ليس الانتماء إلى تنظيم القاعدة عزيزاً على قلب أبي محمد الجولانيّ بالقدر الذي أشاعه مغرّدون مناصرون له، رأوا في فكّ ارتباط «جبهة النصرة» بالقاعدة تضحيةً كبيرةً أقدمت عليها الجبهة لصالح «الساحة الشامية»، ونزولاً عند رغبة حركاتها وفاعليها، ولا سيما من الجهاديين.
فالشابّ ذو العينين اللماعتين الطموحتين الذي ظهر في التسجيل الشهير مؤخراً، يعلن تحويل اسم جماعته إلى «جبهة فتح الشام»، لم يعرف أفغانستان ومختبرها الجهاديّ العربيّ والعالميّ إلا عبر الفيديوهات والكتب والروايات الشفوية. فكما هو معروف، بدأ جهاده الخاصّ في العراق منذ عام 2003 إثر الغزو الأميركيّ، وفي ظلّ الجماعة التي أسّسها الأردنيّ أبي مصعب الزرقاوي.
ومن المعروف أن الزرقاويّ، الذي كان مجاهداً أفغانياً عادياً ومغموراً أواخر ثمانينات القرن العشرين، عاد فسافر إلى أفغانستان عام 1999، إثر خروجه من الأردن بسجونه ورقابته المخابراتية اللصيقة، طامحاً في تأسيس جماعةٍ قاعديةٍ في «بلاد الشام»، الأمر الذي ساعدته القاعدة على تأمين متطلباته اللوجستية البسيطة الأولى، دون أن تتبنى هذه الجماعة أو تقبلَ منها البيعة. والحال أن ما أسّسه الزرقاويّ بالفعل في العراق كان «جماعة التوحيد والجهاد»، الاسم المستوحى من شيخه الأردنيّ، المرجع الجهاديّ الشهير أبي محمد المقدسيّ، كجماعةٍ سلفيةٍ جهاديةٍ مستقلة. ولم يعاود الزرقاويّ طلب بيعة القاعدة إلا في الشهر الأخير من عام 2004، وهو الأمر الذي وافقت عليه هذه المرّة، ولمدّةٍ قصيرةٍ كان الارتباط فيها شكلياً، كما توضّح مراسلات أسامة بن لادن المعروفة باسم وثائق آبوت آباد، قبل أن يسارع الزرقاوي، في كانون الثاني من 2006، إلى تأسيس ما سمّي «مجلس شورى المجاهدين» كمظلةٍ جهاديةٍ عراقيةٍ شاملة، أوصلت إلى حلّ الفصائل المنضوية تحتها، بما فيها فرع القاعدة العراقيّ هذا، وتأسيس «دولة العراق الإسلامية» أواخر العام نفسه. وهذا الحلّ هو ما أتاح لداعش لاحقاً إنكار التبعية التنظيمية الشرعية للقاعدة، ورفض الاستجابة لأميرها أيمن الظواهري بالعودة إلى العراق، عندما انفجر الخلاف مع جبهة النصرة في عام 2013 وحتى الآن.
في هذا المحضن من حالة «ما بعد القاعدة»، إن صح التعبير، ترعرع الشابّ العشرينيّ الذي سيصبح أبا محمد الجولانيّ، وتكوّنَ وقاتلَ وسُجن. شهد صعود «دولة العراق الإسلامية» وانحسارها، ولا يبدو أن الذكاء كان ينقصه لاستخلاص العِبر. ووفق معلوماتٍ داخليةٍ صارت معروفة، اقترح على أميره أبي بكر البغداديّ إيفاده إلى سورية إثر اندلاع الثورة فيها، لإيجاد موطئ قدمٍ للسلفية الجهادية هناك، وهو ما كان. فقد أرسلت «الدولة» الجولانيّ برفقة عددٍ من الخبراء، سيكون لاثنين عراقيين منهما شأنٌ وازنٌ في الصراع القادم؛ وهما حجّي بكر (سمير عبد محمد الخليفاوي، العقيد في مخابرات صدام حسين)، الذي اشتهر بوصفه أبرز مخططي «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، وقتل على يد الجيش الحرّ في ريف حلب في مطلع 2014، وأبو ماريا القحطانيّ (ميسر الجبوري)، ألدّ أعداء داعش في سورية ومتزعم جناح صقور محاربتها في جبهة النصرة، ومن حمائم التقارب مع الفصائل الإسلامية الأخرى وقوى الثورة، وإلى القحطاني وإلى تياره يُنسب اليوم الضغط الذي أوصلَ إلى فكّ الارتباط الذي حصل.
لم يستطع الجولاني إقناع قيادته بالفكرة -والحصول على نصف ميزانية «الدولة» لتنفيذها- فحسب، بل ترأسَ المجموعة التي حوت من هو أهم منه. وإذا كان لسوريته دورٌ في ذلك، فإنها ليست عاملاً حاسماً في التيارات العابرة للحدود الوطنية، بقدر ما كان لمهاراته التنظيمية وحسن إدارته التوازنات الداخلية، وهي أمور باتت يتضح تميزه فيها أكثر فأكثر مع تقدّم عمر النصرة وانتشارها. وكان من ثقة الشابّ بنفسه أن منح نفسه لقب «الفاتح»، في أوّل إصداراته الصوتية مطلع 2012، ولم يكن قد بلغ الثلاثين وقتها وفق أرجح التقديرات.
بالتدريج راحت الغنيمة تسمن، مع تقارير متكرّرةٍ وردت إلى البغداديّ وأركان مجلس شوراه، تشكّ في النزوعات الاستقلالية للـ«مسؤول العام» للتنظيم الذي تصاعدت شعبيته الداخلية وقدرته على استقطاب الجهاديين من الخارج، كما استطاع الاستيلاء على موارد ماليةٍ مغرية. فكان أن قرّر هؤلاء كشف الغطاء والإعلان عن تبعية التنظيم لهم، وعن «تمدّدهم» من العسر الصحراويّ العراقيّ الذي كانوا فيه إلى أراضٍ شاسعةٍ خرجت عن سلطة الحكم الأسدي، فأعلن البغداديّ عن قيام «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، في نيسان 2013 كما هو معروف، ليستنجد الجولانيّ بالقاعدة فوراً، معلناً بيعته لها.
منذ دخوله إلى سورية وحتى هذا الإعلان، لم تكن للمبايع الطارئ صلةٌ منتظمةٌ ومستمرّةٌ بالقاعدة التي كانت تميل في البداية إلى توجيه المستنصحين إلى جماعاتٍ أخرى في سورية. بل إن الظواهريّ أبدى امتعاضه من الطريقة السريعة والعلنية التي سارت بها الأمور، لكنه قبل البيعة في النهاية، و«أمر» العراقيين بالعودة عن إجراءاتهم فرفضوا، وبدأ الشقاق الكبير في السلفية الجهادية.
طوال هذا الشقاق، والحرب التي تلته، كانت النصرة في أمسّ الحاجة إلى غطاء القاعدة في الصراع مع غريمتها داعش على الموارد البشرية (المهاجرين) والمالية للسلفية الجهادية العالمية، والتي لا تُستقطَب دون الحصول على «الشرعية». ومن هنا رفضت النصرة مطالب متكرّرةً من الفصائل الإسلامية وغير الإسلامية السورية بفكّ ارتباطها عن التنظيم المصنّف إرهابياً، وما يتبع ذلك من إشكالاتٍ تترتّب على التعاون مع فرعه. أما الآن فيبدو أن الحرب على الشرعية قد استقرّت على خطوطٍ ثابتة؛ بانحياز معظم مرجعيات السلفية الجهادية إلى معسكر النصرة، وجفاف ضرع المهاجرين بعد أن احتقن طوال سنوات الانحسار الجهادي العراقيّ بعد 2008، فضلاً عن الإجراءات الدولية للحدّ من هذا السيلان باتجاه سورية عبر الحدود التركية أساساً، وبعد استنزاف مصادر الدعم الصديقة للقاعدة وضرورة الانفتاح على مصادر لا تستطيع دعم «الإرهاب» إن أرادت، أو لا تريد ذلك بالفعل. أما داعش فقد استسلم «عقلاء» السلفية الجهادية إلى حقيقة أن لها جمهورها الخاصّ الثابت من مراهقي الجهاد وسيكوباتييه، وأنها باتت تعتمد على التمويل الذاتيّ (النفط والغاز والجبايات المختلفة) الذي تتعذّر منازعتها عليه إلا بالحرب. فضلاً عن أنها أصبحت في طريق الانحدار البطيء بسبب استعدائها العالم بأسره، وهو الأمر الذي يحاول الجولانيّ أن يتجنّبه.
ثم إن القائد الصاعد لم يخسر شيئاً من حصيلته العالمية السابقة، فقد حرص على الحصول على تفويضٍ مسبقٍ من التنظيم الأم بالانفصال، وجعل على يمينه في البيان المصوّر أبا الفرج المصريّ، كدلالةٍ على مكانة المهاجرين المستمرّة. وأيّ شيءٍ كانت ستقدّمه القاعدة للتنظيم الجديد بعد؟ يدرك الجولانيّ جيداً مدى طللية الهيكل ورمزيته، وخواء خزينته المالية، واقتصار العلاقة الفعلية به على مراسلاتٍ تُحمل باليد فتستغرق شهوراً، وعلى موفدين من ذوي اللحى الشائبة والتوجيهات العامة.
لعبت دينامياتٌ عميقةٌ ومعقدةٌ وغير واعيةٍ دورها في التلازم بين إماطة الجولانيّ اللثام عن وجهه لأول مرّةٍ والإعلان عن مشروعه الخاصّ، لأول مرّةٍ كذلك، دون غطاءٍ من «الدولة» أو القاعدة. والآن يخوض الشابّ الطموح مغامرته المنفردة، في مطلع ثلاثيناته، وهدفه استثمار موارد الجهادية (والثورة) السورية، عينه على حركة أحرار الشام وسواها، بإمكانياتها البشرية والعسكرية وعلاقاتها الخارجية وتمويلها «المشروع»، يتطلع إليها بجسده المكتنز لتكون وجبته القادمة، تمهيداً لإعلان إمارته في وسط سورية في الوقت الذي يراه مواتياً.