هذا مقالٌ في الأصول الفلسفية للاشتراكية التحررية، كما يراها الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي.
في الزمن الراهن، أرى أننا بحاجة إلى إحياء مذهب يساري تحرري، يستطيع مواجهة التحديات الفكرية والعملية لعالمنا المعاصر، ويفتح المجال لمشاركة أوسع قطاعات من الناس في بناء حياتهم وتقرير مصيرهم. لذا، أقترحُ أن نعيد قراءة مفاهيم الاشتراكية التحررية، كما نجدها عند أقطابها: كروزا لوكسمبورغ، جورج أورويل، باكونين، كروبوتكين، برتراند راسل، نعوم تشومسكي، وغيرهم. لا نريد أن نقدّس نصوص هؤلاء المفكرين، بل أن نستفيد من أعمالهم لحلِّ الأسئلة المعاصرة والآنية. هناك اختلافاتٌ بين هؤلاء المفكرين، وهناك تقاطعات. اختياري لتشومسكي يأتي من الأهمية الاستثنائية لعمله الفلسفي، كما سنوضّح في متن المقال. مفهوم تشومسكي عن الطبيعة البشرية يتيح لنا بناء تيار فكري فوضوي اشتراكي تحرري عابر للثقافات
يتميز عمل تشومسكي بغناه الاستثنائي على صعيدين مختلفين تماماً: اللسانيات والنشاط السياسي. يُروى أن طلاباً من اليابان لم يصدّقوا أن الناشط السياسي تشومسكي هو اللغوي نفسه، تشومسكي صاحب القواعد التوليدية. أعمال تشومسكي تتوزع بين هذين القطبين، وتكاد تخلو من أي عمل متكامل يجمعهما معاً. باستثناء بعض المحاضرات والمقالات التي يتطرّق فيها إلى العلاقة بين النشاطين عرضاً، لا نجد شرحاً وافياً للعلاقة الملتبسة بين الحقلين
ينقسم مقالي إلى ثلاثة أقسام. الأول يناقش أسس العمل السياسي عند تشومسكي، والثاني الأصول الفلسفية للاشتراكية التحررية كما يراها فيلسوفنا، أما القسم الأخير فهو محاولةٌ للاستفادة من عمله في تطوير تيار عريض كوني لليسار التحرري، عابر للثقافات، في عالم اليوم.
النشاط السياسي: خطوط عامة للعمل التحرري
لا نريد هنا أن نستعرض عمل تشومسكي السياسي ونشاطه في فضح سياسات الولايات المتحدة وحلفائها. هذا الأمر أُشبع بحثاً وتحليلاً وتبجيلاً من قبل فئات يسارية تعادي إمبريالية أمريكا. لا يعنينا هذا الجانب من عمل تشومسكي، ولا نرى بأننا نستفيد منه كثيراً؛ بل على العكس، نرى أنه استُخدم من قبل منظّري السلطات عندنا للدفاع عن مواقفهم المنحازة لأنظمة قمعية تبرر وجودها بمواجهتها المفترضة مع إسرائيل وأمريكا. يحتاج هذا الأمر، أي توظيف تشومسكي وغيره من اليساريين، سواء بموافقتهم أو بالرغم عنهم، في الدفاع عن ديكتاتوريات العالم الثالث، مقالاً منفصلاً. ما يعنينا هو التنظير لاشتراكية تحررية تساعدنا على التخلص من أنظمة الطغيان القائمة عندنا. في هذا المجال، هناك كثيرٌ مما يمكننا الاستفادة منه في عمله، ومما يتجاهله منظّرو السلطات القمعية عامدين.
سنعمل، إذاً، على عرض الأسس التي يقوم عليها فكر تشومسكي السياسي، على أن نربط بينها وبين مفهوم الطبيعة البشرية في القسم التالي.
الملاحظة الأولى المثيرة في عمل تشومسكي، هي أن نشاطه السياسي المباشر لا يرتبط بعمله اللغوي والفلسفي. أكثر من ذلك، يرى تشومسكي أننا يجب ألا نربط بين العمل السياسي والفلسفي، بل يجب التمييز بين هذين العملين، قدر الإمكان
ثلاثة أسباب، متداخلة، تدعوه لتبني هذا الموقف.
أولاً، يعتقد تشومسكي أن معرفتنا بالإنسان ما زالت قاصرة وبدائية. لا يوجد معرفة علمية حقيقية في مجالات علم النفس والاجتماع والإنثروبولوجيا
على أي حال، الفعل السياسي ليس مرتبطاً بهذه الأسئلة النظرية. يعتقد تشومسكي أن علينا العمل لمواجهة الظلم وتحكم السلطات بالناس العاديين مباشرةً. من الخطأ الاعتقاد بأن العمل السياسي والدفاع عن المظلومين، يجب أن يؤجّل إلى أن نجد أجوبة شافية لأسئلة فكرية معقدة حول ماهية الإنسان وطبيعته
في ظل هذا الجهل بطبيعة الإنسان، ما الذي يمكننا فعله؟
يرى تشومسكي أن الحسّ الإنساني السليم والفطرة البشرية الأخلاقية تستطيع أن تخبرنا ببساطة بالأحكام الصحيحة أخلاقياً، وهذه هي النقطة الثانية. يؤمن تشومكسي بأن الناس يعرفون الصواب والخطأ مباشرةً، وأن العمل على كشف الأكاذيب الحكومية يحقق نتيجة مباشرة: أن يرى الناس الواقع كما هو، وبالتالي سيعمل البشر على تغيير الواقع. لسنا بحاجة إلى نظريات أخلاقية معقدة وعميقة، بل بحاجة إلى كشف الزيف الحكومي. ما الذي نحتاجه لإدانة قصف غزة أكثر من الوقائع؟ أو لإدانة تدمير فيتنام على يد الولايات المتحدة او اجتياح الاتحاد السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا وأفغانستان؟ ما الذي نحتاجه لإدانة النظام السوري أكثر من وقائع مفصلة حول تدمير المدن السورية بالبراميل؟ هذا يفسر لنا لماذا يعمل تشومسكي على سرد وقائع حرب فيتنام والقضية الفلسطينية بالتفصيل. عرض الحقائق، وحده، يكفي للوصول إلى حكم أخلاقي حول الصواب والخطأ
النقطة الثالثة في وجوب التمييز بين العمل النظري الفلسفي وبين النشاط السياسي والإيديولوجي. ليست السياسة والمقدرة على الحكم الأخلاقي حكراً على الخبراء، من سياسيين ومثقفين وإعلاميين وأساتذة جامعة وكتّاب وصحفيين وفنانين. أحد أهم وأقوى أسلحة السلطة هو الادعاء بأنها، أي السلطة، أو الدولة، أو حتى معارضتها الرسمية، أي الأحزاب التي تشكل بنية إيديولوجيّة تعكس بنية السلطة، أو تكون جزءاً منها، هو القول بأن الخبراء فقط يستطيعون اتخاذ القرارات السياسية الهامة. هذا سلاح يجب تحديه وإسقاطه. كما قلنا أعلاه، معرفتنا العلمية بالإنسان شبه معدومة، لذا فالقول إن الخبراء يستطيعون قيادة المجتمع قول فارغ مبني على كذبة تافهة: في الحقيقة، كل الناس يتمتعون بالمقدار نفسه من المعرفة في الشؤون السياسية والأخلاقية؛ وكلنا نجهل ما هو الإنسان، تقريباً
تحاولُ الحكومات أن تقنع مواطنيها بأنهم في أيدٍ أمينة، أيدٍ خبيرة تعرف ما هو الصواب وما هو الخطأ، وتوجههم في الدروب الصحيحة. تتحكم السلطات بنا عن طريق هذه الكذبة. منذ الستينيات، رأى تشومسكي أن الاتحاد السوفييتي وطليعته الثورية وقيادته الشيوعية، والديموقراطيات الغربية، بتشويهها للديموقراطية، تحولت إلى ديكتاتوريات تتحكم بالناس عن طريق الإعلام، وجهاز كامل من الأكاذيب: المدرسة والجامعة والصحف وغيرها من وسائل التحكم. هذا التحكم يجب مواجهته وفضحه، عن طريق فضح كذبة الخبراء: لا خبراء في السياسة والأخلاق
يصرّ تشومسكي على أن كافة الدراسات السياسية يجب أن تُكتب بسلاسة ووضوح وصدق. من هنا ينبع احتجاجه على التذاكي والشطارة والغموض الذي يطبع كتابات فلاسفة القارة، ككتابات لاكان وديريدا وجيجيك وغيرهم. يتبع تشومسكي هنا تراثاً أصيلاً في الفلسفة يُعلي من الوضوح والدقة ويحتقر الغموض والتذاكي، من أقطابه ديكارت وجون لوك وديفيد هيوم وجون ستيوارت مل. على أن هذا الأمر أصبح أكثر أهمية في القرن العشرين، حيث انفصلت الفلسفة التحليلية عن فلسفة القارة. برتراند راسل وكارل بوبر وجون سيرل و ج. ل. أوستن وغيرهم أشاروا إلى أهمية الوضوح والدقة في الكتابات الفلسفية والفكرية أيضاً. يوافق تشومسكي على أن بعض الكتابات العلمية قد تتسم بالصعوبة، ولكن لا يوجد أي صعوبة في السياسة والأخلاق والكتابات الاجتماعية. يسعى بعض الكتاب قاصدين إلى إحاطة أنفسهم بهالة من القدسية عن طريق نصوص سخيفة وغامضة، علّهم يكسبون بعض الأتباع. لا شيء أكثر إساءة للفعل السياسي من هذه النصوص
من هنا، كان تشومسكي يقول بوجود مسؤولية أخلاقية على المثقفين والأكاديميين؛ يتمتع هؤلاء بفرصة أكبر لرؤية الحقائق كما هي، ويتمتعون أيضاً بمكانة وحصانة نسبية في الدول الديموقراطية تتيح لهم أن يجدوا جمهوراً يصغي إليهم. المسؤولية تقتصر على عرض الحقائق وقول الحقيقة للناس. لا يوجد عمق نظري حقيقي، ولكن هناك شجاعة في عرض الحقائق وحاجة ماسة إلى وضوح ذهني لفضح وكشف شبكة الأكاذيب السلطوية. الإيديولوجيا تتحكم بوسائل الإعلام وبالتعليم وبالخطابات الرسمية؛ المسؤولية الرئيسية للمثقفين تكمن في فضح هذه الإيديولوجيا.
على أن تشومسكي يرى أن دور المثقف ينحصر بشكل شبه كامل في المجتمع الذي يعيش فيه المرء. على سبيل المثال، تشومسكي المثقف اليهودي الأمريكي يخصص نصف أعماله لانتقاد الولايات المتحدة وإسرائيل. يقدّر تشومسكي عالياً المنشقين اللذين ينتقدون مجتمعاتهم ودولهم. لا يوجد أي معنى ثقافي نقدي حقيقي في المثقف الأمريكي الذي ينتقد غياب الديموقراطية في المشرق، أو قمع الأقليات أو المثليين أو المرأة في دول العالم الثالث، ولكنه يصمت، بل ويشجع، تدخل الولايات المتحدة ودعمها لطغاة مصر والسعودية، على سبيل المثال. الأمر نفسه ينطبق على مثقفين عرب ينتقدون إسرائيل والولايات المتحدة ليل نهار، ولا يجرؤون على الإشارة إلى قصف حلب بالبراميل أو إلى اعتقال مئات الشباب في مصر السيسي أو الإعدامات في المملكة السعودية. الدور النقدي، من وجهة نظر أخلاقية، ينحصر في القدرة على التأثير على الناس، وعلى تغيير مجرى الأحداث، والتأثيرُ يكون أعمق وأبعد مدى عندما ينبع من الداخل. لا يستطيع المثقف الأمريكي التأثير علينا، كما لا يستطيع مثقفنا العتيد التأثير على الجمهور الأمريكي. حقيقةً، انتقاد الطرف الآخر يصبّ في توكيد ودعم المنظومة الإيديولوجية القائمة في الأصل على شيطنة الآخر، وعلى كوننا نحن الأخيار. لذا، هؤلاء اللذين يتخلون عن دورهم النقدي، متنكرين بشكل أعداء الإمبريالية هم في الحقيقة أصدقاء للطغيان، وللإمبريالية أيضاً، في العمق؛ والمثقفون الأمريكيون اللذين يريدون لنا الديموقراطية، وينتقدون الثقافة الإسلامية باستمرار، صامتين عن جرائم أمريكا، هم أعداء للديموقراطية في العمق
لا بأس من الإطالة هنا قليلاً. يُخطئ من يبحث عند تشومسكي على إجابات ومواقف واضحة لتحدياته الآنية. تشومسكي، أدان ديكتاتورية القذافي وصدام حسين وحافظ الأسد وابنه، وسمّاهم بالاسم. أيضاً، أدان وبشدة الاتحاد السوفييتي واستعباده للبشر، من لينين وتروتسكي، إلى ستالين وخروتشوف وبقية الرفاق، وأدان الخمير الحمر وديكتاتوريات العالم الثالث. إلا أن موقفه من الأحداث التي تقتضي مواجهة طغاة لا يتبعون مباشرة لأمريكا معقّد وغير مريح، برأيي.
لا يلتزم تشومسكي بالدور الذي رسمه لنفسه، غالباً ما يعلّق على الصراعات التي لا تتعلّق بالضحايا المباشرين للسياسة الخارجية الأمريكية من وجهة نظر الناصح الذي يحذّر من الدور الأمريكي المخرّب، متجاهلاً بعض الحقائق والأرقام، التي يبرزها بوضوح في حالات العداء لأمريكا. يبدو في مثل هذ الصراعات كأنه يطلب من الناس أن تلتفت إلى خطر مفترض بعيد بدلاً من مواجهة طغاة مفسدين مباشرين، ويكاد يتماهى أحياناً مع أولئك اللذين ينتقدهم باستمرار: من يبررون الطغيان باسم اليسار. هكذا، تكاد تمّحي الفوارق بينه وبين مناصري اليسار التسلطي الذي يعاديه تشومسكي نفسه
في التحذير من حكم الخبراء، ينطلق تشومسكي من أفكار فوضوية معروفة تتجه إلى الناس لا إلى السلطات. يرافق ذلك شكٌّ عميق بفعالية الديموقراطية التمثيلية؛ ويطالب بتنظيمٍ اجتماعيٍ يعتمد على المشاركة المباشرة للناس في تسيير شؤون حياتهم. يكرر تشومسكي أن لا شيء أصيلاً لديه ليضيفه إلى التراث الفوضوي، ينطبق الأمر ذاته على انتقاداته للرأسمالية.
تُشكّلُ الأفكار السابقة أسس عمل تشومسكي السياسي، وتتلخص في النقاط التالية: يجب التمييز بين العمل النظري الفلسفي والعمل السياسي؛ كل الناس يشتركون في الملكة الأخلاقية التي تتيح لهم الحكم على الوقائع السياسية الأخلاقية بسهولة ويسر، ولا يوجد أي سبب للادعاء بأننا نملك نظريات علمية اجتماعية أو نفسية عميقة. على المثقف والأكاديمي مسؤولية فكرية لكونه يملك منابر عامة ويستطيع الوصول إلى الحقائق، وعليه أن يستغل هذه المنابر لفضح السلطات وإيديولوجيتها التي تسعى إلى السيطرة على البشر. الناس هم من سيغيرون الواقع: الناس العاديون اللذين يجب أن يحصلوا على حقهم في تقرير حياتهم وإدارتها، كما قال الفوضويون.
القسم التالي سيناقش صلة الوصل بين العمل الفلسفي النظري والنشاط السياسي الفوضوي.
الأصول الفلسفية للاشتراكية التحررية: الطبيعة البشرية
قلنا إن تشومسكي يميز بين عمله السياسي وعمله الفلسفي/اللغوي؛ وأحد أسباب هذا التمييز أن العمل السياسي لا يحتاج إلى نظريات علمية ولا إلى فكرٍ عميق، بل يحتاج فقط إلى شجاعة ووضوح، على العكس من العمل اللغوي الذي يدخل ضمن النطاق العلمي. على الرغم من ذلك، هناك صلة وصل بين العملين. في هذا القسم سنشرح هذه الصلة، ألا وهي مفهوم الطبيعة البشرية، وكيف تربط بين العمل السياسي والفلسفي.
سنبدأ بعرض مفهوم الطبيعة البشرية كما يراه تشومسكي، من خلال تقديم رؤيته للصراع بين التجريبيين والعقلانيين، ثم سننتقل إلى الجانب السياسي من صراع التجريبيين والعقلانيين، وفي النهاية إلى تأصيل الاشتراكية التحررية في مفهوم الطبيعة البشرية، أي الصلة المباشرة بين الفلسفة والسياسة.
يشكل الصراع بين التجريبيين والعقلانيين أحد أهم أوجه الصراع الفكري في تاريخ الفكر الغربي، وفي مقال سابق (تشومسكي قارئاً راسل) عرضتُ بعض جوانب هذا الصراع بتبسيط. سأكرر هنا العرض الرئيس للتيارين المذكورين كما ورد في المقال السابق، متعمّقاً في التفاصيل، قبل أن نبحث في النتائج السياسية لكل منهما.
يتمحور تاريخ الفلسفة الغربية، منذ القرن السابع عشر، حول صراع التجريبيين والعقلانيين الذي يدور حول السؤال التالي: هل المعرفة البشرية مكتسبة من خلال التجربة أم فطرية؟ قال التجريبيون إن المعرفة تأتي عن طريق الخبرة والتجربة؛ في حين قال العقلانيون إن جزءً رئيساً من المعرفة فطريٌ غير مكتسب، وإن جميع الناس يشتركون، بالولادة، بمجموعة معارف ثابتة
منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، سيطرت التجريبية بشكل شبه كامل. أتت ثورة تشومسكي في اللسانيات لتبعث العقلانية من جديد. لأكثر من خمسين سنة، دافع تشومسكي عن أطروحته البسيطة القائلة بأن قواعد اللغة معطاة بيولوجياً، فطرياً، لجميع البشر، وأن هذه القواعد التوليدية العامة تشترك فيها جميع اللغات البشرية. اليوم، في علم اللغة، يرى الباحثون أن تشومسكي وخلفاءه قد ربحوا المعركة. لم يعد أحد تقريباً يؤمن بأن معرفة اللغة مكتسبة فقط عن طريق التجربة والبيئة، في العالم الأنكلو-ساكسوني على الأقل.
لنسجل بدايةً أن العقلانيين يؤكدون بالطبع أن جزءاً كبيراً من المعرفة يُكتسب عن طريق الخبرة والتجربة، ولكنّهم يُصرّون على أن بعض المعرفة يجب أن تكون فطرية. حجم وطبيعة هذه المعرفة الفطرية، وماهيّتها بالضبط، هو السؤال الذي تحاول الفلسفة، وبقية علوم العقل، الإجابة عليه اليوم. ولنسجل أيضاً أن هناك فارقاً بين فطرية القرن السابع عشر وفطرية القرن العشرين
أحد أبرز إنجازات تشومسكي الفلسفية تكمن في إعادة قراءة الصراع بطريقة جديدة ومختلفة. ما هو الجديد في قراءة تشومسكي، بالضبط؟
يرى تشومسكي أنه لا يوجد تجريبيون راديكاليون، بمعنى أنه لا يوجد شخص عاقل يُنكر وجود بنية فطرية في الدماغ تسمح لنا بتلقّي المعلومات والخبرة من البيئة المحيطة بنا. لو لم تكن مثل هذه البنية موجودة ومحددة بيولوجياً منذ الولادة، لما استطعنا تلقي أي معلومات من البيئة. لا يوجد أي خيار آخر، ولا يوجد أدنى احتمال بعدم وجود مثل هذه البنية: عدم وجود بنية تسمح بتلقي الخبرة، يعني عدم القدرة على تلقي الخبرة. إنكار هذه البنية هو لغو فارغ غير معقول على الإطلاق. بهذا المعنى، يعيد تشومسكي قراءة الصراع على أرضية مختلفة تماماً: هناك بنية تسمح بتلقي المعلومات، والصراع بين العقلانيين والتجريبيين يدور حول ماهية هذه البنية.
تشومسكي يقرأ بطريقة مختلفة أقطاب التجريبية، لم يكن معظمهم تجريبيين راديكاليين، لأن هذ الموقف غير معقول. هيوم، الذي يؤخذ عادةً على أنه أبو التجريبية، يقول بوجود بنية سطحية بسيطة. ولكن تشومسكي يجادل بأن البنية الفطرية معقدة وشديدة الغنى، وتختلف بعمق بحسب الأنواع البيولوجية، وتختلف أيضاً بحسب القدرات المختلفة لكل نوع، وتختلف، أيضاً، بدرجات مختلفة وتبعاً للقدرات المدروسة، بحسب أفراد كل نوع. أي أن الخلاف بين التجريبيين والعقلانيين تحول إلى الأسئلة التالية: هل البنى الفطرية، تحديداً العقلية، تختلف بين الأنواع، وإلى أي درجة؟ هل البنى الفطرية، تختلف بحسب القدرات المدروسة، أي هل هناك بنى فطرية مختلفة عند الإنسان مثلاً، لكل من اللغة وحل المشاكل العلمية والتفاعل الاجتماعي والموسيقا وغيرها، أم أن هناك بينة واحدة لكل هذه القدرات؟ وهل البنى متقاربة أم مختلفة بين الأفراد؟ يجيب تشومسكي، والعقلانيون عموماً، بالإيجاب على كل من هذه الأسئلة، باستثناء الأخير، حيث الاختلافات، التي يُفترض وجودها، تتغير تبعاً للقدرات المدروسة، ولكنها قليلة الأهمية من وجهة نظر علمية وعملية. في حين ينحو التجريبيون إلى الإجابة بالنفي. المقصود أن الخلاف التجريبي العقلاني ما زال قائماً، ولكن على أرضية مختلفة: هل يتشكل الإنسان بشكل رئيس تبعاً لبيئته، أم تبعاً لبنية داخلية؟ يُعلي العقلانيون من شأن البنية الداخلية، في حين يُعلي التجريبيون من شأن البيئة المحيطة. لا ينكر أي منهما وجود بنية فطرية أو دور رئيس للبيئة؛ الخلاف حول درجة وطبيعة كلٍّ من هذين العاملين
هذه البنية الداخلية هي الطبيعة البشرية، التي نولد بها، وتميزنا عن الأنواع الحية الأخرى. لا ينكرها أحدٌ من الفلاسفة تقريباً
ننتقل الآن إلى الوجه السياسي للصراع التجريبي/العقلاني، كما يراه تشومسكي.
يرى تشومسكي أن انتصار التجريبية الراديكالية وإنكار الطبيعة البشرية، أو التجريبية على العموم بنسختها الأكثر اعتدالاً، يشكل أحد أعمدة حكم الخبراء الديكتاتوري، كما تجلى في القرن العشرين في الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. انتشرت التجريبية وسادت بشكل غير مسبوق في العلوم الإنسانية والاجتماعية في بدايات القرن العشرين، وترافقَ ذلك مع صعود اللينينية والستالينية من جهة، ومشروع السيطرة والتحكم بآراء الناس وتوجهاتهم في الولايات المتحدة منذ العشرينيات. يستند كلا المشروعين على تجريبية راديكالية عميقة تؤمن بإمكانية إخضاع البشر وتكوينهم بحسب رغبة الحكام والمدرسيّن والإعلام، أي بحسب رغبة السلطات، طالما أنه لا يوجد طبيعة بشرية، وطالما أن البشر يتشكلون بشكل كامل بحسب البيئة المحيطة بهم. تجسَّدَ انتصار التجريبية في سيادة المذهب السلوكي في تلك الفترة
يرى تشومسكي أن الجانب السياسي للعقلانية هو في العمق أقرب إلى التحرر منه إلى الطغيان، وحجته هي التالية: إن كان البشر يتشكلون بشكل كامل من خلال البيئة المحيطة، أي العادات والتقاليد والثقافة والتربية، سيتمكن أي طاغية يتحكم بالإعلام والتعليم والرقابة من إخضاع الناس لرغباته وسلطاته. هذه النتيجة بسيطة وتنبع مباشرة من الراديكالية التجريبية التي تنكر الطبيعة البشرية وترى أن الإنسان يتشكل بشكل كامل من خلال البيئة المحيطة. في المقابل، الفطرية تجعل البشر مقاومين لمحاولات تشكيلهم من قبل السلطات. للبشر طبيعة أصيلة، تجعلهم يقاومون محاولات قولبتهم وخلقهم بالشكل الذي تريده السلطات. الفطرية، في جوهرها، معادية للطغيان.
الحجة السابقة هي جوهر تفكير تشومسكي السياسي الفلسفي.
ثلاث نقاط بحاجة إلى شرح وتوضيح.
أولاً، لا يوجد علاقة ضرورية منطقية، ولا حتى تاريخية، بين التجريبية والطغيان أو بين العقلانية والحرية. أي أن العقلانية، أو التجريبية، من الممكن أن تخدم الحرية أو الطغيان. قد يرى القائل بالطبيعة البشرية أنها خلقتنا بشكل محدد وبمراتب معطاة لكل فرد، أو أن الرجل أذكى من المرأة، أو أن المثلية الجنسية انحراف عن الطبيعة البشرية، أو أن البيض أرقى من الملونين؛ كل هذا الكلام الفارغ قدمه دعاة الطغيان باسم الطبيعة البشرية. ولكن لم يقدّم أحد دليلاً علمياً على أن هذه الادعاءات تنتمي إلى الطبيعة البشرية.
من جهة أخرى، يبدو أن بعض التجريبيين، أي من ينكرون وجود طبيعة بشرية، يقفون إلى جانب الحرية. ألّا يكون للإنسان قدرٌ مسبقٌ مكتوبٌ عليه، يفتح كافة إمكانيات المستقبل للبشرية. لا يوجد طبيعة بشرية ثابتة غير قابلة للتغيير. هذه الطبيعة الثابتة، تبعاً للتجريبيين الراديكاليين، أسطورة تنتمي إلى عصور متخلفة، مرتبطة بأديان وثقافات تحاول السيطرة على الإنسان وكبحه باسم الطبيعة البشرية. تأتي التجريبية الراديكالية لتحرير الإنسان من كل هذا القمع الممارس باسم الطبيعة البشرية.
تاريخياً، ارتبطت أسماء اقطاب التجريبيين بالحرية، من الإنكليز لوك وهيوم ومل وبرتراند راسل في مرحلته التجريبية المبكرة، إلى فولتير والموسوعيين الفرنسيين من أتباع لوك
بالنتيجة، يستطيع المرء أن ينكر أو يؤكد الطبيعة البشرية، ويبقى مناصراً للطغيان أو داعياً للحرية.
نعوم تشومسكي يجادل بأن إنكار الطبيعة البشرية، في القرن العشرين، زوّدَ منظّري الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة بإيديولوجيا تدعم محاولتهم التحكم في رقاب الناس. هناك حالة تاريخية أخرى يشير إليها تشومسكي، ربطت بين التجريبية والطغيان: لوك وعنصريته تجاه الملونين. حتى في عصر العقل (أي القرن السابع عشر)، وعند أقطاب التنوير، استندت العنصرية إلى راديكالية تجريبية: السود وأبناء المستعمرات ليسوا بشراً كالأوروبيين، لأنهم أبناء ثقافة مختلفة لا تحترم العقل أو الحرية. هنا، بعض أصوات العقلانيين رفضت العنصرية: كل البشر يولدون متساوين في العقل، وكلهم يسعون إلى الحرية ويستحقونها.
ثانياً، المفهوم الإنسانوي للطبيعة البشرية. يصرُّ تشومسكي على أن كل ما يُقال عن الطبيعة البشرية هو تخمينات. من هنا، عمله الفلسفي يثبت نقطة واحدة بسيطة: لا بد من وجود بينية فطرية، طبيعة بشرية، تسمح بتنظيم الخبرة الخارجية. حجم وطبيعة هذه الطبيعة، وعلاقتها بالبيئة، وتفاعلها مع الأنظمة الإدراكية المختلفة، هو أمر نجهله اليوم. يقتبس تشومسكي من أعمال باكونين وهمبولت وبرتراند راسل. دافع هؤلاء عن مفهوم إنسانوي للطبيعة البشرية، حيث يولد الناس بقدرات خلاقة متنوعة، وعلى الفلسفة السياسية أن تسعى إلى خلق عالم حر، يسمح لهذه القدرات بأن تنمو وتزدهر وتثمر. كي تكون العقلانية الفطرية قريبة من مذهب سياسي تحرري، يجب أن تدافع عن مفهوم إنسانوي للطبيعة البشرية الخلّاقة. المزيد عن هذا المفهوم الإنسانوي سنعرضه أدناه في النقطة الثالثة التي سنناقشها.
ثالثاً، الفوضوية. يرى تشومسكي أن الفوضوية هي الوريث الشرعي لليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية معاً. تحرير قدرات الناس كان في صلب اهتمامات الليبراليين الأوائل، على أنهم لم يدركوا أن رأس المال سيتحكم بالناس بطريقة مشابهة لما تفعله الدولة أو الكنيسة في زمنهم. هذا ما رآه ماركس والاشتراكيون بوضوح في القرن التاسع عشر.
تكمن أحد أبرز إنجازات تشومسكي في الفلسفة السياسية فيما يلي: يربط تشومسكي بين دراسته للغة وبين أعمال أقطاب الليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية والفوضوية. ما قال به ديكارت، وما أثبتته اللسانيات التوليدية، يُضاف إلى أعمالٍ تتراكم منذ الخمسينيات عن البنى الرئيسة الإدراكية، تربط الطبيعة البشرية الخلّاقة التي قال بها باكونين وكروبوتكين وآخرون، مع الاستخدام الخلّاق للّغة عند ديكارت: ربطُ تراثِ ديكارت بتراثِ باكونين هو إنجازُ تشومسكي الرئيس في الفلسفة السياسية.
أقطاب الفوضوية، كباكونين وكروبوتكين، بالإضافة إلى راسل وهمبولت، دافعوا عن الطبيعة البشرية ولم يكونوا تجريبيين. تقوم فكرتهم على ما يلي: هناك طبيعة خلاٌقة، فطرية، حرة وغنية، يجب إطلاقها كي يعيش البشر بسعادة. باكونين، أشهر الفوضويين، آمن بوجود غريزة أصيلة في كل البشر، هي غريزة الحرية.يجد تشومسكي أن الملكة اللغوية فطرية، وخلّاقة أيضاً، وهو أمرٌ قال به ديكارت. ويجادلُ بأن معظم قدرات البشر الإدراكية فطرية وخلّاقة معاً. يتيح هذا لتشومسكي أن يربط عقلانية ديكارت، التي تقوم على فكرة أن القدرات اللغوية للإنسان فطرية وغير محدودة، بغريزة الحرية التي نادى بها باكونين.
إطلاق الطاقات الخلّاقة الفطرية هو جوهر الليبرالية الكلاسيكية كما نجدها عند همبولت وروسو، وجوهر الاشتراكية أيضاً التي تعادي تشييء الإنسان واغترابه. ماركس الشاب آمن بطبيعة بشرية جعلته يدافع عن العمال ويرفض تحويلهم إلى آلات: منطقياً، يجب القول بطبيعة بشرية كي يستقيم هذا الدفاع. لو استطعنا تكييف وتغيير العمال كي يقوموا بما تريده السلطات، لانتفى مفهوم الاغتراب.
في المحصلة، تقسيمات اليمين واليسار لا تطابق مع تقسيمات من ينكر أو من يعترف بالطبيعة البشرية:
يشير تشومسكي إلى أن منظّري الإيديولوجيا اليمينية والمؤمنين بالرأسمالية يرتكزون، أحياناً، على مفهوم أناني للطبيعة البشرية. آدم سميث وأتباعه، مثلاً، يرون أن الإنسان أناني وطمّاع، مما يسوّغ بناء مفهوم حول سعيه الدائم للربح
على الضفة الأخرى، يميل اليسار عموماً إلى إنكار الطبيعة البشرية
ختاماً، يرى تشومسكي أنه لا مجال لإنكار الطبيعة البشرية، إلا أننا نجهل ماهية هذه الطبيعة. إنكار الطبيعة البشرية مذهبٌ فكريٌ فاسدٌ تماماً، إلا أن له أتباعاً؛ تبعاته الأخلاقية متنوّعة ومختلفة. ولكن، بحسب تشومسكي، الإيمان بالمفهوم الإنسانوي للطبيعة البشرية، بالرغم من أننا لا نستطيع اليوم أن نتوثق منه، وربما لن نستطيع أبداً التوثق منه، يتيح لنا الدفاع عن الحرية في كل مكان وزمان، ولكل الناس.
في القسم الأخير، سنشرح أهمية عمل تشومسكي في فهم مشاكلنا، اليوم، في أزمة الربيع العربي.
الطبيعة البشرية ومستقبل الربيع العربي
يبدو لي أن عمل تشومسكي مفيد في الدفاع عن الربيع العربي، وقيمِه التي حملها في تحرير الناس من العبودية. يرى تشومسكي في الفوضوية محاولة لتحرير الناس وإطلاق طاقاتهم الكامنة. ينطبق هذا التحليل على كل الناس. كل أفراد الجنس البشري يتمتعون بغريزة الحرية، وبطاقاتٍ كامنة، مختلفة ومتعددة وغنية، وعلينا أن نسعى إلى نظام اجتماعي يتيح لهم تطوير قدراتهم هذه. لا فارق بين العرب والصينيين، بين المسلمين واليهود، بين النساء والرجال؛ كل البشر يحق لهم التعبير عن أنفسهم بالأسلوب الذي يرونه مناسباً. إطلاق الطاقات الكامنة في الفرد البشري قيمة كونية مشتركة
منذ بدايات النهضة العربية، أي في القرن الثامن عشر، طُرِحَ السؤال حول القيم المشتركة بيننا وبين الأوربيين الغزاة. لم يكن الجواب سهلاً: من جهة، جلبَ الغزاة معهم مفاهيم التنوير: الديموقراطية والانتخابات وحقوق الإنسان
السؤال الذي طُرِحَ وما زال يُطرح: هل هناك قيمٌ مشتركة لجميع الناس، بغض النظر عن ثقافتهم وزمنهم وبيئتهم؟ الجواب الذي أقدمه هو نعم بالطبع.
قيم التنوير عامة مشتركة. تنوير تشومسكي مستمدٌ من تنوير كنط، من الإيمان بأن تحرير الناس ليستخدموا عقلهم في الحكم، وفي إدارة حياتهم كما يريدون، هو جوهر إنسانيتنا. بعيداً عن تفاصيل ملحّة وخاصة في كل مكان بعملية تحرير الناس من السلطات القامعة، يشكل دفاع تشومسكي عن تنوير حقيقي وعن فوضوية تبدأ من الناس ولا تُفرض عليهم من أعلى، ليحرروا قواهم الخلاقة ويستخدموا إمكانياتهم إلى أبعد مدى، قاعدة نستطيع البناء عليها جميعاً في معركتنا ضد الاستبداد: قاعدة لكافة البشر دن استثناء.
يبقى السؤال اليوم، مع انسداد أفق الربيع العربي، هو: هل نتخلى عن قيم التنوير أم نعممها؟ جواب جزء من القوميين والإسلاميين، من جهة، وجزء من الغربيين، من جهة أخرى، هو أن التنوير لا يصلح لنا: العرب، أو المسلمون، أو الشرقيون، أو غير الغربيين بشكل عام، لهم قيمهم الخاصة. أما قيم التنوير: رفض القدرية التي تقول بوجود مراتب ثابتة للبشر: حكّامٌ أزليون ومحكومون أزليون؛ إعطاء دور رئيس للمواطن العادي في إدارة الشؤون العامة والسياسية؛ تحرير المرأة وإلغاء الرق؛ كل هذه القيم لا تصلح إلا للغربيين
ينطلق كلا الطرفين، أصحابُ الخصوصية عندنا من إسلاميين وقوميين، والغربيون ممن ينكرون علينا التنوير، سواءً العنصريون الذين يرون فينا تخلفاً وهمجية، أو ما بعد-الحداثيين ممن يعتقدون أنهم تقدميون بإنكارهم حقنا في التنوير، من فرضية واحدة: لا يوجد طبيعة مشتركة بين البشر، أي من تجريبية راديكالية تنكر الطبيعة البشرية. قلنا أعلاه أن هذا الإنكار خاطئ تماماً وبشكل كامل ومطلق. السؤال هنا، لماذا يتبناه البعض، بالرغم من خطأه الفاقع؟ الجواب يكمن في رغبة عميقة عند المنكرين في تبني سياسات محددة: معاداة التنوير والحرية باسم خصوصيات ثابتة ونهائية ومطلقة، خصوصيات تصنعها الثقافات والبيئات بشكل كامل. ينطبق هذا على المذكورين أعلاه: الأصوليون القوميون والغربيون العنصريون والغربيون ما بعد-الحداثيون. لكل من هذه الأطراف الثلاثة أسبابها التي لن نخوض فيها هنا. كلهم، من وجهة نظر بحثنا في الطبيعة البشرية، كما يوضّح النقاش أعلاه حول التجريبية الراديكالية، مخطئون.
إذاً، يبقى لنا هنا أن نوضّح كيف أن الإيمان بالمفهوم الإنسانوي للطبيعة البشرية سيساعدنا في الدفاع عن الربيع العربي.
الإيمان بأن كل الناس يتمتعون بغريزة الحرية، وبأنهم يستحقون حياة أفضل من استعبادهم من قبل مجموعة طغاة مخبولين وعملاء، وأن كل البشر يملكون طاقات خلاقة حرة وغنية، يحق لهم استخدامها بالشكل الذي يرونه مناسباً لهم؛ فقط هذا الإيمان يسوّغ لنا الدفاع عن الملايين التي سعت إلى حريتها، وما زالت تسعى إليها.
بكلماتٍ أخرى، يجب تعميم التنوير ليشمل كل البشر. على القارئ أن يفكر ملياً، في حال لم يُرِد التنوير، في منظومة القيم البديلة التي يريدها. أنا أدافع عن التنوير العقلاني وأدعو إليه؛ البديل هو ظلام الخرافات. بديل قيم التنوير المشتركة هو النسبوية والخصوصيات. على سبيل المثال، تحرير المرأة والمساواة مع الرجل جزءٌ من التنوير، رفض استعباد البشر والاتجار بهم جزءٌ من التنوير، الدفاع عن حرية التعبير وميثاق حقوق الإنسان جزءٌ من التنوير؛ لا يستطيع المرء ألّا يجزع حين يجد من يرفض التنوير باسم الخصوصيات الثقافية.
أضف إلى ذلك، لا يستطيع المؤمن بنسبية القيم الدفاع عن آخرين في ثقافات مختلفة، في حين تتيح لنا القيم المشتركة توحيد جهودنا في مواجهة عدوٍ مشترك: إمبريالية توسعية غربية وشرقية، وحلفاؤها من صغار الطغاة، بالإضافة إلى مجموعات من العصابيين اللذين ينكرون الحرية باسم الخصوصيات: ينتشر هؤلاء في كل مكان، من اليابان إلى الهند إلى الدنمارك وأمريكا، وعندنا بالطبع. يتشابه دعاة الخصوصية كثيراً: معظمهم يرفض مساواة الرجل بالمرأة، ويضطهدون الأقليات الدينية والعرقية، ويصبون جام غضبهم على المثليين والمتحوّلين جنسياً، وعلى كل ما هو مختلف عن السائد، ويرفضون شرعة حقوق الإنسان العالمية باسم قيم بالية ووحشية ومتخلفة وخصوصيات ثقافية مغلقة.
ولكن الدفاع المشترك عن قيم مشتركة يقدّم لنا مخرجاً من فخّ الأصوليات: لا يوجد لنا أعداء في الثقافات الأخرى، بل يوجد حلفاء حقيقيون ممن يقع على عاتقهم تحرير أنفسهم من قوى الطغيان. هذه هي الرسالة الحقيقة لنا اليوم: البحث عن حلفائنا في كل مكان، والصراع مع قوى الطغيان في كل مكان.
لا يعني ذلك تخلينا عن مفهوم الاختلاف: على العكس، بل يعني إغناء الاختلاف من خلال التعاون. إن كان لمفهوم الخصوصية أهميةٌ ما، بعيداً عن الأصوليين القوميين والدينيين وغيرهم، فهو يكمن في محاولة رفع الظلم عن الناس في كل مكان، وقبول وسائل تعبيرهم عن أنفسهم: من موسيقا وشعر ورسم، وحرف ورياضة وغيرها، في كل مكان بكافة الاختلافات الموجودة. ويعني، أيضاً، إدانة أي قمع في أي مكان، يصدر باسم الخصوصيات.
عالم اليوم بشعٌ وقذر: وحده الإيمان بالقيم المشتركة، والعمل مع المخلصين في كل بقعة من بقاع العالم، سيحررنا من هذا العالم. البديل هو الصراع بين البشر لمصلحة طغاة وحمقى، كبار وصغار، باسم نسبوية وخصوصيات ثقافية مهترئة.
للقارئ والقارئة أن يختاروا أي مستقبل يريدونه لأنفسهم وأولادهم.