قال الأخ المسكون بمغاليق سجن تدمر لأخته:

– أنا حتى بكِ، أختي من لحمي ودمي، لم أعد أثق.

ولمّا لحظَ على وجهها إمارات الروع مختلطاً بالتعجب والحيرة والاستفهام، استدركَ:

– ليس الأمر كما تظنين، فلو أحصيتُ لك عدد من شاهدتهم من الآباء والأبناء والأقرباء الخلّص الذين اعترفوا واحدهم على الآخر، فكرّرت شفاههم، كأنما انفصلت عن إرادتهم وأجسادهم التي لم تعد تتعدى كونها كتلَ لحم متورمة يسيل منها الدم من كل جانب، ما شاء لها الجلاد أن تقول، لمَا انتهيت.

صمتَ قليلاً كعادته يسهم في مرئياتٍ لا يلتقطها سامعه، ثم التفت نحوها وأردف:

– أنتِ في عاصمتك الأوربية، من يقول لي إنّ لسانك لن ينزلقَ يوماً أمام أصدقاء، فتحكين ما قد لا تحمد عقباه، ثم يحكي صديق لآخر والآخر لآخر! ولنفرض أن حماسة الحرية الغربية أخذتكِ فذكرتِ شيئاً في جلسةٍ أو اجتماعٍ ما، قد يكون أحدكم، ولو كان فرنسياً، صديقاً لشخص سوري، ثم يكون هذا الشخص ذا علاقة بالسفارة السورية هناك. لا، لا، يا أختي، هذه الأمور لا تعرفونها أنتم!

ماذا أحكي لأحكي؟

«بعد خروجي من السجن، كان لزاماً عليَّ أن أراجع الفرع كل خمسة عشرة يوماً. ما أن أفرحَ بخروجي منه، حتى يبدأ عَدّي التنازلي المحموم للأجل القادم. كيف لا وقد شهدتُ قصص عشرات الموقوفين لسنواتٍ بعد مراجعةٍ إلى هذا الفرع بعينه، أتوا إليه بأرجلهم للمراجعة ولم يخرجوا قط! كثيراً ما تكون هذه المراجعة لا تخصهم، بل تتعلق بشخصٍ مطلوبٍ في العائلة، فاحتُجزوا رهائنَ حتى يسلّم المطلوب من أسرتهم نفسَه.

قبل أن يأتي أطفالي إلى الحياة، لم أتفوه بحرفٍ عن تلك الاستدعاءات أمام زوجتي وأسرتي. أتت ليالٍ أستيقظُ فيها هلِعاً خاشياً من كابوسٍ دهمني، تسيطر عليّ فكرة أن زوجتي قد سمعتني خلال نومي أتكلم بما أخفيه داخلي، فتحدثني نفسي ألا أنام قبل أن تغطَّ هي في نومٍ عميق، أو ألا أنام أصلاً في الغرفة نفسها!

في ليلة اليوم الموعود، لم يكن يغمض لي جفن، ومنذ انبلاج الفجر تتصّاعدُ دقات قلبي داخل صدري فأكاد أسمعها كما لو كانت ضربات مطارق تأتيني من خارجي، وكلما اقتربتُ من المكان الملعون تستعر كحمم بركان لاهب. لم يكن لي ألا أحضر، فأوراقي الثبوتية و«حقوقي المدنية» لم يزل أغلبها محجوباً في ملفات الإدارات انتظاراً للأوامر، أنا الذي اضطررت إلى الزواج دون هوية، وبقيتُ لا أملكها ما يداني ثلاث سنوات!

أمام الباب، تحتلّ أرجائي كافةً عبارةُ «الداخل إلى هذا المكان مفقود، والخارج منه مولود». ما يمنعهم من الاحتفاظ بي مرة أخرى لوشاية، أو مزاجٍ كدرٍ للجنرال الذي سيراني ويحقّق معي في كل مرة؟ أو حتى من دون سبب؟

أقلتُ يحقّق؟ الحق أنه لم يكن تحقيقاً البتة! مسربلاً بخوفي ألّا أعود إلى بيتي وامرأتي حامل بطفلي الأول، فيحيق بي ما حاق بأخي، رأسي جهة الجدار وعيناي لا ترتفعان عن الأرض رغم الطماشة، يداي مكتوفتان وراء ظهري، في ممرّ معتمٍ كالحٍ أنتظرُ جلَّ ساعات النهار، لا أعرف كيف كانت روائح مهجع تدمر تغزو أنفي من جدران الفرع ورأسي بها لصيق! لم أعتقد يوماً أن انتظاري كان يطول لعدم معرفة الآمرين الناهين بوجودي، فلا تكاد نملةٌ تدخل الفرع دون معرفتهم، ما عندي غير سبب واحد لكل ذلك: إذلالُ البشر.

إنهم يقولون لنا بتصرفاتهم ما يقولونه جهراً آن تحينُ المقابلة: صحيحٌ أنك خرجت إلى النور بمنّةٍ منا وكان بإمكاننا سلبك الحياة، لكننا لك بالمرصاد، فإياك ثم إياك أن تعتقد أنك عدت أو ستعود يوماً إلى حياتك التي كانت لك قبل السجن. عيوننا في كل مكان ترى كل نأمة لك، وتراقب منك كل حركة.

الحق أن الأسئلة في البداية، كانت عمن رأيتُ ومن زارني ومن حادثني، ويا ويلي إن نسيت أو أخطأت، فغفلتُ عن حدثٍ ظننته عَطِلاً عن المعنى الذي يريدونه. بعد ذلك بسنوات، منّوا علي، أو ملّوا مني من كثرة انشغالاتهم بـ«هموم الوطن»، فباعدوا المدة بين الاستدعاءات، لتصبح مرةً في الشهر. عندما جاء الأولاد إلى الدنيا، كان لا بدَّ من قول شيءٍ لوالدتهم، فصرتُ أقول لها تحسباً وغصباً عني باقتضابٍ شديد: اليوم سأراجع الفرع. تفهم معنى ذلك، ولم تسألني يوماً ما يستدعي قولَ أكثر مما قلت».

ماذا أحكي لأحكي؟

«كم مرةً راجعتُ الفرع؟ لا أدري! كل الذي أدريه، أنّني استسلمت، رغم تدربي على مقاومة ذلك ليلاً نهاراً، لشريطٍ لا نهاية له من حادثات مهجع تدمر، كأنها حدثت البارحة. لو نسيتها يوماً تذكّرني بها تشققات قدميّ التي حُفرت بهما، فلا تزول دمغاتها مدى الحياة.

في ذلك المهجع النتن، كم كرهتُ كوني طبيباً. كان السجانون أحياناً، وقد نال بهم الملل، يخترعون قصصاً كي يتسلّوا. يخطر ببال أحدهم فتح باب المهجع فجأة جائراً بصوت مرعب: الأطباء والمهندسون على جنب. تتسارعُ الأوامر مع انهيار الكابلات على ما بقي من أجسادنا كيفما اتفق: الأطباء في هذا الصف، المهندسون في الآخر. هيا، فوراً. يللا ولاك، يا ابن ال…. أسرع، هل تظن نفسك في بيت أبيك؟ انتهى بيت أبيك وأمك إلى الأبد. ثم يجعلوننا جميعاً نمشي، في صفّين، على أربع، نقلّد أصوات الحمير والكلاب والبقر، والويل لمن لا يفعل. رفض أحدهم مرةً، فاختفى من مهجعنا، وبات بالنسبة لنا أثراً بعد عين!

لم أقل قطّ لزوجتي ولا لغيرها، إن المقابلة، بعد ساعات الانتظار تلك، وأنا المُستدعى في ساعة بعينها لا أجرؤ عنها تأخيراً، كانت تبدأُ كل مرة بالجُمل التي كنا نسمعها في تدمر عدة مرات في اليوم: رأسك بالأرض يا…  ردِّد خلفي، أنا ماني دكتور، أنا تور، أنا حمار، أنا كلب، أنا….

مع مرور السنوات تغيرت الأحوال، فلم يعد هنالك سؤالٌ ولا جواب. ساعات الانتظار في الممر المعتم بقيت على حالها، الرأس إلى الحائط، الطماشة على العينين والنظرة إلى أسفل، واليدان مكتوفتان وراء الظهر. ضاقَ زمن مقابلة الجحيم فغدت أشبه بتسجيل حضور. اختفت الأسئلة عمن أرى وأزور من خونة الوطن. شيءٌ واحد لم يتغير، بل ما برح يكبر: إنه الشعور بالإذلال والمهانة. آه، لم أقل إن مفرداتهم قد ارتقت، فأصبحت، نفسها كل مرة، وهم يمسكون ملفاً وكأنهم مشغولون بملء خانة الاسم والتهمة: الاسم! فأكرر مرةً أخرى وأخرى وأخرى ما كانوا قد لقنوني من إجابة منذ اليوم الأول، عيناي صوب الأرض، إيّاي ثم إيّاي أن أوجههما ولو زمن بارقة ضوء إلى الشخص قبالتي، وصوتي خافتٌ يكاد لا يُسمع: أنا الحقير، المشبوه، العميل والخائن».