مقدمة المترجم

لا أعتقدُ أن جورج أورويل (1903 -1950) يحتاج إلى أي تقديمٍ مسهب حتى للقارئ العربي، فصاحب مزرعة الحيوان و1984 يعدُّ أحد أبرز القامات الأدبية في القرن المنصرم، حتى وإن لم يكن نتاجه كله قد تركز في حقل الرواية والأدب. روايتاه المذكورتان حققتا له شهرة عظيمة، كما أنهما تحتلان مكاناً مُتقدماً بين أكثر الروايات اقتباساً وترجمةً إلى اللغات الحيّة في العالم.

لا تهدف هذه العجالة حول تقديم أورويل للطبعة الأوكرانية من روايته مزرعة الحيوان، إلى نقاش إرث الكاتب وتأثيراته الكبيرة وبخاصة في سياق اقتباس مُصطلحاته أو تأويلها، الأمر الذي تعدى الحقل الأدبي ليشمل علم الاجتماع والعلوم السياسية وحتى الموسيقى، بقدر ما تهدف إلى الإحالة إلى إشكالية راهنة، تتمثل في موقف قطاعاتٍ ليست قليلة من اليساريين، أفراداً ومثقفين وتكتلاتٍ وأحزاب، من قضية الثورات في العالم العربي والثورة السورية على وجه التحديد.

وهي إشكالية أعتقد أننا نجد جذراً مُبكراً لها في ميل هؤلاء إلى إخضاع جميع الظواهر السياسية إلى تحليلٍ يعتمد على تقسيمٍ صارمٍ للعالم، بوصفه ساحة صراع بين قوى إمبريالية توسعية وبين قوى تناهض مخططات هذه الأخيرة لفرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية. هذا التقسيم، جعل من الممكن تجاهل ممارسات قمعية لأنظمة سياسية تجاه محكوميها، بحجة أنها تقف في وجه الإمبريالية وأذرعها الإقليمية والمحلية. نملكُ مثالاً واضحاً هنا يتمثل بموقف داعم من أفراد وأحزاب شيوعية ويسارية لنظام الأسد، ومنذ الأيام الأولى للثورة في سوريا، حتى قبل أن تطويَ الحربُ الطاحنة وتغوّلُ التنظيمات الإسلامية الفصلَ السلمي للثورة الذي امتد لشهور.

استعادةُ مقدمة أورويل هنا، والتي تعبر عن موقفه المعروف من قضية الاستبداد والحكم الشمولي، بدت لي محاولةً للتذكير بسياقٍ يشابه أحوالنا اليوم. فأورويل أنجز روايته في العام 1943، إبان الحرب العالمية الثانية، وفي ذروة الصراع ضد النازية، الذي دفع إلى تحالفات استراتيجية بين الغرب والاتحاد السوفييتي كانت حاسمة لدحر دول المحور، وحسمِ الحرب لاحقاً. إنها فترة اضطرابات وتحولاتٍ هائلة، كانت تمهد لولادة عالم لم تكن حدود أقطاره ومناطق نفوذه وتحالفاته وصراعاته قد تجسدت بشكلٍ واضح بعد. قد تدفع هذه الأزمنة العصيبة والعصية على التنبؤ والتحليل كثيراً من الناس، والمثقفين على رأس هؤلاء، للتشبث أكثر بمعتقداتهم، خوفاً من مجهولٍ غامض أو توجساً من تغييرات عاصفة. وقد تدفع آخرين للانسياق وراء تحالفات براغماتية، تؤجل الخوض في استحقاقاتٍ أخلاقية، لصالح أولوية حسم الحرب، ما دام العدو واحداً (نعرف طوابير موصوفة من كلا الحالتين تشكلت بفعل الاستحقاق السوري اليوم).

لكن أورويل، وهو الذي ذهب ليحارب تغوّلَ الفاشية قبل اندلاع الحرب برمتها، رفض أن يُغلِّبَ نزعات إيديولوجية على اعتباراتٍ أخلاقية مُتمثلة بقضايا الحريات الأساسية. أورويل الذي يُعرّف نفسه بأنه اشتراكي، ويقول إنه توصّل لقناعته الفكرية والسياسية هذه، من معايشته اللصيقة للطبقات المسحوقة في أوروبا، وعمال المناجم في انكلترا على وجه التحديد. رفضَ مبكراً وفي ذروة الاستقطاب الإيديولوجي الحاد الذي سيقسم العالم سريعاً إلى معسكرين، أن يهادن المُمارسات الاستبدادية للنظام السوفييتي، حتى وإن كان هذا الأخيرُ شريكاً رئيسياً في مقارعة الفاشية، وهو في الوقت عينه رأس الحربة في مواجهة معسكرٍ رأسماليٍ متعاظمِ القوة.

لا شك أن موقف أورويل من النظام السوفييتي، والذي كان محرضه لكتابة مزرعة الحيوان، قد تشكل بفعل تجربته القاسية في اسبانيا، هو الذي ذهب ليقاتل من أجل الجمهورية الاسبانية ضد الفاشيين بزعامة الجنرال فرانكو المدعوم من هتلر وموسوليني ومن الكنيسة الاسبانية أيضاً، فوجد نفسه مع رفاقه التروتسكيين والفوضويين مُستهدفاً من الشيوعيين المدعومين من موسكو، بعد أن هيمن هؤلاء على الحكومة الاسبانية. حملَ أورويل معه مرارة التجربة الاسبانية، وجعل من قضية فضح الممارسات التسلطية للاتحاد السوفييتي، باسم الدولة الاشتراكية، قضيته الأساس. الأمر الذي سيدفع بعض منتقديه لاحقاً لاعتباره شططاً ومغالاة، حيث رأوا أنه ساهم أيضاً وهو يفكك بروباغندا النظام السوفييتي في دعم البروباغندا المضادة القادمة من المعسكر الغربي.

بكل الأحوال لا تتسع هذه السطور، ولا تهدف بالأساس، إلى مراجعة شاملة لمواقف أورويل السياسية، ولا إلى تنزيه هذه المواقف من كل شائبة، بقدر ما تسعى إلى التذكير بمثالٍ وَجَدَ فيه مثقفٌ التزمَ بالنضال ضد الفاشية فعلاً لا قولاً فقط، أنه لا يمكن السكوت عن ممارساتٍ قمعية لنظامٍ سياسي حتى وإن كانت أدبيات هذا النظام الأساسية تقوم على مناهضة الفاشية، لا بل حتى إن كان يحاربها فعلاً. كما أن في كلمات أورويل تذكيراً بليغاً بأن الانحياز الأخلاقي لقضايا الحريات الأساسية سابقٌ على أي انحيازٍ أو تحالفٍ سياسي، حتى وإن بدت الأخطار مُحدقة وكان الأعداء متربصين. إن في سرد أورويل البسيط والواضح (كعموم كتاباته التي اعتبر فيها الوضوح فضيلة)، تأكيدٌ على أن الانتماء الاشتراكي واليساري يتمثل أولاً في الانحياز دوماً للمقموعين، لا في الانحياز لحمولات أيدلوجية صلبة قد تستغلها أنظمة سياسية لإعادة إنتاج أشكالٍ أعنفَ من التسلط الذي تدعي مواجهته.

لعل من الأشياء التي استوقفتني في سطور أورويل التي أُقدِّم لها، هي راهنية الوصف الذي يقدمه عن فعالية البروباغندا الشمولية في تضليل مثقفين وأكاديميين يساريين، يبدو أن بعضهم يريد على الدوام تصديق هذه البروباغندا لأنها تتماشى مع يقينهم المُريح عن عالمٍ تحركه المؤامرات، ويسهل تحديد بوصلة الخير والشر فيه. ما وجدتهُ أيضاً مطابقاً بشكلٍ مدهش لأوضاعنا الحالية في سوريا، هو كلامه عن عجز بعض هؤلاء عن فهم الطبيعة الحقيقية للممارسات القمعية للنظام الشمولي، وتقريبهم لها – في أحسن الأحوال – من ممارسات مشابهة في المجتمعات التي يعيشون فيها، والتي تنعم بأشكال مختلفة من الديمقراطية النسبية. الأمر بالأساس ناجمٌ باعتقادي عن نظرة تولي الاعتبارات الأيديولوجية والجيوسياسية الأهمية القصوى، على حساب حياة البشر العاديين ومصائرهم. فلا بأس في أن يحكم سوريا نظامٌ «جمهوري وراثي»، يقوم على تسلط أجهزة الأمن وتغييب التعددية السياسية وقمع الحريات العامة، إن كان مشروعه المعلن هو «ممانعة» التوسع الإمبريالي الصهيوني، ودعم مقاومته!

لا أذكرُ فعلاً كم مرة وجدتُ نفسي أردد الجملة التالية وأنا أنهي نقاشي مع مريدي النظام الأسدي الموزعين في العالم، وخاصة اليساريين والمُمانعين منهم: «أتمنى فقط أن تعيشوا تحت حكم هذا النظام لأسابيع، وأن تحلوا ضيوفاً على فروعه الأمنية لساعاتٍ فقط». لهذا التندر المرير ما يقابله في كلمات أورويل، الذي يلتقط ببراعة هذا العجز المخزي لدى يساريين عن فهم الطبيعة المُجردة للممارسات القمعية للأنظمة الشمولية، تحت ستار سياساتٍ خارجية مناهضة للتوسع المتوحش للرأسمالية.

يذكر أورويل في مقدمته هنا، كما يذكر في مواقع أخرى من كتاباته، أن السبب في أنه أصبح اشتراكياً وقريباً من اليسار، لم يكن مردّه إعجاباً خالصاً بفكرٍ نظريٍ محدد أو بتجربةٍ حزبية بعينها، بقدر ما كان الأمر نتيجة معايشة ظروف حياة مُجحفة أُخضعت لها الطبقات الفقيرة والعاملة في غرب أوروبا. أورويل الذي ولد وترعرع في مستعمرة  إنجليزية، ودرس في أحد أرقى المدارس الداخلية الإنجليزية، فهمَ من خبرته المعاشة ما يعنيه حقاً التقسيم الطبقي وتقاسم الثروة والنفوذ في بريطانيا والغرب عموماً. أجد نفسي والعديد من أبناء جيلي ممن ترعرعوا في ظل الطغيان الأسدي في موقفٍ مشابه من حيث التأثر بالفكر اليساري، بدون تبني أحزابه كما هي دون أي مساءلة.

تشكّلَ وعينا تحت حكم دولة أمنية قمعية، حكمت باسم الدولة الاشتراكية. لم يكن لدينا إلا أحزاب صورية منضوية تحت سلطان البعث، كلها طبعاً أحزاب يسارية وقومية. لم نختبر أي حياة سياسية ولا حتى نقابية، ولا حتى تجمعات طلابية مستقلة. معرفتي بالماركسية واليسار، جاءت من قراءات متناثرة، ومن احتكاكاتٍ متباعدة بمعتقلين يساريين سابقين كان جلّهم قد قضى سنوات طويلة في السجن بدون أي محاكمة، بعضهم كان قد اتهم بالتواطؤ مع الرجعية بالذات في وجه الدولة التقدمية. لكن خيار الانتماء اليساري، بدا لي بالذات انتصاراً لمفاهيم التحرر والمساواة والعدالة الاجتماعية التي سحقها تماماً نظام سلالي قمعي يحكم زوراً باسم الاشتراكية ومقارعة الإمبريالية. تعزز هذا الخيار بعد أن علمتني الثورة السورية، وبأشد الطرق قسوة ربما، أننا ما زلنا أيضاً أقناناً بالنسبة لإقطاعيي العالم الكبار، وليس فقط بالنسبة لأنظمتنا المحلية. من الولايات المتحدة إلى روسيا وحتى الصين (وهي كلها إمبرياليات موصوفةٌ اليوم بالمناسبة)، لا تمثلُ حياةُ ومصائرُ الشعوب المنتفضة على ديكتاتوريات عسكرية بالنسبة لهذه القوى، إلا جزءاً يسيراً من تسويات سياسية واقتصادية أكبر، تجعل الأنظمة واستقرار الدول أهم بكثير من فوضى التحرر. إذن يساهم هؤلاء في قتلنا أو يغطونه في أحسن الأحوال، فيما ينعتنا شيوعيون بالرجعيين وعملاء الإمبريالية، ويصفنا المُمانعون بعملاء الصهيونية والوهابية، ويرى فينا اليمين الأوروبي الذي يصعد نجمه بتسارع، جموعاً «مُسلمة» متدينة تحمل خطراً محدقاً على العلمانية وعلى الحضارة عموماً، ويحلل الدواعش ومن شابههم قتلنا، بوصفنا علمانيين وطلّابَ ديمقراطية وعملاء للغرب.

يلزمنا إذاً ثورة على هؤلاء مجتمعين ربما، فرغم أن ما يفرقهم يبدوا شاسعاً، إلا أنهم متوحدون تماماً إزاءالموقف من السوريين الذين ثاروا على نظام الأسد ومن في حكمهم في المنطقة.  مزيج من احتقار وازدراء ولا مبالاة. تبدو هذه الثورة الشاملة والعالمية ربما، خيالية اليوم، أو بعيدة المنال. أميلُ شخصياً لاعتبارها أكثر إلحاحاً وأقرب حدوثاً مما تبدو عليه، تماماً كما أرى روايات جورج أورويل الديستوبية  في جنوحها للاستعارة بالغة القدرة على توصيف واقعٍ يبدو أشد فظاظة وغرابة من أي خيال.

*****

تقديم الطبعة الأوكرانية من مزرعة الحيوان

طُلبَ مني كتابة تقديمٍ موجز للترجمة الأوكرانية من روايتي مزرعة الحيوان. وأنا أستجيبُ لهذا الطلب، أعي تماماً أني أكتبُ لقراءٍ لا أعرفُ عنهم إلا النذر اليسير، وأغلب الظن أنه لم تتح لهم الفرصة أيضاً ليعرفوا الكثير عني. سيتوقع القراء مني ربما في هذا التقديم، أن أتحدث عن كيف أنجزتُ رواية «مزرعة الحيوان»؟ لكنني أفضل أولاً أن أتحدث قليلاً عن حياتي وتجاربي الشخصية، والخبرات التي صاغت مواقفي السياسي وبلورت قناعاتي الحالية.

ولدتُ في الهند، في العام 1903. كان أبي موظفاً في الإدارة الانكليزية هناك، عائلتي كانت واحدة من عائلات الطبقة المتوسطة. وهي عائلات لجنود ورجال دين وموظفي الحكومة ومُعلمين ومُحامين وأطباء وغيرهم. تلقيتٌ تعليمي في «إيتون»، التي تعتبر أغلى المدارس الانكليزية العامة وأكثرها رُقيّاً هذه ليست «مدارس وطنية عامة»، بل على العكس. فهي مدارس داخلية ثانوية ذات أقساط باهظة. حتى وقتٍ قريب لم تكن هذه المدارس تقبل أحداً من خارج دائرة الارستقراطيين الأغنياء. في القرن التاسع عشر مثلاً، كان حلم الطبقة الغنية الجديدة من المشتغلين في القطاع البنكي أن يجدوا طريقة لإدخال أولادهم في إحدى هذه المدارس. التركيز في هذه المدارس كان كبيراً على الرياضة، وعلى إتقان آداب الكلام والخطابة، والحرص على الظهور في مظهر اللوردات الأنيقين، الذين يتقنون تماماً آداب السلوك الاجتماعية للطبقة الراقية. كانت «إيتون» تأتي في طليعة هذه المدارس. يُشاع أن ولينغتون قال إن النصر في معركة «واترلو» تم التخطيط له في ملاعب مدرسة إيتون بالذات. حتى الأمس القريب، كانت الغالبية الساحقة من الأشخاص الذين حكموا انكلترا وشغلوا مناصب سياسية مرموقة، هم من خريجي إيتون ومدارس شبيهة بها- ج. أ.. بالطبع فلولا منحة دراسية سخية لما استطعتُ الالتحاق بهذه المدرسة، فوالدي لم يكن بمقدوره بكل تأكيد أن يتحمل تكاليفها الباهظة.

سريعاً بعد تخرجي من إيتون، ولم أكن قد بلغت العشرين بعد، ذهبتُ إلى بورما لأنضم إلى «الشرطة الهندية الإمبريالية». كان هذا سلك شرطة عسكرية، أقرب إلى «الجندرما»، يشبه إلى حد كبير «غوارديا سيفيل» في اسبانيا.

أمضيتُ خمس سنوات في الخدمة، كانت كافية تماماً لأعرف أنها لا تناسبني البتة. جعلتني هذه المدة أمقت الإمبريالية، على الرغم أن تلك الحقبة لم تعرف أي صعودٍ للمشاعر الوطنية أو لنزعاتٍ استقلالية في بورما، كما أن العلاقات بين الانكليز والبورميين لم تكن عدائيةً على الإطلاق.

وكان أن قررتُ الاستقالة من الخدمة أثناء إجازة لي في انكلترا في العام 1927، وعقدتُ العزم أن أصبح كاتباً. في البداية لم ألقَ أي نجاحٍ يذكر، عشتُ في باريس بين 1928-1929، وكتبتُ قصصاً قصيرة وروايات لم يوافق أحد على نشرها (وقد أتلفتها تماماً في ذلك الحين). في السنوات اللاحقة، كنتُ بالكاد أستطيع تأمين قوت يومي، تضورت من الجوع مراتٍ عديدة. لم أبدأ بالعيش مما تنتجه كتاباتي إلا ابتداءً من العام 1934. في تلك السنوات، أمضيتُ شهوراً وأنا أعيش في أكثر الأزقة فقراً وتهميشاً بين المُعدمين والخارجين عن القانون، الذين يعيشون في ظروفٍ بائسة ولا يستطيعون تأمين لقمة عيشهم إلا عبر الاستجداء أو السرقة. جمعتني بهم في البدء أحوالي المادية المزرية، لكنني فيما بعد بقيتُ قريباً منهم، لأن نمط حياتهم استهواني وأثار شغفي وفضولي. فيما بعد سأُمضي، وبشكلٍ منتظم، شهوراً وأنا أدرسُ أوضاع عمال المناجم في شمال انكلترا.

حتى العام 1930، لم أُعرّف نفسي على الإطلاق بوصفي اشتراكياً. في الحقيقة حتى ذلك الوقت لم أكن بعد قد كونتُ أي وجهات نظر سياسية واضحة. ولا أعتقد أن ميولي الاشتراكية قد نمت بسبب أي إعجابٍ نظري بتصوراتٍ عن مجتمعٍ مثالي وعادل، بقدر ما نمت بسبب اشمئزازي المتزايد من الطريقة التي كان الفقراء والعمال من حولي يُسحقون ويهمشون بها.

تزوجتُ في العام 1936، في الأسبوع ذاته الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية في اسبانيا تقريباً. قررنا أنا وزوجتي ودون ترددٍ كبير أن نذهب إلى اسبانيا لنقاتل في صفوف الحكومة الجمهورية الاسبانية، وفعلاً وخلال ستة أشهر أنهيتُ الكتاب الذي كنت أعمل عليه، وكنا جاهزين للسفر. بعد وصولي إلى اسبانيا أمضيت الشهور الستة الأولى في جبهة آراغون، حتى جاء ذلك اليوم في هويسكا مدينة تقع في مقاطعة أراغون في الشمال الشرقي لاسبانيا- المترجم. حين اخترقت حنجرتي رصاصة قناص موالٍ لفرانكو.

في مراحل الحرب الأولى، لم يكن المقاتلون الأجانب مدركين للنزاعات الداخلية بين الأحزاب السياسية المختلفة داخل المعسكر الذي يدعم الجمهورية الاسبانية. شخصياً، وبسلسلة من الصدف فقط لا غير، انضممت إلى ميلشيا POUM أو حزب العمال الماركسي الموحد، وهي حركة تشكلت أثناء الجمهورية الثانية في اسبانيا، وبزغ نجمها بشكل واضح خلال الحرب الأهلية الاسبانية. تشكلت بشكل رئيسي من تحالف التروتسكيين الاسبان مع حركة العمال والفلاحين في كاتالونيا، وقد جاهرت منذ التأسيس بمناهضتها للشيوعيين الستالينيين- المترجم. وعمادها الاسبان التروتسكيون، عوضاً عن الانضمام إلى الألوية الأُممية التي التحق بها معظم المقاتلين الأجانب.

في منتصف العام 1937، سيطر الشيوعيون بشكلٍ شبه كامل على الحكومة الاسبانية، وبدأوا باستهداف التروتسكيين، وبسرعة وجدنا أنفسنا أنا وزوجتي بين المستهدفين. كنا محظوظين لأننا تمكنا من الخروج من اسبانيا على قيد الحياة، دون أن نُعتقل هناك ولا لمرة واحدة. كثيرٌ من رفاقنا تمت تصفيتهم، وآخرون أمضوا فتراتٍ طويلة في السجون، أو اختفوا تماماً.

جرت هذه التصفيات بالتزامن مع عملية التطهير الكبيرةوعُرفت باسم محاكمات موسكو  ‘Moscow Trails’، وهي سلسلة محاكمات شهيرة عُقدت على ثلاث دورات بين آب 1936 وآذار 1939. تم فيها محاكمة وتصفية أبرز القادة الشيوعيين ورفاق ستالين ولينين، من أمثال زينوفييف وكامينيف وبوخارين. كانت هذه محاكمات صورية، مهدت بشكل حاسم لبسط سلطة ستالين المطلقة على الحكم- المترجم. التي كانت تحدث في الاتحاد السوفييتي، بل كانت أشبه بامتدادٍ لها. في اسبانيا كما في الاتحاد السوفييتي، طبيعة التهم الموجهة كانت واحدة تقريباً، وهي تتمحور بشكل أساسي حول التعاون مع الفاشيين. أستطيعُ القول إنه في اسبانيا على الأقل، ومن معايشتي المُباشرة للواقع هناك، فإنني أجزم أن هذه الاتهامات كانت مُلفقةً جُملةً وتفصيلاً.

لربما كانت الفائدة الوحيدة التي جنيتها من هذه التجربة الاسبانية المريرة، هي أنها علمتني كيف بإمكان البروباغندا الشمولية التحكم بآراء الناس المتنورين في البلاد الديمقراطية. شاهدتُ أنا وزوجتي بأم العين، أناساً أبرياء يزجون في السجون فقط لشبهة التساهل وعدم التشدد الكافي في المواقف السياسية. رغم هذا، ولدى عودتنا إلى انكلترا، قابلنا كثيراً من المراقبين الذين يفترض أنهم على اطلاعٍ وثقافة واسعتين، كانوا ميالين لتصديق أكثر الروايات ضحالة عن التآمر والخيانة والتخريب، والتي كانت الصحافة توردها من محاكمات موسكو. فهمتُ حينها بشكلٍ أوضح من أي وقت مضى، مدى التأثير السلبي للبروباغندا السوفييتية على الحركة الاشتراكية الغربية.

هنا ربما يجب عليَّ توضيح موقفي من النظام السوفييتي: لم أزُر روسيا أبداً، ومعلوماتي عنها تأتي في جُلّها مما طالعتُ في الكتب والدوريات والصحف. في الحقيقة حتى لو كنتُ أملك النفوذ، وهو أمرٌ لا أملكه طبعاً، لما تدخلت البتة في الشؤون الداخلية للاتحاد السوفييتي. لن أدين ستالين وبطشه فقط بوصفه ينتهج سياساتٍ بربرية وغير ديمقراطية، لأنني سأترك هامشاً للشك بأن نظامه، مدفوعاً بكل النوايا الجيدة، لم يكن بإمكانه أن يرسي دعائم الدولة بطريقة أخرى في الظروف العصيبة التي مرت بها البلاد.

لكني في المقابل، لطالما أوليت أهميةً كبيرة لضرورة أن يعرف الناس في غرب أوروبا، الوجه الحقيقي للنظام السوفييتي وتطلعاته. بالنسبة لي، كان الأمر جليّاً، فمنذ العام 1930 لم يكن الاتحاد السوفييتي يدفع بأي شكلٍ من الأشكال تجاه ما يمكن اعتباره اشتراكية حقيقية. بل على العكس، كنتُ مصدوماً بالإشارات الواضحة للتغيرات التي طرأت لتُحول المجتمع هناك إلى مجتمع قائم على هرمية صارمة، لا يختلف حكامه في تشبثهم بالسلطة عن أي طبقة حاكمة في الأنظمة الأخرى.

لم يكن كثيرون من العمال والنخب المثقفة في انكلترا يوافقون على هذا التوصيف، لا بل إنهم لا يستطيعون التمييز بين حال الاتحاد السوفييتي اليوم وحاله في العام 1917. مردُّ ذلك في جزء منه إلى عدم رغبتهم فعلاً بالتصديق. إما لأنهم يريدون أن يبقوا على قناعتهم بأن دولة اشتراكية حقيقية قوية مازالت موجودة في هذا العالم، أو لأن بعضهم فعلاً عاجزون عن فهم ممارسات الأنظمة الشمولية وهم يعيشون بظل ديمقراطية نسبية تحمي الحريات الأساسية في الفضاء العام.

لا يجب أن يُفهم من كلامي بأي حال، أنني أقصد أن انكلترا هي نظام ديمقراطي متكامل. على الإطلاق، هذا نظام رأسمالي يقوم على التمييز الطبقي. حتى وإن كان قد تغير قليلاً بعد حرب طاحنة دفعت إلى خلق مساواة نسبية بين الجميع، إلا أن الفروق الكبيرة في الثروة والنفوذ ما زالت راسخة.

رغم ذلك تبقى انكلترا بلداً عاش فيه الناس لمئات السنين مؤخراً بدون صراعٍ دمويٍ داخلي، وهو بلد شُرعت فيه قوانين عادلة إلى حدٍ معقول لتنظم الحياة العامة فيه، كما أن مصادر أخباره وإحصاءاته الرسمية لا تزيف الحقائق أو تُحجبها بشكلٍ فاضح. وأخيراً وليس آخراً، فإنه بلدٌ يمكن لك فيه أن تنحاز لرأي أقلية، أو أن تنتمي أنت نفسك لأقليةٍ ما دون أن ينطوي ذلك بالضرورة على خطر أن تدفع حياتك ثمناً لذلك.

في مثل هذا المناخ السياسي، فإن رجل الشارع العادي، لا يملك تصوراً ملموساً لمصطلحات من طينة «معتقلات الموت»، أو «الترحيل الجماعي القسري» أو «الاعتقال بلا محاكمة»، أو «الرقابة الصارمة على الصحف»، واللائحة تطول هنا. فكل شيء قد يقرأه عن دولة كالاتحاد السوفييتي سيقوم بترجمته بشكل عفوي إلى ما يقابلها في الحياة السياسية في انكلترا، وعليه فلن يكون قادراً على تصور طبيعتها العيانية، وبالتالي سيقبل ادعاءات البروباغندا الشمولية التي تروج لسرديات عن افتراء الآخرين عليها، ونعتها بالديكتاتورية المُتسلطة.

فقط لتوضيح هذه النقطة، يكفي أن نتذكر بأنه وحتى العام 1939، وحتى بعد هذا التاريخ، فإن معظم الانكليز لم يستوعبوا حقاً الطبيعية الحقيقية للنظام النازي في ألمانيا. يحدث هذا تقريباً اليوم تجاه النظام السوفييتي، لا زال عموم الناس يرزحون تحت جهل عام بطبيعة النظام هناك، وأقصد هنا بالضبط فهماً أعمق لممارساته الداخلية، وليس فقط توجهات سياساته الخارجية.

سبّب هذا باعتقادي ضرراً عظيماً للحركة الاشتراكية في انكلترا، كما كان له تأثيرات على السياسة الخارجية الانكليزية. برأيي الشخصي، فإن لا شيء ساهم في تردي الفكرة الأصلية عن الاشتراكية كما فعل الاعتقاد بأن روسيا هي دولة اشتراكية، وبأن علينا الاقتداء بسياسات نخبها الحاكمة، إن لم يكن تقليدها.

ولهذا السبب بالذات، تملكتني القناعة في العشر سنوات الماضية، بأن تحطيم البروباغندا السوفييتية الشمولية، هو الخطوة الأساس إن كنا نريد إحياء الحركة الاشتراكية.

لدى عودتي من اسبانيا، تملكتني هذه الرغبة في فضح الكذبة السوفييتية عبر حكاية يسهل تلقيها وفهمها من قبل أي شخص، كما يسهل ترجمتها إلى لغاتٍ أخرى. لكن الوقائع الحقيقية للحكاية لم تخطر لي إلا بعد مرور بعض الوقت، كنتُ آنذاك أعيش في قريةٍ صغيرةٍ في الريف. شاهدتُ ولداً صغيراً، لم يبلغ العاشرة من عمره، كان يقود عربةً في ممرٍ ضيق، وكان يسوط الحصان بقوة في أي لحظة يفكر فيها هذا الأخير بالالتفاف نحو طريقٍ فرعي. فجأة باغتتني هذه الفكرة: لو أن هذه الحيوانات الجبارة أدركت قوتها الحقيقية بالمقارنة بمن يقودها، لما امتلكنا أي تحكم فيها وبمصائرها. الأمر شديد الشبه بعلاقة الأغنياء والمُّلاك بالمسحوقين الذين يتحكمون بقوتهم.

انطلقتُ من هذه الفكرة لأواصل تحليل النظرية الماركسية من وجهة النظر المُحتملة للحيوانات. كان من الجلي لي أنه بالنسبة لهم، فإن فكرة الصراع الطبقي بين البشر تمثل وهماً محضاً، فببساطة كلما تطلب الأمر اضطهاداً للحيوانات، لوجدتَ البشر جميعاً وبمعزل عن طبقاتهم متحدين في هذا الأمر. اضطهاد الحيوانات وسوء معاملتها هو إذن أمرٌ عابرُ لخلافات البشر. الصراع الحقيقي بالنسبة للحيوانات هو بينهم وبين البشر، كل البشر.

انطلاقاً من هذه الفكرة، لم يكن صعباً عليَّ التوسع في الحكاية. على أني لم أنجزها كاملة حتى العام 1943، لأنني كنت طوال الوقت مشغولاً بأعمال أخرى لم تمنحني الوقت الكافي لأنجز الرواية. في النهاية وبمرور الوقت ضمّنتُ الحكاية بعض الأحداث أو التواريخ المفصلية، مثل «مؤتمر طهران»مؤتمر طهران عُقد ما بين 28 نوفمبر و1 ديسمبر 1943، وضمَّ الرئيس الأميركي روزفلت، والزعيم السوفييتي ستالين ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل، لتنسيق المواقف حول قضايا عديدة متعلقة بمجريات الحرب العالمية الثانية، وقد كان أهم مخرجات الاجتماع هو الاتفاق على فتحة جبهة جديدة ضد القوات النازية في غرب أوروبا- المترجم.، والذي تزامنَ انعقاده أثناء انكبابي على الكتابة. إذن فقد كانت الخطوط الرئيسية للحكاية ماثلة في ذهني عبر ست سنوات، قبل أن أشرع فعلاً بتدوينها.

 لا أرغبُ في الاستفاضة بالتعليق على العمل، فلا مدعاة للفشل أكثر من التكلم عن عملٍ أدبي عوض أن نتركه هو يتكلم عن نفسه. لكني أرغب فقط في التأكيد على نقطتين:

الأولى: بالرغم من أن أجزاء متنوعة من العمل قد استلهَمت أحداثاً حقيقة من الثورة الروسية، لكن هذا الاستلهام قد تعامل بحرية مع هذه الأحداث وترتيبها الزمني. كان الأمر ضرورياً لي لبناء الحكاية بالشكل الذي انتهت عليه.

الثانية: والتي للأسف غابت عن معظم النقاد الذين تناولوا العمل، ربما لأنني لم أشدد عليها بشكل كافٍ من قبل. هو الخروج بالانطباع التالي: نهاية الحكاية تحمل تصالحاً بين الخنازير والبشر.

لم يكن هذا مقصدي على الإطلاق، على العكس كانت رغبتي بأن أنهي الحكاية بإشارة إلى استمرار الصراع. إذ أني أنهيت الكتابة مباشرة بعد مؤتمر طهران، والذي ظن الجميع أنه أسس لعلاقات أفضل بين الاتحاد السوفييتي والغرب. لم أصدق في حينها أن هذه الخطوة ستكلل بالنجاح حقاً، وقد تتالت الأحداث سريعاً لتثبت صحة شكوكي.

لا أعرفُ ماذا عليَّ أن أضيف بعد؟ إذا كان أيٌ منكم مهتماً بمعرفة تفاصيل شخصية عني، حسناً سأخبركم أنني أرمل، وأبٌ لابنٍ على وشك أن يتمَّ عامه الثالث. حرفتي ومهنتي هي الكتابة، وقد عملتُ بشكلٍ رئيسي كصحفي منذ بداية الحرب. الدورية التي ساهمت فيها بشكل دوري هي «التربيون»، وهي أسبوعية سياسية اجتماعية، تٌعبر، بشكل عام، عن الجناح اليساري في حزب العُمّال.

ربما تكون كتبي التالية التي سأورد عناوينها تباعاً، محط اهتمام عموم القراء (بالطبع إن كان قُرّاءُ هذه السطور سيجدون نسخة منها بلغتهم الأم). وهي: «أيام بورمية» (وهي قصة عن بورما). «حنين إلى كاتالونيا» (مستوحاة من معايشتي لمراحل من الحرب الأهلية الاسبانية). «مقالات نقدية» (وهي مقالات بمعظمها عن الأدب الانكليزي المعاصر، تتناوله من وجهة نظر سوسيولوجية، أكثر من كونها نقداً أدبياً تقليدياً).

مُلحق من دار النشر «بينغوان»

تم طرح فكرة ترجمة «مزرعة الحيوان» إلى اللغة الأوكرانية، لتكون متاحة لمواطنين أوكران نازحين في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وكما ورد في رسالة كتبها إيغور تشيفشنكو، الذي نظم ترجمة وتوزيع الكتاب لاحقاً، فإن هؤلاء النازحين كانوا ممن دعموا بإخلاص ثورة أكتوبر، ومازالوا مصرّين على الدفاع عن مكتسباتها، لكنهم في الوقت عينه وقفوا ضد ما اعتبروه «ثورة ستالينية مضادة»، وضد «استغلالٍ قومي روسي للشعب الأوكراني». كان هؤلاء النازحون في معظمهم أناساً بسطاء، فلاحون وعمال، بعضهم كان متوسط التعليم، لكنهم وعلى اختلاف مستوى تعليمهم، نهمون للقراءة.

اقترحَ تشيفشنكو على جورج أورويل أن يكتب تقديماً خاصاً لهذه الطبعة. لم نعثر على النسخة الانكليزية الأصلية التي كتبها أورويل، وإنما قمنا بإعادة ترجمة النسخة الأوكرانية إلى الانكليزية. كان أورويل قد أصرَّ على أن لا يتقاضي أي حقوقٍ فكرية لقاء هذه الطبعة، ولا لقاء طبعات مماثلة كان الغرض منها إيصال الكتاب إلى شرائح من الفقراء والبسطاء (كطبعة فارسية من الكتاب). يُذكَر بأن أورويل كان قد دفع بنفسه تكاليف طبعة روسية صغيرة على ورق رخيص، كان الغرض منها أن يتم تسريبها وتوزيعها على الجنود وعموم الناس وراء الستار الحديدي.