كان الإحساس في المرتين اللتين أصبح فيهما زمام أمري بيدي هو نفسه، إحساسٌ بالفرح الشديد والطيران في شوارع الحرية، وفي الوقت نفسه إحساسٌ داخليٌ بفقدان الوزن والخوف من تحمل المسؤولية، والخوف من الحرية. المرة الأولى كانت عندما خرجتُ من سجن دوما للنساء ومشيتُ في الشارع لأول مرة وحدي دون شرطي يرافقني، والثانية عندما خرجتُ من السكن الاجتماعي في باريس، من قصر المرأة المخصص لسكن النساء.
لن أتكلم هنا عن الخوف من الحرية الداخلية، الذي حلّله العالم النفسي الألماني الأمريكي، إريك فروم، رغم أني أعيشُ الآن في العالم الغربي، ساحة دراسته، لأنني ما زلت من هناك حيث الاستبدادُ الخارجي، وما زالَ من الرفاهية بالنسبة لي البحث في أنواع الحرية الداخلية، سلبيةً كانت أم إيجابية. وكذلك لن أتكلم عن «العملية الجدلية التاريخية» التي تكلّم عنها فروم في تحليله للنازية، والتي تتمثّل في الخوف والشعور بانعدام الأمن بعد زوال نظام الاستبداد القديم، والبحث عن نظامٍ استبداديٍ جديد. ذلك الشعور بالرعب الذي عرفه الشعب السوري يوم موت حافظ الأسد، كما عرفه الشعب الكوري الشمالي يوم موت كيم جونغ إيل.
لا أنسى أبداً لحظة الرعب التي انتابت السوريين عند سماعهم بموت حافظ الأسد، تم إغلاق المحلات وفرغت الشوارع وجلسَ الناس في بيوتهم خائفين. لقد كان حافظ الأسد يداً جبارةً تمسك البلاد بقبضة من حديد، وانتظمت حياة الناس وتكيّفت مع هذه القبضة، وقاموا بنسجِ تفاصيل أيامهم وعلمهم وعملهم بناءً على وجودها. كان ذهاب هذه القبضة كفيلاً بتمزيق كل الخيوط التي نُسجَت منها حياتهم، ورغم انكسار جدار الخوف هذا مع اندلاع الثورة السورية، إلا أن كثيراً من السوريين الذين وقفوا ضد الثورة عاشوا هذا النوع من الخوف، دون أن يعوه ربما.
سأتكلم هنا عن الحرية على مستوىً أخفض من ذلك بكثير، ولكنه على درجةٍ عاليةٍ من الأهمية. سأتكلم عن الحرية التي لا تتعدى حرية التحكم بالحياة اليومية، والمسؤوليات المترتبة عليها، وعن خوفٍ يشبه خوف الشباب في أول خروج لهم من بيت العائلة، ذلك الخوف الممزوج بفرحِ الاستقلال والحرية.
يعرفُ ذلك الخوفَ كل لاجئٍ خرج من السكن الجماعي: الفواييه، الكامب، وغيرها من التسميات التي تختلف حسبَ اختلاف لغات بلدان اللجوء. ولكن ربما لا يعرف هذا الشعورَ من لم تُصادَر حريته لفترة طويلة من الزمن، ثم تعودُ له فجأة، فكثيرٌ من الأشياء نعيشها دون أن ندري أننا نمارس حريةً ما في عيشها. مثلاً حرية أن يكون لك مساحتك الخاصة من المكان تفعل بها ما تشاء، وأن تخرج متى تشاء، وأن تعود متى تشاء، وتستقبل من تشاء… إلخ.
قصرُ المرأة سكنٌ اجتماعيٌ مخصصٌ للمرأة التي تعاني من صعوبات، وينقسم إلى منشأتين: منشأةٌ للنساء المعنفات، تلجأ إليها أي امرأة معنفة، وتقوم هذه المنشأة بالتكفل بها على نحوٍ كاملٍ من مأكلٍ ومشربٍ وإقامة، أما المنشأة الأخرى فهي مخصصة للنساء العاملات ذوات الدخل المحدود. كنتُ أسكنُ في المنشأة الثانية بفضل التدريب المأجور الذي اتّبعته، وكان نظام القصر صارماً يذكّر بنظام الأديرة، رغم أنه يتيح للمرأة في المنشأة التي كنتُ فيها هامشاً من الحرية أكبر من المنشأة الأولى، ومن ذلك السماح للمقيمة باستقبال الزوار مثلاً. كنتُ أشعرُ دائماً أن هناك من يلاحقني على الوقت والسلوك، وأن هناك من هو مسؤول عن أوراقي ومعاملاتي. كنتُ أشعرُ دائماً أن هناك من يتعهدني، من هو مسؤولٌ عني وعن حمايتي من شرٍ غامضٍ لا أدرك ماهيته، وإنما يؤكده وجود الحرس الدائم على البوابة.
عندما كان شرطي السجن يرافقنا الى العيادات الطبية، كانت وظيفته أن يمنعنا من الهرب، ولكنه كان مضطراً لحمايتنا لأننا أصبحنا مسؤوليته، وفي البداية كنّا نشعر أنه يعيق حريتنا، ولكن مع الزمن اعتدنا على أننا غير مسؤولاتٍ عن أنفسنا وأن هناك من يتعهدنا، ليمرَّ الزمن فننسى ذلك الإحساس البشري الطبيعي بالمسؤولية عن الذات. لا أنسى أبداً لحظة الخوف التي انتابتني عندما مشيتُ في الشارع لأول مرة، وكيف افتقدتُ وجود الشرطي. كانت مهمته منعنا من الهرب، والآن يا للدهشة، إنني أفتقدُ وجوده. الحقيقة أنني شعرتُ بالخوف من أن أضيعَ أو أُختطفَ دون أن يكون معي أحدٌ يشهد على ذلك، شعرتُ أني وحيدة.
كان أبو محمد سجاني، يقودني ويرسم طريقي، يجعلني أركبُ السيارة، ويُنزلني منها، ويتكلمُ مع حرس المشفى، ويطلبُ الطبيب ويسلمني له، ويستلمني منه، ويعود ويوصلني الى السجن. كان يتعهدني وكنت ممسوكة بيده، وحين أفلتني شعرتُ بفقدان الأمن للحظاتٍ عندما فقدت تلك الموثوقية التي تحدثَ عنها إريك فروم، الموثوقية التي كنت أعيش في ظلها، وانعدامُ الريبة والتشكك والتفكير بما أقوم به من أعمال، والإحساس بالأمن والأمان في الحدود المرسومة والمقيدة لي ولحركتي. لقد كنتُ مُعفاةً من القلق الناتج عن حرية التفكير الحقيقية، وحرية اتخاذ القرارات.
السكنُ في قصر النساء، وقبلها في بيت الصحفيين، وقبلها السكن في بيوت أصدقاء، كلها كانت شكلاً من أشكال التعهد، أو ولاية الغير على النفس. وهي أيضاً شكلٌ من أشكال الموثوقية التي كنتُ بالتأكيد بحاجة لها في مرحلة بدايات التغيير العاصف الذي انتهى بي إلى حالة اللجوء الراهنة، ولكنها حفرت جرحاً عميقاً في داخلي نتيجة الشعور بأنني لستُ أهلاً للاستقلال بنفسي. ولذلك عندما اقترحت إحدى العائلات الفرنسية بعض التسهيلات كي أستأجرَ استوديو في القطاع الخاص ركضتُ ركضاً، رغم أنني سأخسر كثيراً من المزايا المادية، وسأخسر كذلك الرعاية والمتابعة من قبل المساعدين الاجتماعيين في السكن. سأصبحُ الآن مسؤولةً لوحدي عن الرسائل والمعاملات الرسمية التي لا تنتهي في فرنسا، سأراقبُ استهلاكي للماء والكهرباء لأنني أنا من سيدفع الفاتورة هذه المرة… إلخ.
رغم كل ذلك ركضتُ ركضاً، هرباً من تعمّق الشعور بعدم الأهلية الذي أعرفه جيداً، والذي خبرته على نحوٍ عميقٍ في السابق. نعم، ركضتُ ركضاً رغم الشعور بالرعب الذي انتابني من تحمل تبعات الشعور بالحرية، شعورٌ بالرعب يشبه أول سقوطٍ بالمظلة من الطائرة، أو ربما يشبه حالة الطائر في أول محاولةٍ للطيران، يكون خائفاً ومرتبكاً في البداية، ثم يفردُ بعدها جناحيه ويحلّق عالياً.