يمتدُ طريق الكاستيلو على شكل قوسٍ شمال حلب واصلاً شرقها بغربها من دوار الجندول إلى دوار الليرمون، ومن دوار الليرمون يمكن الاتجاه شمالاً عبر طريق غازي عنتاب إلى ريف حلب الشمالي ثم الحدود التركية، أو جنوباً إلى قلب الأحياء الغربية من حلب، ومنها غرباً عبر طريق دارة عزة إلى ريف حلب الغربي، أو إلى طريق دمشق الدولي.
يطلقُ سكان حلب عليه اسم الكاستيلو نسبةً إلى مجمّعٍ سياحيٍ يحمل هذا الاسم على الطريق، ويتضمن مطعماً ومسبحاً وصالات أعراس وحفلات. ويفترضُ بهذا الطريق أن يلعب دور المتحلق الشمالي للمدينة، الذي يجنّبُ المسافرين من شرقها وشمالها إلى غربها وجنوبها المرور في الازدحام، ولكنه لم يكن يلعب هذا الدور إلا بالنسبة لأصحاب السيارات الخاصة وشاحنات النقل. أما بالنسبة لعموم السكان في أحياء حلب الشرقية والأرياف، فقد كانوا مضطرين إلى دخول قلب حلب لاستخدام وسائل النقل العامة، إذ لم يكن هناك سيارات نقلٍ عمومي تجتازه لأنه ليس ثمة وجود لتجمعات سكنية قربه، بل تنتشر على طرفيه مناطق صناعية وورشٌ ومزارع في بعض الأحيان، وفي الغالب أراضٍ خالية.
شمالَ الطريق، أي على يمينه بالنسبة للمتجهين من أحياء حلب الشرقية نحو الليرمون، توجد منطقة الشقيّف الصناعية وخلفها شمالاً مخيم حندرات، وبعدها مجمع الكاستيلو وخلفه شمالاً مزارع الملّاح المشرفة على الطريق، والتي يفصلها عنه جرفٌ صخريٌ ثم بضعة مئاتٍ من الأمتار من الأراضي الخالية، التي تتواصل على جانب الطريق الأيمن حتى دوار الليرمون، وتقطع فراغها بعض المزارع المتناثرة.
أما على يسار الطريق، فتوجد أراضٍ خالية تمتد نحو كيلومترٍ عمقاً وصولاً إلى حي الشيخ مقصود ذي الغالبية الكردية الذي يشرف على الطريق، وتتصل به غرباً أحياء السكن الشبابي وبني زيد المتداخلة مع حي الأشرفية، وتمتد الأراضي الخالية على يمين الطريق حتى مبنى سادكوب الذي يليه فوراً دوار الليرمون.
تجدرُ الإشارة إلى أن اسم الكاستيلو كان يُطلَقُ قبلَ الثورة على الجزء الأول من الطريق حتى المجمُع، أما باقي الطريق حتى دوار الليرمون، فقد كان يُعرَف باسم طريق الليرمون، إلى أن طغى اسم الكاستيلو على الطريق كله في زمن الثورة. وكان هذا الطريق يلعب دوراً آخر بالنسبة لجزء من سكان حلب قبل الثورة، إذ كان متنفساً لهم ولعائلاتهم، يتجهون إليه مصطحبين حوائجهم البسيطة لقضاء الوقت على المسطحات العشبية وتحت الأشجار في الجزء القريب من الليرمون، كان مساحةً للنزهة بالنسبة لمن لا تسمح لهم ظروفهم الاقتصادية بأنواعٍ أخرى من السياحة.
كانت هذه حال طريق الكاستيلو حتى أواسط عام 2012، عندما انتقلت المعارك إلى داخل حلب، وسيطرت فصائل الثورة السورية على أجزاء منها، ليبدأ المسار الذي انتهى بطريق الكاستيلو ليصبح أخطرَ طريقٍ في العالم، وليصبحَ شريان الحياة الوحيد لنحو نصف مليون نسمة، وميداناً لمعارك فاصلةٍ في تاريخ البلاد.
الثورة المسلّحة
بدأت مجموعاتٌ مسلحةٌ بالظهور في أحياء حلب الشرقية الثائرة على النظام في النصف الأول من عام 2012، وفي تموز اندلعت أولى الاشتباكات العنيفة مع قوات النظام في حي صلاح الدين، لتدخل بعدها مجموعات فصائل الثورة السورية المسلحة من أرياف حلب الشمالية والشرقية على وجه الخصوص، معلنةً بدء معركة تحرير حلب، وكان لواء التوحيد بقيادة الشهيد عبد القادر الصالح هو القوة الضاربة المكونة من أغلب فصائل ريف حلب الشمالي آن ذاك.
لم يؤدِ ذلك إلى اكتساب طريق الكاستيلو أي أهمية خاصة، حتى أنه كان غير قابلٍ للاستخدام في البداية بسبب تمركز قوات النظام على دوار الليرمون وفي حي الشيخ مقصود، وفي مستشفى الكندي القريب من مخيم حندرات. وبقي قليلَ الأهمية حتى بعد سيطرة فصائل المعارضة بالاشتراك مع القوات الكردية على حي الشيخ مقصود، وعلى مستشفى الكندي ودوار الليرمون، وذلك لأن أرياف حلب الشمالية والشرقية والجنوبية كانت مفتوحةً على أحياء حلب الشرقية عبر عشرات الطرق الرئيسية والفرعية، وكان النظام متمركزاً في عدة نقاط وثكنات وقواعد عسكرية شرق حلب، لكن معظمها بات محاصراً أو شبه محاصرٍ تباعاً، أو يصعب الوصول إليه بشكلٍ آمنٍ بالنسبة لقوات النظام.
بقي مطار حلب الدولي ومطار النيرب العسكري شرق المدينة تحت سيطرة قوات النظام أيضاً، لكنهما كانا شبه معزولين عسكرياً عن نقاط تمركز قوات النظام في أحياء حلب الغربية، وعن قوات النظام في بقية مناطق البلاد.
في أواخر 2012 وأوائل 2013 كان النظام يبدو في حالة تراجعٍ شاملة في حلب، واتجهت فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية التي باتت مسيطرة على معظم ريف حلب إلى حصار الثكنات والمواقع العسكرية للنظام أو مهاجمتها في جميع أنحاء حلب وريفها، وبدت مدينة حلب وكأنها على وشك الخروج بشكل كاملٍ عن سيطرة النظام.
من الهجوم إلى الدفاع
كان إعلان قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام في نيسان من عام 2013 حدثاً فارقاً في تاريخ الثورة السورية، إذ بدأ يتصاعد التوتر تدريجياً بين عموم فصائل الجيش الحر والفصائل الإٍسلامية وجبهة النصرة وتنظيم الدولة، وهو ما زادَ من انشغال الفصائل بصراعاتها، التي كانت قد بدأت أصلاً قبل ذلك، على السيطرة على المناطق ومصادر الموارد من مالٍ وآلياتٍ وعتادٍ وذخائر، كما زادَ من اهتمامها بتخزين السلاح والمال استعداداً لمعارك داخلية محتملة.
كذلك كان الهجوم الكيماوي في آب 2013 وما تلاه من إحباطٍ وصعودٍ للتطرف عاملاً حاسماً، إذ تنامت شعبية تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، وتنامت معها النزاعات بين الفصائل. كانت سيطرة قوات النظام السوري على خناصر، ثم على السفيرة في ريف حلب الجنوبي الشرقي في مطلع تشرين الثاني من العام نفسه بداية التحول لصالح النظام في حلب، وحمَّلَت أغلبُ فصائل الثورة السورية ونشطائها المسؤوليةَ لتنظيم الدولة الذي انسحبَ دون قتالٍ جدي من هناك، ما أتاحَ للنظام السوري تأمين الطريق الشهير المعروف بطريق أثريا-خناصر في مطلع 2014، لينجحَ بذلك في تأمين قواعد ومطارات وثكنات محيط حلب، ثم يتقدم مستعيناً بطرق إمداد آمنة وينجحَ في تأمين طريق الراموسة جنوب حلب، ويصلَ الأحياء الغربية في حلب ببقية مناطق سيطرته في سوريا بشكل آمنٍ وشبه مستمرٍ حتى اللحظة.
خسرت بذلك الأحياء الشرقية في حلب ممراتها وطرقها إلى ريف حلب الجنوبي والجنوبي الشرقي، وعلى الرغم من ذلك بقيت لها طرقاتٌ أبرزها طريق النقارين الواصل إلى مدينة الباب شرق حلب، والطرق الفرعية التي تمر عبر مناطق هنانو والشيخ نجار وحندرات شرق حلب وشمالها الشرقي، وكذلك عبر عقدة باشكوي شمال حلب، وهي عقدة بالغة الأهمية كونها تصل ريف حلب الشمالي بالمدينة وريفها الشمالي الشرقي عبر عشرات الطرق الزراعية.
كان الصراع المسلح مع تنظيم الدولة الإسلامية، الذي اشتعلَ مطلع عام 2014، البدايةَ الجدية لما يعرف بشبح حصار الأحياء الشرقية في حلب، إذ بعد أن انسحب التنظيم من مناطق سيطرته في مدينة حلب، ومن بينها مناطق محيطة بالكاستيلو، انسحبَ منها بعد خسارته المعركة مع الفرقة 16 وبعض فصائل الجيش الحر المساندة لها هناك، أصبحَ سلوكُ جميع الطرق الفرعية إلى شرق حلب وشمالها الشرقي خطيراً بسبب سيطرة التنظيم وتحصينه لمواقعه هناك على الطرقات المؤدية إلى الباب وأخترين. غير أن هذا لم يَطُل كثيراً، حيث انسحب التنظيم من النقارين ومن مواقعه في منطقة الشيخ النجار ومحيط مدينتها الصناعية نحو الشرق دون قتال، ما أفسحَ المجال أمام قوات النظام للتقدم شمالاً وحصار الفصائل المتمركزة في المنطقة الصناعية ما أجبرها على الانسحاب إلى داخل حلب، لتصبح الأحياء الشرقية في حلب مطوقةً منذ صيف 2014 بقوات النظام من ثلاث جهات، الغرب والجنوب والشرق، ومفتوحةً على الشمال عبر حندرات والكاستيلو.
حاولت فصائل الجيش السوري الحر والفصائل الإسلامية في حلب استعادة زمام المبادرة ودفع شبح الحصار، وهاجمت بعنفٍ مواقع قوات النظام في عدة مناطق من حلب طيلة عام 2014، وأوشكت على إعادة فتح ثغرة جنوب حلب عند الراموسة، ما كان سيتسبب في حال نجاحه بإطباق الحصار مجدداً على أحياء حلب الغربية الخاضعة لسيطرة قوات النظام.
لم تُجدِ تلك المحاولات نفعاً، وواصلت قوات النظام السوري مدعومةً بمليشيا حزب الله وميلشيات عراقية وإيرانية تقدمها من مواقعها في مدينة الشيخ نجار الصناعية باتجاه الشمال والشمال الغربي، لتحكم سيطرتها في الربع الأول من عام 2015 على حندرات وسيفات وعقدة باشكوي الاستراتيجية وصولاً إلى أطراف رتيان وحردتنين القريبتين من نبل والزهراء، وذلك بعد معارك كرٍ وفرٍ طويلة وقاسية كلفت الطرفين مئات القتلى، ومرت بمحطاتٍ مفصلية كان من أبرزها فك قوات النظام للحصار عن سجن حلب المركزي شمال شرق مدينة الشيخ نجار الصناعية في أيار من عام 2014، ثم تقدمها تدريجياً نحو الشمال الشرقي.
من الدفاع إلى مقاومة الحصار
بات مهماً جداً تأمين طريق الكاستيلو وتحصينه، فهو الطريق الوحيد الآمن تماماً بعد أن أصبحت قوات النظام متاخمةً لمخيم حندرات ومزارع الملاح شمال الكاستيلو، فقامت الفصائل بتدعيم مناطق سيطرتها على دوار الليرمون ومحيطه وجبهات الخالدية وبني زيد المجاورة، وفي مخيم حندرات ومنطقة الشقيف الصناعية ومزارع الملاح، وتم تعبيد طريقٍ ترابيٍ يصل الكاستيلو بكفر حمرة دون المرور بدوار الليرمون الذي بات نقطة اشتباكٍ وتمركزٍ عسكريٍ دائمة، ويمكن الاتجاه بعد ذلك من كفر حمرة نحو ريف حلب الشمالي، أو نحو ريف حلب الغربي ثم إدلب عبر طريق بابيص.
هكذا باتَ الكاستيلو هو الشريان الوحيد الذي يغذي فصائل مدينة حلب بالسلاح، ويغذي المدنيين فيها بمختلف البضائع القادمة من أرياف حلب، ومن معبري باب السلامة وباب الهوى، وبهذا لم يعد طريقاً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل بات ثغرةً بعرض بضعة كيلومترات، مؤمنةً بشكل جيد، لكنها يمكن أن تكون ساحة حرب مفتوحة بسبب عدم وجود مناطق سكنية على طرفيها.
أخذت الوحدات الكردية المتمركزة في حي الشيخ مقصود تشكل تهديداً جدياً على طريق الكاستيلو منذ أواسط عام 2015، إذ أدت خلافات بينها وبين الفصائل إلى انسحاب الأخيرة من غرفة العمليات المشتركة في شهر أيار، مع الاحتفاظ بمواقع لها في أطراف الحي، وحاولت الوحدات الكردية قطع الطريق نارياً عدة مرات اعتباراً من مطلع تموز، وأدى ذلك إلى اشتباكات بينها وبين الفصائل، انتهت بهدنة بين الطرفين، وانسحاب الفصائل من مواقعها على أطراف الحي، مقابل عدم قيام الوحدات الكردية باستهداف الطريق مطلقاً، وذلك في 28 أيلول 2015. وبعد ذلك بيومين فقط، بدأت الغارات الجوية الروسية دعماً لقوات النظام السوري والميليشيات التي تساندها.
كانت نتائج التدخل الروسي كارثيةً على الثورة السورية وقواها التي تخوض معارك مفتوحة مع النظام وتنظيم الدولة، والمشتتة في الوقت نفسه بسوء التنظيم والخلافات الداخلية والصراعات بين الفصائل، ونجحَ النظام بغطاءٍ جويٍ روسي في التقدم من مواقعه في باشكوي والسيطرة على حردتنين ورتيان ومعرستة الخان في مطلع شباط من العام الجاري 2016، وفكِّ الحصار عن نبل والزهراء، بعد أن كان قد فشل في ذلك قبل نحو عامٍ وتكبد خسائر فادحة في العتاد والأرواح.
بذلك تم فصل ريف حلب الشمالي إلى قسمين، وواصلَ النظام قصفه العنيف على قرى حيان وحريتان وعندان وكفر حمرة، وفي الوقت نفسه كانت قوات النظام تتقدم في ريف حلب الجنوبي بغية منع أي احتمالٍ لتقدم فصائل الجيش الحر وجيش الفتح وتمكنها من فتح ثغرة إلى أحياء حلب الشرقية من جهة الجنوب، وهو ما يُقال إن الفصائل تسعى إليه الآن بعد تمكنها من معاودة التقدم مؤخراً على جبهتي العيس والحاضر في الريف الجنوبي.
قامت القوات الكردية المتمركزة في الشيخ مقصود بعدة محاولات لقطع طريق الكاستيلو نارياً رغم الهدنة المتفق عليها، وقتلت عدداً من المدنيين في حوادث متفرقة، وخاصة بعد تصاعد التوتر جراء تقدم قوات سوريا الديمقراطية انطلاقاً من عفرين على حساب فصائل الثورة السورية، وسيطرتها على تل رفعت ومحاولتها اقتحام اعزاز، وقد ردّت الفصائل على محاولات قطع الكاستيلو بقصف الشيخ مقصود عدة مرات ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى.
بدأت قوات النظام السوري معركةً تم التسويق لها بوصفها معركة فاصلة لحصار حلب مطلع تموز الجاري، وسيطرت بعد معارك كرّ وفرّ على مزارع الملاح وصولاً إلى الجرف الصخري الذي يفصلها عن طريق الكاستيلو، ليصبح الطريق مقطوعاً نارياً منذ العاشر من تموز، في وقتٍ كثفت فيه من هجماتها على جبهات مخيم حندرات والليرمون، وعلى جبهتي بني زيد والسكن الشبابي قرب الشيخ مقصود.
تمكنت قوات النظام السوري في ليلة السابع عشر من تموز من تجاوز الجرف الصخري، واقتحمت لأول مرة مجمّع الكاستيلو قاطعةً الطريق بشكل فعلي، لكن فصائل الجيش السوري الحر والفصائل الإسلامية وجبهة النصرة تمكنت في ظهيرة الثامن عشر من تموز من تدمير آليات النظام التي كانت تحاول رفع السواتر لقطع طريق الكاستيلو، وتمكنت من طرد قوات النظام من صالات الكاستيلو، لتتراجع الأخيرة مرةً أخرى إلى تلة الملاح وتواصلَ قطعَ الطريق نارياً.
لا تزال المعارك مستمرةً على طريق الكاستيلو، ولا يزال النظام يحاولُ السيطرة برياً عليه مدعوماً بآلاف الطلعات الجوية ومئات المقاتلين الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين، فيما يستميتُ مقاتلو الفصائل في القتال دفعاً لشبح الحصار والتجويع عن أنفسهم وعن نحو نصف مليون إنسان داخل حلب، وذلك من خلال محاولة استعادة مزارع الملاح وصدّ هجمات النظام على جبهات الليرمون وبني زيد والسكن الشبابي ومخيم حندرات. كما يبدو أن الفصائل تعمل على البحث عن بدائل للكاستيلو، إذ حاولت يوم العشرين من تموز قطع طريق الراموسة جنوب حلب، وهو ما يمكن أن يكون في حال نجاحه بداية لفتح طريق يصل أحياء حلب الشرقية بريف حلب الجنوبي، وفي حال فشله ضغطاً على النظام وإشغالاً له بمعركة أخرى قد لا تقل خطورة عن معركة الكاستيلو.
*****
تمت كتابة هذا النص بمساعدة الكاتب مصطفى أبو شمس، وهو من سكان الأحياء الشرقية في حلب، وكان مقيماً فيها طيلة مراحل الثورة، وحتى أواخر عام 2015.