استكمالاً لممارسات النقد الذاتي أو تحريفاً لطقوس الرثاء أو تعميقاً لخطاب الأزمة، يعود «سؤال اليسار» دورياً على صفحات المجلات الثقافية ليطرح مسألة إرث هذا التقليد السياسي ومستقبله، وذلك غالباً في محاولةٍ لإنقاذ بعضِ «أفكاره» من حطام «الممارسة». وغالباً أيضاً، لا ينمّ هذا السؤال عن تطورات الحاضر وتحدّياته، الذي يبدو أنّه لم يعد يكترث بسؤالٍ كهذا، بل عن وضع اليسار ككائنٍ «خارجٍ عن الموضوع»، حيث يصبح الانقطاع مع الواقع الدافعَ الأساسي للسؤال، ومبرِّرَه المشيحاني. فيتحوّل «اليسار» إلى عنوان لرفض الواقع و«آخره»، أكان الحاضر معرّفاً كرأسمالي أو نيو-ليبرالي أو معولم، أو بكل بساطة مأزوم. بهذا المعنى، يقع السؤال على تقاطع خطاب أزمة الحاضر وإغراء القطيعة التاريخية والبحث المستميت عن «سياسة بديلة»، ليصبح تكرار السؤال هو المهم، في تأكيده أنّ هناك من لا يزال يكترث لهذا السؤال، رغم ركام الحاضر، أو لأنّ ركام الحاضر ليس كل شيء.

فالسؤال ليس جديداً إذن، لأنّ الأزمة ليست جديدة، ويوحي بإحساس الـ«toujours déjà vu»، كما وصفَ الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا هذا السؤال عندما واجهه بعد انتهاء الحرب الباردةDerrida, Jacques. Specters of Marx: The State of the Debt, The Work of Mourning & the New International. London: Routledge, 1994, p. 14.. فهذا السؤال ليس وليد لحظتنا، بل إنه طُرِح دورياً خلال القرن الفائت ليشكّل تسلسلُ الإجاباتِ عليه مرآةً لتقلّبات الفكر العربي. ففي اللحظة الوحدوية مثلاً، دُمِجَ اليسار بالقومية، بعدما تمّ التأكّد من تقدميتها، قبل أن تُستبدل، للبعض على الأقلّ، بالإسلام السياسي كالشريك الأصيل ليسارٍ مشكوك بجذوره. ومع بداية مرحلة «ما بعد الإيديولوجيا»، أُعيدَ استكشاف الجانب «الديموقراطي» لهذا التقليد، تماشياً مع ليبرالية صاعدة أو نقداً لها. ومع مفاجأة الثورات، عاد البعض ليؤكدوا رهان اليسار وثوريته، قبل أن تنقلب الأمور ويعود الواقع إلى «طبيعته»، حيث اليسار «آخره» وخارج عن سياقه. وربّما يكون المطلوب منا اليوم المشاركة في هذا التقليد واستكمال البحث عن يسار مجدّد، انطلاقاً من واقعنا «ما بعد الثوري»، أي البحث فيما جرى عن إشارات ليسارٍ مُنتظر، أو بكلامٍ أدّق، البحث فيما لم يجرِ عن مطلبٍ ليسارٍ مُنتظر. المشاركة بالسؤال، بغض النظر عن الإجابات، هي المشاركة بتقليدٍ يؤمّن بعض الطمأنينة بوجود صحبةٍ من الرفاق سألت سؤال اليسار من قبل وأجابت عليه، صحبةٍ تجديدُها مضمونٌ بحتمية تجديد الأجيال. السؤال راهنٌ لأنّه خارجٌ عن الموضوع، وهو راهنٌ لأنّه كان دائماً خارجاً عن الموضوع.

أو على الأقلّ، هكذا يبدو السؤال اليوم، مجرّد تكرار مُطمئِن بأنّه لا بد من «يسار» في المستقبل رغم ماضيه وحاضرنا. بيد أنّ هذا التكرار المُطمئن قد يُخبئ روايةً أخرى، أقلّ طمأنينة، عن قطيعةٍ في تاريخ هذا التقليد حوّلت التكرار من محاولة لضمان المستقبل إلى تمارين في استذكار لحظاتٍ ما في الماضي، لحظات كان «لسؤال اليسار» فيها معنىً سياسي. فالسؤال يبدو من بعد القطيعة أقرب إلى تعبيرٍ عن شك أو مخاوف بأنّ يكون اليسار «مجرّد» مرحلة تاريخية، لها بداية ونهاية، وأشبه بحفريات عن طريقة حياة لم يبقَ منها إلّا إشاراتٌ خفية وركامٌ مطمور. أو بكلامٍ آخر، عكس المشيحانية التي تدفع «سؤال اليسار» نحو مستقبل لا يحدّده إلّا اختلافه عن الحاضر، ماذا لو أصبح الكلام عن اليسار أسيراً لـ«نوستالجيا»، كما اكتشفت على مضض الكاتبة سفيتلانا أليكيسيفيش في نهاية الرجل الأحمر Alexievitch, Svetlana. La fin de l’homme rouge. Actes Sud. 2013. أو بكلامٍ آخر، هل باتت المشيحانية طريقةً لإشباع حنينٍ غير معترف به، تبحث في المستقبل البعيد عن إشارات لماضٍ لا نريد الاعتراف بأنّه زال؟

في ردّه على انزعاج الحزب الشيوعي اللبناني من إغفال دوره في إطلاق المقاومة، طالب حازم الأمين الحزب بتدبير أمين عام جديد له «يدير تاريخ الحزب على الأقل، ويدير إرثاً وتجربة أغنى من هذه الوجوه المسطحة التي لا تقول شيئاً» حازم الأمين، «الحزب الشيوعي المازوشي»، ناو ليبانون، 15/02/2016. هل لم يعد الصراع على اليسار إلّا صراعاً على تاريخه، أو خلافاً حول إدارة وحصر إرثه، أو تنافساً حول أنسب طريقة للتعايش مع عالمِ ما بعد القطيعة؟

من حاضرنا الممتد من استذكار دريدا لماركس في بداية التسعينات، إلى عودتنا لهذا السؤال بعد الثورات العربية، نواجه هذا السؤال من دون ضمانة التكرار، لنتحوّل إلى «مؤرخين» يحاولون تدبير إرث هذا التقليد، أو لرفاقٍ يحاولون التعايش مع عالم ما بعد القطيعة. وتتمثل هذه القطيعة بانهيار وعد اليسار في العالم العربي بمصالحة ما شطرته الحداثة، أي التقدّم والتحرّر، الاجتماعي والسياسي، المحلي والعالمي، العمل النظري والسياسي. لم يكن انهيار هذه الأرضية الموحِّدة مجرّد حدثٍ سياسي مرتبط بغفلة الأحزاب اليسارية أو إغلاق الفضاءات السياسية أو انهيار الاتحاد السوفييتي فحسب، بل شكّل هذا الانهيار حدثاً أعمقَ من ذلك، حيث تقاطع عدد من التحوّلات والمسارات، كبروز نقدٍ حادٍ للحداثة مع صعود مسألة الهويات وانتصار النموذج الليبرالي، أدّت إلى ضرب الهندسة الفكرية لليسار، ومعها وعده. المصالحة لم تعد عنواناً سياسياً وفكرياً في عالم ما بعد القطيعة، واليسار بات خارج السياق، وإن بقيت «أفكارٌ» يسارية تطوف من هنا وهناك، أو «يساريون» يناضلون غالباً ضد الجميع. مراسم الدفن أقيمت بغياب الجثة، وأسباب الوفاة ما زالت غامضة، وحول غياب الجثة، أشباحٌ تحاول تأجيل عملية الدفن.

بالنسبة لمن دخل الحياة السياسية في عصر «ما بعد الإيديولوجيا» أو ما بعد القطيعة، شكّل اليسار، عكسَ وعده بالمصالحة، تمريناً على فن المقايضة والمساومة على الإرث وكيفية تبنيه. فكانت الخيارات التي نواجهها محدودة: إمّا القبول بانهيار هذه الأرضية واختيار إحدى فضلاتها والتمسّك بها، أو الاستمرار بوعد المصالحة وإن كنّا مدركين بأن الوعد لن يتحقق. فانهيار الأرضية فجّر المنظومة الفكرية لتتطاير مكوّناتها وتصبح قائمة بحد ذاتها، غالباً مع أثر بترها عن المنظومة الأم الظاهر عليها. فهناك من التقطَ العلمنة ومشى بها كبرنامجه الوحيد، وهناك من استبدل الحزب بالمنظمة غير الحكومية وشعاراتها الديموقراطية. وبالطبع، هناك من أخذ شعار مناهضة الإمبريالية كآخر عنوان يمكن بناء «يسارٍ ممانعٍ» عليه. قد يكون هذا اليسار المناهض للإمبريالية مثالاً عن المقايضات والمساومات التي فرضتها القطيعة، أي التمسّك بالشقّ الخارجي للمنظومة المنتهية صلاحيتها على حساب جوانبها الأخرى، حتى لو عنى ذلك قمعاً وإرهاباً ومجازراً في الداخل. الانحطاط الأخلاقي والخلاصة الإجرامية ليسا النتيجة الحتمية لمن قرّر التمسّك بإحدى فضلات اليسار، ولكّنها تشير إلى الأزمة السياسية والنظرية التي فجّرها انهيار وعد المصالحة.

لم يكن هذا الخيار الوحيد المتاح لنا، كان هناك إمكانية أخرى مفتوحة قائمة على محاولة رفض تلك المساومات من خلال التمسّك بوعد اليسار رغم الإدراك بانهيار الأرضية. فكان دائماً متاحاً لنا أنّ نرفض التناقض الذي يفرضه الواقع بين مكّونات اليسار والتمسّك بعدم حتمية المقايضة. وغالباً كان الحل لتلك المعضلات «لغوياً» أو «أخلاقياً»، يقوم على تنويعات «الرافضين»: رفضُ الاحتلال والديكتاتورية، رفضُ الأنظمة ومعارضاتها الإسلامية، رفضُ حكم المال وبوط العسكر، رفضُ الغرب والشرق، وغيرها من العناوين التي طغت على مرحلة «ما بعد الإيديولوجيا». ودائماً كان اليسار لأصحاب الحلول اللغوية المكوّنَ الثالث المفقود لتلك الثنائيات، يشيرُ إلى سقوط الواقع وحاجته لليسار، وإن كان لا يدرك ذلك. قد يكون هذا الموقف سليماً سياسياً، وأمنّ للبعض طريقةً للاستمرار في عالمٍ متطلبٍ أخلاقياً، بيد أنّه انتهى باليسار كمجرّد أخلاق طيبة، ترفض الظلم مهما كان.

شكّل هذان الخياران طريقتين مختلفتين للتعايش مع عالم ما بعد القطيعة، شبحين يطوفان حول مراسم دفنٍ لم تُقَم. تأقلمَ الخيار الأول مع نهاية الوعد من خلال بيع -بالرخص غالباً- هذا الإرث لقوى سياسية فعّالة. وقد تكون الثورة السورية نهاية هذا الرهان، حيث فضحته كمجرّد تبرير ركيك لمجازر نظام، كما تبيّن مع انهيار حركة «مناهضة الحرب». وإذا كان يسار مناهضة الإمبريالية يجد جذوره في انتهاء اليسار كمشروعٍ سياسي، فإن أخلقة اليسار تجد جذورها أيضاً في المرحلة ذاتها. فما سُميَّ بمرحلة «ما بعد الإيديولوجيا»، أي مرحلة ما بعد ١٩٨٩، كانت مرحلةً تمحوّرت، ليس على رفض الأيديولوجيات، بل على تحويلها من ممارسات ومعاش وسياسة إلى عملية أخلقة الأفكار بقالب ليبرالي عام. فتحوّل اليسار إلى فهرس القضايا المحقّة، التي لا يربط بعضها بعضاً إلّا أخلاق عامة تخرق الحدود الأيديولوجيّة التقليدية.

شكّل انتهاء اليسار كمكوّنٍ مستقلٍ المشتركَ بين هذين الخيارين، حيث باتَ إما تنظيراً لقوى سياسية غير يسارية أو مكوّناً من منظومة أخلاقية تتعدى حدود اليسار. أو بكلامٍ آخر، شكلّت وفاة اليسار الشرط المشترك للشبحين المتصارعين. ومن بين الأسباب النظرية لفقدان هذه الاستقلالية في العالم العربي، سقوط اليسار ضحية الاشتباك النظري حول مسألة الحداثة، الذي حوّل التقليد اليساري إلى مجرّد شكلٍ من أشكال الحداثة، بعدما كان وعداً لمصالحتها. فعودة «النهضة» ومسألة التنوير والحداثة إلى الواجهة أفرغت ما كان نقداً داخلياً للحداثة من معناه، وتقاطعَ هذا الإفراغ مع نقد اليسار من قبل ما سمي بـ«الدراسات ما بعد الكولونيالية»، التي قضت أيضاً على المسافة بينه والحداثة. بعد القطيعة، فقدَ اليسار استقلاليته السياسية وخصوصيته النظرية، لينتهي بنا أسرى لفن المقايضة والمساومة على الإرث.

البحث في «سؤال اليسار» اليوم، هو البحث فيما تبقى من هذا التقليد، بعد أن تم تفكيك أرضيته وانهيار وعده بالمصالحة بين الداخل والخارج، والاجتماعي والسياسي، والحداثة ونقدها، الاستراتيجية والأخلاق. يمكن رفض القطيعة هذه، والاستمرار بمحاولة تعريف هذا التقليد وإغناءه نظرياً. وهذا ما يقوم به عديدون، لكن غالباً من خلال تعليق سؤال السياسة وشروط إمكانيتها في منطقتنا.

نعانق هامشيتنا السياسية، ونحوّلها من مأزقٍ إلى طريقة عيش وتنظير، ونهجر السياسة الفاقدة للطهارة بعدما طردتنا. أو يمكن العودة إلى موقف من استنتج من هذا التفكيك، أو من بوادره المبكرة، ضرورة التفكير، ليس بماهية اليسار ومستقبله، بل بشروط إمكانيته كمدخل لإعادة ابتكار سياسة ممكنة، وليس بالضرورة بديلة. غالباً وُصِف هذا الموقف بموقف الـ«يساريين السابقين»، ربّما تأكيداً لمقولة إنيازيو سيلون بأنّ الصراع الأخير سيكون بين الشيوعيين والشيوعيين السابقين، في اعترافه بالكتاب الدعاية، الإله الذي فشل Richard Crossman, ed., The God That Failed (New York: Harper & Row, 1965).. فالسؤال الضمني الذي حرّك أجيالاً ممن هجروا اليسار، تمحوّرَ حول إمكانية اليسار قبل أهدافه، في منطقةٍ قد تفتقدُ لشروط برامج كهذه، أو تواجهُ أوضاعاً لا تنتظم بالمنظومة اليسارية السائدة آنذاك. غير أنه ورغم صلاحية سؤالها النظري، فإن إجاباتها سقطت ضحيةَ مفهومٍ رثٍّ للحداثة، حَوَّلَ هذه الأخيرة إلى منظومةٍ متكاملة استبدلت المنظومة اليسارية التي سبقتها. في ختام مقالته عن الكاتب ياسين الحافظ، كأحد رموز هذا التساؤل، يطرحُ كرم نشار سؤال كيفية قراءة هذا التاريخ بطريقة تجعله «أكثر استعصاءً على النقد الليبرالي السهل». وهذا يمرّ من خلال الاعتراف بالمسافة النظرية تجاه مسألة الحداثة، والاعتراف بأن ما يمثّل جيلنا هو «ما كُتبَ في نقد الحداثة فلسفياً وتاريخياً خلال نصف القرن الماضي»، وأن حركة الواقع العربي بيّنت «الاصطفاف التنويري بجميع ألوانه الإيديولوجيّة ضد الحركة السياسية الشعبية لعموم الناس» كرم نشار، «عن ياسين الحافظ الشابّ وزمانه ’الثوري’»، الجمهورية، 03/11/2014. لم نعد نتشاركُ مع الحافظ بأجوبته، ولكنّ قد نتشارك معه مخاوفه من افتقاد اليسار لمفهومٍ للسياسة، ومعضلة التفكير باليسار في ظل فقدان هكذا مفهوم، وإن كان علينا «تحريرهما» من قبضة الحداثة عليهما.

قد يمرّ «سؤال اليسار» بعد القطيعة بضرورة إعادة تدبير هذا التاريخ، والتعاطي مع أشباح يسارٍ والبحث عن كيفية دفن بعضهم. ما تبقى من ماركس لدريدا هو «أمرُ فعل»، وإن كان مستحيلاً. ما قد يبقى لنا هو أمرُ تأريخ، يُعيد تحرير اليسار من معضلة الحداثة التي استُنفِدت، ليذكرنا، ليس كما يردّد الليبراليون بمآسي الإيديولوجيا، ولكن بضرورة وعد المصالحة واستحالته في الآن نفسه. تأريخُ اليسار اليوم قد يمرّ من خلال تأريخ القطيعة، ليس كنهايةٍ لليسار أو كالمنافس الليبرالي له، بل كحاضرنا، وربّما ماضينا، هذا إذا نجحنا في تحويل لحظة الثورات إلى صفحةٍ تطوي هذه المرحلة. «1989 – 2011»، تاريخٌ قد يجيب على «سؤال اليسار» اليوم، هذا إذا تحرّر من الحنين والمشيحانية والحقد.

«سؤال اليسار» كمقدمة لـ«سؤال السياسة»، إجابته قد لا تكون يساراً بديلاً، بل مجرّد سياسةٍ ممكنة، لا أكثر ولا أقل.