ما دفعني إلى كتابة هذه الملاحظات النقديّة لـ «الجمهوريّة» إحساسي بأنّ لي سهماً فيها، إذ يربطني بقضيّتها وبأشخاصها من الروابط ما يجعلني شريكاً في نجاحهم، كما في فشلهم.
و«الجمهوريّة»، بعد كلّ حساب، علّمتنا أشياء عدّة عن سوريّا، وحدَّت من مجهولاتنا الكثيرة بها وبتفكيرها. كذلك، ومن خلال نصوص أدبيّة وشهادات شخصيّة مؤثّرة، أعطت تلك المأساة بعض لحمها وشحمها وزادت في منظوريّتها. لكنّها، مع هذا، كان يسعها، في ما أظنّ، أن تفعل أكثر ممّا فعلت لو أنّها صبّت كلّ الشقّ المهدور من جهدها في الموضوع السوريّ ذاته، وما يتّصل به على نحو مباشر لا يقبل التكهّن. وما أقصده بالشقّ المهدور هذا الاستحضار، بسبب وبلا سبب، لـ«اليسار»، وهذا التقليب لأوجهه وصولاً إلى الانشغال بتأويلات الغرامشيّة وتطبيقاتها في الهند.
وفي هذا جميعاً ما يذكّر بالتنقيب عن الذهب في الوسط الأميركيّ. ذاك أنّ اليسار المذكور، وهو ما يضاعف الاستغراب، يقف بنسبة 90 بالمئة، إن لم يكن أكثر، في صفّ بشّار الأسد. فكأنّ «الجمهوريّة»، في هذا الجانب من اهتمامها، تشبه ما ترويه الحكاية المتداولة عن ذاك العاشق لابنة الملك الذي لا يكفّ عن ضرب المواعيد ليوم زفافهما، فيما الملك وابنته غافلان تماماً عن المسألة.
مثل هذا التعلّق العاطفيّ من طرف واحد نجد له أشكالاً كثيرة. فبين اللبنانيّين، مثلاً لا حصراً، من يكرهون حزب الله فيما لا تزال «المقاومة» عزيزة على قلوبهم، يظنّون أنّ الحزب سلبهم إيّاها وأنّهم مصرّون على استعادتها منه وتجديد الاستحواذ عليها. وهكذا يمضي الزمن مكرّساً التماهي بين الحزب والمقاومة، ومعزّزاً شوكة استبدادهما الواحد، بينما الآخرون غارقون في الأحاجي والمماحكات اللفظيّة التي تتوهّم تأصيل الهجين، والكشف عن «طبيعة فعليّة» مفترضة لظاهر عَرَضيّ ومزغول.
وفي لعبة كهذه يقيم الولاء المتوارث لسلفٍ فكريٍّ صالحٍ استدخلناه فينا على هيئة عشق ذوبانيّ في محبوب اقترنَ بغيرنا، وأنجبَ أبناءً ربّاهم كي يكونوا محاربين شرسين ضدّنا. لكنْ هل يعقل أن تكون المقاومة التي «زوّرها» حزب الله أقلّ من مجيدة وعظيمة في ذاتها الجوهريّة، التي لا تُرى بميكروسكوب ولا بتليسكوب؟
واقع الأمر، ومن دون أن يُفهم الكلام على أنّه تزكية لـ«يمين» ما، عملاً بتضادّ بسيط تمليه الثنائيّات، فإنّ السياسيّ الغربيّ الأبرز في دعم الثورة السوريّة كان الجمهوريّ «اليمينيّ» جون ماكّين، وبدوره كان المحافظ «اليمينيّ» ديفيد كاميرون، ولا يزال، متقدّماً في موقفه من الشأن السوريّ على العمّاليّ «اليساريّ» جيريمي كوربن الذي يُعتبر أكثر يساريّة من سابقيه في قيادة حزبه. أمّا الأميركيّ بيرني ساندرز، الذي تشابه حالُه في الحزب الديمقراطيّ الأميركيّ حالَ كوربن في الحزب البريطانيّ، فيصحّ فيه، هنا أيضاً، ما يصحّ في زميله العمّاليّ.
ومرّة أخرى، ليس المقصود أنّ «اليمين» يدعم الثورة السوريّة، بدليل اصطفاف حركاته المتطرّفة وراء بشّار الأسد على نحو لا تتميّز فيه عن اصطفاف الحركات «اليساريّة». فما تُدافعُ عنه هذه الأسطر أنّ المسألة برمّتها، مسألة اليمين واليسار، ليست راهنةً في ما خصّ الموضوع السوريّ، ولا يبدو الموضوع السوريّ راهناً في ما خصّها.
وقد يصرّ واحدنا على المضيّ في إسباغ المعاني النبيلة على «اليسار»، وقد يوجد من يفعل الشيء نفسه في ما خصّ «اليمين». لكنّ تلك الثنائيّة باتت من المسائل المُشكَلة والمعقّدة تعقيد المفهومين في زمننا، وآخر الأدلّة الكثيرة الاستفتاء البريطانيّ، حيث لم تَحُلْ مصيريّة موضوعه دون إمّحاء الفوارق القديمة لصالح فوارق أخرى جعلت البريطانيّين «حزبين»، واحداً لمغادرة أوروبا وآخر للبقاء فيها، وكلّ منهما يضمّ «يساريّين» و«يمينيّين».
وفي الحالات جميعاً يمكن القول إنّ موضوعة الاستبداد والحرّيّة، وهي لبّ الثورة السوريّة في ما أظنّ، ليست موضوعة يساريّة بأيّ معنىً كان لليسار. فهو، أكان في طوره الكلاسيكيّ الأوروبيّ الأوّل، أم في طوره الشعبويّ العالمثالثيّ الثاني، ليس أكثر المراجع صلاحاً للاستشارة والاستنارة في ما خصّ الصراع بين الاستبداد والحرّيّة. ذاك أنّ الطور الأوّل، الطبقيّ، حيث تربّعت في الصدارة «ديكتاتوريّة البروليتاريا» قبل أن يعزّزها لينين بنظريّة الحزب الطليعيّ في «ما العمل؟»، لم تملك في هذا المضمار سوى التأسيس لدزينةٍ من الأنظمة كلّها استبداديّة وساحقة للحرّيّة. أمّا الطور الثاني، القوميّ، فهو حيث رُسِمَ نظام كنظام الأسد، مدعوم دائماً من الصديق السوفياتيّ الصدوق ومن أحزابٍ وجبهاتٍ لا حصر لها كلّها «تمثّل الطبقة العاملة»، واحداً من عيون الأنظمة الوطنيّة التي تتصدّى للإمبرياليّة.
ولقائلٍ أن يقول إنّ اليسار المرتجى هو ذاك الذي ابتدأ مع مدرسة فرانكفورت وتوّجته، بعد انقطاع، محاولات تعيد النظر في أنظمة الرقابة والعقاب وفي المؤسّسات القاعديّة للمجتمع الرأسماليّ. لكنّ السؤال يبقى وجيهاً حول صلة الموضوعات والمشاغل المثارة هنا بما يثيره المجتمع السوريّ وثورته من موضوعات ومشاغل. والتحفّظ نفسه يصحّ على حركات اليسار ما بعد الشيوعيّ، أكان لجهة «سيريزا» اليونانيّ الذي يتخبّط في هموم المديونيّة وعلاجها، أم لجهة «بوديموس» الاسبانيّ الذي عمل بعض أبرز قادته مستشارين لهوغو شافيز.
ويُخشى، والحال هذه، أن يكون النقد اليساريّ لنظام الأسد، هو النقد الأشدّ تماسكاً والأشدّ تطابقاً مع ذاته النافية لموضوعة الحرّيّة والاستبداد. قصدت ذاك الذي يعتبر خطيئة النظام الأساسيّة اعتناقه النيوليبراليّة الاقتصاديّة. أمّا السنوات الفاصلة بين 1963 و2005 فلم يَشُبها من الشوائب ما يستحقّ الذكر، اللهمّ ما خلا الهنات الهيّنات التي يستدعيها بناء المجتمع الاشتراكيّ، كتعطيل السياسة والإفراط في توسيع السجون وبناء أقبية التعذيب.
وأيضاً قد يقول قائلٌ إنّ ما يعنيه باليسار هو ما لم يُطبّق حتّى اليوم، إذ اليسار الحقيقيّ والصائب لم يُطبّق بتاتاً. وهنا تُرفع درجة الوله من طرف واحد إلى سويّة ما يقوله مؤمنو الدين عن إيمانهم، الذي لم يجد في آلاف السنوات ومئات التجارب وعشرات البلدان ما يوفّر له التربة الصالحة للنموّ والتحوّل نموذجاً يُقتدى به.
وفي ظنّي أنّ موقفاً إمبرياليّاً جدّيّاً يضغط على الأسد، بل يزيحه، كان ليفعلَ أضعاف ما تفعله النظريّات، مُريحاً الأصدقاء في «الجمهوريّة» وسواهم من بذل الجهد المهدور في تجويد اليسار، ومسرّعاً انتقالهم إلى وعي آخر أشدّ اقتصاداً وقصديّة في اهتماماته، وأقلّ إعاقة بأثقال الأزمنة التي خلت. إلاّ أنّ الولايات المتّحدة في عهد أوباما كانت، لسوء حظّنا وحظّ سوريّا، أقلّ إمبرياليّةً وتدخّليّةً ممّا كانت يساريّةً مضبوطةً بتقليد الانكفاء عن التدخّل في العالم، ممّا يُعتبر الدائمُ الشباب والنضارة نعّوم تشومسكي نبيّه الملهم.
وأهمّ ممّا عداه، في النهاية، أنّ نظام الأسد، وعلمكم بهذا يفوق علمي، إنّما جعل المعرفة بسوريّا أقرب إلى القاع الصفصف. فبجسمه المترهّل جلس عقداً بعد عقد على تاريخها واجتماعها وطبقاتها وثقافاتها وأديانها وطوائفها ومناطقها وإثنيّاتها، وكلّ ما يتحرّك فيها. ومعرفة سوريّا، والتأمّل في مستقبلها واحتمالاته المفتوحة اليوم على مصراعيها، مهمّة عظمى تستحقّ أن تُصرف الجهود كلّها فيها وعليها، لا سيّما جهودكم وجهود أمثالكم القادرين على أن يخرجوا من الغطس بلؤلؤ ثمين.