لم يكن أحد يصدق أن يأتي يوم تشتري العائلة السورية فيه جثة ابنها الذي «استشهد دفاعاً عن الوطن على أيدي العملاء والخونة»، حسب منطوق النظام، رغم مقولة حافظ الأسد «الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر» التي لا تزال تحتل الزاوية اليسارية العليا لصحف النظام الثلاث منذ عقود، متناوبةَ مع مقولات عن الرياضة والمعلمين والجيل واليد العليا. ولا تزال أيضاَ تستخدم بكثافة كرنة موبايل لأغلب المنتمين لحزب البعث وأفراد القوات المسلحة والأمن وعموم الموالين، وليس مستغربا أن تسمعها على موبايل من سقط صريعاً واحتجزت جثته في براد مستشفى حتى يُدفع ثمنها من قبل أسرته.  ويمكن رصدها أيضاَ على جدران الملاعب والمدارس والدوائر الحكومية، والمشافي التي تحتجز جثة من تتغنى به، وكلما مُحّت يتم تجديدها بمناسبةِ ما.

هذا ما جرى لابن عمي، المنتمي للجيش العربي السوري، والذي لقى مصرعه في مدينة دير الزور عام 2012. وهذا ما تداولته صفحات التواصل الاجتماعي طيلة السنوات الخمس الأخيرة.

لم تكن هذه الحالة استثناءً في تعامل نظام آل الأسد مع العائلة السورية؛ فطيلة عهد الأب كان معول النظام يعمل على تحطيم الأسرة السورية. الأب يؤخذ رهينة عن الابن، والأخ يعتقل بدلاً عن أخٍ استطاع النجاة، والزوجة تُبتز لزيارة زوج معتقل، والابن يرث حرماناً من الوظيفة العامة والتعليم العالي عن أب حرم من الحياة في معتقل، والأبناء يفقدون الجزء الأكبر من ميراثهم أو ينتظرون تسوية تمتد لعشرات السنين في حال فقد الأب – يُقدر عدد المفقودين من ثمانينيات القرن الماضي 15 ألف مفقود، وبهذا الخصوص لا تزال آلاف العوائل الحموية تنتظر تسوية ميراثها من 36 عاماً -.

توّج بشار الأسد هذا الاستهداف الواعي من قبل النظام وأجهزته الأمنية للعائلة السورية بوضوحٍ أشد من أبيه؛ ففي لقائه مع رجال الدين بتاريخ 24 نيسان 2014 خاطبهم بقوله «فعندما نتحدث عن عشرات آلاف الإرهابيين فهذا يعني أنه خلف هؤلاء حاضنة اجتماعية. هناك عائلة هناك قريب وجار وصديق وأشخاص آخرون. يعني نحن نتحدث عن مئات ألآلاف وربما الملايين من السوريين» .. هؤلاء الملايين مستهدفون من النظام لا لذنب ارتكبوه، بل لأنهم أب وأم وأخ وزوجة وجار وصديق، ولأنهم الحائط الوحيد المتبقي للسوري بعد أن تم الاستيلاء على النقابات والجمعيات وحتى الأحزاب المرخصة، أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وهي أحزاب مملوكة لصاحبها حزب البعث، كما رصدت ذلك طرفة انتشرت في فترة الثمانينيات من القرن الماضي. كانت عائلة وأسرة المعتقل خلال المرحلة الأسدية الأولى، بالنسبة للمعتقل، زيارة ينتظرها في سجنه الماراثوني وتشد من أزره انتظاراً لاحتضان زوجته وأولاده. فهي لم تغب عن موعد زيارة، ولم يتوانى أب أو أم عن جوب المحافظات سعياً وراء حقيقة أو شائعة تنامت إلى سمع عائلته بذكر معتقلهم. وكانت العائلة الطرف الوحيد والأكثر جدارة في البحث عن مفقود ومعرفة مصيره -وغالباً ما تفشل- وبشكل أقدر من المنظمات الدولية والحقوقية التي وقفت عاجزة، ومشلولة، ومتغاضيةً أحياناً كثيرة عن سلوك نظام له سمعه سيئة من خلال سهولة خداعها  أو تلغيمها بعناصر مرتبطة به.

معرفة مصير المعتقل أو المفقود استنزفت العائلة السورية مالياً من أجل الحصول على مجرد معلومة إن كان مفقودها حياً أو ميتاً، وأين هو؟ ومقابل ذلك تراكمت ملايين الليرات السورية في جيوب المتنفذين ورجال الأمن لقاء تسريب معلومة عن مصير مفقود، أو تأمين زيارة لمعتقل لمدة خمس دقائق، وغالباً ما تكون المعلومة مبتورة، لا تقطع بوجوده أو عدمه. جملة وحيدة تكررت على أسماع الأهل «كان هنا، وتمّ تحويله إلى ….. اسألوا عنه هناك». هذه الـ «هناك» قد تكون اسم فرع أمني آخر، أو رقماً لجهاز أمني حقيقي أو وهمي؛ ليعاد تدوير بحث الأهل عن مفقودهم، واستنزاف المزيد من مدخراتهم .

والأسرة السورية هي وحدها من حافظت على سوية معقولة لتعليم أبنائها وإيصالهم للجامعات عبر الدروس الخصوصية في ظل انهيار منظومة التعليم الحكومي وفسادها. ففي تحقيق نشره موقع عكس السير في شباط 2008 قُدّرما تدفعه الأسرة السورية لأبنائها في الشهادة الثانوية فقط، بفرعيها العلمي والأدبي والبالغ عددهم 578700 طالب، بـ 50 مليار ليرة سورية بواقع 80% من الطلاب يحتاجون لدروس خصوصية لجميع المواد و100% لبعض المواد – شخصياً لا تسعفني الذاكرة بتذكر اسم واحد من الأهل والأقرباء والأصدقاء انتسب للجامعة، وخاصة كليات الطب والهندسة والصيدلة خلال العقدين الأخيرين، دون كشط أهله من اللحم الحي لتوفير مال الدروس الخصوصية – وتحقيق عكس السير المذكور حصل أيضاً على شهادات لأولياء أمور يذكرون أنهم يخصصون جزء من دخلهم للدروس الخصوصية حتى لطلاب الصف الأول الابتدائي. أما الوجه الآخر لتخريب التعليم فتم من خلال تحويل المعلمين لجيش مرتزقة يطوفون على المنازل حتى أثناء الدوام الرسمي. إفساد المعلمين بشكل غير مباشر، أتاح للنظام إخراج ثاني كتلة بعد مؤسسة الجيش من حيث العدد ليكونوا شركاء له في حربه الخفيه -هذه المرة – ضد المجتمع والأسرة السورية، من خلال إمكانية توفير ثراء محدود لهم، ودخل إضافي متنامي يجدونه في جيوب الناس وبرضاهم الكامل، وإشراكهم مع المؤسسات الأمنية والدوائر الحكومية في نهب الناس بشكل علني وبالغصب.

وهي، الأسرة السورية، التي استطاعت أن تحافظ على حد معقول من الاستقلالية الاقتصادية في عهدي الأب والابن ولم ترتهن بشكل كامل لرغيف الخبز المغمس بالذل والولاء المطلق للنظام، واستطاعت التحايل على مقولة النظام المضمرة «جوّع كلبك يلحقك» من خلال اختراع مواسم المؤن لمواجهة غلاء الأسعار والفقد المتكرر للسلع في الأسواق واحتكارها من قبل مافيات مرتبطة بالنظام مع فتح الأبواب الخلفية للإثراء السريع لعائلات مضمونة الولاء.

وبالإضافة للتكاليف الأمنية والاقتصادية التي تكبدتها العائلة السورية، تكبدت أسر المعتقلين والمفقودين خلال فترة حكم الأب تكاليف نفسية واجتماعية عبر الزيارات الأمنية المتكررة لضبط صلاحها المشكوك به للوطن، وانداحت آلية التشكيك هذه إلى عزلة مجتمعية من قبل أفراد المجتمع المنضبط، أي جماعة «الله يطفيها بنوره» حالياً، مشيّعةً حول تلك الأسرمناخاً من الخوف منها، وتخوينها، وعدم صلاحية أفرادها لشغل الوظائف الحكومية أو الحصول على جواز سفر. بالمقابل، وعلى عكس ما يقصده النظام، حازت تلك الأسر على صورة ايجابية واحترام لذاتها، واحترام من قبل المنضبطين، لكنهم لم يحوزوا على التعاطف الذي يحتاجونه في محنتهم . وأكثر الصور إيجابية تجلت في تعاضد أسر المعتقلين فيما بينهم من خلال تبادل الخدمات في تقديم الزيارات للمعتقلين والإعداد المحموم للزيارة قبل يوم من موعدها، يتم فيه تذكر ما يشتهيه المعتقل من وجبات الطعام وإعداده بشكل جماعي، و تجهيز ما يقال له أو لا يقال أثناء الزيارة. في هذا اليوم المسروق من أيام سنين الكرب والانتظار،لا يتبع ضحكة تنطلق صدفة تأنيب ضمير أو نهرً من كبير، إنه «عيد صغير» بدلاً من الأعياد والمناسبات التي تحولت لدى أسر المعتقلين والمغيبين إلى يوم كئيب فيه الكثير من الدموع والحسرة على معتقلهم ومفقوديهم .

بعد خروجه من معتقلات الأسد الأب، لم يتلقَ المعتقل (أعدادهم بعشرات الألوف) أي عون من جمعة أو منظمة، ولا حتى من الحزب الذي اعتقل على اسمه، وتعاملت السلطة مع المعتقل، بريئاً كان أم مذنباً، بمزاجية؛ فمن حاز على تعويضات أوإعادة للوظيفة فهو استثناء من القوانين الاستثنائية، التي بدورها استثنت آخر له نفس الوضع. ومن منع عن نيل حق مدني فلا اختلاف في وضعه من حيث التهمة والانتماء أو الفترة التي قضاها بالسجن عن من نالها بشكل آلي بمجرد تقديمه طلب لتصحيح وضعه. غاية كل ذلك نهج فرضته السلطة الأمنية بعدم خلق قاعدة وسلوك يمكن توقعه من قبل محكوميها. ومرة أخرى تقدم الأسرة السورية منفردة كل العون لمعتقلها، محققة النجاح بشكل معقول في عَضد سجينها نفسياً، ومساعدته مالياً وتوفير فرصة عمل له، وإعادته لحياة طبيعة غاب عنها لسنوات طويلة وصلت أحياناً لأكثر من عقدين من الزمن . لم يتلق السجين السياسي اللوم من قبل أسرته، ولم يؤنب، ولم يدر له ظهر، ولم يقل له «هذا ما جنته يداك»، بل كان مجال فخر حتى من قبل مَنْ كان على قناعة أخرى من أفراد أسرته .

اليوم، في انفلات اجرام النظام من عقاله وفي حربه المشهودة على كل السوريين، تفوق الابن على الأب في تحطيم المجتمع السوري ومكونه الصغير –الأسرة–. نصف السكان هائمون على وجوههم في أربع جهات الأرض، وغالبية الأسر السورية مشتتة، حتى تلك القاطنة في كنف سيطرة النظام. بالكاد بعض «السكان البيض» حسب توصيف كاتب سوري، من يستطيع التواصل واللقاء مع أفراد أسرته كلما أراد. فلا أب يتاح له أن ينجد ابناً معتقلاً بزيارةِ، أو يفتديه من اختطاف، ولا ابن حامل للسلاح استطاع العودة إلى منزل الأهل منذ خمس سنوات، حتى مَنْ كان في جيش النظام، إلا فيما ندر. آلاف الأمهات السوريات لم تستطعن معرفة مصير ابنها أو احتضان جثمانه أومعرفة قبر له. في إحدى قرى الريف الشمالي للرقة تترجى أم فقدت ابناً في صفوف داعش مسلحي التنظيم أن يذكروا لها مكان دفن ابنها، فيهددها أحد اخوة ابنها في المنهج ورفيق سلاحه  بإطلاق النارعليها، ويؤنبها بالقول، ألا تدركين أن «خير القبور الدوارس»؟ إياك وزيارته!  فقط  بعض الأسر السورية خدمتهم الصدفة من عذاب الانتظار والأمل، عندما وفرت لهم الصدفة معرفة مصير فرد من افرادها من خلال صور «قيصر» أو مقاطع فيديو وصور الذبح التي ينشرها إعلام النظام وإعلام داعش، ونادراً استدلت زوجة على قبر معلوم لزوج تشتكي له هماً، لتتأكد أن حياةً انتهت هنا ودفنتها، وهنا أيضاً، من عند قبر الزوج، تبدأ حياة أخرى تعاركها وحيدة.

يصبح التقاء أخوة وأخوات مع أبنائهم، والتعرف على بعضهم البعض وبناء مقاربات مشتركة كعلاقة رياضية مستحيلة الحل أخوة وأخوات مع ابنائهم والتعرف على بعض، وبناء مقاربات مشتركة. أما حضور أحفاد إلى بيت الجد سيكون وراءه مقدرة هائلة من اعمال السحر والشعوذة، إن تمّ. يبلغ الضياع السوري ذروته عندما تنقسم الأسرة الصغيرة طوعاً. أب أو أم مع قسم من الأطفال عبر ركوب زوارق الموت طلباً للجوء على أمل «لم الشمل» بعد سنين تطول او تقصر.

موارد الأسر تبخرت بشكل كامل عبر التدمير الممنهج للممتلكات من قبل طيران النظام وصواريخه، و«تعفيشها» على يد عناصر جيش النظام، والاستيلاء على المنازل من قبل الشبيحة و«أخوة المنهج»، ومصادرة الأملاك من خلال تقليد النهج الإسرائيلي في إدارة أملاك الغائبين من قبل مليشيا pyd، أو بيعها بثمن بخس تحت ضغط الحاجة – تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي عام 2015 إعلان أحمد علوش «أبو عماد» من مضايا يعرض فيه سيارته لقاء 10 كغ رز أو 5 كغ حليب نيدو، لم يجد من يبادله ليموت جوعاً بعد أيام تحت حصار حزب الله –  ويضاف إلى ذلك الغلاء واللعب بأسعار الصرف والاحتكار، مما دفع آلاف السوريين ليكونوا ضحية مافيات الاتجار بالبشر. تقول إحدى السوريات التي وقعت ضحية المافيا اللبنانية «كنت آمل توفير بعض المال لمساعدة عائلتي، فراتب والدي لا يكفي لأكثر من اسبوع في أحسن الأحول» النظام لم يلتفت لمأساة 75 مواطنة سورية، ولم يعنه أمر أسرهن ولا الإهانة التي لحقت بهن عندما ترك لحلفائه اللبنانين في توصيف حالتهن بعناوين عريضة في وسائل إعلام  الممانعة «الكشف عن شبكة دعارة تعمل بها عشرات السوريات»  رغم أن جزءاً منهن من مناطق نفوذ النظام، وينطبق عليهن  تعريف بشار الأسد للسوري «السوري ليس من يسكنها (سوريا) أو يحمل جواز سفرها وإنما لمن يدافع عنها» عندما دافعت احدى الضحايا بقولها «أحب السيد الرئيس وأثق بالسيد حسن نصر الله». وترك الأمر لإعلام الممانعة الحليف لتثبيت مصطلح بيوت الدعارة التي يتساوى فيها المُستغَل والمُستغِل

هناك اليوم مليوني ونصف سوري في سن التعليم خارج مقاعد الدراسة، حسب تقارير دولية، في ظل شلل كامل من أفراد الأسرة مهما ابتدعت من حلول في تأمين تعليم لفرد واحد من ابنائها، ومن الاستحالة  أن يتم مستقبلاً تعويض من فاتته سنين الدراسة. لم يمنع هذا الوضع الكارثي أسماء الأخرس، زوجة بشارالأسد، من التباهي أمام نفر قليل من أبناء الذوات، أحدهم نجلها، احتفاءً بفوزهم بأولمبياد العلوم، بقولها «وين كنا، ووين صرنا..» جملة صغيرة لا تكشف كذب الأسرة الحاكمة مقارنة بالأرقام الدولية فحسب، بل تبين بوضوح عدم الحس بالمسؤولية؛ فمادام ابنها وصحبه يتلقون تعليماً مناسباً فلا مشكلة، وهي غير معنية بأبناء الأسر السورية إن تعلموا أو دفنوا أحياء تحت قصف البراميل المتفجرة .

بعد انشقاقه، اعترف عبد الحليم خدام أن آلاف الأسر السورية تؤمن جزءاً من مواردها بالتنقيب في الزبالة، هذا الاعتراف، سواء كان صحوة ضمير أو كيداً لنظام زَبَلَه بعد سنوات من الشراكة والتفاني في خدمته، يعرفه كل السوريين، بما فيهم أصحاب مقولة «كنا عايشين». هذا المورد وغيره أصبح بعيد المنال، والمورد الوحيد المتاح بشيء من الكرامة يقدمه ابن أو أخ مغترب منذ سنوات لأسرته، موفراً حداً أدنى من البقاء على الحياة ، وهو تضامن يقي وجود الأسرة السورية، المستهدفة من قبل النظام عبرسياسة «الجوع أو الركوع». لا توجد -للأسف- تقديرات حول تحويلات السوريين لمن بقي من أسرهم في الداخل أو في بلدان اللجوء، وأعتقد – تقدير مني – أن هذا الرقم يفوق ما تقدمه هيئات الإغاثة الدولية ومساعدات الدول؛ فالأرقام المعلنة والمقدرة بمليارات الدولارات يتم اقتناصها بالطريق من قبل موظفي الإغاثة وحكومات دول اللجوء، وما يصل يوظف جُلّه في استتباع ناشطي المجتمع المدني للجهة الممولة واسترقاق الناس والحط من كرامتهم.

أخيراً، العائلة الأسدية كعائلة محتكرة للسلطة والمال والعلم، وضعت نفسها مع عوائل منتقاة ، بمواجه الأسر والعوائل السورية وتحطيمها. واستمرار العائلة الأسدية يمر عبر تماسكها ودفاعها عن أفرادها. لا أدل على ذلك أفضل من دفاع بشار الأسد عن ابن خالته عاطف نجيب «لا أحب ان تزعل مني خالتي»، ورسالة رامي مخلوف لإسرائيل في بداية الثورة «أمن اسرائيل من أمن سوريا – سوريا الأسد -»، وقول أسماء الأخرس «وين كنا ، وين صرنا» ليبقى للسوريين كافةً وعوائلهم وأسرهم الموت بالبراميل المتفجرة والكيماوي والجوع والتشرد وخراب البيوت.