في ردّه على رسالتي إلى «الجمهوريّة»، كرّمني كرم نشّار باهتمامه وبسخائه. أقول هذا جادّاً، على نحو أريده أن يوازي جدّيّة كرم ورِفعة أخلاقه.

مع ذلك أظنُّ أنّ الصديق العزيز إنّما ناقش ما لم أقله أكثر ممّا ناقش ما قلته. وهذا ما يسهّله، في حالات مشابهة، أن تُبنى للمردود عليه صفات ومواصفات متفاوتة المصدر والدقّة، تقصّرُ المسافة الفاصلة بين قول وآخر. وأستميحُ كرم والقارئ عذراً إن أقحمتُ ما هو شخصيّ في موضوع عامّ: فلقد كتبت في حياتي عشرات المقالات ضدّ النيوليبراليّة وريغان وثاتشر ودبليو بوش وحروبه، والأرشيف حَكَمنا في هذا، وكنت أتلقّى في المقابل مئات الشتائم بوصفي أحد وكلاء ريغان وربعه وأبنائه في منطقة الشرق الأوسط. وفي ظنّي أنّ الكثير من «النقاشات» في هذه المنطقة من العالم إنّما يجافي ما يقال ليركّز على صورة مرسومة سلفاً للقائل. وربّما كان العنصر الأفعل في رسم الصورة هذه مدى مغايرة المردود عليه للإجماعات التي سيّدتها أنظمة الاستبداد العسكريّ والتي هي، لا سواها، إجماعات المركّب القوميّ – اليساريّ إيّاها، حيث ينام الخادع والمخدوع في سرير واحد، وإن كان كلّ منهما يحلم بما لا يحلم به الآخر.

على أيّ حال، وبما أنّني قلتُ في الرسالة ما قلته، فسأغتنم الفرصة هنا للإشارة إلى ما لم أقله ممّا قوّلني إيّاه كرم.

فأنا لم «أستكثر على السوريّين النقاشات الفكريّة» (معقول يا عزيزي كرم!) ولم أقل إنّ عليهم الانحصار في «الاستثناء السوريّ»، ولا أظنّ، بالمناسبة، أنّ ذاك «الاستثناء» استثناء. وكيف يكون ذلك فيما الشاغل السوريّ اليوم أحد أهمّ الشواغل العالميّة، ومرآةً لشعوب المشرق العربيّ في تراكيبها الاجتماعيّة كما في عموم تناقضاتها.

أمّا لماذا لم «أقترح بالمقابل» نوع الاهتمامات الفكريّة التي أراها مفيدة للشأن السوريّ وما يتّصل به، فهذا لأنّني لا أراني المرجعَ المُخوّلَ لأن «أقترح»! فإذا ألحَّ كرم وشدّني من قميصي، اقترحتُ عليه الأدبيّات الجمهوريّة والدستوريّة التي تعلِّم كيف يَحكم الحاكم، وكيف تكون صلته بالمحكوم، وكيف تُفصل السلطات، وكذلك ركاماً من الأعمال الميدانيّة وغير الميدانيّة التي يمتدّ نطاقها من الإسلام إلى العصبيّات، ومن الأرياف إلى المدن. أمّا الشقّ الأوّل من «اقتراحي» فهو ما تدور حوله السياسة وعلم السياسة ممّا نحن محرومون منه، وأمّا الشقّ الثاني فهو ما قد يعصم من الوقوع في «يساريّة الكامبوس» التي يتوقّف أثرها بمجرّد أن تغادر القَدم بوّابة الجامعة (بل يبدو أنّ لها أثراً وحيداً هو تعزيز الذرائع الشعبويّة لدونالد ترامب وأمثاله ضدّ «النخبويّة» و«ديكتاتوريّة الصواب السياسيّ»).

لكنْ يبدو أنّنا هنا مختلفان حول مسألة أخرى ذات وجهين: وجهٌ يتّصل بمدى الانفصال بين السياسيّ والفكريّ، حيث أتمنّاه أن يكون أقصر ممّا يراه كرم، وأكثر قابليّة للتوظيف النفعيّ والعمليّ، ووجهٌ آخر يتعلّق بالمراحل والمرحليّة التي (وهذا اعتراف) لا أستطيع للحظة واحدة أن أرى الأمور في معزلٍ عنها.

وأنا لم أقل بتاتاً بتجاهل الأثر الفكريّ للماركسيّة والتحليل الطبقيّ بحجّة «أنّ 90 % من اليسار اليوم يقف في صفّ بشّار». أمّا أن أكون قد طالبت برفض «قراءة أريك هوبزباوم في التاريخ، ووالتر بينامين في النقد الثقافيّ، وبدر شاكر السياب في الشعر العربي!»، فهذا ما يرسمني في هيئة معاكسة تماماً لكلّ ما كتبت منذ عشرات السنين، والذي بسببه نالني من النقد القوميّ والدينيّ والمحلّيّ والأبرشيّ ما نالني. لهذا أظنّ أنّ التشبيه بمن يطالبون بتحريم العلوم الاجتماعيّة «بوصفها رجساً علمانياً أو وحياً من شياطين الغرب الصليبيّ!» هو ممّا كان يُستحسن بكرم تفاديه، ولا يزال.

مع هذا فإنّ موقف أكثر من 90 بالمئة ليس مجرّد صدفة بريئة، إذ هؤلاء، أو بعضهم الكثير، جاؤوا من كتب قرأوها وأفكار فكّروها وتصوّرات أرادوا فرضها على الواقع تستقرّ كلّها في منظومة فكريّة يصعب على من هم أقلّ من 10 بالمئة أن ينتزعوا شرعيّتها منهم. وإلى ذلك، يبقى مُحيّراً ذاك الاهتمام الفائض لبعض الأوساط بالكتابات اليساريّة الغربيّة فيما تخلو المكتبة العربيّة من مراجع معتبرة عن قيام الجمهوريّات واشتغال الديموقراطيّات، كما عن تجارب بلدان تمتدّ من بلجيكا إلى كندا، ومن سويسرا إلى يوغوسلافيا السابقة، في تعايش الجماعات الدينيّة والإثنيّة أو تنابذها ممّا تضجّ بمثله منطقتنا وشعوبنا. فحين نكتب ونترجم في نقد الديموقراطيّة الليبراليّة أكثر ممّا في التعريف بها، بل من دون التعريف بها، تتّسع طريق الحيرة لتغدو جادة عريضة: فالجهد هنا يقع على لا شيء في واقعنا، أمّا إذا كان هدفه نظريّاً بحتاً فلا أظنّ أنّ في وسع منطقتنا، المعقّمة من التجارب الديموقراطيّة، أن تضيف ما يُعتدّ به على هذا الصعيد (آمل ألاّ يتّهمني كرم بالعنصريّة عملاً ببعض تعاليم يسار الكامبوس).

لكنّني أغامرُ بالقول إنّ ثمّة ما قد يساهم، حين نلقي نظرة ثانية أهدأ، في تبديد هذه الحيرة: فلئن كان شيوع «العلم السوفييتيّ» يفسّر بعض ذاك الاهتمام الفائض إبّان الحرب الباردة، فإنّ سوق الأفكار العالميّة، لا سيّما منها المسيطرة على بعض الجامعات الغربيّة، هي ما يخلق راهناً هذا الجاذب في بعض أوساطنا المهتمّة بتلك السوق. وهو ما نرى مثيلاً له في عالم الفنّ السائد اليوم، وفي تطلّبه لبعض ما لا يتّصل من قريب أو بعيد بأيّ سوق محلّيّة خارج الولايات المتّحدة وأوروبا الغربيّة.

وهذا، مرّةً أخرى، ليس دعوة لـ«الانغلاق» على قضايانا، وإن كان ينطوي على شيء من الاحتجاج على اختلال النسب في متابعاتنا. وما يمعن في تسييس احتجاج كهذا أنّ نظاماً كنظام الأسد، أو كنظام صدّام قبله، ساهم في نشر أو ترجمة أعمال لا تبقي ولا تذر في نقد الديمقراطيّة الليبراليّة ومساوئها، تماماً كما كانت تفعل تلك الأنظمة حين كانت تنشر بعض عيون الفكر اليساريّ في العالم، من دون أن تتهيّب استضافة ندوات للتفقّه في أمورٍ كتلك.

أمّا خاتمة مقالة كرم، حيث نسب إليّ اعتبار الموقف السياسيّ من الثورة السوريّة «المعيار الوحيد الصحيح لتموضع السوريّين من مؤيّدي الثورة سياسيّاً وفكريّاً وقيميّاً»، فهذا بالضبط ما ساجلت ضدّه غير مرّة، مباشرة أو مداورة، منتقداً النظر الحصريّ إلى العالم وما يشهده من موقع وطنيّ محدّد، أكان سوريّاً أم فلسطينيّاً أم لبنانيّاً أم غير ذلك. مع هذا أتمسّك باعتقادي أنّ في «الجمهوريّة» طاقات تملك قدرات تحويليّة في الواقع السوريّ (مع أنّ أصحابها لا يقيمون في بيروت!)، ينبغي ألاّ تضيع في دروبٍ التفافيّةٍ شديدة الطول والتعرّج، أشكُّ كثيراً في أن توصل إلى ما يُراد الوصول إليه. فإذا ما «استكثرَ» عليّ كرم هذا «التدخّل في الشأن السوريّ»، والله أعلم، كففتُ عن إبداء هذا الاعتقاد لكي أحتفظَ بصداقته، واحتفظتُ بقناعتي سرّاً لنفسي.

والحال أنّ همّي في تلك الرسالة لم يكن موضوعة اليمين واليسار، ولا الأثر الفكريّ للماركسيّة والتحليل الطبقيّ. وأزعمُ أنّني لا أغفل عن ذاك الأثر، كما لا أتنكّر لذاك التحليل، وإن كنت أدّعي ضرورة إرفاق الأخذ به بأبعاد أخرى ليست الماركسيّة دائماً مرجعها الأفضل، خصوصاً حين يتّصل الأمر ببلداننا حيث يتعايش حدّ أقصى من الواقع الطبقيّ وحدّ أدنى من الوعي الطبقيّ. وهنا أفتح هلالين لأقول إنّ برهنة كرم على أهميّة التحليل الطبقيّ باستخدام «بنى السيطرة التي تدفع بفقراء العلويين للموت من أجل الأسد» ليست أفضل الحجج على ما أراده، وقد يكون «الانهيار المديد لمجتمعاتنا» حجّةً أفضل.

ولعلم كرم، فأنا واحدٌ ممّن تؤرّقهم ثنائيّة الحرّيّة والمساواة، إلاّ أنّني موقن، ووراءنا من التجارب ما يقف في صفٍّ طويل، أنّ الافتتاح بالحرّيّة مرشّحٌ للإفضاء إلى المساواة أكثر كثيراً من قدرة المساواة، بوصفها المدخل، على الإفضاء إلى الحرّيّة.

وهنا ينطبق على المساواة ما ينطبق على المسائل الثقافيّة والمجتمعيّة، من تحرّر المرأة إلى الإصلاح الدينيّ. فهذه جميعاً لا تُخاض معركتها ويكون خوضها مجدياً إن لم يحصل ذلك في مناخ من حرّيّة المواطنين في سعيهم الحياتيّ، وإلاّ فما معنى النقد الذي يُوجّه لنزعة ثقافيّة (وقد يُوجّه لنزعة اقتصاديّة) تغضّ النظر عن ثنائيّ الاستبداد والحرّيّة؟ وهل هي صدفة أن تستطيع أنظمة كالنظام السوريّ الاستحواذ على شعارات تمتدّ من الاشتراكيّة إلى تحرير المرأة، ومن العلمنة إلى تحرير فلسطين، فيما هي تتبرّأ من قيمة الحرّيّة (التي ما إن قاربها الطيّب الذكر ميشيل عفلق وجعلها أقنوماً حتّى نبّهنا إلى أنّها «حرّيّة الأمّة» و«الشعب»، لكنّها حكماً ليست حرّيّة الأفراد).

ولا أخفيك، يا عزيزي كرم، شكّي العميق في الذهاب بعيداً مع أيٍّ من النزعتين الاقتصاديّة والثقافيّة – المجتمعيّة، من دون أن يكون ذلك شكّاً بفضائلهما المبدئيّة. لكنْ يتراءى لي، فيما شعوبنا غير متّفقة على الوطن هويّةً وحدوداً واسماً وعلاقةً بين الحاكم والمحكوم، أنّ الذهاب بعيداً مع أيّ من هاتين النزعتين هو كمثل ممارسة كرة القدم من دون رسم الملعب. وقد يجوز القول إنّ تاريخنا الحديث هو لعبٌ من دون ملعب، لعبٌ درجنا على تسميته سياسةً وفكراً سياسيّاً، فسهّل للبعض أن يصيروا طغاة ويتوارثوا الطغيان، وجعل بعضاً آخر، جيلاً بعد جيل، يمتهن فجيعة الخسارة المتواصلة وأعمال «النقد الذاتيّ بعد الهزيمة».

وأمّا «فكر جون ماكّين» فهذا ما أتركه لجلسة اسطنبوليّة، أو بيروتيّة، يتعتعنا فيها ما سبقَ أن تعتع الشعراء، نروح فيها نتحدّث عن الراحل غرامشي في الهند حتّى يطلع الفجر.