ساعة وصول بشار الأسد إلى السلطة في سوريا لم تكن بلا تبعات فورية على حياتنا. والدي كان قد توفي قبل أسابيع منتظراً في طابور تصوير الطبقي المحوري وهو مصابٌ بجلطة دماغية، أشهرٌ فقط أصدر بعدها بشار الأسد قانوناً جديداً لتنظيم استئجار البيوت، لنخرج من بيت استأجره والدي سنة 1967 في حي المهاجرين، دفع فيه خلال تلك السنوات أضعاف ثمنه. صاحبُ المنزل ابن عائلة الحريري الميدانية قدَّمَ خمسة آلاف دولار لنخرج دون عفش البيت الذي اشتراه، واضطررنا للانتظار أسابيع لنستلم المبلغ من الملياردير بحجة نفاذ سيولته التي وضعها في بناء جامع كلّفه ما يعادل مليون دولار. رحلةُ الانتقال التي افترضنا أنها انتهت في منزل بمدينة حرستا القريبة من العاصمة، انتهت فعلاً بعد عشر سنوات في مكان قريب في ساحة العباسيين حين خرجنا نهائياً من المنزل المدمر حالياً بيد قوات بشار الأسد نفسه، ابن حافظ الأسد الذي أهدر عمر والدي وأعمار كثيرين بسرعة ووحشية في بعض المرات، وببطيءٍ أكثر وحشيةً في مراتٍ أخرى.
الأثمانُ هنا ليست شخصية وليست واقعة على ذاتٍ واحدة، كما أن الخلاصَ من هذه الإتاوات الدموية لم ولن يكون يوماً فردياً أو واقعاً على ذاتٍ دون أخرى.
في هذا المقال سأحاول تقديم حجج لدعم فرضيتي عن العلاقة الوثيقة بين منظومة العنف وعالم رأس المال كعلاقة بنيوية، لا كما يحبّ البعض وصفها بالعارضة أو الاضطرارية.
مورّدون!
نُشِرَت تقارير عديدة في السنوات الماضية ومؤخراً عن صلات وثيقة ومالية تصل إلى حد الشراكة، بين شركات عالمية تعمل في سوريا وبين تنظيم الدولة الإسلامية «داعش». التنظيم الذي عمل كمورّدٍ للمواد الأولية بالإضافة إلى تقديمه تسهيلاتٍ للتنقل والحماية لتلك الشركات، كان طوال فترات طويلة من وجوده حسب التقارير مورّداً أساسياً لهذه الشركات ومصانعها في سوريا، سواءً بالمواد الخام أو حتى باليد العاملة.
تحقيقُ صحيفة اللوموند، الذي نشرَ موقع الجمهورية ترجمته العربية، يعطي صورةً أوضح عن هذا التعاون بين عملاقٍ كبير، شركة لافارج الفرنسية لصناعة الإسمنت، والتي تعد أكبر شركات هذا القطاع عالمياً، وبين تنظيم الدولة الإسلامية.
من خلال تحليل بيانات هذا التحقيق، فإن عمل المصنع الذي استمر لفترات طويلة بكفاءة عالية تحت سيطرة داعش، أظهرَ علاقةً لم تقتصر على كونها اتفاقَ حماية بين الشركة والتنظيم، بل تعدتها إلى كون التنظيم مورّداً للمواد الخام من مناطقه لتصبح الشراكة أعمق مع التنظيم الدموي. هذه الصلات لم تكن مجرد صلات بحكم الضرورة أو الاضطرار، إنها علاقةٌ مبنيةٌ على خبرة واسعة لدى تلك الشركات العملاقة في التعامل مع منظومات العنف والاستبداد ومركباتها، وبالأحرى ارتياحها الشديد في التعامل مع تلك المنظومات. تلك العلاقة التي كُشِفَت بعض فصولها في التحقيقات الصحفية أو عبر وثائق مسربة كوثائق أبو سيّاف المدير المالي لداعش، أظهرت ميلاً واضحاً لدى تلك المؤسسات الكبرى إلى التعامل مع محتكري العنف وتمويلهم بشكل مباشر، ليس لحماية مصالحها فقط عبر إتاوة تدفع للمليشيات، بل عبر شراكة يتم من خلالها توريد المواد الخام وتأمين طرق النقل ووسائل النقل، وحتى في بعض الأحيان الاشتراك في دفع أجور العمال.
يدعمُ هذا الكلام تحقيقٌ آخر نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية بداية عام 2016 عن تعامل شركة الغاز الروسية ستروي ترانس غاز، التي يملكها الملياردير الروسي غينادي تيمتشينكو المقرب من بوتين، مع تنظيم داعش. وتكرارُ بعض التفاصيل في الحالتين يوضح مدى ارتياح هذه الجهات بالتعامل مع مثل هذه التنظيمات، وقيامها بتوقيع اتفاقات سريعة معها لا تضمن بقاء مؤسسات الشركة فقط، بل تضمن عملها واستمراره، ففي كل الحالات التي تم الكشف عنها في التحقيقات كانت آليات العمل واحدة، وتعتمد على بناء علاقة وثيقة عبر وسطاء وشخصيات تتبع مباشرة للشركة مع التنظيم لتسهيل إدارة المؤسسات والمعامل وحتى توريد المواد الخام إليها، مقابل اشتراك الطرفين (داعش والشركة العالمية) بنسب الأرباح التي لم تكن في أيٍّ من الحالات قليلة.
بالقيام بحسابات سريعة سنجد أن كل تلك القوى لم تحقق خسائر تذكر، بل بالعكس كانت تحقق أرباحاً كبرى في اللحظة ذاتها التي كانت فيها عائلتي وعوائل كثيرٍ من السوريين تخسر مدخرات حياتها وأعمار أبنائها ودماءهم.
في اللحظة التي كان فيها تنظيم داعش يقطع رؤوس شباب الشعيطات في دير الزور، وفي الوقت الذي كان فيه التنظيم يعدُّ العدة لهجماته على المدنيين في باريس وبلجيكا، كانت أطرافٌ دوليةٌ وشركاتٌ تعدُّ من كبرى شركات العالم تدير عمليات رابحة جداً بدون وسطاء في غالب الأحيان معه، لكن شبكة العلاقات هذه لم تكن جديدة ولا طارئة على سوريا في الحقيقة.
شراكة عميقة
عند مجيء حافظ الأسد إلى السلطة بعد الإطاحة بصلاح جديد أوائل السبعينات، علّقَ تجار سوق الحميدية الدمشقي لافتةً على باب السوق قالت: «طلبنا من الله المدد فبعتلنا حافظ الأسد»
أسماءٌ كبيرة من أصحاب المال والصناعيين في سوريا كانوا شركاء حافظ الأسد ومحبيه، واليوم أسماءٌ كبيرة من أصحاب المال والصناعة في سوريا هم شركاء ومحبو ابنه. رئيس اتحاد غرف الصناعة في سوريا فارس الشهابي، صاحب معامل ألفا الدوائية، كبرى معامل الأدوية في البلاد، والمرشح «الروسي» لرئاسة حكومة النظام
هذا التماهي بين عالم المال ومحتكري العنف والمنظمات الدموية، سواءً في سوريا أو عالمياً، يثبتُ هذا الميل الطبيعي لدى المؤسسات الرأسمالية الكبرى تجاه العنف لتحقيق مكاسبها المادية، وعلى الرغم من محاولة النخبة الاقتصادية السورية المدنية في حلب ودمشق تصدير صورة علاقتها بحافظ الأسد كعلاقة مع «فتوة» يفرض إتاوة على رجال الحارة المضطرين، إلا أن صوراً عديدة لأوضاع العمال السوريين تقف كشاهدٍ على شراكة دموية بينهم وبين نظام الأسدين، وربما كان التوصيف الذي استخدمه المفكر السوري صادق جلال العظم عن هذه الفئة كشركاء للنظام في النهار، وشاتمين له ليلاً في جلساتهم الخاصة، واستخدامهم للتحقير الطائفي والطبقي، هو أفضل توصيف لعلاقةٍ وشراكةٍ صنعت الأوضاع التي تفجرت عنها الثورة السورية.
هذه العلاقة التي تم الحديث عن الاستغناء عنها بفضل شبكة النظام المالية عبر موظفيه، وواجهاتٍ تعمل مباشرةً لصالح الحلقة الضيقة من عائلة الأسد، لم تتأثر حقيقةً. هؤلاء الصناعيون والتجار الكبار كانوا طوال الوقت مساندين وشركاء في هدر دماء السوريين وعرقهم، وشوارع العاصمة المالية اليوم دليلٌ على ذلك، فالمؤسسات المالية والبنوك الخاصة العائدة ملكيتها لرجال الأعمال كفارس الشهابي، مستمرة بالعمل في العاصمة تحت عين النظام، والمؤسسات الصناعية استمرت بالعمل ما أمكن ضمن شراكاتها مع النظام السوري أو مع أمراء الحرب في علاقة وجدت نفسها تتوسع ولا تضيق أثناء الثورة السورية وحرب النظام الأسدي على الشعب السوري، لتكون هذه العلاقة بين نظام الدم وأجهزته الأمنية، والرأسمالية السورية في دمشق وحلب وغيرها، علاقةً بنيويةً وجادة، لم تكن يوماً قائمة على الاضطرار أو الإكراه، بل شراكةً أدرّت المليارات على الطرفين عبر استغلال اليد العاملة السورية وإجبارها على العمل وفق أسوأ الشروط والقوانين. هذه الشراكة التي حكمت سوريا وما زالت تحكمها حتى اليوم، هي شراكة متجذرة في بينة مؤسسات جلبت أرباحها على حساب أعمار السوريين ودمائهم.
لا يمكن اليوم النظر إلى كل ما يجري في سوريا بعيداً عن هذه البنية الدموية، فتلك الشبكات والمنظومات لم تكن ابنة الضرورة بقدر ما كانت ميلاً طبيعياً لدى هذه المؤسسات، ومن دونها ما كان للمورّدين والمستوردين أن يبقوا على سلسلة الإنتاج التي تصهر أمام عيوننا وبكاريكاتورية سوداوية دماءنا وأشلاء شبابنا منتجةً أرباحاً وخراباً، ليصبح الخلاص من طرفٍ واحدٍ في هذه الشراكة خلاصاً عبثياً، فمنظومة رأس المال ستعيدُ بالضرورة إنتاج شريك جديد لها بالمواصفات ذاتها. هذه المنظومة هي كتلة واحدة، ومن الواجب تفكيكها وتدميرها بالكامل للخلاص من إتاوات الدم التي يدفعها اليوم السوريون وغيرهم في هذا العالم.