الزمان: قبل حوالي شهر من مجزرة الجورة والقصور.
المكان: دير الزور.
وجدَ حاتم حداوي نفسه، بعد مرور السيارة التي تقلّه مع والدِه بعيداً عن ركام المعركة، أمام ضالته المتماهية مع مكان اللامقعول الذي هو فيه. إنه هذا الطالب الذي ليس هناك ثمة برهانٌ أكيدٌ أنه يعرفُ تماماً ما يحدث في بلاده، لا بدَّ أن هذا المراهق خارجَ الزمن، منعتقٌ من التسميات والأقاويل، إنه تعسٌ وفقيرٌ مملوءٌ بالعزلة حتى عن ذاته، منقسمٌ إلى جزأين لا اكتمالَ لهما.
كنتُ أرتابُ كلما فكرتُ أنني في حلم، أو تحديداً، أنني أمكث في كابوسٍ لعين، في بؤرة الشر الكلية. لقد حُوِلَت كل القضية الكارثية، المبتدئة بوجودي مع أبي في بيت متطرفٍ في مكانه عن مركز مدينة دير الزور، في حي العمال. بيتنا الذي حصلنا عليه بعد عقودٍ من التنقل بين البيوت المستأجرة كأننا غجر، غجرٌ لهم الفجر، ولهم رصاص الغدر.
أنا حاتم حداوي، رقبتي مصابةٌ من الطواف حول النفس، وأنا كل الأشخاص الذين رأيتهم في كابوسي، أنا العائلة المتسلطة عليَّ قبلياً، قبل أن تكون الثورة، وأنا الثورة على القبيلة، وأنا أخي الشهيد، وأنا حلم أبي في بيت يؤوينا جميعنا، وأنا الطالب المخبول الذي وجدناه يقف أمام المدرسة منتظراً بابها الكبير الأسود ليفتح، كي يدخل ويجيب على أسئلة مادة القومية في فحص الثانوية العامة، وقفَ في شارعٍ مرصودٍ من قناص دبابة، بكامل الثبات والهدوء.
يُخيل إليَّ كما لو أن الطالبَ مجموعُ أشخاص مزيفين، يقبعون في شخص واحد، وربما يتواجدون جميعهم في داخل رأسي فقط؛ يقف المراهق منتظراً مدرسةً حكوميةً أن تفتح ليدخل، أما نحن فقد كنا في زمن الخروج من المعركة، فبدا الذهول كما لو أنه كان مسخاً مجسداً في صورة المراهق، يأكل حقيقتنا بيديه الخاويتين. إنه تماماً يمثل الكتلة الجليدية البشرية، التي تفصل الريف عن المدينة.
ليس عليَّ تصديق حقيقته المتبدية، فالزمن لديه لا يشبه زماني أنا، ولست هو في كل الأحول، وأنا أجتاز موتي. لكنني فكرتُ أن أطلب من السائق أن يتوقف، كي أهبط، وأدخن سيجارة، كنت سأخرج من جيبي دفاتراً صغيرة تصلح للغش في الامتحان، وأطلب منه أن يهرّب لي الإجابات الصحيحة حين تحين الفرصة. تخيلتُ نفسي أدخل المدرسة معه، إلا أن أبي قاطعني، أو قاطع شرودي، صاحَ في وجه المراهق: «ماذا تفعل هنا يا ولد؟»، جاء الجواب متصاعداً، كأنه يخرج من بئرٍ عميقة، خلتُ أن الصوت يصدر من داخلي، قال: «فحص مادة القومية اليوم، أنا في البكالوريا»، وهزَّ رأسه مستفهماً. ردَّ أبي بكامل الغضب: «قومية؛ يا ابن الكلب، تعال إلى هنا». جاء الولد هزيل الملامح، والذي يعتقد ربما أن أبي مدير هذه المدرسة المليئة بأشباح المقاتلين والحرب، إلى مقربة من سيارة التاكسي، أمسكه أبي من أذنه بعد أن فتح الباب ووقف، وقال له: «اصعد إلى السيارة يا معتوه». شعرتُ بالألم في أذني قليلاً، وظننتُ أنها احمرت قليلاً، لكن جسد الولد المتصلب التصقَ بجسدي، بعد أن رمى بنفسه إلى جواري في المقعد، وبدّدَ توهماتي؛ رمقتُه بنظرةٍ بائسة، هذا المعتوه الذي منعني أن أدخن سيجارة، بعدما اجتزنا شارعين من الشوارع المُسيطر عليها من قبل قناصة نظام الأسد، نتحركُ ببطءٍ صوبَ مركز المدينة.
تعودُ من جديد صورة الشاب المراهق واقفاً هناك، لتسحق ذاكرتي العنيفة المترسبة من المعركة، لتصير الذاكرة صلبةً جداً، حدَّ التصاقها بكامل ذاكرتي الشخصية، تلك المنفصلة أصلاً عن ذاكرتي قبل الثورة، حدَّ تشققها بعد التماهي. دارت في رأسي صورة المراهق، كشيءٍ لولبيٍ شرسٍ يأكل ما قبلها من صور، ثم يجتره، ثم يجتافه ويعيده مريعاً وجنونياً. وكدتُ لا أشعرُ بأنفاسه في السيارة، كان ميتاً وعدمياً ومسحوقاً، وحين وصلنا مركزَ المدينة، اتجه إلى مدرسةٍ فتحت أبوابها ودخلَ لينجز فحص مادة القومية، علّه من الناجحين، وعلّني من الراسبين، في هذا اليوم القاتل من غرابته.
ثلاثة أشخاص في سيارة تاكسي، يمضون إلى المجهول، تاركين المكان محاطاً بالدبابات والقناصة. حقاً، ما زلتُ أشكُّ أنني في كابوسٍ طويل، من يكون هذا السائق الذي ظهرَ فجأةً أمام بيتنا بعد المعركة؟ في تمام الساعة السادسة صباحاً، وجدته حين هممت بالخروج أنا وأبي، من ليل الحصار الفائت، وجدناه ينتظرُ مبادراً بسؤالٍ أحمق: «هل يعمل الفرن الآلي، اليوم؟»، أي فرنٍ يا ابن الملعونة؟ هل أنتَ أنا؟ هل دخلتَ إلى الكابوس لتنقذني وأبي، من الجحيم؟ أم أنك حقاً إنسانٌ مخبولٌ آخر، يريد شراء الخبز، من شارع الموت؟ نريد التوجه إلى المدينة معك.
أنا الممثل، والمخرج، وأنا المطلّ من نفقٍ معتمٍ على الحقيقة، وأنا الروح التي تتحكم في الأرواح حولها، أنا المجتاز الأخير للمجزرة، دون أن أُقتَل؛ حتى الجنود الذين هاجموني وأبي، هم مني، كائناتي التي يلفظها جسدي، تحوم حول رقبتي، تطوف في سواد النفق، جيئةً وذهاباً، هذا النفق المظلم الذي أنا فيه الآن. أضحكُ على جملٍ تُنطَقُ من الآخرين، بكامل سذاجتها وفجاجتها، جمل لا تنتمي إلى رحلة الموت التي تجاوزتها منذ ساعات، إذ اقتحم جيش النظام السوري منزلنا، وتمركز فيه كي يتربص بالجيش السوري الحر، الثائر على القتل.
من المحتمل أن يكون المَخْرج هو صورتنا المهزوزة، بين آلاف الصور المتحركة الملتقطة في سوريا، صورتنا التي جمدتُها في رأسي، كي لا تستمر في تحركها فنُقتل، ونفتتها. جمدتُ الصورة لحظة كنا نائمين بسلام، في الليلة الأخيرة قبل يوم المعركة التي حصلت في بيتنا. لقد فتحنا الباب للمعركة ودخلت كما تدخل المعارك البيوتَ المتحضرة على أسطواناتٍ رقمية، بيوت الآخرين في الجهة الأخرى من الأرض، حيث الديمقراطية تسبب طوفان الأنهار والفيضانات، في حين أن الطغيان هنا، يجلب القصف والبراميل والإبادات الجماعية.
قلتُ لأبي مراراً أن علينا مغادرة الشقة اللعينة، فالجبل قبالتنا مرصودٌ بالآليات العسكرية والمشاة والقناصة، لكنه يخاف على المنزل المشؤوم، لذلك كان علينا أن نبقى محاصرين، وأن نفتح باب الشقة بكامل الهدوء واللياقة لضابط أمنٍ أراد أن يفتش بيتنا، قال له أبي: «ادخل يا ابني، وفتش». فتّشَ وانصرفَ مع عناصره، لكنّي من النافذة وجدت أن الدبابة وقفت قبالة البيت. تقفُ أمام كل بيتٍ في سوريا دبابةٌ لتحمي صورة القائد الخالد، ولتحمي شرف الوطن المهدور من العدو الغاشم، والجماعات الإرهابية التي تعشش في بيوت سوريا. الإرهابي هو أي مواطن مقولب في علب الأسد العالمية، لتغذية الكون بالدماء واللحوم اللذيذة، والمجهزة في وصفات الميديا.
صورتنا التي في رأسي، أنا وأبي، لا تعني أي تطابقٍ مع المواقف والأعمار المقدرة. أنا أعيدُ تكرار صورة ذاك المراهق، وأُدمي يدي كلما حاولت إبعاده عن الرصاص الهائل الذي كاد يفجر رأسه، لكنني حقاً لست متأكداً أنه أوشكَ أن يقتل، لكنْ، ما أنا متأكدٌ منه، أن شعره مُشِطَ إلى الطرف الأيسر من رأسه، ويبدو أنه وضع مستحضر التصفيف الرخيص، نوع «سوفت»، الذي يسبب الصلع، في غالب الأمر. المستحضرُ المصنع محلياً في سوريا، كان يصلح حتى لمسح الأحذية. لا فرق في القطر العربي السوري، بين ما يمسح الرأس، وما يمسح الحذاء، فالرؤوس كانت معابر للأحذية، والأحذية كانت رؤوساً تمر بخيلاء. وما هو أكيدٌ أيضاً، أن ذاك المراهق المشكوك بوجوده أمامي، قد لثمت وجهه زوبعةٌ من الغبار، حركتها سيارة التاكسي، حين قال أبي لسائقها، قف هنا. وهتف له: «تعال يا ابن الكلب، تعال، لعن الله القومية ومن ألفها». أمسكه من شعره اللزج، وأدخله السيارة، شدّهُ من أذنه أيضاً، وآلمني.
لست سوى الممثل الوحيد، هنا، وكم من الصعب عليَّ، أنا أكون أبي، أن أكون مُنجبي، وأكون حبة البازلاء في رحم أمي، أنا حبة بازلاء، ربما نسيها ذلك المراهق في جيبه، نسيها ليتسلى في أكلها، لحظة يكون متململاً داخل الصف، من الأسئلة. لا بدَّ أن سؤالاً بديهياً سيأتيه ضمن الأسئلة المحدِّدَة لمصيره في امتحان مادة القومية، السؤال الهزلي، سيكون مكتوباً بدقة: «هل تحب بشار الأسد؟»، سيكتب الطالب المُجد: «أحبه؛ كما يحب الملح الطعام». في وقت الدم والعدم والدمار، كان هذا المراهق جسداً جائعاً لمعتقلٍ لم يبرح السجن منذ عقدٍ كاملٍ أو أكثر، وكان مثل جثة، وكان هو أنا، وكان طيف أخي، وكان الرغبة في التقيؤ في وجه المدرس والمراقب ومدير المدرسة، والرئيس.
في الطريق إليه، دهشةٌ تماثل لقاءه. تطلعت إلى الأشكال والموجودات، ونحن نكمل الطريق وخلفنا منزلنا، وقف السائق للمرة الثانية، وطلب منا النطق بالشهادة؛ متى ستنتهي هذه الومضة المسرحية الهائلة، يعلمنا السائق أن الدبابة أمامنا تكشف كل الطريق العريض. وأنها تستطيع ضربنا بقذيفة، في أي لحظة؛ نطقتُ بالشهادة لأكون في مكان جيد من موتي، السائق المعتوه، الذي خرج من قلب الأرض، قرب البناء السكني الفارغ من أي ساكنين سوانا، قال أشياء غريبة عن نيته في تحضير طعام الفطور مع زوجته، وأكل الخبز الساخن، وشرب الشاي المُحلَّى جيداً.
لا أعلم لماذا تذكرت الرسالة التي أرسلها لودفيك، على سبيل المزاح، لصديقةٍ له في معسكر تدريبٍ شيوعي، وجعلته منبوذاً، وغير مفهوم، ومُفَسَّرَاً على أنه تروتسكي الهوى. رسالةٌ قصيرة، بنى عليها كونديرا روايةً عظيمة، وتداعيات فلسفية وبشرية، تسخر من كل منظومة الشيوعية، والفكر الأحادي، ومن الجدية المميتة؛ لا بل تجعل لودفيك، يُفسّر حياته كلها، ويشكك بنفسه بناءاً على هذه الرسالة، وما يتبعها من تأنيب، ومراجعة وتفنيد، لمعضلة حياته التي تسببت في طرده من الحزب، مزحته التي أجاب بها على رسالةٍ بمعنىً لا يوازيها.
كان المراهق مطابقاً في تخيلاته المنبعثة من جسده وكلماته، لتخيلات لودفيك الجنونية، في رغبته ألا يترك مصيره الأول، أن يحافظ على إيمانه بالحزب، كان المراهقُ لودفيك، وكنت أنا لودفيك أيضاً، لكن مقتولاً ومرمياً على طرف الشارع، في انتظار أن يثأر أبي لي، ويقتل غاضباً المراهقَ الطائش، الذي لا ينتظر إلا خيبة بلاده.
ماذا تقول الرسالة؟ دعني يا أبي أتذكر، وكفَّ عن حديثك، حول ترميم المنزل جيداً قبيل خروجنا. النوافذُ المحطمة والركامُ الذي يملأ الغرف لن يعود منه شيء، لكن على الجملة أن تعود. نعم، كتب لودفيك يقول: «التفاؤل أفيون الجنس البشري! الروح المعافاة تفوح بنتن الغباء. عاشَ تروتسكي. لودفيك». كم هذا جميل! لقد سخرَ من كل شيء، وحطم قيم الكلام وكان في مثل سن المراهق، إلا أنه أُخذَ على محمل الجد من الحزب الشيوعي ومن محيطه، فطُرِدَ من حزبه ومن إيمانه، بينما هذا المراهق، ما يزال يؤمن بنجاحه وعدمه، في مادة القومية.
أربع ساعات ونحن محاصرون مع جنود النظام في بيتنا، قرر الضابط أن يتمركز في بيتنا الذي تكسوه الجدران، بينما بقية البيوت عاريةٌ سوى من الأعمدة. لا بدَّ أن جيش النظام أراد أن يستخدمنا كحاجزٍ بشريٍ في مواجهة الثوار، طار باب البيت قبل ذلك، باب البيت الحديدي، ضُرِبَ بقذيفة. تمكن الجيش السوري الحر من هزيمة العدو الذي يمكث في بيتنا، احتميتُ مع أبي في داخل الحمام زهري اللون، كم كنتَ رومانسياً يا أبي في تلك اللحظة! جاء الضابط المسؤول عن الدبابة وقال للضابط الآخر، الذي نستضيفه بين الحطام: «انسحبوا فوراً، وإذا لم تنسحبوا، أرسلوا الرجل وابنه إلى الجنة»، كان يقصدني وأبي. انسحبوا أخيراً، ولم نذهب إلى أي جنة. أحضرتُ دلواً من الماء، ونظفتُ الممر قرب الحمام، ثم مددتُ سجادةً ووضعت وسادتين، وبعدها تمددت وأبي في تعاكس، دخنتُ سيجارة، كنتُ صديق المعركة، لم يعارض أبي الذي لم أكن أدخن في حضرته وقاحتي الاجتماعية، تركني على سجيتي.
في هذه اللحظة، لا أعلمُ لماذا رغبتُ في أن يأتي إلينا عجاج دير الزور بكثافة، وبالفعل بدأ تراب الهواء الثقيل يطمرنا رويداً رويداً، بعد أن هدأت المدفعية المتمركزة على الجبل، من تمشيط المكان. أضحت السماء برتقاليةً، كان ما ينقص النهار التالي لليلتنا الهادئة، أن يكون المراهق مع وهمِ حبيبةٍ له، تشبه في عدم تقبلها المزاح ماركيتا الذي أغفلها من حياته لاحقاً لودفيك، الوهمُ ربما سيمكّنه من أن يصل إلى المدرسة. فجأةً تلمستُ أن ذقني حليقة، حلقتُ لحيتي الطويلة تحت إلحاح أبي، وكنت أطلتها، لأنني فكرت يوماً أن أحيكَ منها جوارب تدفء قدمي حبيبتي، كيف سأضمُّ من أحب، بشعري الطويل؟ لقد حلقتُ رأسي أيضاً، كل هذا حتى لا يداهمنا جيش النظام، فيتهمني بالإرهاب.
حسناً يا لودفيك، لا بدَّ أنك تخلصت من سطوة الألم المؤقت لحالتك العشقية المرتبكة، لابد أنك أقنعتَ المراهق قرب المدرسة أن يعدل عن وجهة نظره في دخول المدرسة، ولابد أنك صرتَ تعرف شيئاً عن نظام الأسد وجنوده اللئام.