هذا النص هو محاولةٌ أوّليّة لرواية سيرتي كيساريٍّ لبنانيٍّ وُلدَ في مدينة طرابلس شمال لبنان مع بداية الحرب الأهلية، وانتقل مع نهايتها إلى العاصمة بيروت، ليشهد على محطات عدّة شكّلت وعيه السياسي، وأملتْ عليه خياراته المهنيّة: عروبة موروثة، السياسات الحريريّة، اجتياح العراق، الاغتيالات السياسيّة، حرب تمّوز، والثورات العربيّة.
إنّه جزءٌ من نص أطول قيد الإعداد، يبحث عبر السيرة الذاتية عن معنى أن تكون يسارياً في زمانٍ كزماني ومكانٍ كمكاني. وهو محاولةٌ غير مكتملة لا مكان فيها للندم على شيء أو للتباهي بأي شيء، إنّما تسعى للبحث في العلاقة بين الحدث والنظرية والممارسة، والتأثيرات المتبادلة بينها جميعاً. لعلّ في توثيق هذه التجربة، إذا ما اكتمل، ما يفيد الساعين لبناء يسارٍ عربيٍ تحرّري.
فلسطين
لا أذكرُ كيف أصبحتُ يسارياً. أفكّرُ أحياناً أنّي لم أصبح. وجدتُ نفسي منتمياً إلى هذا العالم بشكلٍ تلقائي، كمن يحقّق نبوءات العرّافين. كانت هناك في مكتبة البيت مجموعة للينين، لكنّي لم ألمسها يوماً. وهي لم تدخل بيتنا إلا لأنّ أغلفتها الحمراء تُلائم ألوان الكنبة في الصالون، أو على الأقلّ هذا ما تدّعيه أمّي التي لا توقظ فيها كلمة «شيوعية» إلا واحدةً من ترومات الطفولة، حين كان رجال الأمن يطرقون الأبواب في حمص القديمة بحثاً عن شيوعيّين يُقال لاحقاً إنّهم «راحوا»… أحرقوهم بالأسيد.
لم أقرأ لينين، لكنّي قرأت محمود درويش، واستمعتُ كثيراً لقصص جدّتي. جدّتي التي انتظرت لحظة تركي بيتَ العائلة في طرابلس للالتحاق بالجامعة الأميركية في بيروت، لتأتيني بمجموعة من الصحف القديمة التي تحمل على صفحاتها الأولى صور جنازة جمال عبد الناصر. حاولت أن تفعل ذلك بطريقة عفويّة، لكنّي عرفت أنّ الأمر أشبه بوصيّة. وبالفعل، لم يَطُل الأمر حتّى أصيبت جدّتي بالفالج.
لم يكن درويش «سجِّل أنا عربي» و«لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل» نافذتي الوحيدة إلى فلسطين. كان هناك أيضاً أبو فارس، وسائقو السرفيس تحت بيتنا، حيث موقف السيارات بين طرابلس ومخيّم البداوي. أبو فارس فلسطينيٌّ من حيفا، يأتي صباحاً على درّاجته الهوائيّة ليعمل في محل المفروشات الذي يملكه والدي وجدّي. علمتُ أنّه كان يعمل شرطياً قبل أن يخرج من فلسطين في العام 1948، وأنّ أخوَيْه المهاجرَيْن إلى أستراليا ابتاعا له منزلين تبرّعَ بأحدهما إلى منظمة «فتح». وحين عاتبه جدّي كيف يفعل ذلك وهو المحتاج فيما «فتح» لا تنقصها الأموال، أجاب: إنّها الثورة. وبسبب أبو فارس وأصدقائه السائقين، اشتركنا بمجلة «الهدف» التي تصدرها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. فكنتُ أمضي أوقاتاً ألوّن رسوم جورج حبش وغسان كنفاني حتّى قبل أن أعرف من هما. ذات ليلة، اعتقلت الاستخبارات السورية أبو فارس، اتّهمَته بنقل أموالٍ من أبو عمّار. يومَها وصفه صديقه أبو هيثم بالعنيد، وأخرج من جيبه بطاقته الخاصة بـ«فتح» قائلاً: «كلنا كنّا مع أبو عمّار، بس بدنا نعيش»، ليُعيدَ البطاقة إلى محفظته، ويُخرج بطاقةً أخرى تظهر عليها صورتُه إلى جانب ختمٍ لمنظّمةٍ فلسطينيّةٍ مواليةٍ للحكم في دمشق.
شكّل اعتقال أبو فارس الطويل، واختفاؤه من حياتي، نهاية مرحلة. ففي الفترة نفسها، اجتاح صدّام حسين الكويت، واجتاح الجيش السوري قصر بعبدا، وقامت حرب الخليج الأولى، وانهار الاتحاد السوفياتي. وعلى وقع ذلك كلّه، كان عليَّ أن أتحضّر لمغادرة المنزل، وأن أختار اختصاصي الجامعي. وكفردٍ مطيعٍ من أبناء الطبقة الوسطى، اخترت أن أكون مهندساً. وكنتُ أبرّر ذلك لنفسي قائلاً: سأعمل كمهندس، وأجمع الأموال، ثمّ أفتح جريدة.
الاتحاد السوفياتي
حين انهار الاتحاد السوفياتي، كنتُ في السنة المدرسية الأخيرة أتابع صفوفاً خاصة بعد الظهر للتحضير للبكالوريا الفرنسية. وحين سألتُ أستاذ التاريخ عن مصير الصفحات الكثيرة التي درسناها عن الاتحاد السوفياتي، طمأنني قائلاً إنّ الاتحاد سوف يعود قبل موعد الامتحانات. كان أستاذُ التاريخ هذا شغوفاً بمادّته، غير أنّ حماسته اليساريّة قادته أحياناً لرواية قصصٍ غالباً ما كانت تتركنا في حيرة العاجز عن التمييز بين الخيال والواقع. فجاءنا يوماً بقصّةٍ عن الاتحاد السوفياتي الذي سيطرَ ذات مرّة على إحدى الجزر المتنازع عليها، وحين شعر أنّه سيخسر المعركة في الأمم المتحدة، حضرَ المندوب السوفياتي إلى الجلسة الأممية وتساءل: «عن أي جزيرة تتحدّثون؟ لا يوجد على سطح الأرض جزيرة بهذا الاسم». يبتسم أستاذ التاريخ شارحاً: عملت المدفعية السوفياتية قبل الجلسة على دكّ تلك الجزيرة ليلاً ونهاراً حتّى أغرقتها تماماً.
لم يكن الاتحاد السوفياتي بالنسبة لي محور العالم الذي أنتمي إليه. لم يكن، على الأقلّ، ما كانه بالنسبة لأحد الرفاق في الجامعة، الذي أخبرني أنّه كان يفتحُ الأطلس وينظرُ إلى الخريطة ويقول: «إنّنا نحكم نصف العالم». لا، لم أكن سوفياتياً، لكنّي-كأستاذ التاريخ- كنتُ آمل بعودة الاتحاد السوفياتي. وحين قاد بعض الجنرالات السوفيات محاولة الانقلاب الأخيرة، كنتُ في مخيّمٍ كشفيٍّ أخفي ترانزستوراً صغيراً في جيبي لأستمع إلى موجز الأخبار كلّ ساعة، لأتابع آخر أخبار الانقلاب. بعد ذلك بسنوات، حين نزلت إلى بيروت وحضرتُ احتفالاً في المركز الثقافي الروسي في ذكرى غيفارا، فاجأ زياد الرحباني الحضور في آخر الاحتفال، وبُثّت له كلمة مسجّلة وجّه فيها تحيّة لأولئك الجنرالات بالاسم، واحداً واحداً.
في الواقع، اكتشفتُ مسرحيات الرحباني وأغانيه متأخّراً بعض الشيء. لم أكن أعرفُ من الماركسية إلا عناوينها التي أعطاها زياد أشكالاً وأسماء. فبدأ الصراع الطبقي يظهر في وجوه أتخيّلها لزكريا ومسيو أنطوان، وأفيون الشعوب يتمايل على أنغام «أنا مش كافر»، والاستغلال يتجسّد في «شو هالإيّام اللي وصلنالا». وكلّ هذا الكرّاس الماركسي يأتيك فيما عيناك تدمعان من الضحك، ووجهك يحمرّ خجلاً لسماعك «أمّك في عندا بزّين».
قبل الرحباني، دخَلَت البيتَ أشرطةُ مارسيل خليفة ثمّ خالد الهبر. الأرجح أنّي تعرّفت إلى خليفة أوّلاً بسبب محمود درويش. وشكّلَت الأغنية الملتزمة مدخلاً لي لا إلى اليسار وحسب، بل أيضاً إلى الحرب الأهلية ورواياتها، تلك الحرب التي لم تعرف طرابلس إلا وجهاً محلياً من أوجهها. ومع نهاية الحرب، وصلتنا إلى المدينة مسرحية لروجيه عساف ونضال الأشقر، وأخرى لرفيق علي أحمد. لم أعد أذكر اسم المسرحيّتين. لم أعد أذكر إن كانتا مسرحيّتين أم مسرحيّةً واحدة. لكنّي أذكر أنّ هذا المسرح أعطاني شعوراً عميقاً بأنّ هذا العالم المتجسّد فوق الخشبة هو العالم الذي أريد أن أنتمي إليه، أن أكون جزءاً منه ومن تاريخه ومستقبله. كان هناك الكثير لأتلقّفه، ولأعوّض به العزلة التي فرضتها الحرب على أبناء جيلي.
في أيّامي الطرابلسيّة الأخيرة، زارنا أحد أقربائنا المهاجرين إلى باريس، وقد انتبه على الأرجح لحماستي، وشعرَ في الوقت نفسه بضيق العالم الذي أحلم به. لم يتحدّث معي بكلماتٍ كثيرة، سخرَ فقط من صوت مارسيل خليفة، وأهداني نسخة من فيلم Le Mepris لجان لوك غودار، وعدداً من مجلّة Le Nouvel Observateur التي لم أكن قد سمعتُ بها من قبل. فحتى ذلك الحين، كانت فرنسا اليسارية تعني لي جان بول سارتر الذي لم أُكلّف نفسي عناء الاطّلاع على فلسفته الوجودية، لكنّي ما زلت أذكر ثلاثة كتبٍ له استعرتها من المركز الثقافي الفرنسي في طرابلس، وثلاث جُملٍ تركت أثرها البالغ عليّ لسنين طويلة: صرخة «Dieu est mort» في مسرحية «Le Diable et le Bon Dieu»، صرخة «Non Recuperable» للبطل الشيوعي في «Les Mains Sales»، وتحذير رئيس التحرير لصحافييه في «نيكراسوف»: «فلتختفِ الحرب، لكن ليس عن الصفحة الأولى».
العلمانية والنيوليبرالية
حين دخلتُ الجامعة الأميركية في بيروت، كنتُ متأكداً من أمرٍ واحد: أريدُ المشاركة في الحياة السياسية فيها. لكنّ الأمر لم يكن بهذه السهولة، فالحرب انتهت لتوّها، والأحزاب تحوّلت إلى ميليشيات مثّلت بالنسبة لكثيرين الشيطانَ الذي أحرق البلاد، وآن أوان البحث عن بديلٍ لها. وفي الوقت نفسه، وباسمِ هذا البديل البريء من آثام الحرب، تربّع على السلطة رجل الأعمال رفيق الحريري، الذي قدّم للّبنانيين شتّى الوعود الربيعيّة التي تزامنت مع انعقاد مؤتمر مدريد للسلام.
هكذا، أضيفت إلى قاموسي اليساري مفرداتٌ كمكافحة النيوليبرالية، لتصطفَّ إلى جانب فلسطين محمود درويش. في تلك الفترة، شكّل «ملحق النهار» و«مسرح بيروت»، وقد أشرفَ على كليهما الياس خوري، الرافدين الأساسيين لتشكيل وعيي السياسي. ومن دونهما، ما كنتُ لأكون ما أنا عليه. لكنّ خوري لم يكن وحده، فقد شهدت تلك الحقبة عودة الكتّاب اليساريين من «المنفى»، لا سيّما فواز طرابلسي وجوزف سماحة وسمير قصير. أمّا روجيه عساف، فأخرج من قبّعته «مذكرات أيّوب»، التي ثبّتت مفاعيل السحر الذي اختبرته للمرّة الأولى في مسرح الرابطة الثقافية في طرابلس.
في الفصل الأوّل لي في الجامعة، انتسبتُ إلى مجموعة الطلاب المستقلين، وكانت مجموعةً غير حزبية قريبة من النائب نجاح واكيم، الذي كان آنذاك نجم التصدّي في البرلمان للمشروع الحريريّ. سرعان ما خاب ظنّي بواكيم وبالمجموعة، وانتقلت لتأسيس مجموعة قومية عربية مع ثلّة من الأصدقاء. عقدنا اجتماعاً في مقهى الروضة، أطلقنا فيه على أنفسنا أسماءً مستعارة لضرورات العمل السرّي، واتفقنا على قراءة كتابات روّاد القومية العربية كميشال عفلق، وساطع الحصري، وزكي الأرسوزي. وكانت إحدى الصديقات قد أهدتني ثلاثة مجلّدات صادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، تحتوي على مختارات من كتابات منظّري القومية العربية، فرحتُ أصوّر بعض تلك المقالات وأوزّعها على أعضاء المجموعة لمناقشتها خلال اجتماعاتنا.
لم يطل الأمر بنا حتّى اكتشفنا أنّنا أمام خديعةٍ تاريخية، فقد شكلت تلك القراءات صدمة حقيقية بالنسبة لنا. ورحنا نتساءل: هل يعقل أن يكون هذا هو البناء النظري الذي قامت عليه العروبة؟ وكمن يريد الحدّ من تداعيات الصدمة، جاءنا لاحقاً أحد الأعضاء مقترحاً الحلّ: سمير أمين. لم أكن قد سمعت باسمه من قبل. أبلغنا الرفيق إنّ نظريّاته تسمح لنا بمصالحة العروبة والماركسية، وهذا ما نحن بحاجةٍ إليه. وبالفعل، أقبلنا على قراءة سمير أمين كمن عثر على كنز، وشاءت الصدف أن يزور المفكر العالم-ثالثي لبنان، فلحقنا به من ندوةٍ إلى ندوة، من بيروت إلى طرابلس، ولم يصدّق أحد الرفاق نفسه حين حصل على شرف التسليم عليه باليد. كان ينظر إلى يده ويقول: هنا كانت يد سمير أمين.
في تلك الفترة، كنّا كمن يكتشف ذاته، وتماماً كحال البلاد، كمن يحاول تلمّس ملامحه الجديدة بعد الحرب الأهلية. ومن الصعب وصفُ ما كنّا نقوم به بالعمل السياسي، باستثناء بعض النشاطات التي قمنا بها في نوادي الجامعة، التي كانت الأحزاب تحتكر السيطرة عليها من قبل.
وضعنا أعيننا على نادي حقوق الإنسان، فبدأنا التسجيل فيه بكثافة حتّى فوجئنا بتسجيلٍ مضادٍ من حزب الله. وكان «النهي عن المنكر» يشكّل آنذاك جزءاً أساسياً من نشاطات الحزب في الجامعة. فتارةً يقيم حملةً لمنع العناق والتقبيل داخل الحرم الجامعي، وتارةً أخرى يقيم اعتصاماً ليمنع بالقوّة تنظيم يوم «الأبواب المفتوحة»، وهو اليوم الوحيد في السنة الذي يُسمَح فيه للفتيات بالدخول إلى غرف منامة الذكور. يومها، وقفت مجموعة من شباب حزب الله أمام مدخل مبنى الذكور، مانعين الدخول إلى المبنى أو الخروج منه. تدخّلت القوى الأمنية، وأطلقت النار في الهواء داخل الحرم، فكان الردّ: نحن مستعدّون للاستشهاد هنا على أن نسمح للأبواب المفتوحة أن تمرّ.
فتحَ لي سمير أمين أفقاً جديداً، ومعه بتُّ أعرّفُ عن نفسي كماركسي، ولعبت لقاءاتنا مع فواز طرابلسي، وقد بات باحثاً في مركز الأبحاث السلوكية في الجامعة، دوراً في ذلك، رغم أنّي، حتّى تلك اللحظة، لم أكن قد قرأت ماركس. ومع تشتّت مجموعتنا بعد تخرّج معظم أعضائها، ساهمتُ في تأسيس مجموعة يسارية. وصار لنا مرشّحون في الانتخابات الجامعية، وعكفنا على كتابة ورقة سياسية مقتضبة تعرّف عنّا كمجموعة. وفي أحد اجتماعات مناقشة الورقة، أنفقنا ساعتين من النقاش بعدما اعترض أحد الرفاق على موقفنا المعادي للعولمة، لنكتشف بعد ذلك أنّه خلط بين العولمة والعلمانية.
في الوقت نفسه الذي انطلقت فيه مجموعتنا، ظهرت في جامعات أخرى مجموعاتٌ مماثلة تعرّف عن نفسها بأنّها يسارية مستقلة. شبكنا الصلات مع تلك المجموعات، وصرنا ننظر إلى أنفسنا كجزءٍ من تيّار عابر للحدود بين الجامعات، وأنّنا نقترب من لحظة تكوين جسمٍ واحدٍ قد يكون الحزب اليساريّ اللبناني الجديد، ولمَ لا؟
وبموازاة ظهور تلك المجموعات، بدأ طرابلسي وسماحة وآخرون عقد لقاءات ونقاشات سياسية بهدف التوصّل لاحقاً لتأسيس حزبٍ يساريٍ أيضاً. وكنتُ أظنّ أنّ هذه المحاولات لا بدّ أن تصبّ في النهاية في مكانٍ واحد، هو ذاك الحزب المنتظر.
ولَّدَ فيَّ هذا الحلم بالحزب نفوراً من الصعود السريع لما سمّي بالمجتمع المدني، فشاركتُ أحياناً في الحملات المدنية كحملة «بلدي، بلدتي، بلديتي» التي كان وراءها بول أشقر العائد إلى بيروت بأفكارٍ لتجديد أشكال العمل السياسي، لكنّي فعلتُ ذلك من دون كبير حماسة. فقد كان الأمر بالنسبة لي نوعاً من السياسة الـ«لايت»، أمام العمل السياسي الجدي والحقيقي الذي خِلتُه متمثّلاً ببناء الحزب. وكانت كتابات عزيز العظمة قد دخلت آنذاك على الخط، فآمنتُ بمركزية الدولة التي تفرض الإصلاح على المجتمع، ووجدتُ ضالّتي في مقالة للعظمة يدعو فيها لحظر الأحزاب الإسلامية تماماً كما تحظر ألمانيا الأحزاب النازية. هكذا بتُّ علمانياً متطرّفاً، لم تهزّني صور آلاف القتلى في الجزائر بعدما حُرِمَت الجبهة الإسلامية للإنقاذ من الوصول إلى السلطة رغم فوزها بالانتخابات. وحين كان طرابلسي يحدّثنا عن أولويّة الديموقراطية، والمطالبة بزواج مدني اختياري لا إلزامي، وربط الدعوة لإلغاء الطائفية في الانتخابات النيابية بإنشاء مجلس شيوخ للطوائف، كنتُ أرى في ذلك تراجعاً عن راديكاليّةٍ ينبغي أن نتمسّك بها.
ومع نقد الفكر الديني وذهنية التحريم، باتَ لعلمانيّتي عنوانٌ آخر اسمه صادق جلال العظم. حتّى أنّي حين زار إدوارد سعيد الجامعة، رفعت إصبعي لأواجهه بنقد العظم له، واتّهام كتاب الاستشراق بإعطاء الحجّة للإسلام السياسي. كان يمكن لهذا المسار أن يستمرّ تصاعدياً، لولا صدفة اجتماعنا مع المفكّر الباكستاني الراحل إقبال أحمد، الذي زار بيروت للمشاركة في الذكرى الخمسين للنكبة بدعوةٍ من مسرح بيروت. جملةٌ واحدة قالها لنا أحمد وقعت عليّ كالصاعقة: «This is Radical but Wrong».
قبل ذلك، كنتُ أظنّ هاتين الكلمتين متناقضتين. فإمّا أن يكون المرء راديكالياً، وإمّا أن يكون مخطئاً. بفضل أحمد، باتت لديّ منذ تلك اللحظة حساسيّة مفرطة تجاه ذاك النوع من اليساريّين، الذين يظنّون راديكاليّتهم مرادفاً للحقيقة أو للموقف الصائب سياسياً.
الدولة والعولمة البديلة
لم يبصر حزبي النور، لكنّ لقاءات بورتو أليغري بدت أشبه بمؤتمرات حزبي السنوية. كنت أحسب نفسي جزءاً من تيّار العولمة البديلة. وبدأت أسماء كجوزي بوفيه والسوبكوماندانتي ماركوس تدخل عالمي. وكان عندي حبّ خاص للسوبكوماندانتي، ربّما بسبب قناعه وغليونه، وربّما بسبب سيرته كأستاذٍ جامعيّ ترك التعليم في العاصمة المكسيكية من أجل الدفاع عن حقوق السكان الأصليين، وربّما بسبب تلك المقابلة التي أجراها معه الروائي غابرييل غارسيا ماركيز، والتي قال فيها إنّه تعلّم النظر إلى العالم لا عبر نشرات الأخبار، بل عبر الرواية والشعر. وفي لحظة ما خلال المقابلة، نظر إلى ماركيز وقال: «أنت مساهمٌ في كلّ ذلك».
رحتُ أنسجُ قصصاً عن ماركوس، كالقول إنّه يسمّي نفسه بالسوبكوماندانتي رغم أنّه قائد جيش التشياباس، لإيمانه بأنّ العالم لم يعرف إلا كوماندانتي واحداً، هو الكوماندانتي تشي غيفارا. ففي تلك الفترة، حقّق غيفارا عودة إلى الساحة العالمية كأيقونة للثورة والحب في الآن نفسه. ظهرت صوره على القمصان، وكُتبت له الأغاني. وقد أهداني أحد الرفاق شريطاً يحتوي على خطبٍ لغيفارا باللغة الإسبانية. ورغم أنّي لا أتقن تلك اللغة، أعطيتُ ذات ليلة الشريط لأرتور، صاحب حانة «شي أندريه»، وطلبت منه أن يلعبه، فيما تولّيت أنا تقديم ترجمة فورية للرفاق الساهرين.
لم يُبصر حزبي الصغير النور، لكنّه قام بمحاولاتٍ أخرى، ما أحبُّ أن أسمّيه «لمّ الشمل اللبناني» في سنيّ ما بعد الحرب. كان بوسعنا كمجموعاتٍ مستقلة، رغم صغر حجمنا أو ربّما بسببه، أن نلعب دور الجامع بين قوىً لا تجتمع عادةً مع بعضها بعضاً، للمطالبة بعناوين كنّا نراها في صلب عملنا السياسي. كان بديهياً بالنسبة لنا أن نستثني من نشاطاتنا المشتركة تيار المستقبل، حركة أمل، وحزب الله. كانت تمثّل بالنسبة لنا رموز السلطة، وكنّا نعتبر أنفسنا كيسارٍ جزءاً من القوى المهمّشة في لبنان ما بعد الحرب، في الزمن الذي بات يُعرف لاحقاً بالوصاية السورية.
في ذلك كلّه، كان همّنا كيف نخرق الحدود داخل بيروت الكبرى. وكنّا فخورين أنّنا أوّل من تمكّن من إقناع القوات اللبنانية بالمشاركة في تحرّك على كورنيش المنارة من أجل الانتخابات، كما ذهبنا ذات مرّة إلى جامعة الكسليك لمشاركة العونيّين في اعتصامٍ احتجاجاً على اعتقال عددٍ منهم. وحين قرّروا التصعيد ونقل الاعتصام إلى خارج حرم الجامعة، ذهبنا معهم إلى أن بدأت تظهر على الطريق العام باصات سورية راحوا يرمونها بالحجارة، فاعتذرنا وعدنا إلى سياراتنا التي أقلّتنا إلى «الغربية» مع شيءٍ من المرارة.
حين التحقتُ بجريدة «السفير» لإنشاء ملحقٍ شبابيّ، لم أكن صحافياً، ولم تكن المهنة همّي. كانت وظيفتي أشبه بإعلان انتماء إلى ذاك الجيل اليساري الذي ساهم في تأسيس «السفير». كأنّ الزمن الرديء وحده هو ما جعلني أولدُ متأخراً عشرين عاماً.
ولعلّ هذا ما جعل زاويةً تدعى «من جيل إلى جيل» تبصر النور داخل الملحق، لتنشر رسائل من الجيل السابق نردّ عليها في العدد اللاحق. ردودٌ من النوع الذي يتطلّع إلى كسب رضا الأب تحت شعار الخروج من تحت عباءته.
كان العمل في «السفير» بالنسبة لي استكمالاً لعملي الطلابي، وكانت يساريّتي آنذاك تعني بالدرجة الأولى الحلم بدولة. دولة لا تزورها الحرب الأهلية كلّ سنة مرّة. دولة علمانية، ودولة رعاية اجتماعية. لذلك، ربّما، كلّما تذكّرت تجربة «الملحق» تقفزُ إلى رأسي صورٌ ثلاث: هادي نصر الله، الأخت بينيديكت، ومعتقلٌ عونيٌّ نسيت اسمه لكنّي لم أنسَ وجهه يوماً.
حدث ذلك بعد حملة اعتقالاتٍ قام بها ما عُرف لاحقاً بالنظام الأمني اللبناني، الذي كان قد بدأ التكشير عن أنيابه، طارحاً نفسه بديلاً من السياسات الحريرية. وجدناها مناسبةً لإعداد ملف عن الاعتقالات العونية، ورحنا نستدعي معتقلين عونيين سابقين ليرووا لنا قصصهم. وكانت صدمتنا كبيرة لاكتشاف ما كنّا نجهله فعلاً، وهو أنّ بعض هؤلاء الشباب تلقّى أنواعاً من التعذيب ما كنّا نخالها موجودة في السجون اللبنانية. وقد علّق أحد مدراء التحرير بالقول: متى وصلتنا هذه الأساليب البعثية؟ نُشرَ التحقيق بعد أخذٍ وردٍّ طويلين، وبعد تدخّلٍ مباشرٍ من رئيس التحرير، الذي شطب كلمات قليلة وأعطى الإذن بنشر ما رفض الجميع تحمّل مسؤوليّته.
أعادَ نشرُ ذاك التحقيق تفاؤلي بالمهنة، خصوصاً بعد حادثة الأخت بينيديكت. فحين قرّر الرئيس رفيق الحريري شراء المدرسة الكرملية في فردان وهدمها، كتبت سحر مندور في الملحق مقالاً عن السور بينيديكت، المديرة التي حملت المكنسة ذات يوم وطردت مسلّحي الميليشيات من أمام باب المدرسة، لينتهي المقال بجملةٍ مفادها إنّ المدرسة التي لم تتمكّن الحرب من إقفالها، يقفلها السلم الآن. أو أنّ المدرسة التي لم تتمكّن الميليشيات من إقفالها، تقفلها الرأسمالية المتوحّشة الآن. من سوء حظّنا أنّ الزمن كان زمن انتخابات، فأُنِّبت وأفهِمتُ بأنّ هذه مناسبة للجريدة كي تعوّض خسائرها المالية.
قبل الأخت بينيديكت، كانت الاتصالات قد انهالت على الجريدة بسبب صورةٍ وتعليقٍ نُشرا في الملحق. صورة للافتة تشير إلى تسمية شارع في الضاحية الجنوبية باسم «جادة هادي نصر الله». أمّا التعليق، فيقول إنّ هادي لم يستشهد وحيداً، بل كان برفقة زميلٍ له واستشهدا معاً، فلماذا تفرّقهما الجادة إذن؟ أذكر أنّ صحافيّين قريبَين من حزب الله زارا مكتب جوزف سماحة في الجريدة، وانتقدا تقديس الأشخاص الذي بات يجد طريقه إلى الحزب. أمّا أحد الرفاق، فأمسكني من كتفي في شارع الحمرا قائلاً من دون مقدّمات: «مع احترامنا لكل الأمناء العامّين تبعولنا، معليش ما حدا ضحّى بابنه».
ماركس وما بعد الكولونيالية
كانت صفحات الملحق الشبابي صورةً عن لبنان الذي أتخيّله وأحبّه، وكانت صورةً جذّابةً بالضبط كونها تقف في مواجهة صورة مضادّة قدّمتها حكومات ما بعد الحرب. وربّما لم تكن مجرّد صدفة أن أشعر بوصول تجربتي في «السفير» إلى نهاياتها، في الوقت نفسه الذي بهتت فيه الصورة المضادّة، وبدأت الحريريّة بالتراجع.
من «السفير» انتقلتُ إلى الولايات المتحدة الأميركية لدراسة الاقتصاد الماركسي في جامعة ماساتشوستس، قلتُ لنفسي إنه حتّى لو لم أنل الدكتوراه، يكفيني أن توفّر لي دراستي الوقت لقراءة رأس المال. تلك القراءة التي خلتُ أنّها ستجعل منّي أخيراً ماركسياً جديراً بهذا الاسم. كان ذلك في العام التالي لأحداث 11 أيلول التي هدّد أسامه بن لادن في ذكراها الأولى بقصف جسور مانهاتن، وأضعتُ أنا طريق الخروج من محطّة الباصات في نيويورك، فوجدتني أسيرُ على جسرٍ صغيرٍ غير مخصّصٍ للمشاة. ثمّ وجدتني أواجه مسدّس شرطي مرتعب منّي يأمرني بوضع الشنطة التي على كتفي أرضاً. حاولتُ الاقتراب منه لأشرح له الموقف، وإذا به يرتجف ويصرخ بي ألا أتحرّك. وحين سألني: من أين أنت؟ أجبتُه: من ماساتشوستس. فارتاح الشرطي، وضحكتُ أنا من إعلاني اسم مسقط رأسي الجديد.
في ذاك العام أيضاً، أمر جورج دبليو بوش بضرورة توجّه جميع الذكور العرب والمسلمين الموجودين على الأراضي الأميركية إلى مراكز أمنية لفتح ملفات خاصة بهم ضمن إطار ما عرف بـ«التسجيل الخاص». نزلتُ إلى مدينة نيويورك، ووقفت ساعات في الطابور أمام ذاك المبنى، وكانت الحرارة 15 تحت الصفر. نظرتُ إلى الوجوه البائسة أمامي وبعضها لعمّالٍ مسنّين لا يتقنون حتّى الإنكليزية، وقفنا كلّنا هناك كما لو أنّه يراد لنا أن نكفّر عن ذنب ارتكبناه بحقّ تلك المدينة بالذات.
في العام التالي، قرّر جورج دبليو بوش غزو العراق. كنّا لبنانيَّيْن، وأميركياً، وسريلانكياً بريطانياً في تلك الغرفة الصغيرة، ندخّن ونشرب البيرة. وكان صوت بوش يخرج من الراديو ليعلن حرب الإمبراطورية على العراق. كانت نبرته أبوكاليبتية، وزادَ من ذلك وصولها إلينا بالصوت من دون الصورة، وكنّا نحن صامتين، لم يتفوّه أحد منّا بكلمة، مجرّد دمدمات خرجت بين الحين والآخر، أردنا منها أن نتلفّظ بشتائم لم تكتمل.
قرّرتُ السيرَ في التظاهرة المناهضة للحرب، كانت كارنفالاً من الحرية لا يشبه التظاهرات التي شاركنا بها في بيروت. أفراد من كافة الأجناس والألوان، موسيقى ورقص، شرطة على أحصنة تدعس حوافرها على المتظاهرين الذين يتجاوزون الخط المخصّص لهم، محامون جاهزون للدفاع عن أي معتقل، أعلام فوضوية، أعلام فلسطينية، أعلام مثليّة، وحرارة تحت الصفر. كنتُ أنوء من البرد، فيما زميلي يسير كالرمح غير مكترثٍ بقساوة الطقس. قلتُ إنّه لا بدّ مؤمنٌ أكثر منّي بالقضية، لكن حين عدنا إلى البيت، اكتشفت أنّه كان يرتدي تحت بنطلونه كلسوناً عازلاً للحرارة. في عيد الميلاد الذي تلا التظاهرة، استيقظتُ لأجد أمام باب غرفتي هدية ليست إلا كلسوناً من النوع نفسه. المرّة الثانية التي فتحت فيها باب غرفتي ووجدت شيئاً أمام الباب، كانت حين تركَ لي شريكي في المنزل ورقةً كتب عليها: قُتلَ الحريري.
أيقنت أنّي أتيت إلى أميركا في الزمن الخطأ، ثلاث سنوات لم يخفّف من وطأتها إلا تلك الجدارية التي تتصدّر مبنى دائرة الاقتصاد، والتي تظهر رسماً لثلّة من المفكّرين بينهم كارل ماركس يحمل دفاً ويرقص. أعطاني ذلك شعوراً بأنّي رغم كل شيء في المكان الصحيح. وبالفعل، قرأت هناك رأس المال وماركسيّات أخرى، وتعرّفت إلى أساتذة وكتّاب أعادوا تكوين اليساريّ الذي في داخلي.
في الحصص الأولى، تذكّرت مسرحية بترا وأستاذ الأميرة الصغيرة الذي كان يُفاخر بأنّه يُطعمها التاريخ مع المجدّرة. فوجدتُ أمامي أستاذاً و«ستاند آب كوميديان» في الآن نفسه، يريد إطعامنا الماركسية مع التهريج. وقد أكلنا الطعم الذي كنّا نسعى إليه أصلاً كالجياع. كان يقول لنا إنّه ماركسي، وإنّه ماركسي سعيد، ومع كلّ تحليل طبقي كان يدسّ لنا بعضاً من نظريات ما بعد الحداثة. فأحببت كلمة «بومو»، وعلى طريقة أستاذ التاريخ، لم يكن الفارق بين الواقع والخيال واضحاً دائماً.
هكذا بتُّ ماركسياً «كول» بعض الشيء، أمارسُ لعبة الماركسيين في فهم المسارات الطبقية، واستخدام التحليل الطبقي، لكن من دون تقديمها كدليلٍ لحقيقة واحدة حول سيرورة التاريخ. لكنّ تلك «الكَوْلنة» لم تدفعني إلى الاهتمام بما يتجاوز الطبقات. كان هذا شغفي، وكان هذا كلّ ما أردته من مشروعي الأميركي للدراسة.
في تلك الفترة، أعادت حرب العراق الاعتبار لمصطلح الإمبريالية. ووضع الله في دربي كتاب دايفيد هارفي الإمبريالية الجديدة، الذي يحمل غلافه صورة جورج دبليو بوش من الخلف واقفاً على سجادة حمراء في البيت الأبيض. وحين دُعي هارفي لإلقاء محاضرة عندنا، تبرّعت لاصطحابه من المطار، وحملتُ إليه نسخة من كتابه الجديد ليوقّعها لي. أحسست نفسي أمام لحظة سمير أمينية أخرى، لكنّ رفاقي في المجموعة لم يكونوا معي هذه المرّة، وبدلاً من مصطلحات المركز والأطراف و«فك الارتباط»، تعلّقت بـ«التراكم بواسطة النهب» الذي أعاد هارفي من خلاله تعريف مفهوم التراكم الأولي عند ماركس، واضعاً وصفات النيوليبرالية في خانة هذا النوع من التراكم. كتبتُ مراجعةً للكتاب في جريدة «الحياة»، وفكّرت أنّ أطروحتي ستكون حول الاقتصاد السياسي في لبنان ما بعد الحرب، وأنّي سأستخدم نظرية «التراكم بواسطة النهب» لتفسير ما جرى. اكتشفت فيما بعد أنّي لم أكن أحتاج لهارفي ولا للدكتوراه لإطلاق هذه التفسيرات، وأنّ جوزف سماحة في كتابه قضاءٌ لا قدر يتحدّث عن «التراكم الأوّلي» كسمةٍ للسياسات الحريرية.
إلى جانب «البومو»، شممتُ أيضاً رائحة «البوكو»، أو نظريات ما بعد الكولونيالية التي راحت تغريني في غمرة الغزو الأميركي للعراق بطرح الأسئلة بشأن الإسلام والغرب، الحداثة وحقوق الإنسان، وتفنيد ادّعاءات الليبرالية. وبهذا الزخم البوستكولونيالي، كتبتُ فيما بعد مقالاً في «السفير» استخدمت فيه طلال أسد لأنتقد الدفاع عن سلمان رشدي، قبل أن أخلص إلى الاستشهاد بكاتب باكستاني يقول: «غداً حين تعود غرف الغاز إلى أوروبا، نعرف تماماً من سيكون داخلها هذه المرّة».
الصراع الطبقي ومناهضة الإمبرياليّة
بهذه العدّة إذاً عدتُ إلى بيروت، والواقع أنّي منذ أن قرأت تلك الورقة على باب غرفتي، عرفتُ أنّي عائد قريباً. فلن أجلس طيلة النهار في أرياف ماساتشوستس عاجزاً عن إنجاز أيّ عمل، باستثناء انتظار صدور الصحف في بيروت. وقد عُدتُ فعلاً، كمن هو عائدٌ بأمر مهمّة. فقد تحوّل رفيق الحريري بعد اغتياله إلى أيقونة لبنانية، وكان يُراد لصورته أن تصبح هي الأسطورة المؤسسة للبنان الجديد وانتفاضة استقلاله، وهو ما لم أكن أستطيع أن أتخيّله حتّى. فأنا ابن التسعينات، هي التي صنعت وعيي السياسي في النضال من أجل الذاكرة في مواجهة الجرّافة، الدولة المدنية في مواجهة أمراء الحرب، ودولة الرعاية في مواجهة النيوليبرالية، والصحافة الحرّة في مواجهة إعلام الرِشى.
في ذلك الحين، لم تكن كلمة «الاحتلال السوري» تَرِدُ إلا على لسان العونيّين والقوّاتيّين، فيما تبنّينا جميعاً المصطلح الرسمي حول «الوجود السوري». وحين ظهرَ النظام الأمني، تعاملتُ معه كالشرير في الأفلام السينمائية الذي لا يمكنك تأييده أخلاقياً، لكنّك تتعاطف معه في بعض اللقطات. كانت جملةٌ من نوع أنّ ثمّة أجهزةً تملك ملفات كفيلة بإدخال الحريري إلى السجن تدغدغ اليساريّ الذي في داخلي، فرغم أنّي شهدت شخصياً على ملاحقة سمير قصير من قبل ذاك النظام، ورغم مشاركتي باعتصاماتٍ ضدّ «أشباح الليل»، كان تعيين اقتصاديٍ كجورج قرم وزيراً للمال مدعاة تهليلٍ بالنسبة إليّ، قبل أن نوجّه أصابع الاتّهام إلى جُبن سليم الحص وليبراليّته اللذين دفعاه إلى عدم تبنّي أطروحات وزيره، وإلى تقزيم برنامج التصحيح المالي الذي شارك في إعداده اقتصاديٌ يساريٌ آخر، هو شربل نحاس.
كتبتُ مقالي الأوّل في صفحة الرأي عن رفيق الحريري طبعاً، وعن اغتياله الذي ينبغي ألا يجعل منه أسطورة، فمآثره الاقتصادية ما زالت ماثلة أمامنا. عليّ أن أعترف أنّ هذا الاغتيال السياسي لم يهزّني أخلاقياً، نظرتُ إلى الأمر كتصفية حسابات داخل مافيا واحدة، تماماً كما كان الدون كورليوني في فيلم «العرّاب» يأمر بتصفية أحد مسؤولي الأحياء حين يشعر بخيانته. وحين تتالت الاغتيالات، لم أنكر وجود أشرارٍ داخل المعسكر الذي أدعمه، لكنّي كنت قادراً على الفصل بين حزب الله وغرفة سوداء في مكانٍ ما ترتكب هذه الجرائم. وفي جميع الأحوال، كان عليّ أن أعضّ على الجرح ما دام المعسكر الآخر يمثّل الشرّ الأكبر، أي الإمبريالية التي احتلّت العراق، وباتت قاب قوسين منّا، مرتكبةً شروراً أين منها تلك الاغتيالات الفردية. هكذا يذكّرني صديقي كيف بقيتُ أربعة أيام بلا نوم في نيويورك حين جاءنا خبر اغتيال سمير قصير، وكيف لم يمنعني ذلك من العودة إلى بيروت بكلّ ذاك الزخم المعادي لـ«انتفاضة الاستقلال».
كرّت سبحة المقالات التي يمكنني أن أدرجها في إطار مثلّث العدّة التي جئت بها من دراستي الأميركية: طبقات، معاداة الإمبريالية، وبوستكولونياليزم. وإذا كانت الأخيرة مدّتني بالحجج لمهاجمة «المشروع الأميركي» في الشرق الأوسط، فإنّ أطروحات «الإمبريالية الجديدة» ربطت في ذهني بين نقد النيوليبرالية والعداء للإمبريالية، ما سمحَ لي باتخاذِ موقفٍ نقديّ، لكنه مناصرٌ لفريق 8 آذار المواجه لفريق 14 آذار، الذي يجمع القوى السياسية التي تؤيّد كلّ ما يمثّل «الإمبريالية الجديدة».
اكتشفتُ مبكراً في حياتي أنّ التنظير ليس مهنتي. بالنسبة لي، كان التعرّف إلى النظريات أشبه باستهلاك الوجبات السريعة. وتماماً كما لا أذكر من الروايات التي أقرأها إلا صرخات أبطالها الدرامية، كنتُ أحوّل النظريات إلى جُملٍ رنّانة أجد لها دائماً توظيفاً سياسياً مباشراً في المقالات. هكذا استخدمتُ نظريات ما بعد الحداثة لأبرّئ الطائفية والفساد من النيوليبرالية اللبنانية، التي يتحمّل مسؤوليّة نتائجها الكارثية رفيق الحريري وحده. واستخدمتُ سلافوي جيجك ضدّ الترويج للديموقراطية الذي كانت تمتهنه الحروب الأميركية، في مقال عنونتُه: «زرّ الديموقراطيّة العقيم». واستخدمتُ سجالات إدوارد برنشتاين وروزا لوكسمبورغ للردّ على أطروحات ما سمّي في لبنان بـ«اليسار الاستقلالي» الموالي لـ14 آذار، والذي سمّيته اليسار الاستعماري. واستخدمتُ دراسات ما بعد الكولونيالية للدفاع عن الإسلام السياسي، وكان حزب الله آنذاك جزءاً منه. وقد فعلتُ ذلك تارةً بالمحاججة بأنّ الحركات الإسلاميّة حديثةٌ بعكس ما يدّعي مناوئوها، وطوراً بأنّ الحداثة لا «الظلامية» هي المسؤولة أصلاً عن فظائع القرن العشرين ومجازره. واستخدمت ماكس فيبر وجويل ميغدال للدفاع عن سلاح حزب الله، والردّ على مقولات 14 آذار حول «حصريّة السلاح بيد الدولة».
أتساءلُ أحياناً من أين أتتني تلك الطاقة؟ فأنا منذ لجوئي إلى الصحافة هرباً من الهندسة، ابتكرتُ زاوية «يوميات» بتُّ معها كـBipolar يتنقّلُ بين مقالٍ سياسي متوتّر بحماسته، ومقالٍ عبثيّ لا يرى على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة. حتّى الآن، وفيما أنا أكتب هذه السطور، لا أعرف ماذا أفعل، وما إذا كنتُ أكتبها بحماسةٍ سياسية أم بعبثيّةٍ مطلقة.
اليسار مكتملاً
حين وجدتُ صورة جمال عبد الناصر على مكتب جوزف في «الأخبار»، شعرتُ برضىً داخليّ كأنّي ما زلتُ أسيرُ حسب وصيّة جدّتي، كأنّي في مكتب جوزف أجلس بين أحضان درويش وسارتر والسابكوماندانتي وسلافوي جيجك ودايفيد هارفي وجدّتي وعبد الناصر دفعةً واحدة. وقد رأيتُ في الخطّ التحريريّ للصحيفة مساحةً تكتمل فيها أضلُع اليسار المختلفة: الصراع الطبقي، مناهضة الإمبريالية، والديموقراطية والتحديث. كان رهاني أنّ اللحظة السياسية تتيحُ التعايش بين هذه الأضلع الثلاثة.
صدرت الأعداد «صفر» من الجريدة خلال حرب تمّوز، ممّا زادني اقتناعاً بصوابية الموقف السياسي الذي تبنّيته. وفي مكتب جوزف، كنت أستمعُ إلى خطابات نصر الله أثناء الحرب، وفي مكتبه، وعلى بعد أمتار من صورة عبد الناصر، أعلنَ نصر الله: «أنظروا إليها تحترق» في خطابٍ جرى إخراجه ليأتي شبيهاً بخطاب تأميم قناة السويس. في تلك الفترة، كتبتُ عن نصر الله وزين الدين زيدان، كلاعبين جاءا من الضواحي لينتفضا على حدود اللعبة.
كنتُ أعتقد أنّي وحزب الله في خندقٍ واحد، إنّه الخندق الذي أعلن منه نصرالله: مطار رفيق الحريري مقابل مطار بن غوريون. وهو الخندق الذي هتف منه نصر الله: «أنا لا بيي كان بيك، ولا جدّي كان بيك، ولا إبني حيكون بيك». وهو الخندق الذي اعتقدتُ أنّه سينجزُ بعد حرب تموز ما لم تنجزه وزارة جورج قرم، ولا برنامج شربل نحاس، من انقلابٍ على السياسات النيوليبرالية. وحين أعلن نصر الله ذات مرّة استعداده للاتفاق مع سعد الحريري، واستئناف تقسيم العمل بين الإعمار والمقاومة، أحسستُ بطعنةٍ في الظهر، وكتبتُ داعياً لمزيدٍ من انخراط حزب الله في المسائل الداخلية اللبنانية، وعدم وضع القرارات التي تطال معيشة اللبنانيين في يد الحريرية مرة أخرى.
بعد موت جوزف، لم أكن وحدي مَن شعرَ بأن عليه أن يعطي كلّ ما عنده كي ينظر جوزف إلى الجريدة ويشعر بالرضا، تماماً كما لو كان لا يزال حيّاً يراقب سير الجريدة من مكتبه. لكن، لم أشعر بأنّ الجريدة باتت فعلاً هي «الأخبار» التي أحبّها ويحبّها جوزف، إلا مع الثورات العربيّة.
فمع تونس والغلاف الرؤيوي الذي اقترحه أنسي الحاج «آخر أيام بن علي»، ثمّ مع مصر وثورة يناير، اعتقدتُ أنّ «الأخبار» باتت الجريدة اليسارية التي وصل صداها إلى العالم العربي وشعوبه التي حطّمت أخيراً جدار الخوف. هكذا ذرفَ كثيرٌ من القرّاء الدموع حين دخلوا إلى موقع «الأخبار» وفاجأهم صوت الشيخ إمام في أغنية «يا مصر قومي وشدّي الحيل». وحين سقط حسني مبارك، مجّدتُ الثورة المصرية كثورة بلا برامج ولا ادّعاءات ولا أبطال. جاء ذلك بعد سلسلةٍ من المقالات حاولَتْ إثبات العلاقة بين تراثنا اليساري والثورات. وعُدتُ إلى تمجيد الشعب والخبز والحرية، معتبراً أنّ تلك الثورات أعادت الاعتبار للعامل الطبقي وللنظرية الماركسية، التي يتميّز جوهرها بالربط بين الحرية والمساواة.
كانت 14 آذار في ذلك الوقت معاديةً، أو في أحسن الأحوال حذرةً من الثورات العربية. وفيما نظّمت 8 آذار احتفالاً لتحيّي الشعبين التونسي والمصري، حملت احتفالاتها بذور تراجعها اللاحق عن موقفها هذا. فقد استخفّت خُطَبُ الاحتفال بحاجات الشعوب العربية، وركّزت على عودة مصر إلى الحضن القومي، معتبرةً أنّ الخطوة اللاحقة ليست إلا إلغاء اتفاقية كامب دايفيد. ولم يتوانَ هذا الفريق لاحقاً من استخدام فلسطين والقضية الفلسطينية لمواجهة ثورات الشعوب، تماماً كما كانت تفعل الأنظمة البائدة. حاولت «الأخبار» التمايز عن فريق 8 آذار في بداية الثورة السورية. ظننتُ أنّ بإمكاننا أقلّه الابتعاد عن بروباغندا النظام، فننتقد قمعه الوحشيّ للتظاهرات، وإن لم نتبنَّ الدعوة لإسقاطه. ظننتُ أنّ بإمكاننا أقلّه أن نقول إنّ فلسطين الحرّة وسوريا الديموقراطية ليستا متناقضتين. لكن سرعان ما تبيّن أنّ حتّى هذا الطريق مسدودٌ مسدود. وكان ذلك قبل داعش، وقبل النصرة، وقبل مشاركة حزب الله في قمع الثورة السورية. بدت أضلع اليسار التي ادّعيتُ ذات يوم أنّ الجريدة قادرة على التوفيق بينها، وقد انفكّت عن بعضها بعضاً.
لكنّها لم تكن أضلع اليسار وحسب. كانت أضلُعي أيضاً أُلملمُها واحداً واحداً لأضعها داخل الكراتين التي جمعتُ فيها أغراضي وأنا أغادر مكتبي للمرّة الأخيرة في «الأخبار». على الحائط، كانت هناك صورة لعجوز روسيّ ذي شاربين كثّين يحمل ميكروفوناً أمام صورة لستالين في تظاهرة في موسكو. لم يكن ستالين ما يعنيني في تلك الصورة، بل نظرات ذاك العجوز بلباسه الكاكيّ. أيّ قهرٍ ذاك الذي دفعه للنزول إلى الشارع؟ وأيّ تصميمٍ ذاك الذي يرافقه حتّى في مثل هذا العمر؟ نظرت مرّةً أخيرة إلى ذاك العجوز، ولم أرَ إلا الثورة السورية في عينيه. أنزلتُ الصورة عن الحائط، لكنّي تركتُها هناك. لم أكن أعرفُ مكاناً آخر يتّسع لها.
كنتُ أظنّ أنّ مواقفي التي اتخذتها ممّا يجري في سوريا هي المواقف الطبيعية التي ينبغي لأيّ يساري أن يتّخذها، وزاد من اقتناعي هذا أنّ كلّ الحجج التي ساقها الموالون لبشار الأسد آنذاك لم يكن أصحابها يصدّقونها، أو أنّي لم أصدّق يوماً أنّهم يصدّقون أنّ ثمّة مؤامرة عالمية حرّكت مئات آلاف السوريين، أو أنّ تنظيمات وإيديولوجيات إسلامية متطرّفة تكمن وراء صرخات «حرية، حرية»، أو أنّ مقاومة إسرائيل تستدعي قلع أظافر أطفال درعا. الوحيدون الذين صدّقتُهم هم الذين قدّموا لي الأمر ببساطة وصراحة مطلقتين، قالوا إنّ ما يجري في سوريا ليس من مصلحة حزب الله، ونحن غير مستعدّين للتضحية بكلّ ما بنيناه منذ الثمانينيات من أجل حفنة متظاهرين يطالبون بالحرية. صدّقتُهم وصدّقتُ رامي مخلوف حين حذّر الغرب من خطورة انهيار النظام السوري على أمن إسرائيل، لقد كان على تصريحٍ كهذا أن يأتي على لسان مخلوف بالذات حتّى أعودَ إلى «التراكم بواسطة النهب»، وأكتشفَ وجهاً آخر لـ«الإمبريالية الجديدة»
تطلّبَ الأمر منّي بعض الوقت لأنتبه أنّ موقفي ليس الموقف اليساري العام، وأنّ الثورة السورية ليست المثال الأوحد في التاريخ الذي لم تعنِ فيه كلمة «يسار» أيّ موقفٍ أخلاقيٍ أو سياسي، وأنّ أغنية «الرفيق» لجان فيرّا عن ربيع براغ لم يمرّ عليها زمن طويل. تذكّرتُ حين سألني أستاذي الماركسي الأميركي عمّا يجري في بيروت في العام 2005، قائلاً إنّه لم يفهم ماذا تعنيه تظاهرتا 8 و14 آذار. وحين حاولتُ أن أشرح له، أطلق تنهيدةً طويلة وقال: كم كانت الأمور أشدّ وضوحاً في الستينات. أتساءلُ الآن: هل كانت كذلك فعلاً؟
لجوء سياسي
وجدتُ نفسي يسارياً تائهاً بين يساريين آخرين يمتدّ حضورهم من بيروت إلى سائر الشرق والغرب، ولا أعرفُ ما الذي يربطني بهم. ووجدتُ نفسي في منفى مهنيّ نصف اختياريّ ونصف قسريّ، إلى أن جاءني ذاك الاتصال من المؤسسة اللبنانية للإرسال. فشعرتُ وكأنّي أحظى بلجوء سياسي في وسيلة إعلامية اختارت دون غيرها الحياد بين الفريقين المتصارعين في لبنان.
حين انتقلتُ إلى الأل.بي.سي. بعد خمسة أشهر من البطالة، واجهت سؤالاً استنكارياً واحداً: إنتَ وبالأل.بي.سي؟ كان الاستنكار نابعاً من كون كتاباتي في «الأخبار» غريبة عن سياسة المحطّة، لكنّه حمل أيضاً رواسب الحرب الأهلية والحدود الراسخة التي رسمتها. استنكارٌ لانتقالي للعمل في «المنطقة الشرقية»، وعلى الضفة المقابلة، كان التوجّس الذي وُوجهت به غير نابعٍ من أيديولوجيتي أو من انتمائي السياسي فحسب، بل من كوني قادماً من هناك، من «الغربية».
اختبرتُ تأثير التلفزيون الفعلي، عرفتُ أنّ الصحف في بلادنا مزحة، وأنّ العلاقة بين الإعلام والرأي العام تمرّ عبر التلفزيون أوّلاً. لكنّ لتلك العلاقة وذاك التأثير ثمنهما، فكان عليَّ أن ألتزم الحياد السياسي، وأن ألجم شطحاتي الطبقية. من مقدّمة «جمهورية العار» التي حاولت أن تعطي المحطّة خطاً سياسياً جديداً إلى تغطية الحراك المدني، وجدتُني أعود إلى لعبة «لمّ الشمل اللبناني» التي هجرتها منذ أيام «ملحق الشباب».
فسعيتُ لتحويل الموقف الحيادي إلى موقفٍ فاعلٍ عبر صياغة خطابٍ لا تحتكر فيه 8 و14 آذار معنى السياسة، وطرحتُ على نفسي أسئلةً من نوع كيف يمكن استخدام الشاشة كمساحة للمشترك بين المواطنين اللبنانيين، وبينهم وبين المقيمين على الأرض اللبنانية من عمّال أجانب ولاجئين فلسطينيين وسوريين. كيف يمكن استخدام الشاشة للدفاع عن الفئات المهمّشة، عن المرأة ضدّ العنف المنزلي، النازح ضدّ العنصرية، المثليّ ضدّ التمييز، العاملات ضدّ نظام الكفالة، الطفل ضدّ التحرّش، الفقير ضدّ النهب، البحر ضدّ الاستملاك، المساحات الخضراء ضدّ السدود والباطون.
تلاقى ذلك مع حركة ناشطة لحملات أهلية، وجمعيات غير حكومية، ونقابات صبّت كلّها في الاتجاه نفسه. فرغم الاستقطاب الطائفي في البلاد، بدأ التذمّر من معسكرَيْ 8 و14 آذار يتصاعد. وكما في الواقع، كذلك على الشاشة، كان على التغيير أن يُقدَّم على جرعات. فإضافةً إلى ضغوطٍ قد تأتي من هنا أو هناك، يبقى الضغط الأكبر للمشاهدين الذين ساء بعضهم أن تتحوّل الأل.بي.سي. إلى «محطّة سورية»، كما قالوا، لكثرة اهتمامها بقضايا النازحين. لكنّ الاتصالات الأكثر حدّةً وطرافةً جاءت بعد إثارة قضايا تحرّش رجال الدين بالأطفال، وتحديداً قضيّتَيْ الأب منصور لبكي والأرشمندريت بندلايمون فرح، فاتصل رجل دين عرّف عن نفسه بأنّه «الأب الياس»، وممّا قاله لي: «افترض في كاهن تحرّش بطفل، شو دخل الشيوعيّين؟».
مع التلفزيون، أعدتُ اكتشاف المجتمع اللبناني. وضحكتُ من نفسي كيف ظننتُ يوماً أنّي عدتُ من أميركا يسارياً جديداً، فيما كنتُ غير مهتمٍّ إلا بقضايا اليسار القديم، وبخوض تحدّي إحياء ما أُطلقَ عليه وصف «اللغة الخشبية». وتساءلتُ: هل أصبحتُ أخيراً يسارياً بوست-ماركسياً؟
لكنّ كلّ ذلك جاء بطعمٍ مختلف، فللمرّة الأولى في حياتي، شعرتُ أنّي أحقّق انتصاراتٍ وسَقَطاتٍ في فراغ أنّ اليساريّين أمثالي عادوا أفراداً أكثر من أيّ وقت مضى. لكنّ الشعور باليُتم هذا منحني بُعداً تحرّرياً. فللمرّة الأولى أيضاً، أحسستُ أنّي لم أعد أحمل تجربة أحد على ظهري، أنّي لست استكمالاً لتجربة أحد. وشعرتُ بالغيرة من جيل الحراك المدني الذي ملأ شوارع بيروت ورفع منذ البداية شعارات الإدانة للأبوية والذكورية. لكنّها غيرةٌ امتزجت بالمرارة لرؤية حراكيّين لا يقلّون شباباً، يرفعون شعارات آبائهم من دون أن ينفضوا الغبار عنها حتّى.
من جيل إلى جيل
أصبحتُ يسارياً في زمن هزيمة اليسار، هزيمته اللبنانية وهزيمته العالمية. كان يتملّكني شعورٌ هو مزيجٌ من الحنين إلى شيء لا أعرفه وزمن لم أعشه، ومن الرغبة في الثأر لجيلٍ مهزوم. رغبة كانت دائماً ممزوجةً بالخوف من التحوّل إلى كاريكاتير، من أن أصبح المثال الحيّ لمقولة التاريخ الذي يعيد نفسه، في المرّة الأولى كمأساة، وفي المرّة الثانية كمهزلة.
لم أشارك في الحرب الأهلية اللبنانية، ولم أمجّد الثورة الثقافية الصينية، ولم أكتشف فظائع الغولاغ مع سولجنتسين. لكنّي رأيتُ وشهدتُ كيف تحوّلت المقاومة إلى احتلال، وكيف تحوّلت العلمانية إلى قناعٍ طائفي، وكيف تحوّلت الإسلاموفوبيا من خطاب المحافظين الجُدد إلى خطاب اليسار، وكيف تحوّلت الحركات المناهضة للحروب إلى حركات مؤيّدة لحروب تنصر الديكتاتوريات، وكيف تحوّل العداء للإمبريالية عداءاً للشعوب، وكيف تحوّلت البوستكولونيالية أداةً للتعمية على كلّ قمع ليست الكولونيالية مصدره.
أين تكمنُ بذور تلك التحوّلات ولماذا تمكّنت من صدمي؟ هل هي تناقضات تلك المصطلحات نفسها، أم تناقضات اليساريّ الذي كنتُه في كلّ مرحلة من حياتي، وقد انفجرت دفعةً واحدة في وجهي؟ كيف لم أنتبه من قبل أنّ ما دافعتُ عنه يوماً باسم يساريّتي التحديثية، عدتُ وهاجمتُه بعد عشر سنوات باسم يساريّتي أيضاً، وقد باتت بوستكولونيالية؟ هل جازفتُ حين صدّقتُ ذاك الأستاذ الذي أقنعني أنّه يمكنني أن أضعَ جدّتي وغرامشي في سرير واحد؟ هل الثورة السورية هي التي قلبت الأولويات عندي؟ هل هو الدم المسفوك في الهوامش التي لا يريد أحدٌ أن يراها أو أن يسمع صوتها؟
أعرفُ أنّ هذه التساؤلات سترافقني طويلاً، ما دمتُ لا أجدُ معنىً لحياتي إن لم أكنْ «رفيقاً». لكنّي أعرف أيضاً أنّي، تماماً كالسوبكوماندانتي، أصبتُ بعدوى الأدب قبل السياسة. فمنذ أن كنتُ أهرب من صفوف الهندسة لأقرأ دوستويفسكي، ومنذ أن كنت أهرب من خدمة العلم لأقرأ كونديرا، بات الحلم بـ«المسيرة الكبرى» يختلط في ذهني بميلانكوليا عميقة هي مزيجٌ من «وداعاً لينين»، ومن محمود درويش يلقي قصيدة «مديح الظلّ العالي» بعد اجتياح بيروت، ومن تشي غيفارا يخطب في الشي أندريه، قبل أن يغنّي عبد الباسط الساروت «حانن للحرية حانن»، وتطلقَ رزان زيتونة ابتسامتها الواثقة من بعيد. صورٌ كلّما عادت وتكثّفت في رأسي، عدتُ إلى اليوتيوب لأشاهد للمرّة الألف فيديو ذاك الرجل المتسكّع في أحد شوارع تونس يهتف وحيداً: «بن علي هرب… بن علي هرب».