أيامٌ قليلة كانت تفصلنا عن موعد بدء الامتحانات الجامعيّة الفصليّة. هي السنة الأخيرة، والمقرَّر اليتيم المُتبقّي من عمر دراستي في كليّة الاقتصاد، كان كفيلاً بمنحي عاماً إضافيّاً من تأجيل الخدمة القسريّة في جيش الأسد.
كنتُ قد أجّلتُ هذا المقرر عاماً كاملاً نزولاً عند رغبة أمّي المتوجّسة من خفايا المستقبل، وهو ما منحها عاماً من الطمأنينة، عاماً يُعفيها تجشّم عناء البحث عن وسيلة تواصلٍ دون جدوى، عاماً من متابعة شريط الأخبار العاجلة بارتيابٍ أقل، عاماً أقلَّ سفحاً للدموع.أمّي تسفحُ الدّمع، لا تذرفه.
بدأت إحدى حملات جيش النّظام المتكرّرة لإخضاع حلب في تلك الأيام، واستمرّت منذ تشرين الثاني عام 2013 وحتّى نيسان 2014. كانت الحملةُ أشدَّ عنفاً من سابقاتِها، وانتقلَ طيران النّظام حينها من رمي البراميل إلى رمي الحاويات المُتفجّرة، كما عمدت قوّات النّظام إلى إغلاق وفتح معبر كراج الحجز، «معبر الموت» الذي يربط شطري المدينة، على هواها، إمعاناً في ممارسة الضغوط على المدنيّين، وذلك بالتّزامن مع أكبر موجة نزوحٍ تشهدها الأحياء الشرقيّة.
بدأتُ أراقبُ أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى الأخبارَ الواردة من حلب ممنّياً النّفس بفتح المعبر بشكلٍ صريحٍ من قِبل النّظام، هذا المعبر كان الدّرب الأكثر أماناً لطالبٍ يحمل لعنةَ جغرافيا الولادة في هويّته، وتاريخاً يشوبه كثيرٌ ممّا قد يُزعج جنود السّلطان. كان أمامي خيارٌ آخر، هو سلوك الطريق العسكري الذي استطاعت ميليشيا «سهيل الحسن» المعروفة بـ«قوّات النّمر» شقّه نحو حلب عبر «السلميّة»، ولكنّ سلوكَ هذا الطريق، المُسمّى «طريق خناصر» نسبةً إلى قريةٍ يمرُّ فيها، كان أمراً لا قِبَلَ لي به، فهو يحوي عشرات الحواجز، ويروي النّاسُ الفظائع عمّا يحصل فيه، لا سيّما على الحواجز القريبة من «السلميّة». أمّا المعبر فقد تعوّدت عبوره مع الآلاف حيث «تضيع الطّاسة»، لا سيّما أنني كنتُ على مدى سنتين أمرُّ عبره، ولم يحدث أن أخرجت الهُويّة المشؤومة مرّةً.
جاءت البشارة، وغاصبتُ دمعة أمّي ململماً ثيابي على عجلٍ فور إعلان النّظام فتحَ المعبر بشكلٍ جزئيٍّ أمام المدنيّين مرّةً جديدة في مطلع شهر شباط من عام 2014، وبدأت رحلةٌ غريبة. بدأ التدقيقُ الصّارم على الحافلة التي كانت تقلّنا نحو الرّقة لحظة وصولنا إلى الجسر الحربي في الميادين، والذي يُعَدُّ بوابة الانتقال إلى ريف المدينة. للمرّة الأوُلى أُضطرُّ إلى إخراج هُويّتي في مدينتي التي أحفظُ أهلها ويحفظونني من لون دم الوجه، أو كما يقول لسان الريف الدّيري «نجتل بعضنا عالدم». هي فراسةُ البدوي ربّما، أصلُ وفصلُ المرء في وجهه.
كان الجميع ملثّمين هذه المرّة، عشراتُ الحواجز على الطّريق، إذ كانت قد اشتعلت حينها المعارك بين أحرار الشام وجبهة النّصرة من جهة، وتنظيم الدّولة من جهةٍ أُخرى، وذلك إثر سيطرة التّنظيم على حقل «كونيكو» النّفطي، وسعيه للتمدّد نحو مناطقَ أُخرى من المحافظة.
سلكنا طرقاً رمليّة وأُخرى وعرة تجنّباً لمناطق الاشتباك، وغصنا في الرّمال أكثر من مرّة، ونزلنا لدَفعِ الحافلة مراراً. دفعنا مزيداً من المال لسائق الحافلة لثنيه عن قرار العودة إلى الميادين، وبعد أكثر من سبع ساعاتٍ وصلنا أخيراً إلى عاصمة «داعش»، وكان من المُفترض أن نصلها في ثلاث ساعات فقط.
كان الوقت قد تأخّر على موعد آخر حافلةٍ متوجّهةٍ من الرّقة إلى حلب المُحرَّرة، أشعلتُ سيكارةً، واتّصلت بأحد أصدقائي الرّقّاويّين عبر هاتفٍ أرضي. كان الجميعُ يراقبني بدهشة، لا بدَّ أنّ منظري بات غريباً بعد هذه الرّحلة المُتعبة، أو أن هذا ما ظننته. أخذتُ عنوان صديقي (فضّلَ عدم ذكر اسمه)، وذهبتُ للمبيت عنده. حين وصلتُ البيتَ طلبتُ منه الخروج إلى الشرفة المُطلّة على سور الرّقّة القديم، أشعلتُ سيكارةً ثانية، فسارعَ صديقي لانتشالها من فمي هامساً وقد عضَّ شفّته السفلى «لا تشمسنا يستر دينك»، وأضافَ أنّ قراراً مُلزماً صدر بمنع التّدخين منعاً باتّاً تحت طائلة العقوبات القاسية، وأنه نُفّذَ أكثر من «حكمٍ شرعيٍّ» بُعيد القرار في «ولاية الرّقة»، عندها فقط فهمتُ فحوى تلك النّظرات الغريبة.
فوجئتُ بصديقي الذي لم يكن يعرفُ القعودَ في حلب، وقد تحوّل في مدينته إلى عصفورٍ في قفص، يقضي جلَّ يومه بلعب الـ«بلاي ستيشن 1». أغلقت العائلة ستوديو التصوير الذي كانت تتقوّت منه، فلم يعد هنالك دوائر حكوميّة تطلُب صوراً شخصيّة، ولا متزوّجون جدد يلتقطون صوراً للذكرى، ولا داعٍ آخر لإبقاء المحلّ مفتوحاً. قضينا اللّيل يتهكّم أحدنا على الآخر، هكذا هم الرّقّاويّون والدّيريّون حين يجتمعون. تجادلنا حول أحقّيّة أيّ منّا بالفرات، ومَنْ هم الحضريّون، ومَنْ هم الشّوايا، ودخّنّا، دخّنّا كثيراً.
في صباح اليوم التّالي ركبتُ «البولمان»، وانطلقتُ صوب حلب. كان التّفتيش على حواجز «داعش» مقتصراً على الدّخان، واحدٌ من صبية التّنظيم أهان مسنّاً وجد باكيت «جيتان» في جيبه، ونعته بالكافر الكاذب الذي لا يستحي على شيبته ولا يخافُ الله، ولا يتّقيه حقّ تُقاته، عدا ذلك كان الطريق اعتياديّاً.
وصلنا حلب المُحرّرة، طلبتُ من سائق سيارة أُجرةٍ إيصالي إلى المعبر فأخبرني أنّه مغلقٌ لهذا اليوم. لم أُصدِّقه، ولم أصدّق ثلاثةً بعده، حتى أقلّني خامسٌ إلى المعبر. في الطريق كانت حلب خاويةً من أهلها، كما لو أنها من القصص الأسطوريّة المَرويّة عن المدن المفقودة. الطيران يُزاحم الذباب في السماء لكثرته، الانفجارات بعدد زمامير الاسعاف، حيّ «مساكن هنانو» كان غارقاً بعد قصف خطّ الماء الرئيسيّ ببرميلٍ متفجّر.
وصلنا «بستان القصر»، وكان المعبر مُغلقاً بالفِعل، أنا لا أُصدّق حتّى أرى. قرب المعبر عرضَ عليّ كثيرٌ من الحلبيّين أن أنام عندهم، عرفوا أنّي غريبٌ من حقيبتي وفضولهم للسؤال، رفضتُ العروض جميعها، وتوجّهتُ إلى مستشفىً ميدانيٍّ حيث يعمل صديقٌ لي اسمه عوّاد المحمّد. عوّاد، المُلقّب «أبو سعيد»، كان من الشجعان، من رفاق التّظاهر السّلمي في جامعة حلب. لم يُكمل دراسته مثلنا، تركَ الجامعة وتطوّع كمسعفٍ طبّي في حيّه. وصلت المُستشفى الذي بقي منه شطرٌ واحدٌ في الخدمة، بعد أن عطّلت شطره الآخر غارةٌ قبل عدة أيّام. كان المُستشفى مزدحماً رغم النّزوح الهائل من المدينة، وقبل مغيب الشمس بقليل أسقطت طائرةٌ حاويةً متفجّرة على حي «كرم الجبل» القريب كما تكهّن الموجودون. صوتُ الانفجار الهائل جَعَلَ الكادر الطِّبي في المُستشفى، والذي كان عبارةً عن طبيبٍ ومجموعةٍ من المتطوّعين الذين لا رابطة بينهم وبين العمل الإسعافي قبل الثّورة، يقفُ تأهُّباً للكارثة التي حصلت. وصلَ ضحايا وجرحى عديدون، إلى أن وصل خمسينيٌّ يحمل طفلاً في التاسعة بين ذراعيه، كان الرجل يبكي ويصرخُ «محمّد… خيّو محمّد، لحقولي محمّد لسى عبيتحرّك، أبوس أجريكن لحقولي محمّد». كان الطفلُ قد أُصيب بشظيّةٍ قسمته إلى نصفين تقريباً من منتصف جذعه، أُدخلَ محمّد إلى غرفة العمليّات لدقائق، ثم لفظَ آخر أنفاسه الطّفلة، أبكى محمّد ونحيبُ والده المُستشفى كلّه، لعله أبكى الموتى الآخرين أيضاً.
تمَّ تجهيزُ محمّد للدّفن، لكن نقله إلى المقبرة كان متعذراً لعدمِ وجود قبورٍ مجهّزةٍ مسبقاً، واستحالةِ الحفرِ تحت إنارة الكهرباء لأن المقبرة مرصودةٌ من قِبَل قنّاص النّظام. لم يكن ثمّة براداتٌ لحفظ الموتى في المُستشفى الذي كان عبارةً عن مُستوصفٍ للإسعافات الأوّليّة قبل الثّورة، فاقترحتُ على الطبيب المسؤول الذي تعرّفتُ إليه بين غارتين دفنَ الصبيّ في الحديقة الصغيرة الواقعة داخل المُستشفى، لكنه رفض لأنّ من شأن ذلك تحويل الحديقة إلى مدفن، وهذا سيحرمهم الاستفادةَ منها إذا اشتدّ القصف وتزايدات أعداد الإصابات، لا قدّرَ الله.
قرّرَ أهل الطفل تركه حتّى الصباح على سريرٍ في حديقة المُستشفى، لأن الطقس كان بارداً حينها وهو ما سيحفظُ جسده، ولأن البيت الذي كان من المُفترض أن يعيش فيه محمّد بقيّة حياته، أو أن يخرج منه إلى مثواه الأخير على الأقل، لم يعد موجوداً.
جاءَ الليل وأنا لا أُفكِّر إلا بما كان يحلم محمّد أنْ يكونه، لماذا مات محمّد؟ وما ذنبُه؟ ولماذا هو؟ كانت تلك بعضَ الأسئلة التي وجّهها والده إلى السماء حينَ رفع يديه يشكو بشّار الأسد إلى الله: «يا الله لا تموّت هالكلب بشار الأسد، خليه يشوف ولادو عبموتوا قدّامو». كانت الغرفة التي سأنام فيها مطلّةً تماماً على السّرير الذي سُجّي الجسد الطّفولي فوقه، سأنامُ فوق سريرٍ مشابه، وتحتَ بطّانيّةٍ مشابهة، لا فرق بيننا سوى الزّفراتُ الباردة وشاردات الأفكار التي تثقلُ قلبي ورأسي، وطُمأنينة الرّاحة التي ينعم بها محمّد الشّهيد. لا بدّ أنّها المرّة الأولى التي ينام فيها هذا الفقير ابن عشوائيّات حلب مطمئنّاً، ينظرُ إلى القاتل ويبصق في وجهه، يدوس طائراتِه وجنوده بحذاءٍ جديد، يدوس ممانعة ومقاومة القرن الواحد والعشرين، الذي لم يعرف فيه محمّد حقّ الطفولة، ولا حقّ العيش.
عاد الصّباح مجدّداً، لا عيني نامت، ولا خاطري غفا عن التّفكّر بهذا الطّفل. حملتُ أسمالي مجدّداً وتوجّهت صوب المعبر، وقفتُ ساعتين قبل أن يَسمح لنا مقاتلون من «أحرار الشّام» بالانتقال إلى النّقطة الأُخرى من المعبر، حيث تتمترس قوّات الأسد على بعد أربعمِئة مترٍ تقريباً. وقفنا ما يزيد عن أربع ساعاتٍ أمام جنود النّظام، كان عددٌ منهم يمشون بيننا بثيابٍ مدنيّة ويتلصّصون إلى أحاديثنا. اعتقلوا العديدين بسبب إطلاقهم شتائم المتذمّر، فتّشوا جوّالات العشرات أيضاً، وطلبوا منا عدة مرّاتٍ الوقوف بانتظار الإذن بالدّخول إلى الأرض الحُلُم، ثمّ ما لبثوا أن أجلسونا مُطلقين قهقهاتٍ سافلة. أحد الشّبيحة كان يحملُ قنّاصةً يصوّبها نحو رؤوسنا ليعرف «أيُّ الرؤوس أكبر في منظارها»، وفجأةً، بدأ تبادلٌ لإطلاق النّار بين جانبي المعبر، النّظام والمُعارضة. لم يكن هناك أيُّ سببٍ للاشتباك بين طرفين يفصلهما عن بعضهما كتلةٌ بشريّة قوامها ألوفٌ ستّةٌ من البشر، أطفالٌ ونساءٌ وعجائز، وقليلٌ من الرجال وطلبة الجامعة. كنّا نحتمي بلحم بعضنا، يُغطّي كلُّ واحدٍ رأسه برؤوس الآخرين، يديه بأيدي الآخرين. كنت مُستقلياً على بطني ككلّ العالقين الآخرين، مُثبِّتاً رأسي طفلين يصرخان ويبكيان بيديَّ، كانا لأمٍّ جاءت بخمسة أولادٍ تريد العبور بهم بعد أن عَلِق أبوهم في الجانب الآخر من المدينة، حيث يعمل. أسفرت المعركة، التي استمرت خمس دقائقٍ بطول سنين عن عددٍ من الضحايا والجرحى في صفوف المدنيّين العالقين بين رصاص الجانبين، وكثيرٍ من رائحة البارود، ونشوة نصرٍ لدى كلِّ طرفٍ ظنّ نفسه الرابح.
بعد المعركة بقليل، حضرت شبيحاتٌ إلى المكان، كانت المرّة الأولى التي أرى فيها «لبوات الأسد»، أحدهم همس في أذني أنّه يعرف إحداهن، وأنها كانت تعمل عاهرةً قبل «الأزمة». لم أنبس بحرفٍ قط، خشيت أن يكون مُخبِراً، في «سوريا الأسد» الجميع مُخبِرٌ إلى أن يثبت العكس، هكذا علّمونا، أو هكذا كانوا يريدون أن يُوهمونا حتّى تدخل الدّولة الأمنيّة في ثنايا عقولنا.
إحدى «اللبوات» بدأت تذيع أسماءً، فهمنا أنّ لهؤلاء أقارباً في الجانب الآخر يدفعون 25 ألف ليرة مقابل السماح بدخول كلّ واحدٍ منهم. تغطية الهاتف كانت موجودةً بشكلٍ جزئي، أرسلتُ رسائل قصيرة إلى أصدقائي أطلبُ منهم الأمر ذاته، «ولتنزل النّقود ناراً وشراراً على قلب أنيسة»، هكذا تمتمت. حاول أصدقائي دون جدوى، لم يعرفوا مفتاح الضابط المسؤول عن المعبر، طلبَ منّي أحدهم أن أتوجّه إلى أحد العناصر وأخبره بأنني طالب، فقد سمعَ أنّ قراراً بالسماح لطلّاب التّخرج بالعبور قد عُمِّمَ إلى عناصر المعبر. فكّرتُ مليّاً بالأمر، صعبٌ هذا القرار المتهوّر، يحتاج جنوناً لا شجاعة، ولكنّ سنين الثورة زرعت فيّ يقيناً بأنّ «أكثر من السوري ما مسخ الله». حملتُ حقيبتيَّ وتوجّهت إلى شبيحٍ بدت لي بعضُ سماحةٍ في وجهه، لم أكن قد لفظت الحرف الأوّل حتّى صفعني بيده على وجهي. جميع من كانوا في المعبر صمتوا بعد الصفعة، كانت أمام الجميع، أحسست أنّ ملايين العيون تحدّق بي. عدتُ إلى مكاني، جلستُ القرفصاء، وشبكت عَشري على رأسي، وبكيتُ بشكلٍ لم آلفه عن نفسي، كانت الصفعةُ أبشعَ تفصيلٍ عشته حتّى ذاك الوقت، كانت لحظة انعدام الزّمن، كانت أشدّ وطأةً عليّ من زغرودة أمٍّ في تشييع ولدها. كم كانت الرصاصةُ حلوةً حينها، وكم هي مُرّةٌ يدُ الشّبيح.
إبّان مظاهرات الجامعة كنّا نتلذّذ بلسعات هروات حفظ النّظام، ولا نهاب الرّصاص، نخشى الاعتقال فقط خيفة الإذلال. صفعةٌ فعلت بي كلّ هذا، فكيفَ بملايين الصفعات على وجوه المُعتقلين في سجون الأسد! كيف بأساليب التّنكيل والإذلال الأُخرى التي نسمع ونقرأ عنها!
أعطاني رجلٌ مُسنٌّ عبوّة عصير على سبيل المواساة، وطلبَ منّي النّهوض، رفضتُ كشاةٍ حَرون، ألحَّ عليَّ فأخذتها، ولم أقف، ولم أُبدِ حراكاً. مرّت دقائقُ إلى أن لملمتُ دمعي، وقرّرت العودة أدراجي، لماذا ندرس؟! لماذا نعيش؟! لماذا آل الأسد قدرنا؟! وألف استفهامٍ ساورني إلى أن وصلت النّقطة التي انطلقت منها في المعبر حيث عناصرَ من المُعارضة، واحدٌ من العناصر نعتني بالشبيح وتابع قائلاً: «لنشوف اش دو ينفعكن بشّار الأسد، اللي متلك هلأ لازم يكون عبيجاهد»، أجبته: «كول خرا» وأكملتُ طريقي. لحقني مع رفيق له، كان الآخر من دير الزور، وكان هذا الأمر كفيلاً بإفلاتي، لكن ليس قبل الاعتذار، لأنّ الاعتذار فضيلةٌ طبعاً.
كنت مُصرّاً على العودة إلى الميادين في اليوم نفسه، لم أعد أرغب بالبقاء في حلب ساعةً واحدة. في الكراج الواقع في آخر حيّ «طريق الباب» وجدتُ حافلةً تنتظر ما تيسّر من الرّكاب حتّى يعود صاحبها إلى بيته في الرّقة، وحين وصلتُ الرّقة كان هنالك سيّارة آجرةٍ مستعدّة لنقلي إلى الميادين في عتم اللّيل، كان الأجر مرتفعاً، ولكن لم يعد لمصروفي الذي أحمله في جيبي معنىً، لأنني لم أصِلْ إلى جامعتي.
وصلتُ البيت في الثالثة فجراً، عشتُ عزلةً من 15 يوماً، لم أُكلّم أحداً، وعبثاً حاولتُ فهم ما مررتُ به في هذه الرّحلة. إلى الآن لم أفهم حقيقة ما حصل، لكن ما أعرفه أنّ أسوأ من هذا بكثيرٍ يمكن أن تحويه لحظةٌ واحدةٌ من لحظات المذبحة التي عاشها ويعيشها السوريون. ربّما أن قدرَنا جميعاً بشاعةُ العالم، ووضاعةُ السّيّد الرئيس.
بعد تفكيرٍ استمرَّ شهرين، قرّرت السفر إلى حلب عبر «خناصر»، ومنها إلى خارج البلاد كلها. كان الطّريق «العسكري» مختلفاً تماماً عمّا اعتقدت، كانت سطول اللّبن التي اشتراها سائق البولمان من «المنصورة» بريف الرّقة كفيلةً بمرورنا بسلاسةٍ من جميع الحواجز، باستثناء واحدٍ قرب «السلميّة»، تسعيرة هذا الحاجز معروفةٌ، ولا يحلُّ اللّبن محلّها: 500 ليرة سوريّة «عالرّاس».