الخيامُ هناك لا تشبه خيام نزوحنا، بل تأخذُ شكل لوحةٍ زيتية. والصوتُ لا يشبه كلاسيكية الأفلام المقهورة، هناك ضجيجٌ يشبه صراخنا الأول، يشبه الحياة.

لم تكن أصوات البراميل ولا قعقعتها تستطيع إيقاف الهدير البشري الذي يخرج من تلك البقعة المليئة بحديد البسطات والخضار والفواكه، بالأكياس السوداء وخشب العربات، بأصوات الباعة والقبعات القشية التي يرتدونها لحماية أنفسهم من الشمس، ومن النظر طويلاً إلى سماءٍ من الموت.

في منتصف عام 2013، وفي سوق الخضار في حي طريق الباب، كنتَ كمن يدخل مدينة مجنونة لا تعي ما حولها، ولا يعنيها حجم الدمار المحيط بها. كمن يدخل من فوهة آلة الزمن، فهذا الحي الذي عانى من الإهمال والشوارع المحفرة والأبنية العشوائية الفقيرة، كانت أبنيته القديمة وأقدامُ أطفاله الحفاة تشي بالثورة الحلم، وكان على الحي أن يدفع الثمن مراتٍ كثيرة، منذ حلمَ أبناؤه وأطلقوا صرخاتهم الأولى «حرية حرية».

في الحي الذي يتوسط حلب المحررة التي بدأت تختفي ملامحها في حملة البراميل الأخيرة، كانت قلوب الباعة في سوق الخضار تمتلئ بالضحك، وحناجرهم بالصراخ وشفاههم باليباس، وجيوبهم بالنقود. كجنود «ساموراي» نجوا حديثاً من الحرب، وعادوا بانتظامٍ دقيقٍ لإلقاء التحية على الرزق، يرشون الماء على عرباتهم الممتلئة، وينسون في زحمة الحياة أن يرطبوا جوفهم بجرعة منه.

كانت إدارة معبر بستان القصر أو «معبر الموت» كما كان يُسمى، قد منعت إدخال المواد الغذائية والخضار إلى ضفة النظام من قبل التجار، وما يسمحون بإدخاله، أي بعض الأكياس، لا يكاد يكفي إلا لسد الرمق. معبر الموت هو الشريان الوحيد الذي كان يصل بين ضفتي حلب المقطعة، وكنتُ في السابق أسمي الضفة التي تحتويني في طريق الباب ضفة الموت، ولكن المصطلحات بدأت تتداخل من جديد، بعد أن امتلأ الحي بالقادمين الجدد، باحثين عن كيلو من البندورة أو علبة دواء.

يبدو أن ساعة الزمن التي طالما كانت توحي بالقيامة بدأت بالانحياز مرة أخرى لتلك البقعة من الأرض، فغدا المشهد متداخلاً بحيث ترى خليطاً غريباً لرجال هربوا من الريف الشرقي خوفاً من تنظيم الدولة، وأشخاصٍ قطعوا طريق المدينة الطويل عبر معبر الموت حرصاً على لقمة العيش المحاصرة، وأهل الحي الذين رفضوا النزوح رغم حملة البراميل الشرسة التي تنهمر من السماء. السوق وحده كان يستطيع أن يقفَ على قصصهم ومعاناتهم، ويعرفَ بقايا النقود القليلة التي ما زالت في جيوبهم.

بدأ النقاش حول قرار إدارة المعبر يتحول إلى شجارٍ بين مؤيد ومعارض له، إذ رأى بعض الناس، وأنا كنت منهم، أنه جائرٌ وأن الثورة كانت ضد الظلم لا ضد الحياة. وبعضهم رآه صائباً، فمن بقي هناك كان شريكاً في حملة البراميل التي تستهدفنا صباح مساء.

على أي حال، فقد كنا كلنا نكره ذلك الرجل الذي يقف على مدخل السوق هادئاً، يرتبُ مع ابنه صناديق الخضار دون أن يصرخ، نمرُّ أمامه دون أن نلتفت إلى ما تحتويه عربته من خضار وكأنه ظل. لم يلتفت يوماً إلينا ولا إلى ما نحمله من أكياس، لم يخاطبنا يوماً ولم يلقِ علينا تحية الصباح كعادة كل من في السوق، هو أيضاً كان يكرهنا ربما.

بعض أهل الحي يعرفونه، هو «أبو محمود» عضو قيادة فرقة حزبية قديم. منذ دخول الثوار إلى طريق الباب كان قد التزم بيته، وترك وظيفته وصار يبيع الخضار في مدخل السوق كيلا يتشاجر مع أحد، ويكسب ما يطعم عائلته.

«كان كتيب تقارير على كيفك»، أحدهم رمى هذه الكلمة في وجوهنا، ونالت رضى الواقفين جميعاً. نظرتُ إلى المتكلم الذي كان شاباً لم يتجاوز الثامنة عشرة، قلتُ في نفسي «كم كان عمرك وقتها؟». نحن نجيد كل شيء، لم تغير الثورة عاداتنا القديمة في الافتراء، ولا في الحس الأمني المزروع في داخلنا. شعرتُ بالقيح يملأ جوفي وأنا أتخيل ما الذي سيحدث بعد انتهاء الثورة، هل سنستطيع فعلا بناء وطنٍ لا تشبه الحياة فيه ما كنا نعاني قديماً منه، من بيع الآثار إلى الطحين إلى السلاح إلى الوطن إلى الإنسان، وهل سيقتلنا يوماً هتافُ حناجرنا؟

تركتُ الواقفين هناك وضِعتُ في زحمة السوق كي أعود إلى الحياة ثانية، وفي هذه المرة وحين وصلتُ أمامه، شدني شعورٌ غريبٌ إليه، قررتُ ألّا أتجاهله كعادتي، وقفتُ أمامه ملقياً عليه تحية الصباح. صوته الحزين المخنوق شدني للنظر إلى وجهه، كان يضع نظاراته الطبية وجبينه يتصبب عرقاً ويرتدي قميصاً أبيض وبنطالاً قماشياً خلافاً لعادة بائعي الخضار. كأنها كانت المرة الأولى التي أراه فيها، فاستطردتُ قائلاً في نفسي: «ربما هي المرة الأولى التي أراه فيها على حقيقته».

اشتريتُ بعض الخضار التي لا أحتاجها وهربتُ من نظراته التي شعرت أنها تخترقني، كاد قلبي ينطفئ. شكرته وعدتُ أدراجي إلى صيدليتي القريبة، لحظاتٌ قليلة مرت، تلاها ضوءٌ أحمر وضجيجٌ وغبارٌ وعلبٌ متناثرة، وكأن المكان اقتُلِعَ من مكانه. لم أسمع في هذه المرة صوت القعقعة، بل كان ما شعرت به أن كل ما حولي صار هباءً. لا أعرف كم من الوقت مر، ربما ثوانٍ قليلة اخترق صمتها صوت طفل: «عمو بدي قطن وسبيرتو بعد شوي بعطيك حقون».

وقفتُ بارداً عاجزاً خائفاً، مررتُ يدي على وجهي وعلى جسدي فوجدتني كاملاً، «نجوت مرة ثالثة»، قلتُ وأنا أقفُ لأبحثَ عن قطنٍ وشاشٍ فوق أكوام الأدوية، فتلتصقُ يدي بالأشلاء المتناثرة.

خرجتُ من المكان، كان البرميل هذه المرة قد اختار بقعة الحياة المجنونة في مدينتي، فتحول سوق الخضار إلى مدينة مهزومة أخرى تشبه ما حولها من موت. الأشلاء والجثث كانت قد ملأت الأرصفة، مرت دقائق حتى بدت الصورة واضحة أمامي، هو الوقت الذي يحتاجه العقل للعودة من الموت، كان البرميل قد اختار عربة «أبو محمود» ليسقط في مكانها، لا أعرفُ وقتها إلا أني بكيت.

ساعاتٌ مرت وبدأ الموت ينزاح عن الطريق، وبدأت السيارات تعود لتمر مسرعةً. جلستُ على حافة الرصيف المليء بالزجاج، سكونٌ يقتحم خلوّ عقلي وينفض بلل رائحة الدماء. أمسكتُ ممسحة زجاجٍ قديمة مهشمة، ورحت أغني وأنا أمارسُ ما علمتني أمي إياه يوماً، أن الزجاج لا يُمسح بالصابون.

وأنا أرتبُ صيدليتي تذكرت «أبو محمود» وأبناءه الثلاثة، وألحّ وجهه عليّ فخرجت أبحث في الشارع القريب عن رجلٍ يدلني على بيته. عندما وصلتُ إلى البيت استقبلني وجهه وقميصه الأبيض الذي كان يرتديه، الشيء الوحيد الذي تغير كان أصابعَ من الطين قد لطخت بياض قميصه. على باب منزله كان يقف، عانقته وشعرت بدقات قلبي قد تسارعت وهو يضمني، نظرتُ في وجهه، أردتُ أن أسمع قصته كناجٍ من الموت:

«لم أكن هناك، ذهبتُ للغداء، وتركتُ محمود على عربة الخضار».

توقف للحظة، خلع نظارته، مسح دمعةً تحرق جوفه. أردتُ أن أسأله، لكنه قال:

«الحمد لله».

ارتحتُ إذ ظننتُ أن محمود نجا أيضاً من الموت، ابتسمت.

قال: «الحمد لله، وجدتُ جثته كاملة، أخذته إلى القرية، دفنته هناك وعدت».

لا تعرفُ كيف ترد على الموت، لا تعرف كيف يعزي موتٌ موتاً آخر. ارتبكتُ، اضطربَ قلبي وشعرتُ مرةً أخرى أن عليّ الهرب من نظرات «أبي محمود».

قلت: «البركة بأخوته، الله يرحمو ويتقبلو من الشهداء».

أفرجَ أبو محمود عن ابتسامةٍ حزينة: «لقد سبقوه، كانوا على جبهة اللواء 80، كانوا من الثوار الأوائل، لم يبقَ إلا نحن»، وأشارَ إلى عجوزٍ هادئةٍ صامتة تستندُ على جدارٍ قريب.

تركته ومشيت في السوق الميت هذه المرة، كان وجهه يملأ كل المكان، وصوت أمل دنقل في رأسي:

ولنا المجد – نحن الذين وقفنا

وقد طمس الله أسماءنا

نتحدى الدمار ونأوي

إلى جبلٍ لا يموت

يسمونه الشعب