مقدّمة

نعالج، في هذه الورقة (بالإمكان إيجاد الأصل الانكليزي على موقع مجلة النظرية السياسية المُعاصرة)، سؤال كيفيّة تنظير العلاقة ما بين السياسة والعنفقُدّمت نُسخة مبكّرة من هذا التحليل في مؤتمر «بربريّة حالة الحرب»، جامعة ولفرهامبتون، حزيران عام 2005. وقُدِّم هذا التحليل في اجتماع نقاش «السّلطة، والعنف، والجسد»، الجمعيّة الأمريكيّة للعلوم السياسيّة، فيلادلفيا، آب 2006. ونحن ممتنّون للمشاركين في هذه المناسبات لنقاشهم المفيد. وقد أفادت كيمبرلي هتشينجز من إجازة دراسية من بورصة لندن للعام الدراسي 2005-2006 عندما تولّت قدراً كبيراً من البحث لهذه الورقة العلميّة. وقد كان لإليزابيث فريزر إجازة دراسيّة من جامعة أكسفورد والنيو كوليج في خريف عام 2006، وكانت باحثةً زائرةً في (CEVIPOF)، مركز أبحاث العلوم السياسيّة، عندما كُتبت هذه الورقة. ونحن مدينون لهذه المؤسسات لدعمها.. ونقوم بذلك، ههنا، عن طريق النّظر، خصّيصاً، في نقد حنّة أرندت لفرانز فانون، ولتقليد التفكير حول العنف الثوريّ الذي تضمّه إليه. ويُجلي نقد أرندت للمقاربة الفانونيّة [نسبةً إلى فانون] عن عددٍ من الصّعوبات القائمة في نظريّة العنف المعياريّة والوصْفيّة في السياسة. ونركّز، في الأجزاء المركزيّة من هذه الورقة، وفقاً لذلك، على نظرية العنف لدى فانون كما تم تفصيلها في كتابه معذّبو الأرض، وعلى نقد أرندت لفانون كما تم تفصيله في كتابها في العنف.لا تهدفُ هذه الورقة العلميّة إلى تقديم تصوّرٍ وافٍ لكلّ شيءٍ قد فكّر فيه فانون وأرندت حول العنف، على العكس، فإنّها تريد أن تركّز على هذا النزاع المحدّد، بين كتاب معذّبو الأرض وكتاب في العنف، وعلى الكيفيّة التي تُنار فيها الأسئلة الفينومولوجيّة والمعياريّة المثيرة للقلق، التي تبزغ حينما نبحث في العلاقة ما بين السياسة والعنف. وفي سياق هذه الورقة العلميّة، نتناول «العنفَ» للإشارة، في المقام الأوّل، إلى البلاء المتعمّد لإيقاع الأذى الجسدانيّ على الآخرين بسبب أغراض سياسيّة، ونسعى إلى لفت الانتباه إلى الشروط، وإلى الآثار الواسعة، لعنفٍ كهذا على الأفراد، والبنى، والمؤسّسات، والعلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة.

وبادئ ذي بدء، وعلى الرغم ذلك، فإنّنا نريد أن نضع التصوّرات الخاصّة بكلّ من فانون وأرندت حول السياسة والعنف في سياقٍ أوسع للفكر والنظريّة. حيث يرى بعض الفلاسفة والمنظّرين السياسيين أنّه من المسلَّم به، بطريقٍ أو بآخر، أنّ العنف والسياسة متشابكان بشكلٍ معقّد. ويرى بعضُهم الآخر أنّه من المهمّ الحفاظ على كلّ منهما على حدة بكلّ وضوح، وتنصيب السياسة (مفاهيميّاً، ونظريّاً، وممارسةً) بوصفها نقيضاً للعنف.

يمكن لنا، تحت البند الأول، أن نعرّف تقليداً من التفكير الذي تكون فيه السّلطة السياسيّة هي القدرة على الهيمنة-الهيمنة على إقليمٍ ما، وعلى الشّعب والموارد الأخرى فيه. فيجادل ميكافيلّي بأنّ الأمير النّاجح هو الأمير الذي يجب أن يكون على استعدادٍ لاستخدام العنف بتروٍّ وتؤدة (ميكافيلّي، 1961، 95-98). ويحاجج هوبز بأنّ سلطة الجماعة الاصطناعيّة التي يمكن أن تحقّق هذه السيطرة، على نحوٍ مُرضٍ، يجب أن تُمركَز حول قوّة السّيف (هوبز، 1996، 161-121). وفي نظريّة ماكس فيبر، يكون الأداء السياسيّ هو السيطرة على إقليمٍ ما عبر وسائل العنف. فالفاعلون السياسيّون، بما في ذلك الدّول الحديثة، يمكن أن يكون لديهم كلّ ضروب الغايات في الرّأي-العدالة، والسّلام، وشموخ الدّولة. وما يميّز الفاعلين السياسيين عن الأنواع الأخرى من الفاعلين (الفاعلين الاقتصاديين، على سبيل المثال، أو السّلطات الدينيّة) هو استخدام العنف (فيبر، 1983، 54-55)بقدر ما يلجأ الفاعلون الاقتصاديّون والسُّلطات الدينيّة إلى العنف لتأمين مواقفهم، فإنّه يمكننا القول إنهم يتصرّفون على نحوٍ شبه سياسيّ. وهناك توتّر وتناقض في ملاحظات فيبر حول هذا الموضوع، ففيبر يصرّ على أنّ السياسة تُعرَّف عن طريق وسائلها فحسب، وليس عن طريق غاياتها (فيبر، 1978، 55). لكن من الواضح، على سبيل المثال، أنّ الفاعل الاقتصاديّ الذي يستخدم العنف ليس فاعلاً سياسيّاً بالتمام، فقط من خلال هذه الحقيقة (ص 54). ويسعى الفاعلون السياسيّون إلى التحكّم بإقليمٍ ما وشعبه وموارده (ص 55)، بمعنى أنّ بعض الغايات يتمّ توريطها هنا. فبحسب هذا التحليل، تكون عصابات وفرق المقاتلين بمثابة فاعلين سياسيّين، وبطبيعة الحال، فإنّ الفاعل السياسيّ المُطلق حتى الآن هو الدّولة الحديثة التي تفضي إلى القول ما إذا كانت العصاباتُ وما شابهها شرعيّة، أم لا (ص 56).. فالدّول الحديثة مميّزة لأنّها تحتكرُ الاستعمال الشّرعيّ (وبعبارةٍ أخرى، الاستعمال المسوَّغ) للعنف بنجاح.

ينظر ميكافيلّي وهوبز وفيبر (وآخرون) إلى السياسة، بتفاوتٍ بينهم، من وجهة نظر المهيمِن السياسيّ، ومنظمة الدّولة. وينظرُ الانعكاسُ النّظريّ والسياسيّ لهذا الموقف إلى السياسة من وجهة نظر المُهيمَن عليه، والمضّطهَد. ويركّز مفكّرون كُثر، من وجهةِ النّظر هذه، على العنف الثوريّ-العنف الذي يجب أن يُستعمَل في مقاومة وهزيمة الظّلم. إذ في التقليد الماركسيّ الثوريّ، فإنّ عنف الاستغلال والسيطرة الاقتصاديّة السياسيّة على الطبقة العاملة من قبل الدّولة الرأسماليّة لا بدّ وأن يُقاوَم، وسيُقاوَم ويُطاح به في نهاية المطاف عن طريق أداءٍ مُدبَّرٍ وعنفيّ بواسطة الطبقة العاملة (ماركس، 1978). ويفرّق سوريل بين عنف الدّولة، والحكومة، والأحزاب السياسيّة المعترَف بها (established)، والنقابات العمّاليّة المتورّطة، وبين عنف البروليتاريا (سوريل، 1990، 39، 62، 78، 200، 280). هذا التفريق بين العنف التقدّميّ للحريّة والعنف القمعيّ للسيطرة إنّما هو أمرٌ يُبحَث ويُسبَر ويوسَّع من قبل ميرلوبنتي، ودي بوفوار، وفانون، وسارتر (دي بوفوار، 1948، 98-99؛ فانون، 1961، 28؛ سارتر، 1961، 15-21؛ ميرلوبنتي، 1969، الجزء الثامن عشر، 107). وعبر هذا التقليد، تعملُ التيمةُ القائلة بالأهميّة الوجوديّة للعنف أيضاً، لكلٍّ من المضّطهدِين والمضّطهدَين. فالحياةُ البشريّة تُعرَّف بالحريّة، وبالحاجة إلى الاختيار، وهو مخطّطٌ لا مفرّ منه لتجاوز الرّوابط النفسيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، التي تعوق الحريّة. إذاً، يتجاوز العنفُ من أجل الحريّة الوسائل واضحة المعالم (straightforward) لغايات متخيّلة بشكلٍ مستقلّ. عوضاً من ذلك، وكما سوف نرى، يُنظَر إليه بوصفه تعبيراً عن الحريّة الإنسانيّة بالأحرى، وعن إعادة خلق الذات، بكلمات سارتر (سارتر، 1961، 18).

ويجب أن يُستدلَّ، بأيّ حالٍ من الأحوالّ، على أنّ الأمر بالنسبة إلى هؤلاء المفكّرين، سواء أكانوا دولتيّين أو معادين للدولتيّة كما يمكن أن نطلق عليهم، هو أنّ العنف مرتبط بالسياسةِ على نحو غير إشكاليّ. على النّقيض من ذلك، فإنّ نزعتهم الواقعيّة أو الوجوديّة التي تتأهّب لمواجهة العنف هي نزعة متناغمة مع تنويعةِ تعبيراتٍ عن الإزعاج، ومع تشكيلةٍ من سُبل المحاولة للاشتباك والتعامل مع هذه المعضلة. وبالنسبة إلى فيبر، تعني العلاقة بين السياسة والعنف أنّ «السياسيّ» هو شخصيّة تراجيديّة، شجاعٌ بما يكفي لأن يضطلع بعنف السياسة، وجريءٌ بما فيه الكفاية، أيضاً، لأن يرى أنّه يمكن أن ينال اللعنة على إثر ذلك (فيبر، 1994، 265، 367). ولا يحلُّ التفريق بين العنف (السيّئ) لأجل السيطرة والعنف (الجيّد) من أجل الحريّة، بصورةٍ مرضية تماماً، الطبيعةَ المُقلِقة للعنف وفقًا لأيٍّ من الوجوديين، فهم أيضاً يتبنّون التيمة الفيبريّة [نسبة إلى ماكس فيبر] للتراجيديا (ميرلبونتي، 1969، الجزء التاسع والثلاثون). إذ إنّ الريبة من السبب والنتيجة، ومن ثمّ هشاشة التبريرات الأداتيّة للعنف، كلّ ذلك نقيضٌ مركزيٌّ في إيتيقا الغموض لدى سيمون دي بوفوار (دي بوفوار، 1948، 7).

وفي تقليدٍ آخر للفكر السياسيّ، وعلى الرّغم من ذلك، تسيلُ هذه الطبيعة المُقلقة واللعينة والملوِّثة للعنف في محاولات لمحْوه من مجال السياسة. ففي التقليد الطّويل للنظريّة السياسيّة الليبراليّة والتعاقُديّة، فإنّ مسألة الملابسات التي قد يطُاح فيها بالحكّام بشكلٍ قابل للتبرير هي مسألة متصّلة، على نحو معقّد وبإحكامٍ، بمسألة التأسيس الشرعيّ للسّلطة السياسيّة. فحسب لوك، السّلطة السياسيّة هي «سلطة الحياة والموت» (لوك، 1960، 380). وتُبدي نظريّات التعاقُد الليبراليّة في القرن العشرين، مثل نظريّة جون رولز ونوزيك، كيف أنّ الأفراد قد يقبلون، عقلانيّاً، بالدستور وإنشاء القوانين (نوزيك، 1974، 5؛ رولز، 1999، 10، 154). وتُظهر نظريّات الديمقراطيّة التشاوريّة (deliberative) كيف أنّ العقلَ العموميّ والتداول، يمكن لهما أن يجذبا النّاس إلى النقطة التي يمكن فيها أن يقبلوا بالقوانين أو بتدابيرَ أخرى (هابرماس، 1996، 170-172؛ هابرماس، 1990، 94؛ رولز، 1993، 226؛ غوتمان وثومبسون، 1996، 14-16). وبالتالي، يمكن لدستور الدّولة، وملاحقة السياسات العموميّة بالتّشريع، وبالإجراءات التنفيذيّة، وبالإدارة، وبتمديد المنافسة للسّلطة للتحكّم في نظام الحكم المؤسَّس كما ينبغي، نظريّاً، أن يُقبَل، على الأقلّ، ويُتّفَق عليه عقلانيّاً بشكلٍ بحت. وعليه، فإنها مسوَّغةٌ على أساس أنّ الأفراد العقلانيين يمكن أن يقبلوا، في الظّروف المناسبة، بالقوانين والتدابير الأخرى التي تحدُّ منهم [كأشخاص]. ذلك أنّ المواطنين يمكن تحفيزهم للالتزام عن طريق تدابير شرعيّة متفّق عليها كما يجب، قانونيّة وإداريّة.

وهناك، بكلماتٍ أخرى، نظريّة السياسة دون عنف. وهذه هي النظريّة، على الأقلّ، حيث يلحّ النقّاد على أنّ كلّ هذه النظريّات ترفض العنفَ الذي يرتبطُ ارتباطاً وثيقاً بالسياسة. وهناك عنفٌ بالتحديد في مؤسّسات العقاب، لدرجة أنّه حتى الدّولة المؤسَّسة تحتفظُ لنفسها، بصورةٍ مثاليّة، بحقّ التعاملُ مع المُخالفين (راجع لوك، 1960، 428؛ هونيج، 1993، 141-146). حيث إنّ نظام الحكم له أن يتعامل مع هؤلاء الذين لا يتبّعون ويقبلون بالقيم الأساسيّة التي تشكّل الدستور، بوصفهم خصوماً (موف، 1993، 4، 57، 70).

إنّ الإشكال ههنا هو إلى حدٍّ ما إشكالٌ مفاهيميّ، والسياسةُ التي تُعرَّف كعمليّة صنع السياسات، التوافق، القوانين، الإدارة والأداء التنفيذيّ، تستندُ في هذه النظريّة على الخطاب والعقل، واللذين يُعرَّفان ويُحدَّدان كأشياء غير قسريّة (uncoercive). وعنف العقاب، والعنف من أجل الدّفاع، حسبَ وجهة النّظر هذه، هو مسألةٌ أخرى، ليست نفسها جزءاً من العمليّة السياسيّة. وبطبيعة الحال، تكون الطريقة الأخرى للنّظر في ذلك هي أنّ العنفَ، وكما كانَ، هو الخارج القواميّ/التأسيسيّ للسياسة. إنّه يضعُ حدودَ السياسة، لكي تكون راسخةً، بيدَ أنّ ثمّةَ سؤالاً فلسفيّاً أصيلاً يُثير استفهامَ ما إذا كان الحدُّ هو جزءٌ من الشيء ذاته الذي يحدّه، أم لا. ومع ذلك، فهذه ليست مجرّد مسألة مفاهيميّة، بل إنّ لها تضمينات جوهريّة متى نظرنا في مسألة استخدامات العنف في السياسة، ولأغراضٍ سياسيّة. وهذا إشكالٌ نتناوله في القسم اللاحق.

إلى هذا الحدّ، ومن ثم، فقد قابلنا المقاربات للسياسة والعنف، والتي تقبل العنف كجانبٍ لا غنى عنه للسياسة، سواء تم التفكير فيه، بالمقام الأوّل، باعتباره هيمنةً على الشّعب والإقليم، أو كمقاومة ومحاولة لإنهاء هيمنةٍ كهذه. ويقرُّ هؤلاء المنظّرون، بدرجاتٍ متفاوتة، بالطبيعة البائسة للعنف، وينبرون لتسويغه. ويعزّز هذا المعنى للتنافر داخل العنف، المشاريعَ الشيوعيّة والليبراليّة البديلة لبناء المجتمع والحكومة، حيث يُهمَّش العنفُ، ويُودَع، غالباً، في الادّخار لأغراض العقاب والدّفاع. تعوِّلُ كلّ هذه المشاريع، إلى حدٍّ ما، على التمييز بين ما يمكن تسويغه وما لا يمكن، وعلى الشرعيّ وغير الشرعيّ، وعلى الاستعمالات والأشكال الجيّدة والسيّئة للعنف. وبالطّبع، علينا أن نضيف إلى ما مضى هذه النّظريات السّلميّة (pacifist) التي تحاجج، جدّيّاً، بأنّ استعمالات العنف لا يمكن تسويغها بتاتاً (تولوستوي، 1987، 162-164، 172؛ روديك، 1995، 137-139). إذ بحسب هذا المنظور، يكون العنف مُداناً، ليس بسبب ما يُستخدَم لأجله، بل بوصفه شكلاً من الأداء بحدّ ذاته. فإذا كان الأمر يصل إلى حدّ أنّ السياسة تُعرَّف بالعنف-عنف الدولة، وعنف النظام الاجتماعي، وعنف القانون والمعاقبة، وعنف نوع بعينهِ من المقاومة-، فإنّ السلاميّة [(pacifism) – النّزعة القائمة على السلام ونبذ العنف] تنطوي إذاً على رفضٍ للسياسة. وإذا كانت «السياسة» يمكن أن تُؤمثَل (idealized) بطريقة مختلفة، فالسلاميّة تتطلّب إذاً إعادّة تصوّر جذريّ للمجتمع ولنظام الحكم.

ونتتبّع، فيما يلي، كيف يتناولُ وينتقدُ كلٌّ من فانون وأرندت تلك التصوّرات المتباينة للعلاقة بين السياسة والعنف. حيث يهاجم فانون التصوّر الذرائعيّ (realist)، والذي يربط السياسة بالهيمنة العنفيّة، ويحاجج لتسويغ المقاومة العنفيّة. ويهاجم فانون أيضاً النّموذجَ البرلمانيّ الليبراليّ لسياسة الحزب الذي يطالب بتحاشي العنف لكن لا يمكنه [فعل ذلك]، وفقًا لفانون. ينشدُ فانون نموذجاً تحريريّاً (liberationist) جديداً للسياسة يكون مُفرغاً من العنف، لكن هذه المرّة الجديدة للإنسانيّة التي لا يمكن تحقيقه فيها، بحسب فانون، إلّا عن طريق العنف. وهذا العنف محايثٌ في البنى السياسيّة للسّلطة أولاً، وهو عنفٌ مُجسَّدٌ وليبيدانيّ [غريزيّ] (libidinal) ثانياً، وهو في كلا المعنيين، لا مندوحة عنه كمسلكٍ نحو عالم أفضل. ويقدّم نقد أرندت لفانون تبصّرات ذات دلالة بالمشاكل القائمة في التبريرات الأداتيّة للعنف، وبتماهي العنف مع الطّاقة العضويّة والليبيدانيّة. وتبني رؤيتها الخاصّة على مثاليّة السياسة التي هي، في واقع الأمر، مُفرغة كليّاً من العنف. وتحاول أرندت، بالرغم من ذلك، أن تتفادى الحلّ الليبراليّ لتهميش (marginalizing) وإنكار العنف بفاعليّة؛ كما إنّها تتفادى أيّ شكلٍ من أشكال السلاميّة.

يقدّم كلٌّ من فانون وأرندت حججاً متعارضة حول العلاقة بين السياسة والعنف، ويبدو أنّه يتحتّم علينا أن نختار بين النّظر إلى العنف باعتباره جانباً «لا مندوحة عنه» للسياسة، وبين رؤيته كأمرٍ هادمٍ للسياسة. وإنّنا لنجادل، مع ذلك، بأنّه سواء كان هذا أو ذاك، فإن البناء لمواقف كلا المفكّرين [فانون وأرندت] هو بناء مضلّل وخادع. وبعد الفحص، تُشوِّش المقتضيات المترتبّة على تحليلات كلٍّ من فانون وأرندت أيَّ تمايز مُطلق بينهما.

يمنحنا فانون الأساسَ للارتياب من العنف بوصفه مسلكاً للحريّة، ولا تزال الآراء السياسيّة الأرندتيّة [نسبةً إلى حنّة أرندت] مُطارَدَةً بالعنف الذي من المفترض أنها تستبعده. إنّ عمل فانون هو الذي يوفّر لنا القرائن الأفضل لما يخصّ السبب في أنّ لا تصوّراته هو، ولا تصوّرات أرندت للسياسة، تحلُّ بصورةٍ مرضية، مسألة العلاقة بينهما. لأنّ عمل فانون، مهما كانت ادّعاءاته الصريحة، يبرهن مراراً أنّ العنف ليس أداةً منفصلةً ليتمّ استعمالها من أجل الخير الفرديّ أو الجماعيّ، فالعنفُ مجسَّد ومضمَّن في سيرورة الأفراد والمجتمعات.

فانون

توجد ثلاثة أنواع من «السياسة» في نظريّة فانون، النّوع الأوّل هو السياسة بوصفها سيطرةً، حيث أنّ القدرة على الهيمنة تستندُ على أواليات الاستغلال الرأسماليّ والكولونياليّ، وعلى أنماط الاضطهاد المرتبطة بها، وعلى تشابُك العنف فيها. والنّوع الثاني هو السياسة الحزبية الفاسدة للنّخب الناشئة، إذ تحاول هذه السياسة أن تتجاهل، بشكلٍ غير نافع، واقعيّةَ العنف الكولونياليّ وضرورة العنف الثوريّ بالطريقة نفسها بأملٍ أجوف لتسويةٍ سلميّة. ويتبنّى ممارسو هذا النّوع الثاني من السياسة مسالمة (peacability) صانع الرّبح. أمّا النوع الثالث، فثمّة سياسةٌ فعّالة ونزيهة للشعب، وفيها يكون الاستعمال الإيتيقيّ للعنف ممكناً. علاوةً على ذلك، فإنّها تُنمذج وتُبشّر بشكلٍ جديدٍ للنّظام الحاكم دون عنف، وبعالمٍ جديد للإنسانيّة.

ففي النّضال من أجل الحريّة، وفي استهلال عمليّة فكفكة الاستعمار (decolonization)، ستبرز الأحزاب السياسيّة على أنّها نخبٌ فكريّة وتجاريّة بين الشعب المستعمَر (colonized) ترى فرصاً جديدة وتحاول أن تصوْغ أهدافاً جديدة. وتستندُ الأحزاب السياسيّة بل وتدعم مصالح الشّعب الذي قد اصطفّ مع النّظام الكولونياليّ، لأنّه قد أنجزَ المهامّ الضروريّة. ومن ثمّ، يُنصَّب قالَبٌ مكرّر للصّراع والاغتراب. فالأحزاب السياسيّة تنفرُ وترتابُ من أهل القُرى، وينشأ الصّراع بين هؤلاء الذين سيكونون الزعماء والمهيمنين والسّلطات التقليديّة، وستكون هناك صراعاتٌ بين النّقابيين والطّبقة الوسطى الوطنيّة، وسيدخل المثقفون في صراعٍ مع آلة الحزب (فانون، 2001، 86-91، 97-99). فلا يمكن للقادة السياسيين أن يبقوا على سلطانهم الأخلاقيّ في مواجهة السّرقات والفشل الاقتصاديّ من قبل الرأسماليين سواء أكانوا محلّيين أو أجانبَ؛ لذلك تتحوّل القيادة إلى ديكتاتوريّة فاسدة جشعة (133-128). إذاً، فإنّ السياسة الحزبيّة في السياق الكولونياليّ على الأقلّ، يُنظَّر لها من قبل فانون على أنّها غير ذات جدوى في أحسن أحوالها، ومحتضنة للشرّ في أسوئها. حيث إنّ المشكلة هي أنّ النّخب تبحثُ عن الفرص لتحقيق الرّبح قبل كلّ شيء، وعن ترأس الدّولة محلّ الحكّام الكولونياليين. فهم ملتزمون بالاستيلاء على بنية الدولة بكراً، ووفقًا لذلك فهم إصلاحيّون في مواقفهم. وبطبيعة الحال، هناك تواطؤ بين الرأسماليّة والعنف، بيد أنّ النّخب الحزبيّة تسمح لنفسها أن تكون منسجمة مع رغبة الرأسماليين والكولونياليين في «التسوية» (settlement). إنّهم لا يستطيعون أن يواجهوا واقعيّة العنف، إذ إنّهم ينكرون عنف البنيّة التي هم منخرطون فيها. وقد يستعملون، بانتهازيةٍ، كلماتٍ عدوانيّة وحتى عنفيّة لأغراضهم السياسيّة البلاغيّة الخاصّة، لكن لا يمكنهم أنْ يروا بأنّ العنفَ المعادي للكولونياليّة والمعادي للرأسماليّة هو عنفٌ في مصلحة الناس والشعب (46-51). هذا الرّفض القاضي بالاشتباك صراحةً مع العنف له عواقب كارثيّة، فالسياسةُ، بهذا المعنى، تعزّز العنفَ حتى في الوقت الذي ترفضه وتهمّشه على نحوٍ مزعوم.

من المهمّ أن ندرك أنّه على الرّغم من الازدراء الذي يُمفصله فانون للطبقة الوسطى، وللنّخب الرأسماليّة والمهنيّة والسياسيّة، فإنّ فانون لا يلومهم على العنف والفساد الذي يصحب أداءاتهم السياسيّة. إذ إنّ تحليله تحليلٌ بنيويّ قبل كلّ شيء، وحجّة الكتاب تُقدّم على شكل «نظريّة مرحليّة» (stage theory). فالكولونياليّة، في البداية، «هي العنف في وضعه الطبيعيّ، وسوف يتراجع وينتهي فقط حينما يُواجَه بعنفٍ أعظم» (48). حيث إنّ الاستعمار والوحشيّة الهمجيّة المُبنْيَنة (structured) تولّد الاستياء والإنماء الغريزيّ (libidinous) للعنف. ويُرفَض هذا العنف الارتكاسيّ من قبل النّخب والأحزاب السياسيّة، الأمر الذي يسبّب مزيداً من الاغتراب (alienation) ومن العنف الشعبيّ المنظَّم ضدّ الوحشيّة الأوليّة للنّظام الكولونياليّ. وفي مرحلةٍ ما، يمكن للديالكتيك بدوره أن يتحول إلى مسارٍ خلاصيّ (redemptive). ويمكن للتعليم السياسيّ أن يحوّل الشخص العنيف إلى مواطن جنديّ. وأخيراً، يحلّل فانون الديالكتيك بين الذات، والإنسانيّة، والمواطنيّة (nationality) والوعي العالميّ. وبالتالي، يكون لدينا، في نهاية المطاف، رؤية للوعي القوميّ خالياً من التركة الكولونياليّة الأوروبيّة.

 فرانز فانون
فرانز فانون

لكن تجدر الإشارة إلى أنّ كلّ مرحلةٍ أحاديّة، وكلّ آصرةٍ أحاديّة بين مرحلة ومرحلة في هذه السرديّات البنيويّة، هي طلقة نار من خلال العنف. فالانتقالية الأولى، وهي الكولونياليّة، تدسُّ العنفَ في داخل العالم. وبعدئذٍ، يكون ديالكتيك الاضطهاد، والمقاومة، وحتى المنجز النّهائيّ للحريّة، [عبارة عن] عمليّة مُهلكة. إنّ تحليلات فانون تُقدَّم في صورة علم، فالتوتّر المستمرّ الحاليّ يصل الروابط السببيّة بين مرحلةٍ ومرحلةٍ بوصفها قابلةً للتطبيق كونيّاً. ويتمّ تخصيص الرّوابط السببيّة في كلّ مستوى، الوضع السياسيّ والتاريخيّ، والمواجهات البين ذاتيّة (interpersonal) على مستوى الشبكة الاجتماعيّة، وصولاً إلى المستوى «الدّاخل ذاتيّ» (intra-personal) للتحفيز والارتكاس العاطفيّ. وفي كتاب فانون بشرة سوداء وأقنعة بيضاء، تُجسَّد خطابات التفوّق والدّونيّة في رغبةٍ واستياء، تُجسّد في العُصاب (فانون، 1952). وفي كتاب معذّبو الأرض، تُجسَّد بنى الاستغلال والاضطهاد السياسيّة والاقتصاديّة في الاستشاطة (rage) والامتعاض، وأخيراً في فيزيولوجيات الجسد والعقل (فانون، 2001، 200-202). ومن الجدير بالذكر أنّ الآثار الخطابيّة على النّفس (psyche) التي يوصّفها فانون في كتاب بشرة سوداء وأقنعة بيضاء (نُشر عام 1952)، يُنظَر إليها من قبله على أنّها ضربٌ من ضروب العنف حينما كتبَ معذّبو الأرض (1961). فحسب فانون، العنف حاضرٌ بنيويّاً، ولا يمكن دحره إلّا عن طريق التحوّل البنيويّ، وهو الأمر الذي لا يمكن للأداء السياسيّ الحزبيّ أن يحقّقه.

إنّ العنفَ، بالنسبة إلى فانون، هو عنف فيزيولوجيّ (المعاقبة أو تهديد بالمعاقبة بجرحٍ مؤلم، عبر وسائل مثل السياط، والحِراب، والبنادق، واللكمات). ويتخلل هذا العنف الفيزيولوجي كلَّ جانبٍ من العالم الكولونيالي، إنه ليغزو حتى أي سلام (فانون، 2001، 56، 64). فالعنف كامنٌ في تنظيم الأبارتهايد (apartheid) وفي السيطرة على الجموع (ص 29)، إلى جانب، وفي الوجد الدينيّ والجنسانيّة كما يمارسها الشعبُ المضطهَد (ص 43)، في التجنيد للحرب (ص 86)، وفي عنف الوصول إلى حقيقة الأراجيف وفي التحكيم والتصنيف [الواقع على] الشعب الإفريقيّ من قبل مجالات الضبْط الغربيّة (ص 46، 244). وبالقياس إلى هذا العنف الفيزييولوجيّ المُبنْيَن، وإفساده (corruption) لكلّ العمليّات الجسديّة والاجتماعيّة والفيزيولوجيّة بحيث تكون عمليات عنفيّة للغاية، يحاجج فانون بأنّ الردّ الأوحد هو العنف. والحال كذلك، فإنّ العنفَ أمرٌ لا اختياريٌّ على مستوى الأداء والتحفيز البشرييْن. والحال كما قد رأينا، حيث يعتقدُ فانون بأنّ منطق الكولونياليّة، وفكفكة الاستعمار، وردود وأداءات الشعب المستعمَر، خاصّةً النخب منه، يجعل العنفَ أمراً لا مندوحة عنه -كلّ شيءٍ يقومون به، سواء هدفَ إلى تحسينٍ أو استغلال، وسواء كان بحسن نيّة أو بسوئها، سوف يؤدّي إلى تصعيد واستمراريّة الأداء العنفيّ، أكانَ منظّماً أم غير منظَّم.

يكمن الجانب الخلاصيّ من قراءة فانون للعنف، في إمكانيّة أنّ العنفَ يمكن أن يُعلَّم. إنّ عنف المستعمَر هو عنفٌ خلاصيّ، لكن لا يمكن تغذيته عن طريق الامتعاض والاستشاطة فحسب. حيث يتحتّم عليه أن يدرك نفسه بوصفه المصدر لعالمٍ جديد ونظامٍ جديد، وعليه أن يصبح استراتيجيّاً وأداتيّاً بصورةٍ إيجابيّة (ص 111). وهذا العنف مرتبط بهذا الفكر الذي يقدّمه فانون على أنّه المعنى الثالث «للسياسة». إذ إنّ الشّعب المُضطهَد والمستعمَر، رغم أنّه مُضفى عليه طابعٌ وحشيّ (brutalized) [مُوحشَن] ويعاني من عنف واقع عليه، فهو شعب غير مذعور أو غير منثنٍ، «فكلّ تاريخهم الحديث قد أعدَّهم لكي يفهموا ويدركوا الموقف» (ص 63). فهم يفهمون ما يجري «لأنّهم يستطيعون أن يميطوا اللثام عن القوى التي تعمل فيما وراء المظهر، وفيما وراء أداءات قادتهم. فالأصلانيّ [ابن البلد] (native) والرّجل المتخلِّف، هم حيوانات سياسيّة اليوم بالمعنى الكونيّ الأعمّ للكلمة».

ولا تفيد «السياسيّة» ضمنًا ههنا التذبذب، والتسوية، والمصلحة الذاتيّة والجزئيّة، والتي هي ميزات جوهريّة للسياسة الحزبيّة، والتي تحكم عليها لتعفينها، وعجزها، وهدرها الدماء. بدلاً من ذلك، تشير السياسيّة ههنا إلى هذا الوعي العموميّ، والحكمة والفهم لكيف تكون الأشياء حقّاً. فالعنف يمكن أن يُجسَّد بطرق إبداعيّة ومبتكرة، إنه هذا العنف المجسَّد، والقادة والمنظمون الذين يحيون داخل التاريخ هم اللذين يقودون بأدمغتهم وقوّتهم الكفاحَ في سبيل الحريّة، ويجعلون فهم الحقائق الاجتماعية أمراً ممكناً للجماهير (ص 117-118).

فالسياسة تتضمّن الآن معنى القدرة على التنظيم والأداء الجماعيّ، هكذا بوصفها مرتبطة بتقليد الفضيلة السياسيّة. يجب أن يكون ثمّة أساس؛ ويجب أن تكون هناك خلايا تدعّم المضمونَ والحياة. وينبغي على الجماهير أن تكون قادرة على الاجتماع، والمناقشة، والاقتراح وتلقّي توجيهات مع بعضها بعضاً. ويتحتّم على المواطنين أن يتحدّثوا، وأن يعبّروا عن أنفسهم وأن يثيروا أفكاراً جديدة وأن يدفعوا بها. فاجتماع الفرع واجتماع اللجنة هي أفعال شعائريّة (liturgical). حيث إنّها اجتماعات ذات امتياز نظراً لكون الإنسان يتحدّث ويستمع. ففي كلّ اجتماع، ينمّي الدماغ وسائل المشاركة والمقاسمة لديه وتكتشفُ العينُ مشهداً متمشّياً مع كرامة الإنسان (ص 157).

هذه الرّؤية للتنظيم السياسيّ هي رؤية مدهشةٌ لعدّة أمور. أولاً، لاحظ التلميح إلى «القُدّاس» (liturgy)، وإلى التماثُل لضربٍ بعينه من الإنسانيّة مع المقدّس، إذ يتم تباحُث هذا الأمر مع التزام فانون الوجوديّ بإمكانيّة قيام حريّة ترنسندنتاليّة، على أقلّ تقدير. ثانياً، تصوّر الفقرة تواصلاً غير متباعدٍ (unalienated) بين الأشخاص. ثالثاً، إن هذه الرؤيّة شبيهة، بشكلٍ لافت للنّظر، بمثاليّة أرندت للفعل السياسيّ والسّلطة، وخاصّة نموذجها لسياسة المجلس، وهو الأمر الذي نناقشه في القسم التالي. رابعاً، وبالرّغم من ذلك، فحسب فانون ليس ثمّة شكٌّ في أنّ مثاليّة السياسة هذه مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بالاعتراف بأنّ العنفَ هو الطريق الأوحد لتحقيق مشروعِ ومخطّطِ فكفكة الاستعمار.

ويُقدّم لنا سببين لهذا الأمر على مدار الطريق الذي تتضح حجّته من خلاله. أولاً، العنف ضروريّ لأنّه يعمل، وبكلماتٍ أخرى لأنّ له القدرة على أن يقلبَ العالَم بصدق. فالقصّة الديالكتيّة التي يرويها [فانون]، حيث النّهج العنفيّ نحو الحريّة (في الظّروف السليمة) ونحو نوعٍ جديد من السّلام والإنسانيّة يبيّن لنا ذلك. ثانياً، العنف ضروريّ لأنّ العالَم عنفيّ بالفعل، وبمجرّد إطلاق العنان للأعمال العنفيّة، فلا يمكن مواجهتها إلّا عبر ردود الأفعال العنفيّة. وإنّ أغلاط الفهم الفاسدة للنّخب الحزبيّة ضروريّة بمقتضى الحال، في هذه الرّؤية، مثل المقاسمة الفوضويّة والرّضيّة (traumatic)، والخارجة عن السيطرة للعنف من قبل الأشخاص أنفسهم الذين تشمل مداولاتهم واجتماعاتهم، بصورةٍ محايثة (immanently) إذا جاز التعبير، إمكانيّة قيام سياسة إنسانيّة متحوّلة.

إذاً، «يُمفهَم» العنفُ، في تحليل فانون، بطريقتين مهيمنتيْن. أولاً، إنّ العنف أداة لإتمام وتدعيم السّلطة السياسيّة، والحال كذلك، [لتدعيم] القدرة على الحكم. ويمكن لهذا الحكم، بطبيعة الحال، أن يكون كولونياليّاً واستغلاليّاً وقمعيّاً؛ أو أنّه يمكن أن يكون له حقّ تقرير المصير (self-determining) وأن يكون تعاونيّاً، وتحرّريّاً، مرتكزاً على السكّان والقادة الأصليين (ص 117، 198-199). وثانياً، فإنّ العنف قوّة أو طاقة لا نظير لها. ويمثّل العنفُ «عمليّة تطهير» (cleansing) على مستوى الشّخص (ص 74). وباعتباره أداةً [العنف]، فلديه القدرة على صنع العالَم. وبوصفه طاقةً، فإنّه يشتغلُ بالقوانين الفيزيائيّة بصورةٍ متناظرة، والتي يثير فيها فرضُ القوّة ردّة فعل معاكسة. وهذا إمّا أن يكون موجّهاً باطنيّاً وبصورة مدمّرة للذات من قبل المُضطهَد، أو موجّهاً، بصورةٍ فعّالة ومنتجة، ضدّ المُضطهِد. إذ بحسب فانون، تعمل الخصيصة الأداتيّة للعنف جنباً إلى جنبٍ مع العنف بمعناه اللبيديانيّ [الغريزيّ] بوصفه طاقة جبّارة وطبيعيّة، والتي وُجهّت لخلْق عالم جديد وأفضل. لهذا السبب، وعلى مدار تحليله، فإنّ الحجّة الاستراتيّجية فيما يتعلّق بالعنف بوصفه الطريق الفعّال الأوحد للتخلّص من السّلطة الكولونياليّة تُعزَّز عن طريق حجّةٍ ارتكاسيّة، بحيث يحتاج المستعمَرون إلى ارتكاب العنف ضدّ المستعمِر باعتباره الطريق الأوحد للتعبير عن (والتخلًّص من) العنف الذي قد تكبّدوه ووقعَ عليهم. في الوقت ذاته، ومع ذلك، يشيرُ تحليل فانون إلى التوتّر بين ذيْنك الطريقيْن من مَفهَمَة (conceptualizing) العنف، وتبريره.

وبما أنّ العنف أداة، فإنّه يُفهَم كأداةٍ يمكن استعمالها ومن ثّم نبذها، وبطبيعة الحال هذا هو السبب في احتمال أن يكون قيام ثورةٍ، رغم ذلك، هو الطريق إلى عالمٍ جديدٍ وسلميّ. وبما أنّه طاقة لبيديانيّة، فإنّ العنف يدور حول الكينونة (being) لا الفعل (doing). إنّه قوّة متأصّلة وكامنة في البنى الكولونياليّة للاضطهاد، وفي الحياة اليوميّة الكولونياليّة، وفي نفس (psyche) الأصلانيّ المتحوّل إلى مواطن جنديّ (citizen-soldier). وحجّة فانون هي أنّ هذا العنف من الكينونة هو شرطٌ من أجل الاستعمال الفعّال والمنتِج للعنف بوصفه أداةً سياسيّة، والذي يَمُدّ الزخمَ المُحفّز للمستعمَر لأن يقوم بما لا بدّ منه وبما هو ضروريّ للإطاحة بالمستعمِر، ومن ثمّ يطهّر نفسه وعالَمه من العنف على حدٍّ سواء (ص 237). ومع ذلك، لا توحي تمثيلاته لمرتكبي جرائم وضّحايا العنف في كتاب معذّبو الأرض بهذه الخُلاصة الرْحراحة. وخاصّة في الفصل الخامس، إذ يشتبك مع الاضطرابات العقليّة على كلٍّ من جانبي الحرب الجزائريّة، فإنّ الفكرة القائلة بأنّ استعمال العنف يمكن أن يكون طريقاً لهروب الكينونة في العنف تتمّ مواجهتها ومقاومتها عن طريق حالةٍ بعد حالة لا يزال النّاس فيها محاصرين في العنف الذي وقع عليهم وتكبّدوه. وعلى الرّغم من أنّ فانون مصرٌّ على أنّ العلاج لباثولوجيّات الكولونياليّة والحرب المعادية للكولونياليّة سوف يُؤسَّس في المستقبل الذي بناه العنف المعادي للكولونياليّة، فإنّ تصوّراته المشرقة بحيوات مرضاه وبالعائلة الأوسع والعلاقات الاجتماعيّة التي تُجسَّد فيها، تشيرُ إلى خلاصةٍ بديلة، وبعبارة فانون نفسه فأنّ «مستقبل مثل هؤلاء المرضى هو مستقبل مرتهَنٌ (mortgaged)» (ص 203).

حنّة أرندت

نُشرَ كتاب فانون معذّبو الأرض بالفرنسيّة عام 1961 (عام وفاته)، وبالإنجليزيّة في الولايات المتحدة وبريطانيا عام 1965. وقد نُشرَ كتاب أرندت في العنف عام 1969، وكان بمثابة ردٍّ على الأحداث التي وقعت في الجامعات عام 1968، وكذلك على العنف المتزايد لتأييد أو رفض الحقوق المدنيّة للسود، وعلى تزايد مستويات الإرهاب في أوروبّا والولايات المتّحدة. وتُفرِد أرندت في كتابها في العنف قدراً كبيراً للردّ على كتاب فانونلدى ستيفن سبندر (Stephen Spender) اثنا عشر إدخالاً في الفهرس (لكن ستة منهم في الهوامش)، ولماركس سبعة عشر، ولسويرل تسعة ولسارتر تسعة. ويأتي فرانز فانون في المركز الثالث بعشرة إدخالات، وإدخال من العشرة في حاشية، ولكن يحتلّ فانون تقديريّاً مساحةً أكبر من أيّ أحد غيره في النصّ.. ولطالما تكون قراءتها لفانون متّسمة بنزعةٍ وميلٍ إلى اتهام المنتسبين الآخرين للتقليد الوجوديّ الذي طابقتْ فانون معه، باعتبارهم أكثر تطرّفاً من فانون نفسه. فعلى سبيل المثال، تبدي أرندت رأيها حول مقدّمة سارتر لكتابمعذّبو الأرض، بأنّها تتمادى في تمجيدها للعنف أكثر من كتاب سوريل الشهير تأمّلات حول العنف، وأبعد من فانون نفسه، الذي يتمنّى سارتر أن يصلَ بحجّته إلى منتهاها (أرندت، 1969، ص 12). وعلى الرّغم من ذلك، من الواضح أنّ أرندت تنظر إلى الافتراضات الأساسيّة لنظريات فانون حول السياسة والتغيير الثوريّ باعتبارها نظريّات مُخطئة.

وتلمح أرندت في كتابها في العنف، وفي أعمالٍ أخرى مراراً إلى مثاليّة الحياة السياسيّة: ما يجعل شخصاً كائناً سياسيّاً إنّما هي قدرته على الفعل؛ فهي التي تمكنه من أن يلتقي بأمثاله من البشر وأن يتفاعل معهم بشكل متناسقٍ، وأن يتوصل إلى تحقيق أهداف ومشاريع ما كان من شأنها أن تتسلل أبداً إلى عقله، ناهيك عن رغبات فؤاده، لو لم يتمتع بهذه الهبة في أن يبدأ شيئاً جديداً. وإذا تحدّثنا فلسفيّاً، فإنّ الفعل هو الردّ الإنسانيّ على شرط الوجود البيولوجيّ [المولوديّة (natality)].

وفي كتابها الشرط البشريّ (The human condition) يتمّ تعريف القدرة على الفعل (action) (القدرة السياسيّة بامتياز) جزئيّاً عن طريق تفريقها وتمييزها عن القدرات البشريّة للكدح (labour) (العمليّات التي تُنتج الشّروط الماديّة للوجود، والتي لا تنضب من حيث المبدأ) والعمل (Work) (القدرة على صناعة الأشياء، وعلى التأليف، وعلى العمل في العالم أداتيّاً لإنتاج الغايات المحدودة) (أرندت، 1958، ص 9). إذ إنّ النّموذج العيانيّ الذي يمثّل هذه القدرة على الفعل والإيجاد هو نظام المجلس: وهو التطوّر المدحور دائماً، ولكن الموثوق فحسب لكلّ ثورةٍ منذ القرن التاسع عشر (أرندت، 1969، ص 22). ففي منظّمة سياسيّة كهذه، حيث يجتمع الأفراد لاتخاذ قرارٍ وللتصرّف في المسائل ذات الهمّ المشترك وذات الأهميّة العموميّة بمسؤوليّة، ستتوفّر لدى النّاس الفرصة ليفهموا معنى الصّالح العامّ (res publica) (ص 78).

يكمن هذا التصوّر المثاليّ للسياسة باعتبارها فعلاً في المجال العامّ، في قلْب تصوّر أرندت للعنف ونقدها للطرق الموجودة والقائمة لمفهمَة العلاقة بين العنف والسياسة. حيث تتناول أرندت الإشكال بالطريقة التي تعالجُ بها تقاليد الفكر والنظريّة السياسيّة العنفَ بوصفه متمّماً للسياسة. فالمنظرون من توماس هوبز إلى ماكس فيبر ينظرون إلى العنف باعتباره السلطة المطلقة (ص 38)، وبوصفه لا مندوحة عنه في واقع الأمر للنّظام السياسيّ، لأنّ الكلمة دون سيف هي لا شيء (ص 5). ومن تسلسل التفكير هذا فإنّنا نتحصّل على الأفكار القائلة إنّ الحرب ما هي إلّا السياسة مستمرّة بوسائل أخرى، بحسب تصوّر كلاوزفيتز (Clausewitz)، أو إنّ السلطة تنبثق من فوّهة البندقيّة كما هو الحال لدى ماو (Mao) (ص 11). فالاحتفالات والتبريرات الأداتيّة للعنف الثوريّ هي بمثابة ردٍّ على مثل هذه الرّؤية، وبحسب أرندت، فإنّ هذه الحجج مرتكزةٌ إلى خلْطٍ بين الفعل السياسيّ والتلفيق (fabrication). إذ إنّ بيت القصيد حول الفعل [السياسيّ] هو أنّه غير قابل للتنبّؤ في نتائجه. فعندما نعمل، على عكس الحالة التي نكون فيها نصنع، لا يمكن أن نتملّك منتجاً مُنجزاً في رؤية لا تنطوي بدورها على استجلاب منتجٍ متخيَّل إلى الوجود، خلافاً للتلفيق، إذ العنفُ محكومٌ بالمنطق القائل إنّ الغاية تُبرّر الوسيلة، ومن المفترض أنّ استخدام أدواتٍ بعينها يُحدث نتيجةٍ محدّدة، كما هو الحال بصناعة غرضٍ ما. لكنّ المشكلة في العنف، باعتباره معارضاً لأنماط الاختلاق، هي أنّ الغاية التي يُردّ ويوجّه إليها دائماً ما تكون معرضة لخطر الوجود الذي يقع ضحيّة الوسائل التي تبرّره. فكلُّ الفعل البشريّ (بما فيه الفعل السياسيّ) لا يمكن التنبؤ به، ولكن إلى هذا التقلب يجلبُ العنفُ عنصراً إضافيّاً هامّاً من الاعتباطيّة (arbitrariness) (ص 4). فقد «يؤتي» العنف ثماره، لكنّه ينجح على نحو عَرَضيّ. والتغيير الأكثر ملائمةً الذي سيُحدثه هو التغيير إلى عالمٍ أكثر عنفاً (ص 60)؛ إلى حدّ أنّ العالَم سيصبح أكثر عنفاً، وستُختزَل إمكانات السياسة ويتمّ إفسادها.

تُقسّمُ قراءة أرندت لتاريخ الفكر السياسيّ النظريّاتِ السياسيّةَ إلى نظريّتين: نظريّة تركّز على سؤال «مَن يحكم؟»، وأخرى لا تركّز عليه. إنّ سؤال «مَن يحكم» سؤالٌ مرتبطٌ بفكرة أنّ الحكومة نفسها هي مجرّد حكم الإنسان على الإنسان. وتُعدّ السياسة، من وجهة النّظر هذه، مسألة وصية وامتثال. وهذا الامتثال قد يكون امتثالاً للإنسان، أو امتثالاً للقوانين، أو حتى امتثالاً لإجراءات بيروقراطيّة، مما يعني أنه امتثال لـ«لا أحد». سيّان، فإنّ الإغراء هو أنّ ننظر إلى «السّلطة» باعتبارها السّلطة التي تكفل الامتثال، الذي هي مكلَّفة به. علاوة على ذلك، فمن المغوي أن نرى العنف كشكلٍ أوحد لهذه السلطة (ص 36، 40). فمن الممكن أن يتمّ النظر إلى العنف، والسلطة والقوة باعتبارهم «الشيء نفسه» لأنهم يمتلكون «المهمة نفسها» (ص 43). ومع ذلك، ثمّة تقليدٌ مغايرٌ للفكر السياسيّ، كما تُصرّ أرندت، والذي ينصّ على أنّه ما من مُتصليّةٍ بين الامتثال لأمر شخصٍ ما و«الامتثال» للقوانين (ص 41). عوضاً عن ذلك، توجد فجوة جذريّة [بين الأمرين]. فالامتثال للقوانين ليس أكثر من امتثال بما هو تدعيم للقوانين، وسنّ قبول المواطنين على القوانين. وليس هذا الامتثال مطلقاً أو غير قابل للمساءلة بتاتاً، خلافاً للحسّ «التلقائيّ» الذي فيه قد أتعرّص أنا لشخصٍ بمسدّسٍ يأخذ حقيبتي (ص 41).

تعتمد السّلطة، كما تقول أرندت، على أعداد الأشخاص، في حين يعتمد العنف على الأدوات (implements). وإنّ الشّكل المتطرّف من العنف هو الفرد أو عدد صغير ضدّ الجميع (الإرهابيّون، أجهزة الدّولة العنفيّة)؛ في حين أنّ الشّكل المتطرّف من الدّولة هو الجميع ضدّ الواحد (ص 42). وكثيراً ما يشكو النّاس من أنّ عدداً صغيراً أو شخصاً واحداً قد أفسدوا الوضعَ، عن طريق التشويش على حصّةٍ، أو اجتماعٍ، أو على طريقة عيش. ويتمّ لومهم على همجيّتهم، أو عنفهم، أو عدم تعقّلهم. لكنّ أحداثاً كهذه يجب أن تُؤَوَّل على أنّها بمثابة أنّ الأغلبيّة ترفض أن تستعمل سلطتها لإيقاف ما يُسمّى المعتدي (aggressor). وفي الواقع، فإنّهم ينحازون إلى الأقليّة بفاعليّةٍ (ص 42). فالسّلطة هي القدرة الإنسانيّة ليس على الفعل، وإنّما على الفعل بانسجام. والقول إنّ شخصاً ما «في السّلطة» يعني القول، على نحوٍ أكثر ملائمةً، إنّ شخصاً ما مُفوَّضٌ من قبل عددٍ معيّن من النّاس (ص 44). فالأفراد يمتلكون قوّة، والتي يمكن نشرها على نحو فعّال. والعنف، بأدواته، يُضاعف القوّة الطبيعيّة (ص 46). والسلطة، خلافاً للقوّة وخلافاً للعنف، لا يمكن اعتبارها ذات دورٍ فعّال. إذ ليست السّلطة وسيلة لتحقيق غايةٍ ما، ولكنّها الشّرط الذي يُمكِّن النّاس من التفكير والفعل، بما في ذلك التفكير والفعل من حيث الوسائل والغايات، والحال كذلك، من حيث الفعاليّة. وضدّاً لمفعول الرؤيّة الفيبريّة، تحاجج أرندت بأنّه ينتج عن هذا الإطار النّظريّ والفلسفيّ المغاير عدم وجود حكومةٍ قائمة حصراً على وسائل العنف. وتستنتج أرندت من هذا على أنّ السّلطة هي جوهر كلّ الحكومات، وليس العنف (ص 50).

بالإضافة إلى هذا التقليد السّائد للنظريّة السياسيّة، والذي يخلط الفعل بالتلفيق، يوجد تقليد خطيرٌ آخر بالمثل. ويُحدِّد هذا التقليدُ الآخرُ العنفَ بالديناميّات الطبيعيّة، لذلك فإنّه يخلطُ الفعلَ بالعمليّات البيولوجيّة، وبمجال إعادة الإنتاج وليس الإنتاج (ص، 62-63). وبحسب أرندت، فإنّ هذا جزءٌ من نزعةٍ موجودةٍ في الفكر الغربيّ مُهيمَن عليها عن طريق فكرة العمليّة اللانهائيّة، سواء في البيولوجيا الاجتماعيّة (socio-biology) أو في نظريّات التاريخ (ص، 60، 30). إنّ أرندت حريصة على الإشارة إلى أنّ عمل ماركس لا يدعم بالضرورة هذه النّزعة. ومع ذلك، لا ريب أنّ تركيز ماركس على الإنتاج الماديّ باعتباره المحرّك للتطوّر التاريخيّ يفسح المجال هو نفسه لتأويلات نيو-داروينيّة لمعنى الحياة البشريّة (ص 26). تُبين هذه الأفكار عن نفسها ليس فقط في حجّة بيولوجيّة-اجتماعيّة تُطَبعن (naturalize) العدائيّة البشريّة، وإنّما أيضاً في نظريّاتٍ ثوريّة تتبنّاها وتؤقلمها. وأحد الأمثلة على ذلك هو الطريقة التي يتم فيها تناول فكرة برغسون حول الديمومة الحياتيّة (élan vital) في الحركة النقابيّة الثورية لسوريل، الأمر الذي تحدّده أرندت باعتباره ملهماً لسارتر وفانون (ص، 69-70).

تشنُّ أرندت ردّين على هذا الضّرب من التفكير. الردّ الأوّل هو أنّ أرندت تحاجج بأنّ العوامل المزعومة لـ«الطبيعة» أو «البيولوجيا» هي عوامل خادعة ولا صلة لها بالأمر. وبقدر ما تصفُّ هذه النّظريّاتُ السّلوك الإنسانيَّ مع «البربريّ»، فإنّها نظريّات خاطئة تماماً. فالغضب وما شابهه من عواطف، عبارةٌ عن ردود فعل عاطفيّة على الظُّلم والنّفاق. إنّها ردود إنسانيّة بامتياز (ص 65). أمّا السبب الثاني، فكون هذه العوامل عوامل لا سياسيّة بالأساس؛ ومن ثمّ فإنّ الرّوابط الإنسانيّة التي ترتكز إلى هذه العوامل هي روابط معادية للسياسة من حيث الجوهر. وتُضمِّن أرندت وسط جمعياتٍ كهذه صنوفاً من التضامن الأخويّ المثالي للمجموعات الثوريّة العنفيّة، والفرق الانتحاريّة (ص 67). وترمي وجهة نظرة أرندت إلى أنّ منظمات ومحفّزاتٍ كهذه هي مؤقتّة بحكم التعريف فحسب، إذ إنها منظمات ومحفّزات غير مستقرة، وسريّة ومحصورة. وعلى النّقيض من ذلك، تتعلّق المنظّمة السياسيّة بتشييد بنى دائمة، وعموميّة وشاملة يزدهر الفعل في صلبها. فبالنسبة إلى أرندت، إنّ الجانب الأكثر معادةً للسياسة للحياة البشريّة هو الموت، أي النّهاية المطلقة لقدرة الفرد على بداية جديدة، الأمر الذي يُعدّ جوهريّاً للسياسة. إذاً، كم هو مخطئ أيّ تعريف للسياسة بالموت. ولكن بطبيعة الحال، فإنّنا نجدُ هذا التعريف في تضامن الانتحاريين في وجه الموت. وإنّ هذا التعريف لموجود أيضاً في التصوّر الهوبزيّ للسّلطة السياديّة باعتبارها سلطة على الحياة والموت (ص 68).

 حنّة أرندت
حنّة أرندت

إنّ تركيز أرندت على الحياة (باعتبارها على نقيض الموت) وعلى الفعل بالتناغم (باعتبارها على نقيض الفعل بالتنافس) يوفّر انعطافاً خاصّاً لنقدها للعنف. فأرندت تقاوم هذا الضّرب من الاستدلال الأداتيّ جهاراً بشأن استعمالات العنف المنسوبة إلى المفكّرين السياسيين الواقعيين. وتحاجج أرندت أيضاً ضدّ الفكرة القائلة إنّ العنفَ أمرٌ طبيعيّ للموجودات البشريّة بسبب طبيعتنا البيولوجيّة. ومع ذلك، لا يعني هذا أنّ أرندت ترفض دور العنف تماماً، فهي ليست من دعاة السلام على أيّ حال.

تحاجج أرندت أنّه على الرّغم من كون العنف لا يمكن أن يكون شرعيّاً البتّة، فإنّه مع ذلك يمكن أن يكون مُبرّراً أحياناً (ص 52). وذلك بسبب عدم وجود حلّ سياسيّ لكلّ مشكلة، وأحياناً يكون الحلّ لإنهاء الظّلم أو الرّعب هو الحلّ العنفيّ. وفي كتاب أرندت في العنف، يوجد سياقان يتمّ عرْض العنف فيهما باعتباره ممكن التبرير. أولاً، يمكن أن يكون مبرراً كردٍّ على ظلمٍ مفرط (ص 64). ثانياً، قد يكون مبرّراً بقدر ما يفتح هو نفسه الأفق للسياسة (ص 79). ولا بدّ أن يُربَط كلا التبريران بمغزى العنف باعتباره امتلاكاً لضربٍ محدّد من الفعاليّة (effectiveness)، وأيضاً كونه ملائماً في سياقاتٍ بعينها. إنّ العنف يمكن أن يجعل الأشياء تحدث بالمعنى المباشر. ويكون أيضاً الردّ الأسْلم، على سبيل المثال، على فعل التّضحية (victimization) بالأبرياء. وتحاجج أرندت بأنّ استخدام اللاعنف كتكتيك يتطلّب، كشرطٍ مسبق، أن يكون هناك بعضُ أفقٍ للسياسة بالفعل، ومن ثّم للسّلطة. فحملة غاندي، كما تشير أرندت، لم تكن لتكون فعّالةً إلّا لأنّ غاندي قد تصادم مع نظام أكثر من كونه محض معادٍ للسياسة، مثل ألمانيا النّازيّة وروسيا الستالينيّة (ص 53). وفي السّياقات الأخيرة قد يغدو العنف لا مندوحة عنه من أجل جعْل السياسة أمراً ممكناً.

وبالرّغم من ذلك، وبصرف النّظر عمّا إذا كان للعنف استخداماته وتبريراته فيما يخصّ السياسة، فإنّ النّقطة الحاسمة هي أنّ العنف يتحتّم ألّا يُقترَن بتاتاً بالسياسة نفسها. فالسياسة مختلفة، مفاهيميّاً ونظريّاً، عن العنف الذي هو، وفقاً لأرندت، حلٌّ قصير الأجل في أحسن الأحوال، وحلٌّ غير فعّال. إنّه كذلك في طبيعته، لأنّ المقدرة التنبؤيّة الممكنة الوحيدة بحوزتنا والتي تتعلّق بمنتجات العنف هي نتائجه المباشرة. فنحن نعلم أنّ الكارثة ستقضي على الخصم. وبخلاف ذلك، فإنّ مقدرتنا على استعمال العنف أداتيّاً هي مقدرة محدودة حتماً ولا بدّ (ص 80).

حنّة أرندت في مقابل فانون

يفهم فانون العنف ويُبرّره بطريقتين رئيستين. أولاً، العنف وسيلة لا مندوحة عنها للفعل السياسيّ، بمعنى أنّ تبرير فانون للعنف هو تبرير أداتيّ. ثانياً، العنف قوّة عضويّة أو طاقة تَتْبع منطقها الخاصّ بها. ويُمكن أن يتمّ تأويل فانون في هذا الصّدد باعتباره بنيويّاً، كما قد أشرنا إلى ذلك. بيد أنّ تصوّره لكيف تعمل البنيّة إنّما يُحيل إلى العمليّات الفيزيولوجيّة. ويُمكن أن يُقرأ هذا الأمر على أنّه بمثابة ضربٍ من ضروب التبرير عن البداهة (naturalness). تهاجم أرندت جوانب الحجّة هذه، ففيما يتعلّق بالجانب الأوّل، تحاجج أرندت بتحليلٍ أداتيّ للعنف. وهي واضحة تماماً في أنّ العنفَ يُعدّ جوهريّاً تعزيزاً للقوّة الطبيعية عن طريق استخدام الأدوات، ومع ذلك، فإنّ العنف ليس ولا يمكن أن يكون أداتيّاً من الناحيّة السياسيّة لسببين. السبب الأوّل لأنّ الاستدلال الأداتيّ الذي يشدّد على استخدام العنف في السياسة هو استدلال متناقض مع السياسة، لأنّه يعرّف السياسة، على نحو خاطئ، بتحقيق الغايات المرسومة مُسبقاً. أمّا السبب الثاني، على أيّ حال، لأنّ هؤلاء الذين يخلطون العنف بالسُّلطة يسيئون فهم العواقب غير المتوقّعة للعنف أصلاً. إذ إن للعنف نزوعاً لسحْق الغايات التي تمّ استعماله لأجلها، لا سيّما على المستوى البعيد. وتُعدّ حجّة أرندت ضدّ تحديد العنف باعتباره نوعاً من أنواع الطاقة أو القوّة حجّة أكثر اتضاحاً ودقّةً، إذ تحوم مقولة العنف في مكانٍ ما بين مقولات العمل والفعل في تصوّر أرندت. وفي كلتا الحالتين، فإنّ العنف يُربَط ولا بدّ بحوافزَ ومقاصدَ لم تُحدّد مسبقاً بأيّ حال من قبل مفاعيل الديناميّات الطبيعيّة، أو عن طريق طاقة ليبيديانيّة لا واعية. فالعنف هو نتاج العِلل والعواطف البشريّة بشكلٍ مميّز، إنّه ليس ارتكاسيّاً وإنّما مُتعمَّداً، وليس بيولوجيّاً في الفهم الاصطلاحيّ لما يعنيه ذلك، لكنّه إيتيقيّ.

إن هاتين الحجّتين ضدّ فانون حجّتان قويّتان بلا ريب، إذ تلفتُ حججُ أرندت بخصوص الأداتيّة السياسيّة للعنف الانتباهَ إلى العيوب الكامنة في صنوف الوسائل والاستدلال التي تعتمدُ عليها ادّعاءات كهذه. وأرندت محقّة تماماً في الإصرار على سخافة الحجج التي ترتكز إلى الفكرة القائلة إنّنّا يمكن أن نعتمد على تبعيّة الوسائل للغايات، وعلى اليقين بنتائج الفعل الإنسانيّ، سواء أكانت في السياسة أو في أيّ مجال آخر. فالحجج القادمة من «الطبيعة»، سواء كانت الحجج التي هي نسخة ليبيديانيّة مثل حجج فانون، أو كانت البيولوجيا الاجتماعيّة الحيوانيّة المتأخّرة التي تعالجها أرندت أيضاً (ص، 59-61)، تساعد على جعل العنف في المجال السياسيّ أمراً لا نزاع حوله، عن طريق اختزاله إلى جانبٍ ضروريّ للشّرط الإنسانيّ.

ومع ذلك، هناك مشاكل أيضاً في حجّة أرندت. فالعلاقة النّظريّة بين العنف والسياسة هي علاقة من قبيل أنّ الفرْق المفاهيميّ الواضح بينهما فرقٌ إشكاليّ. وعلاوة على ذلك، على الرّغم من أنّ أرندت ترفض التبريرات الأداتيّة للعنف في السياسة، فإنّها تحلّل العنفَ نفسه بمحض مصطلحات أداتيّة. وعلى النّقيض من تحليل فانون للعنف، وربطه لهذا بالذاتيّة المُجسَّدة (embodied subjectivity)، فإنّ تصوّر أرندت، رغم تركيزه على المؤسّسات، والمواجهة، والمولوديّة، هو تصوّر تجريديّ وغير مُجسَّد من خلال المقارنة.

يصبو منهج أرندت إلى البداية عن طريق إقامة فروقات مفاهيميّة، والتي هي بمثابة شرط مسبق للحجج المعياريّة حول الحياة السياسيّة. ففي كتابها في العنف، توضّح بما لا لبس فيه في المستهلّ أنّ الفروقات المقولاتيّة (categorical) التي تقيمها هي أنواع مثاليّة، ممزوجة ببعضها بعضاً في الممارسة دائماً. بعبارة أخرى، إنّه من النّادر جدّاً أن تجد السّلطة أو العنف في شكلٍ صِرف، بل إنّهما غالباً ما يكونان متشابكين دائماً (ص 52). ومع ذلك، يُصْحَب هذا المزْجُ في الممارسة داخل نصّ أرندت بتداخلٍ نظريّ للمفهومين [أي السّلطة والعنف]. يتميّز العنف عن السّلطة بشكلٍ مطلق؛ ومع ذلك، فالسّلطة شرط للعنف، وقد يكون العنف، بالمثل، شرطًا للسّلطة. وكما تحاجج أرندت، تَشْرطُ السُّلطةُ العنفَ بمعنى أنّ السُّلطة تكمن وراء كلّ فعلٍ جماعيّ (ص 51). ومن ناحية أخرى، بدون السّلطة، وبدون الفعل المنسجم، فلا يمكن أن يكون هناك وسائل تنهي الاستدلال مثلما هو ضروريّ للانتفاع بالعنف في السّعي لتحقيق الغايات الجماعيّة. ومن ناحية أخرى، يمكن للعنف أن يشرُط السلطة؛ بمعنى أن العنف يمكن أن يمهد الطريق للسلطة، جاعلاً السياسة أمراً ممكناً في السياقات التي قد تقلّصت السياسةُ منها (ص، 52-54).

لكن إذا تناولنا هذا الأمر جديّاً باعتباره نظريّة للسياسة والعنف، فسيظهر، إذاً، كأنّ تقييدات أرندت حول ما هو سياسيّ وما ليس سياسيّاً بحقّ تقييدات إشكاليّة. وتُصرّ أرندت على أنّ العنف لا يمكن أن يولّد السلطة بتاتاً (ص 56). ومع ذلك، إذا كان يمكن للعنف أن يمهّد الطريق للسّلطة، فيجب، من ثمّ، أن يكون موصوفاً باعتباره يحوز تأثيرات سياسية. تريد أرندت بالتأكيد أن تقول إنّ العنف ليس سياسيّاً، بالمعنى الدقيق للكلمة نحْويّاً. ولكن لا يبدو أنّ هناك سبباً خاصّاً، فقط بشأن هذا التصور، في أنّه يتحتّم على الفاعلين السياسيين أن يرفضوا الأفعال اللاسياسيّة (بالمعنى الدّقيق للكلمة) إنْ هم أحدثوا تأثيرات سياسيّة منشودة. ومثل هذا التأثير الذي ترغبُ في تحقيقه، تهيئة العالم العموميّ الذي يكون الفعل السياسيّ ممكناً بداخله. وبطبيعة الحال، بالنسبة إلى الجزء الأغلب، تحاجج أردنت بأن العنف غير فاعل سياسيّاً. ومع ذلك، فاعترافها بأنّ العنف قد يكون الطريق الوحيد يُوهن جانباً من حجتها بشكلٍ كبيرٍ.

وينبري الجانبُ الآخر من نقدها لإظهار أمرين: أولاً، لماذا قد يفكّر الناس في العنف باعتباره أداة سياسيّة، وثانياً، لماذا هم مخطئون بفعلهم ذلك. وتكمن المشكلة، حسب أرندت، في أنّهم قد خلطوا العنف بالسُّلطة. وينشأ هذا الخلط، في نهاية المطاف، من سوءٍ فهم للسياسة، وهو الأمر الذي يُظنُّ خطأً بشأن مسألة الحكم. فخلافاً للسّلطة، يتحتّم التفكير في العنف باعتباره ذريعة أو أداة. ومن هنا يُصبح من المهمّ جدّاً أن يفهم الفاعلون حقّاً طبيعة العنف، ومن ثمّ أن يفهموا تحديداته. إذ تكمن المشكلة مع العنف في التناقضات بين نتائجه أو تأثيراته الفعليّة وتلك المقصودة. فمن الصّعب رفض الحجّة القائلة إنّ تدميريّة (destructiveness) العنف من المحتمل دائماً أن تسحقَ المقاصد التي يجري استخدامه لأجلها. ومع ذلك، في تعريف العنف بذريعةٍ أو أداة، فإنّ حجّة أرندت جزئيّة، كما سوف سنحاجج. حيث إنّها تفتقد الصّلة بين العنف باعتباره فعلاً (doing) والعنف باعتباره كينونة (being)، وهي الصّلة التي التقطها فانون على نحو أفضل بكثير. وإنّ استنتاجات أرندت، بسبب هذا الأمر، متساهلة فيما يخص [مسألة] دور العنف في السياسة.

إن حجّة أرندت جزئيّة لأنّ العنفَ بالفعل لا يشبه كونه أداة على الإطلاق. إذ إنّ فهم العنف بهذه الطّريقة يمكن أن يوحي أنّه ما من صلةٍ جوهريّة بين العنف وأيٍّ من الأشخاص الذين يستخدمونه، أو الأشخاص الذين يُستخدم العنفُ ضدّهم. ويوحي هذا الفهم أيضاً بأنّ العنف يمكن أن يتمّ التقاطه ووضعه بالطريقة نفسها مثلما قد نلتقطُ أو نضع مفكّاً أو مطرقةً. ولكن، ثمّة مشاكل جليّة في طريقة التفكير هذه حينما نأخذُ في اعتبارنا أنّ أجسادنا نفسها هي أدوات أوليّة للعنف. وقد يدرك تصوّرٌ أكثر ملائمةً للعنف، كما قد يشير فانون لو أنّه قد عاش ليردّ على انتقادات أرندت، أنّ العنف يعمل على بَنْيَنَة دورٍ في الطرق التي يُنتَج فيها الفاعلون الفرديّون والجماعيّون، ويُعاد إنتاجهم في كلٍّ من المجالات الخصوصيّة والعموميّة للسُّلطة.

وعندما تنتقدُ أرندت الخلطَ الحادث للعنف بالسياسة، فهي تُعرِّف هذا الخلط بأنّه خطأ من جانب الفاعلين السياسيين. وتعالج أرندت الأسباب التي ربّما كانت لتجعل هذا الخطأ ممكن الحدوث. فيمكن أن يكون بسبب أنّ نجاعة (efficacy) العنف على المدى القصير خاطئة بالنسبة إلى نجاعته بشكلٍ عامّ. أو يمكن أن يكمن الخطأ في منظمة غير شرعية لرد الفعل العاطفي المُسوَّغ على الظُّلم والنّفاق. لكنّ هذا التصوّر يُفردِن المسؤوليّة بالنسبة إلى العنف، ويتجاهل الطُّرق التي يتمّ تنصيبُ الأفراد فيها في ذخائر العنف من قَبْلِ أيّ قراراتٍ يتمّ اتخاذُها بشأن استخدام العنف في هذا المثال أو ذاك. وتكون ذخائر العنف فاعلة بمعنى الرُّجولة، والأنوثة، والمواطنة، وإنّها فاعلة في المؤسّسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة لكلّ المجتمعات المعروفة. فإذا كان لأحدٍ أن يفكّك الفكرة القائلة إنّ العنف ينجح، فيتحتّم عليه من ثمّ أن يفكّك البنى التحتيّة الاستثنائيّة والإضافيّة المعقّدة والماديّة اللازمة لتحمّل عالمٍ تكون بداخله الحقيقة القائلة إنّ العنف ينجح بمثابة حقيقة بديهيّة. إنّ إحجام أرندت عن معالجة هذه البنية التحتيّة، والذي ينجم عن مقاومتها لأيّ تصوّرٍ للإنسانيّة يبدو مقوّضاً للطابع الفريد للفعل، يترك تحليلَها أقربَ إلى تقاليد السياسة الواقعيّة (realpolitik) ونظريّة الحرْب العادلة ممّا كنّا نتوقّع، نظراً إلى تشديدها على الانفصال المفاهيميّ للعنف عن السّلطة السياسيّة المحتملة.

والحال أنّ حجة فانون، في تصوّره لتجسديّة (embeddedness) العنف في إنتاج كلٍّ من الفاعلين الفرديين والفاعلين السياسيين الجماعيين، تأتي أقرب من حجّة أرندت لاستيعاب وإدراك الصّلة بين السياسة والعنف. ومهما تكن نواقص التبريرات الأداتيّة والتفسيرات «التحلينفسيّة» (psychoanalytic) فيما يخصّ العنف السياسيّ، فإن فانون أكثر تناغماً بكثير من أرندت مع العنف باعتباره نمطاً للكينونة في العالَم. ويشمل هذا على فهمٍ لكيفيّة تجسيد العنف. وهذا يكون في المعاناة الحقيقيّة لممارسة وتكبّد العنف، وأيضاً في الوجود والتوجّه الجسديّ المستمرّ، على حدّ سواء. وبصورةٍ حاسمة، كما قد رأينا، فإنّ الذوات المُجسَّدة تسكنُ مؤسَّساتٍ، وأنظمةً، وطُرقَ حياةٍ مُبَنْينة.

في كتاب بشرة سمراء وأقنعة بيضاء يُوصّف فانون الخطابات، المجُسَّدة في النّصوص، التي تؤثّر على الجسد والحافز، والتي تُبنين وتُثقفن (enculturate) الوكلاء، وتُنتج وتعيد إنتاج الخطابات (فانون، 1952، 20، 25، 34، 55 وما يليها). ويرسم فانون في الفصل الختاميّ لكتاب معذّبو الأرض الافتراضات المسبقة وتأثيرات العنف، النفسانيّة والعاطفيّة والاجتماعيّة والفيزيائيّة للجناة وللضحايا (فانون، 2001، 200-250). ويَعرض فانون كيف أنّ ممارسة العنف كتقنية سياسيّة هي ممارسة يتمّ ضمانها فحسب عبر إنتاج صنوف محدّدة وعلاقات بينيّة من الذّوات. فالجلّاد غير قادرٍ على إيقاف سماع الصّرخات، والطّفل غير قادر على استيعاب أنّ قتل صديقٍ ما على أساس هويّة العدو قد يكون خاطئاً. إذ تعطي هذه الأمثلة دليلاً غير مباشر على حجم العمل اللّازم لجعْل التعذيب والقتْل مفهوماً كتقنياتٍ سياسيّة، فالسلطة السياسيّة تعمل ههنا عبر الجسد ليس فقط بشكلٍ قمعيّ أو بصورة أداتيّة، وإنّما أيضاً بشكلٍ إنتاجيّ، بالمعنى الفوكوديّ [نسبةً إلى ميشيل فوكو].

في هذا الفصل الختاميّ، يتمّ تقويض حُجتيْ فانون السّابقتين القائلتين إنّ العنف سيعمل على سحْق السُّلطة الكولونياليّة، أو يمكن أن يكون سبيلًا يُشقُّ لغرضٍ بنّاء. وللمفارقة، فإنّ الحجّة التي تستهلّ كاحتفالٍ بالعنف الثوريّ تنتهي بلفت الانتباه إلى الآثار الفاسدة والواهنة للعنف، سواء أكان رجعيّاً أو ثوريّاً، على كلٍّ من مرتكبي الجريمة والضحايا. وعلى النّقيض من ذلك، تقبل أرندت، والتي تبدو في المستهلّ مغاليةً بمقاومتها لأيّ حججٍ فيما يخصّ ضرورة وحتميّة أو جدوى العنف، بأنّ العنف قد يكون السبيل الوحيد لتحقيق العدالة.

خاتمة

يستهلُّ كلٌّ من فانون وأرندت بتقديم تنظيرات مغايرة لنا للعلاقة بين السياسة والعنف. في حالة فانون، فإنّ العنف أداة لتحقيق الغايات السياسيّة، وهو أيضاً محرّك لبيديانيٌّ طبيعيٌّ لكلّ الكائنات البشريّة، وقادرٌ على أن يكون سبيلاً يُشَقُّ للخير أو الشرّ. وفي حالة أرندت، فإنّ العنف، بحدّ ذاته، هو أمر معادٍ للسياسة بحكم التعريف. وذلك لأنّ العنف، الذي يتمّ تأمين الطاعةُ فيه عبر الإكراه، على النّقيض من السّلطة، وهي التي تنبني على القبول الحرّ. وكنّا قد أشرنا في مناقشتنا لعمل هذين المنظّرين، إلى أنّ التبصّرات التي يقدّمانها هي تبصّرات متكاملة في بعض معانيها. إذ توفّر لنا حجّة أرندت ترياقاً نافعاً لادعاءات فانون التحلينفسيّة والأداتيّة. وفانون، من ناحية أخرى، يمنحنا ترياقاً نافعاً بالمثل للطريقة غير المُجسَّدة والتجريديّة التي تفكّر فيها أرندت حول العنف باعتباره أداةً.

أمّا بعد؛ فنختتمُ بالإشارة إلى أنّ الحالات التي يلفتُ فانون انتباهنا إليها في الفصل الأخير من كتاب معذّبو الأرض، تشيرُ إلى مجموعة من الإشكالات حول العلاقة بين السياسة والعنف التي لم يُتطرَّق إليها صراحةً من قبل أيٍّ من فانون وأرندت، ولا من قبل أيّ مفكر من المفكّرين ذويْ مقاربات للسياسة والعنف تؤطر المساهمات النقديّة لفانون وأرندت. وفي حين أن فانون يقرّ بأنّ تحصين العنف في الحياة الفرديّة والجماعيّة يجعل العنف الثوريّ أمرأً ممكناً، فإنّ فانون يفشل في شرح كيف أنّ الحلقة المفرغة بين فعل و«كينونة» العنف يمكن كسْرها عن طريق القيام بمزيد من العنف. وفي الوقت نفسه، تقصي أرندت العنفَ عن السياسة من النّاحية المفاهيميّة، لكن تفشل في التعامل مع مشكلة كيف قد يكون العنف على حدّ سواء، في بعض الأحيان، قواميّاً للسياسة، وليس مفسداً لها. بيد أنّ فانون وأرندت ملتزمان بمثاليّة السياسة دون عنفـ، سواء في شكل الأمميّة (internationalism) ما بعد الكولونياليّة وما بعد الأوروبيّة، أو في شكل نموذجٍ أقدم للجمهوريانيّة (republicanism). لكن، في النّهاية، يجادل كلاهما بأنّ العنف أحياناً هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن تُنجز العدالةُ من خلاله. وهما قادران على القيام بذلك، رغم كلّ الأدلّة التي تشير إلى عكس ذلك، لأنّهما يحاججان بأنّ العنف إمّا أنه، أو يمكن أن يكون، ممكنٌ لفصْل الفعل العنفيّ عن الكينونة العنفيّة، سواء على المستوى الفرديّ أو المستوى الجماعيّ. إنّ هذا افتراض مشكوكٌ فيه على نحو عميق، وهو الافتراض الذي يُبخّس جذريّاً من مستويات الاستثمار الماديّ والأيديولوجيّ اللازم لتكبّد العنف باعتباره ذخيرة للفعل السياسيّ. وبالمثل يكون حال الافتراض الذي يغالي في قدرة الفاعلين السياسيين على تجاوز ذخيرة العنف التي تلعب دوراً رئيساً كهذا في بناء وتعريف معالم السياسة والفعل في المقام الأوّل. ويستعمل فانون استعارة «المرهون» (mortgaged) لوصف مستقبل مرضاه، وإذا تبنّينا هذه الاستعارة، يكون استخدام العنف، من ثمّ، باعتباره وسيلة للمضيّ قدماً في السياسة استخداماً مناظراً لتكبّد الدَّين لتسديد الدَّين. إنّ فانون وأرندت إلى حدٍّ ما، يشيران إلى عبثيّة هذا الإجراء. وفي الوقت نفسه، مع ذلك، لا أحد منهما يتناول على محمل الجدّ بما يكفي مسألة كيف يمكن تفكيك العلاقة بين العنف والسياسة، وسداد هذا الدَّيْن في النهاية.