيعون الحصول عليها، وكانت بعض النساء سيئات السمعة هن من يستطعن تحصيلها مقابل مبالغ مالية، حيث كانت مجالس الشرب والسهر معروفة في الفيلا التي يملكها، كذلك كان العميد عصام زهر الدين يتبع الأسلوب ذاته، وكان له سماسرة في هذا الموضوع.
الطريقة الثانية هي أن تقف عند باب مكتبه، وتنتظر خروجه فجراً وقد شرب كثيراً، عندها يوافق دون أي اعتراض لأنه يكون في عالمٍ آخر.
بالطريقة الثانية استطعت الحصول على الموافقة، لكن المعضلة كانت في كيفية إخراج سيارتي، وهي سيارة أجرة كنت أعمل عليها، حيث اضطررت لدفع مبلغ 150 ألف ليرة من أجل إخراجها عن طريق بادية دير الزور.
استغرق خروجنا من حي الجورة حتى قرية البغيلية ومن ثم الحسينية أكثر من يوم كامل، وحال وصولنا أوقفتنا إحدى دوريات الحسبة بسبب عدم لباس زوجتي النقاب، وعندما أخبرناهم أننا خرجنا من حي الجورة أُخذنا إلى مقر الحسبة حيث تم بيعنا لباساً شرعياً لزوجتي وابنتي ذات الـ 12 عاماً، ومن ثم إيصالنا إلى بيت أحد أقاربي في مدينة الميادين، لكنهم أخذوا هويتي وطلبوا مني مراجعتهم في مقر ديوان الحسبة.
في اليوم التالي راجعت ديوان الحسبة، ليتم التحقيق معي عن سبب وجودي في أراض يسيطر عليها المرتدون. أخبرتهم أنني أسكن هناك منذ ما يقرب العشرين عاماً، وأنني لم أستطع الخروج من هناك طيلة ذلك الوقت.
لم يخلُ التحقيق من التعنيف والضرب، وتوجيه تهم الردة والكفر، لكني بقيت على موقفي وهو أنني لم أكن أتعامل مع النظام أو اللجان الشعبية. خرجت من السجن بعد ثلاثة أيام كان خلالها أقاربي يتوسطون لإخراجي، لأجد معضلة أخرى في طريقي.
كانت إحدى دوريات التنظيم المتواجدة على مدخل مدينة الميادين قد احتجزت سيارتي، والرجل الذي كنت قد دفعت له مبلغ 150 ألف ليرة سورية لإخراجها، وبعد عدة مراجعات تبين أن ما يدعى ديوان الأمنيين هو من يحتجز السيارة والرجل، وأنهم يحققون معه حيث استمر التحقيق مدة أسبوع كامل.
تم إيقافي للسبب ذاته في السجن لمدة يومين، لكن وجود أوراق الملكية لسيارتي وشهادة السواقة وعقد الشراء وغيره من الأوراق، هو ما جعلهم يفرجون عني وعن السيارة والرجل الذي أخرجها. بعد هذا العذاب قررت النزوح إلى تركيا، لكن المصاعب لم تقف عند هذا الحد فقد بعت سيارتي وحملت أطفالي هارباً بهم من جديد، استغرقت رحلتنا يومين لم نستطع خلالهما الحصول على موافقة سفر من ديوان الحسبة في منبج، لكن أحد الأشخاص أخبرني أنه يستطيع تهريبي من حاجز تنظيم الدولة الأخير الموجود في قرية إحرص مقابل مبلغ مادي وصل بعد المفاوضات إلى 40 ألف للشخص الواحد.
خرجنا ليلاً مشياً على الأقدام لنعبر هذه المسافة البالغة 8 كم ذقنا خلالها الأمرين، حيث الخوف والبرد وبكاء الأطفال وتعب المسير، لقد ألقينا بكل ما حملناه معنا حتى نستطيع المتابعة والوصول إلى هنا في النهاية.
الطريق إلى الحدود
دخل علينا صلاح قائلاً: جهزوا أنفسكم، اتصل بي المهرب وهو يقول إن الطريق آمن. على الفور حملنا حقائبنا التي لا تحوي سوى القليل من اللباس، وركبنا سيارة المهرّب مع دعوات صلاح لنا بالتوفيق.
كان صلاح هو واحد من سماسرة مهربي البشر، يستقبل اللاجئين عند لحظة وصولهم ليخبرهم أنه يستطيع مساعدتهم في الوصول إلى تركيا بطريقة سهلة وآمنة. كانت الطريقة الوحيدة لدخول الأراضي التركية هي السير على الأقدام من أحد الممرات التي يقول المهربون إنهم اشتروها، أي دفعوا لتأمينها.
كان المهرب يدفع مبلغاً مادياً لعناصر من حرس الحدود التركي، على حد زعمه، لكن تبين فيما بعد أنه كاذب. كان المهربون يتقاضون مبالغ كبيرة مقابل إدخال اللاجئين تصل إلى 200 دولار للشخص الواحد وربما أكثر، مدعين أنهم لا يتقاضون سوى مبلغ زهيد، وأن الباقي هو لتأمين دخول اللاجئين.
دفعنا المبلغ المطلوب لصلاح، الذي أخبرنا أننا لن ندفع أي مبلغ آخر حتى دخولنا الأراضي التركية، وكان الاتفاق أن يأخذ صلاح 100 دولار عن كل شخص بالغ، و100 دولار عن كل ثلاثة أطفال.
بعد معاناة وتعب وصلنا إلى نقطة الدخول، وكانت السيارة قد توقفت عدة مرات في مناطق مختلفة وتم تبديلها بسيارة أخرى، وكنا قد خضعنا للتفتيش على عدة حواجز.
التيل
نقطة الدخول هي عبارة عن منطقة زراعية يفصلها سلك شائك يسمى بلغة المهربين (التيل)، كان الوقت ليلاً والسكون يخيم ولا تقطعه سوى أصوات حرس الحدود التركي، وهدير محركات سياراتهم.
جلسنا، عائلتي وعائلة أبو إبراهيم، على الأرض بهدوء تام كما طلبَ منا المهرب، وحتى الأطفال لم ينبسوا بكلمة. كان الترقب والخوف سيدا الموقف، لم نكن وحدنا بل كانت المنطقة تغص بالعائلات على الأرض وبين الأشجار، رغم برودة الطقس.
بعد مرور ساعة طلب المهرب منا الدخول من فوق السلك الشائك والهرولة لمسافة 200 متر للوصول إلى المهرب التركي الذي ينتظر على الطرف الآخر كما ادعى، والذي كان على تواصل معه دون أن يعرف حتى اسمه.
كان الاتفاق أنه إذا أمسكَ بنا الحرس التركي فإنه سيرجعنا إلى نقطة البداية حيث يكون المهرب بانتظارنا، وبالفعل هذا ما حدث، إذ لم ندخل سوى بضعة أمتار حتى أحسَّ بنا الحرس وبدأوا بالصراخ، أكمل أبو إبراهيم وعائلته الركض بسرعة حيث لم يكن عنده أطفال صغار، واستطاع الوصول للمهرب التركي، أما أنا فلم أستطع العبور بسبب أطفالي الذين كنا نحملهم أنا وزوجتي بأيدينا.
بدأ الجندي التركي بالصراخ علينا، فتوقفنا في مكاننا خوفاً وهلعاً، خاصة بعد سماع إطلاق نار في الهواء. تم تجميع العائلات أمام مكتب الضابط التركي، ومن ثم خرج ليأمر بإعادتنا إلى النقطة التي دخلنا منها دون أي أذى أو تعدي علينا من قبل الجندرما التركية.
حاولنا الدخول ثلاث مرات لكننا لم نفلح، على الرغم من أننا ألقينا جميع ما نحمل، ولم يبق معنا سوى ملابسنا التي نرتديها. بدأت الشمس بالشروق فأخبرنا، المهرب أن الوقت قد فات، وأننا سننتظر في مكاننا حتى غياب الشمس، لنعيد الكرة.
العبور
لم أستطع وعائلتي النوم من شدة البرد والخوف على الأطفال الذين أنهكهم الجوع والعطش في تلك المنطقة المقفرة، وزادَ في قلقنا حديثُ بعض الموجودين في المنطقة أنهم قضوا أربعة وخمسة أيام، وأن البعض عاد إلى منطقته بعد أن يأس من العبور.
بقي الخوف سيد الموقف حتى غياب الشمس، حيث جاءنا المهرب ليخبرنا أنه وجدَ طريقاً أخر لكنه طويل بعض الشيء.
وافقنا تحت ضغط الخوف والبرد، وبالفعل كان الطريق عبر الأودية والجبال، تصل مسافته إلى حوالي كيلومترين قطعناهما وقد أنهكنا التعب والخوف، لكننا وبعد مسير أكثر من أربع ساعات، وصلنا إلى الجانب التركي من الحدود، حيث كان المهرب التركي بانتظارنا.
اضطررنا للرضوخ تحت التعب والخوف لطلب المهرب التركي بدفع مبلغ 100 ليرة تركية عن كل فرد، وهو ما لم نتفق عليه مع المهرب السوري، حيث صرف لنا الدولارات التي بحوزتنا بمبلغ هو أقل من السوق بحوالي الربع، لكنه منطق الاستغلال.
ذهبنا مع المهرب التركي إلى منزل متواضع، وطلبَ منا الانتظار حتى تأتي السيارة التي اتفق معها لتأخذنا، وحتى يرى حالة الطريق، فقد حدثت حالات كثيرة أُعيد فيها اللاجئون السوريون بعد دخولهم تركيا، حيث أُنزلوا من الحافلات التي تقلهم وأُخذوا إلى المخافر، ومن ثم تم تسفيرهم إلى خارج الحدود.
اضطررنا للانصياع لما يقوله المهرب التركي، وبالفعل تم نقلنا بالحافلة إلى منطقة كِلِس، وعلى الرغم من أن الأجرة كانت مضاعفةً، إلا أن ذلك كان أفضل كما أقنعت نفسي، لنصل بعد رحلة دامت أسبوعاً إلى منزل أقاربنا في مدينة أورفا التركية، وتبدأ من هناك رحلةٌ مضنيةٌ جديدة في البحث عن مكان للاستقرار.
كانت تلك نهاية رحلة نزوحنا المخيف، لكنها لم تكن نهاية المتاعب والآلام على أي حال.