تطرح مجموعة الجمهوريّة سؤال الحاجة لفاعل سياسيّ جديد الآن وهنا، كما تطرح الإشكاليات النظريّة والتنظيميّة والسياسيّة المتشابكة معه، وترحب هذه المجموعة بأي صيغ للتفاعل مع طرحها. وكان الموضوع قد شغلني واشتغلت عليه بتقطعٍ فيما مضى كإشكالية فلسفيّة-إبيستمولوجيّة، فأتى سؤال مجموعة الجمهورية في وقتٍ مناسبٍ لي لأطرح رأيي، وأساهم في معالجة السؤال.

ما الفاعل السياسيّ الآن وهنا؟

السؤال بـ«ما» سؤالٌ فلسفيّ، يتناول مفهوم الفاعل السياسيّ و«شكله» و«مادته» ومحدداته، دون أنْ يشير إليه بـ«هذا»؛ أي بمعنى أنَّ السؤال بـ«ما» يفيد البحث في حالة الفاعل السياسيّ وشروطه، ولا يفيد البحث فيمن هو الفاعل السياسيّ بعينه. فسؤال ما الفاعل السياسيّ؟ يسبق زمنياً ومنطقياً سؤال من الفاعل السياسيّ؟ وكونه سؤال بـ«ما» فإنَّه يفيد الإطار والمسرح المعرفيّ الذي يبرز فيه فاعل سياسيّ لا على التعيّين، وليس كالسؤال بـ«من» الذي يفيد تحديد العاقل والاسم بشكلٍ ذاتيّ. إنَّه سؤالٌ تدرس إجابته شروط بروز الفاعل السياسيّ الآن وهنا، وقوام إمكانيته حتى ولو كانت إمكانيّةً ضئيلةً وتقارب الصفر دون أنْ تكون صفراً. ويبحث أيضاً في نقد مسلماتنا المعرفيّة السائدة عن الفاعل السياسيّ، بوصفها عقبةً أمام رؤية وإنتاج فاعل سياسيّ جديد.

مفهوم الفاعل السياسيّ

من صفات المفهوم كمفهوم، أنْ يكون واسعاً في الشمول فقيراً في التضمن؛ أي أنَّ مفهوماً كمفهوم الفاعل السياسيّ يشمل جميع الفاعلين السياسيّين الذين وجدوا والموجودين الآن والذين سيوجدون في المستقبل، ولكنه يتضمن أقل قدرٍ ممكن من الصفات الأساسيّة التي يشترك فيها جميع الفاعلين السياسيّين، والتي يمكن أنْ تحدّ المفهوم وتعيّنه.

وبفضل ممارسة السلطة كسلطة، ومسلّماتنا المعرفيّة عن هذه الممارسة، حدثَ عندنا العكس؛ فتقلّصَ عندنا مفهوم «الفاعل السياسيّ» في الشمول، واقتصرَ على فاعلٍ واحد هو الرئيس أساساً، والذي يتبعه بدرجات متفاوتة عدد معيّن من الفاعلين، ينظم العلاقة فيما بينهم شكلٌ هرميٌ وخيطٌ لا مرئيٌ يصلهم بشخص الرئيس. وهؤلاء الفاعلون هم: النظام، الأمن، الجيش، رئيس الوزراء، الوزراء، أصحاب رأس المال، الحزب، النقابات العماليّة والحرفيّة والاتحادات بأنواعها الفلاحيّة والنسائيّة والطلابيّة والشبابيّة والرياضيّة ومنظمات الطلائع و«المؤسسات» الدينيّة والمذهبيّة. كذلك الدولة، ومؤسساتها التنفيذيّة والماليّة والدبلوماسيّة والتشريعيّة والقضائيّة والإعلاميّة والأيديولوجيّة.

تؤكد مسلماتنا لنا أنَّ هؤلاء فقط هم الفاعلون السياسيّون، أمّا باقي أفراد المجتمع ومكوناته وجماعاته إلخ، فهم ليسوا فاعلين سياسيّين ولا يمارسون سلطةً إطلاقاً. إذن فهؤلاء منفعلون فقط بممارسة فعل أولئك الفاعلين عليهم بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.

وعلى العكس أيضاً، توسّع هذا المفهوم في التضمن، فصار يضم صفات أساسيّة كثيرة، وصفات ثانويّة كثيرة أيضاً، كالولاء والطاعة ومرادفاتها. فبتنا أمام مخلوطة غير مفهومة في المفهوم، الشيء الذي ينافي ويلغي وظيفة المفهوم من جذورها.

وحتى نخرج من هذه المخلوطة «المفهوميّة»، نحدّد مضمون مفهوم الفاعل السياسيّ الآن وهنا، بممارسة السلطة وبممارسة مقاومة السلطة، أو بكليهما معاً. ولنقُلْ بدايةً إنَّ الفاعل السياسيّ يتجسد في ممارسة السلطة/المقاومة في آنٍ كممارسةٍ للقوّة، باعتبار أنَّ السلطة/المقاومة منتشرة ومبثوثة في كلّ مكان وزمان عبر النسيج الاجتماعيّ والسيرورة التاريخيّة، وليست مُركزة في مكانٍ محدّد أو زمانٍ محدّد.

ومثل هذا التحدّيد يتناقض مع مسلماتنا السائدة عن السُلطة والفاعل السياسيّ؛ مسلماتنا التي تُسلِّم بأمرين اثنين في هذا الصدد على الأقل: الأول هو التسليم بثنائية حاكم/محكوم؛ فيها الحاكم هو الفاعل والمحكوم هو المنفعل. أمّا الثاني فهو التسلّيم بمرْكزة السلطة في «الأشياء الكبيرة»، من عيار الدولة والرئيس والحزب والطبقة.. إلخ، والسخرية من فاعلين «صغار» ومنثورين يقاومون السلطة ومركَزَتَها.

فالحاكم في المسلمة الأولى ليس محكوماً أبداً، والمحكوم ليس حاكماً على الإطلاق. الحاكم «يمتلك» السلطة بينما المحكوم «لايمتلكها». إنَّها ثنائية «مانوية» تضع السلطة في جانب وتترك الطرف الآخر بدونها، فلا تأبه للعلاقة الواقعيّة بينهما بوصفها علاقةً باتجاهين. وهذا يعني ممارسة القوّة من طرفٍ على طرفٍ آخر، وممارسة المقاومة من قبِل الطرف الذي تُمارس عليه السلطة بآن.

والمرْكَزة في المسلمة الثانية كما ثنائية الحاكم/المحكوم في الأولى، كلتاهما تُمثِّلان معرفةً أُخذت من منظور عالٍ وعامّ، وكأنها معرفة تَنظُر إلى السلطة بعين طائر مُحلِّقٍ في السماء، فتمسح الأرض بشكلٍ «جشطالتي» لا ترى فيها التفاصيل. فالمركزة تُركِّز السلطة في الدولة ومؤسساتها قانونياً وحقوقياً بواسطة مفهومي السيادة والشرعيّة، وهي بهذه المركزة لا ترى سوى ممارسة سلطة المؤسسات والأماكن المحدّدة والشخصيات الفاعلة: كالرئيس والعلاقة الهرميّة بالسلطة التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة والإعلاميّة، فتُهمِل بمرْكزتها هذه لامركزيّة السلطة المبثوثة في «كل شيء» من جهة، وتُهمِل مقاومة السلطة الملازمة والمحايثة لكلّ ممارسة سلطويّة من جهة ثانية.

والواقع أنَّه لا توجد علاقات للقوة أو ممارسة للسلطة دون مقاومات حقيقيّة وفعّالة لهذه القوّة أو هذه السلطة؛ لأنَّ المقاومات تتشكل بالضبط في تلك النقاط التي تُمارَسُ علاقات القوة عندها. ولذلك تتسم نقاط الصراع والتفاوت والنفي بين السلطة وبين مقاومتها بأنها عريضة جداً ومنتشرة؛ فهي ليست محصورةً داخل حدود جغرافيّة أو تاريخيّة أو إثنيّة لبلد ما، لأنَّ هذه النقاط بنت الحياة ومنها.

ومقاومة السلطة بهذا الشكل تكون فوريّة ومباشرة وتبحث عن العدو القريب، وليس العدو الرئيسي.  ولا تسعى مثل هذه المقاومة لإيجاد حلول عن طريق المشاريع الكبرى واليوتوبية، وتثير نقاط الصراع والتفاوت والنفي القائمة تساؤلاتٍ حول هوية الأفراد المحكومين بعلاقات القوّة وممارسة السلطة/المقاومة. وذلك من خلال توجيه الهجوم صوب كل ما يربط هؤلاء الأفراد بالهويّات المقيدة لهم، والتأكيد على حقهم في أنْ يكونوا مختلفين وفاعلين. وهذا يجعل نقاط المقاومة والاحتكاك تتكاثر وتتوغّل في الكيانات الاجتماعية والوحدات الفرديّة ونمط علاقات القوة الحاكمة لها، ويجعل كذلك من الثورة أمراً ممكناً؛ فليست الثورة سوى نمط مختلف لعلاقات القوّة عن ذلك النمط الخاص بالنظام «الرعويّ الإرهابيّ».

لقد كان الفاعل السياسيّ قديماً هو الملك-الإله، ثم توسّع الفاعل السياسيّ وتجسّد في الملك-اللويثان أساساً أو «الغول» الذي قال به «هوبز»: (الذئب الأكبر الذي يضبط جميع الذئاب الصغار والآخرين ليوقف حرب الجميع ضد الجميع، ومن ثم يطرد العنف والحرب خارج حدود مملكته إلى المجتمع الدوليّ). ومن ثم تجسد في الدولة ومؤسّساتها بشكل كبير، وبالبروليتاريا كطبقة أو كنقابات، ومؤسسات المجتمع المدنيّ وجماعات الضغط (اللوبي) والشركات الضخمة وأصحاب رأس المال والجماهير والطلاب والنسويّة.

أمّا الآن فقد برز الشعب كفاعل سياسيّ، ينطوي على قوة كامنة تُمارس الشرعيّة والتفويض بوصفها مصدراً لهما. وبرزت «سلطة من لا سلطة لهم» كالمهمّشين ومؤسّسات المجتمع المدنيّ، و«المجتمع الأهليّ» كفاعل سياسيّ يعتمد الحسنة والاكتفاء الذاتي والفزعة، والفاعل السياسيّ «الفرديّ» في مقاومته الموضعيّة للسلطة محلياً، والفاعل السياسيّ «الافتراضيّ» على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وأيضاً برز الفاعل السياسيّ على مستوى عالميّ كالتنظيمات الإرهابيّة والشركات متعدّية الجنسيات. وجميع هؤلاء هم فاعل المستقبل السياسيّ، وليس «موت» الفاعل السياسيّ -كما علّمتنا حقبة «ما بعد الحداثة» عن موت الإنسان وموت المؤلف وموت التاريخ وموت الإيديولوجيا- إلّا موتاً لتصوراتنا السائدة عن الفاعل السياسيّ من جهة، وولادة فاعلٍ سياسيٍّ جديد مُحايث وليس مفارقاً يرفضه موروثنا المعرفيّ ويعانده، ولا تسمح لنا مسلماتنا عن الفاعل السياسيّ برؤيته والمراهنة عليه من جهة ثانيّة.

وهنا بالذات خَلُص ميشيل فوكو من «حفره المعرفيّ»، ولاسيّما في كتابه «إرادة المعرفة» إلى إبراز عدة مسلّمات معرفيّة تُقزِّم رؤيتنا للسلطة وتُسطّحها، فنعيد إنتاج ممارسة السلطة بدلاً من مقاومتها وزحزحتها وإثخانها بالجروح والندوب.

وهكذا يتوسّع مفهوم الفاعل السياسيّ ليشمل فاعلين سلطويّين يمارسون علاقة القوّة بواسطة الضبط والمراقبة إضافة للقتل والتعذيب، ويبرز فاعلون سياسيّون يقاومون الفاعلين السلطويّين وسلطتهم المنتشرة أفقياً وعمودياً.

ومن المسلمات التي نقدها فوكو: مرْكزة السلطة بدلاً من لا مرْكزتها، رؤية السلطة كَمُلكْيّة بدلاً من رؤيتها كاستراتيجيّة ممارسة للقوّة. تبعية السلطة لنمط الإنتاج بوصفها بنية فوقيّة، وبوصفها علاقة علّةٍ بمعلول، بدلاً من رؤية علاقة القوّة المتغيرة مع الزمن بين الاقتصاد وبين السلطة. رؤية علاقة الحاكم بالمحكوم رؤية ماهويّة جوهريّة، تفصل بينهما فصلاً أبدياً دون وصل.

وإذا لخّصنا ما توصّل إليه فوكو، نجد شروطاً تقيّد تفكيرنا وعملنا في موضوع الفاعل السياسيّ، مثلَ أنَّه لا سلطة بدون مقاومة، ولا ملكيّة للسلطة، والسلطة علاقة قوّة متغيرة تُمارَس، وعدم قابلية السلطة للمركزة وانتشارها في كلّ مكان ولا مكان في آن.

وبالفعل فقد رسخّت رؤية السلطة «من علٍ» (من منظور عين الطائر) عدة مسلّمات في معرفتنا بالسلطة، تَحصُر وتُمركِز الفاعل السياسيّ في الدولة ومؤسساتها التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة، في النظام وجيشه وأيدولوجيته، في فرد محدّد كالملك، الخليفة، الأمير، السلطان، الرئيس. فهؤلاء فقط هم الفاعلون السياسيّون، لأنهم «يملكون» السلطة، بينما الآخرون هم مادتهم وموضوعهم.

فباتت الدولة ومؤسساتها صاحبة السلطة، وغالباً بات الرئيس أو الملك هو الكل بالكل، وخُصّت الأحزاب كذلك بشيء من السلطة، وبرزت مؤسّسات المجتمع المدنيّ لاحقاً كلاعب سياسيّ مع جماعات الضغط (اللوبي) والطلاب أيضاً، وقبلها برزت البروليتاريا مع «ماركس والماركسيّة» كلاعبٍ أساسيّ. هؤلاء هم الفاعلون السياسيّون فقط، وغيرهم من أفراد وجماعات وشعوب ومؤسسات.. إلخ، تُمارس عليهم السياسة أو السلطة او علاقات القوّة لا فرق. وما هذه الرؤية إلّا رؤية اختزاليّة للمجتمع، تنـزع منه عمومية السلطة والسياسة بوصفها ممارسةً للقوّة، وبالتالي تنزع عمومية الفاعل السياسيّ وتحصره.

فهل تُرسِّخ الرؤية «من أسفل» (من منظور عين الضفدع) «مسلّمات» جديدة تُرشِدنا في تحديد الفاعل السياسيّ من جديد؟ ولا سيّما أنَّ مثل هذه الرؤية تأتي من موقع لا مركزيّ، ومن زاوية تتبع واقع الحياة الاجتماعيّة في أصغر تفاصيلها من ظواهر شعبيّة وعشوائيّة وهامشيّة وفرديّة وافتراضيّة وأهليّة.. إلخ.

شرطا تحديد الفاعلين السياسيّين الجُدُد

للبحث في الفاعل السياسيّ الجديد الآن وهنا، لا بدّ لنا من تحديد أوليّ لمسألتين بغاية الأهميّة لموضوعنا وهما: تحديد الشروط الابتدائيّة المُعيقة أو المساعِدة في رؤية وخلق فاعلٍ سياسيٍّ جديد، وتحديد طبيعة النظام السوريّ كفاعلٍ سياسيٍّ «وحيد» -كما تقدمه مسلّماتنا- حاولَ جاهداً بلعمة جميع الفاعلين التقليديّين في سلطته ولكنه فشل، بدليل بروز فاعلين جدد.

ففي تحديد النظام السوريّ القائم الآن وهنا وللخروج من الاختلاط، أرى أنَّه «نظام رعويّ إرهابيّ» يُمارس سلطته كعلاقة قوّة على السوريّين. ومن خلال نقاط الاحتكاك بينه وبين السوريّين، انبثقت ثورة السوريّين عليه بخلقها فاعلين سياسيّين جدد انتشرت مقاومتهم لسلطةٍ منتشرة.

فقد كَثُرت توصيفات وتحديدات «النظام السوريّ»، ولاسيّما في السنوات الخمس الماضية. ومن هذه التوصيفات أنَّه نظام استبداديّ دكتاتوريّ قمعيّ، شموليّ أو مابعد شموليّ، طائفيّ، عصابة، طغمة، عميل وخائن، إرهابيّ أو مُفرِّخ للإرهاب أو مُوظِّف للإرهاب أو جاذب للإرهاب أو داعم ومموِّل له. نازيّ شوفينيّ ستالينيّ فاشيّ، ينتمي لمحور الشرّ، همجيّ.. إلخ. وبالمقابل نظام مقاوم ممانع، قلب العروبة النابض.. إلخ.

والحق يقال، إنَّه من الصعب بمكان جمع هذه الصفات وإحصائها وتصنيف الغايات من وراءها على خلفية النسبيّة وحالة اللاتفاضل التي نعيشها في ظل الفوضى. ومن هذه التوصيفات توصيفات سياسيّة معارضة ومنها سياسيّة موالية، ومنها توصيفات إقليميّة ودوليّة. ومنها توصيفات «علميّة» مستمدة من علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد إلى آخر ما هنالك من أيديولوجيات ومن توصيفات.

والحال أنَّه «نظام رعويّ إرهابيّ»، وهذا لا ينفي عنه الصفات سابقة الذكر التي أطلقت بمناسبات مختلفة، بل يحتضنها ويزيد عليها:

فهو «نظام» لأنَّه يخضع لمنطق داخليّ يحكمه وينظم العلاقات فيه، منطقٌ قوامه «مبادئ» وآليات قابلة للوصف والتحليل. منطق يخترق المجتمع السوريّ ككلّ، ويكون عاملاً من عوامل تشكيله. فيه السلطة شخصيّة ولا شخصيّة في آن، بالرغم من ارتباطها بشخص الرئيس كما هو ظاهرٌ للعيان. يجتذب الأفراد بشكل جهنّمي يصبحون معه وكلاء لحركته الذاتيّة التلقائية، وأدوات بائسة للذات الاجتماعيّة الكليّة. ويجري مستوى الصراع بين الحاكمين وبين المحكومين واقعياً عبر كل شخص؛ لأنّ كل فرد يصبح ضحية للنظام وداعماً له معاً. فهو ليس مجرد نظام اجتماعيّ تفرضه مجموعة على أخرى بالمعنى التقليديّ، بل يتعدّى ذلك ليمارس السلطة بتوحّش واعتباط محوِّراً كل مفردات المقاومة التي تقوِّض سلطته، إلى ذاته؛ وذلك بنزعها من أفراد وجماعات وتنظيمات المجتمع السوريّ، وكأنها روح للنظام ومن آلياته وليست مقاومة له بحال من الأحوال. وبوعي هذه المفارقة ينفتح المجال السياسيّ على «سلطة من لا سلطة لهم» لرؤيتها وتقويمها، وذلك بفحص طبيعة السلطة/المقاومة في الأحوال التي يعمل بها هؤلاء الناس الذين لا سلطة لهم كما حددها «فاتسلاف هافل» من قبل.

وهو «رعويّ»؛ لأنَّه يحمل في دهاليزه تصوراً رعوياً يجعل من رئيسه «راعياً» يرعى القطيع من الغنم أو الرعيّة؛ فيشرف ويسهر على خروجها للمرعى وعودتها للزريبة، ويتابع كل شاردة وواردة عن كلّ فرد من الرعيّة، مساهماً في تعميق تصور المجتمع لنفسه بوصفه مجتمعاً/طفلاً قاصراً يحتاج الرعاية والاهتمام بشكل دائم. وفي هذه الرعاية ممارسة سلطويّة إيجابيّة، تتمثّل في توفير الخدمات والأمن والتقاضي والتأمين الصحيّ والاجتماعيّ والتعليم كمنحة من هذا النظام. إنَّه نظام يُمارس سلطته على البشر/الرعيّة بوصفهم قطيعاً، ويمارس سلطته على الأرض بوصفها ملكاً حصرياً له. حتى سادت النتيجة المتوخاة من رعويّة النظام كمسلّمة مفادها: باختفاء الراعي يتشتّت شمل الرعيّة، فالحضور المباشر للراعي يجعل القطيع موحّداً. وبهذا نكون إزاء تكريس النزعة التفريديّة، وفي الوقت نفسه ممارسة هيمنة كليّة شاملة تجميعيّة، وهذا ما وصفه ميشيل فوكو بأنَّه «منطق التفريّد والتجميّع»!

وهو إرهابيّ؛ لأنَّه نتيجة حرب على المجتمع أساساً ويمارس الحرب حتى اللحظة، لا نتيجة «تعاقد» موهوم وشرعيّة زائفة كما تصوره بعض الدراسات. فقام وما زال بإرهاب السوريّين واللبنانيّين والفلسطينيّين والعراقيّين على مدار عقود، وأخيراً اعتدى على السوريّين بكافة صنوف الأسلحة واستدعى قوى خارجيّة تقوِّض مقولتي «السيادة والشرعيّة» الوهميّتين اللتين استخدمهما كأيديولوجيا إرهابيّة، يرهب بها السوريّين ويبتزّهم. وقد ساهم بتمويل وتصنيع ودعم الجماعات والتنظيمات الإرهابية في المنطقة، ناهيك عن الأفراد، وقام بأفعال إرهابية خارج الحدود في الأردن والعراق وتركيا ولبنان. فهل ثمة قطيعة إبستمولوجيّة جذريّة بين النظام الرعويّ الإرهابيّ وبين النقد الموجّه له؟! وهذه مهمة ملقاة على عاتق الفاعلين الجدد، مهمة إنجاز هذه القطيعة وممارستها لفتح مجالٍ سياسيّ ومخيالٍ اجتماعيّ جديدين.

أمّا في تحديد الشرط الثاني الذي يكمن في تحديد الشروط الابتدائيّة، ونقد سذاجة تعليقها، فهناك شروط ابتدائيّة لا منتهية تحكم الفكر كما تحكم العمل. وكل فكرٍ وعملٍ لا يراعي الشروط الابتدائيّة مآله السقوط والإرهاب. ومعرفة جميع الشروط الابتدائيّة مستحيل لأنها غير منتهية. ويبقى أمامنا معرفة بعض منها، ونوعية المعرفة التي نحصّلها والتي تقلّ أو تكثر حسب الحالة الناطقة بذاتها. ووظيفة الذكاء هنا هي الالتفاف والاحتيال على لا نهائية الشروط الابتدائية، بينما وظيفة الغباء هي عدم الاعتراف بها وعدم التفكير من خلالها وإهمالها، أي تعليق الشروط الابتدائية والتفكير في الفراغ، كالرسم على بياضٍ بدون حدود، وكأنه لا شيء يعيق رغباتنا وعملنا، ولا شيء يتفاعل معها واقعياً.

ومن الشروط الابتدائيّة للتفكير وللعمل الآن وهنا: الفوضى، التدّخل الدوليّ والإقليميّ، انعدام القطبيّة الدوليّة، النظام الرعويّ الإرهابيّ، التنظيمات الإرهابيّة الوصائيّة. فلا تفكير مثمر بفاعل سياسيّ، دون الاعتراف بالتدّخل الدوليّ والإقليميّ كشرط ابتدائيّ واقعيّ. وكل الأفكار التي تقول إنه لولا التدّخل لكانت ثورتنا بألف خير هي مجرد لغو. وبدون أخذ الفوضى في الحسبان لا نصل إلى نتيجة في تفكيرنا وعملنا، ولاسيّما أنَّ الفوضى فتحت مجالاً للتنظيمات الإرهابيّة الوصائيّة للتمدد والحصول على السلاح والثروة وإنشاء «هيئات شرعيّة» للقضاء و«إدارة التوحش» من جهة، ومن جهة أخرى حجّمت النظام الرعوي الإرهابيّ من حيث احتكاره للقوّة وللثروة وللمعرفة وللحقّ، في حين كانت هذه الاحتكارات سنده في رعويّته وإرهابه وهرميّته. ومع الاتكال على قطبيّة دوليّة مزعومة ومعدومة قياساً على «الحرب الباردة»، سنجد أنفسنا في العراء مكشوفين أكثر من قبل وفي طريقنا إلى «مزبلة التاريخ». وتضييع الوقت في توصيف النظام يجعلنا لا نفهم ما نواجه، ونهمل عامل الوعي الذي قد يكون حاسماً في قضية وجودنا.

وبكلامٍ آخر، فإننا نعيش بعض الانتقالات: فمن «الإدارة المحليّة» الرعويّة إلى «إدارة التوحش»، ينهض الفاعلون السياسيّون الجدد بـ«الإدارة الذاتيّة». ومن تصور اللاتدخّل المثاليّ، إلى كثرة التدخلات وتشابكها، يعاني الفاعلون الجدد آثار التدخل ويقاومونه. ومن الحلّ بيد المجتمع الدوليّ إلى الحلّ بيد الشعب السوريّ، يبرز توزعُ الحلّ بين جميع الفاعلين، ويبرز أخيراً الوعي عند الفاعلين الجدد بما يواجهون دون أوهام.

إذا ما نظرنا إلى الشروط الابتدائية، وإلى تحديدات النظام، للتفكير في فاعل سياسيّ جديد، نجد الرأي المدرسيّ يخبرنا بأننا عاجزون بشكلٍ مطلقٍ عن الفعل أمام مثل هذه القوى الكبرى. أجل، نحن عاجزون، ولكن ليس بشكل مطلق، وهذا يعني أنَّه ثمة أملاً في بروز فاعلين سياسيّين جدد.

رغم هذا كلّه وغيره، ثمة سياسةٌ لأنّه ثمة حياة. وربط السياسة بالحالات السياسيّة المرحليّة مقتل للسياسة. توجد سياسة أجل، تتراجع نعم، ولا أقول إن أثرها معدوم، بل إنه يسعى إلى العدم ولكنه لايصل. أمّا القول بعدم وجود سياسة بالمطلق، فهذا مُحالٌ نظريّ وعمليّ. ولنلاحظ أنَّ كل محاولات نزع السياسة من المجتمع وإعدامها لم تصلْ لمرادها، ذهبت هذه المحاولات وبقيت السياسة.

إنَّ تقويض ونقد مسلماتنا القديمة يساعدنا على رؤيةٍ مختلفةٍ للأمور، لدينا مشكلة في تصوراتنا، في تمثيلاتنا، في إعادة إحضارنا للواقع إلى الفكر (Representation). وبتجاوز هذه المشكلة يمكننا أنْ نفتح الواقع المقفل أمامنا، وأنْ نقف إزاء رؤية «ماديّة» تسدّه، ورؤية «وضعيّة» تُصنِّمه، ورؤية «تكنوقراطية» تخصّصه، لتُترَكَ الجموعُ من البشر والأفراد خارج الموضوع، فيتحولوا إلى مادة لا شكل لها، مادة للعبث بها حسب الأهواء.

طالما السياسة باقية في مختلف الشروط الابتدائية، فأين هي الآن وهنا؟! لاشكّ أنها متراجعة عند النظام الرعويّ الإرهابيّ كما هي متراجعة عند التشكيلات المعارضة، ولكنها قائمة في الحياة نفسها في مقاومة الموت والرعب والدمار. قائمةٌ عند الثوار والمقاومين واللاجئين والمنكوبين والمحاصرين، وقائمةٌ عند من يحتضنهم. لكنها قائمةٌ بدون مشروع كليّ أو يوتوبيا، وبشكل بؤريّ وفوريّ، وبدون تنظيم هرميّ وبشكل لامركزيّ. قائمةٌ في الفعل المنتهي والمباشر دون تراكمٍ ودون هذا الذي سماه ياسين الحافظ «وعياً تاريخياً وكونيّاً ومطابقاً»، قائمةٌ في «سلطة من لا سلطة لهم» ومقاومتهم.

الرهان إذن، أو رهاني على أي حال، هو على هؤلاء المبعثرين المقاومين، وهو أكبر من رهاني على الائتلافات والمنظمات والأحزاب والدولة. ففي حالتنا السوريّة بات من يوفر الحدّ الأدنى من الأمن والحدّ الأدنى من الطعام فاعلاً سياسياً بامتياز، بل يمكن القول إنَّه يقود المرحلة جزئياً وضمن حدوده وشروطه الابتدائية. وهذ تشجيع لـ«الإدارة الذاتيّة» في مجال الخدمات والأمن المحليّ وتوفير الطعام والتقاضي، فالإدارة الذاتيّة تعمل على تقويض رعوية النظام والشروع في الاعتماد على الذات، كما تعمل على تقويض «إدارة التوحش». واعتماد بث السلطة وانتشارها في كل مكان وعدم مركزتها، يساعد في تقويض إرهاب النظام بنزع حصرية الفاعل السياسيّ منه وتعميمها. وإعادة تطبيع الفوضى (Renormalization) لتقويض هرميّة النظام و«نظاميّته»، بعد ما قوّضت احتكاره للقوة والعنف والحقيقة والمعرفة وللثروة والشرعيّة. من هذا يبرز الجديد ويبرز الفاعلون الجدد.

بمثابة خاتمة

لنلاحظ جيداً كيف تشاركت معرفتنا بالسُلطة والفاعل السياسيّ مجموعة من المُسلّمات «التقليديّة»، تؤسس للمسلمتين اللتين تكلمنا عنهما في البداية: القول إنَّ المقاومات الطفيفة العابرة كـ«أثر الفراشة»، لا تؤثر في الصورة الكبيرة لمقاومة السلطة، وإنَّ المقاومة الفعليّة والحقيقيّة والمؤثِّرة تأتي فقط من الفاعلين السياسيّين التقليديّين من وزن فاعلي الحروب والثورات والتدخل الخارجيّ والأحزاب والبروليتاريا.. إلخ، وإنَّ المقاومات اليوميّة والموضعيّة على المستوى الصغير هي محض اضطراب غير مثير للاهتمام المعرفيّ!

ولكن، إذا افترضنا تناسباً بين المستوى الصغير لتوزع السلطة وانتشارها، وبين المستوى الكبير والـمُركّز لها، نجدُ أنْ كل تقلّب في العلاقة بين المستويين هو عشوائي وغير متوقع، ويظهر وكأنَّ المستوى الكبير يهيمن على المستوى الصغير. ولكن هذا التقلّب يُبقي نسق التقلّبات ثابتاً بين المستويين؛ أي أنَّ درجة التغير تبقى ثابتة! فتتناسب ممارسة المقاومة من قبل مقاومين جدد في الأمور الصغيرة، مع ممارسة السلطة من قبل الفاعلين السياسيّين بالمعنى التقليدي في الأمور الكبيرة، فمعقولية المستوى الكبير ترتكز على عشوائية المستوى الصغير. ولهذا يجب ويمكن رؤية المستوى الصغير والبناء عليه.

إذن ينبغي «قطع رأس الخليفة» كنموذج معرفيّ سائد عن الفاعل السياسيّ، وكذلك نزع السياسة من ثنائية حاكم/محكوم الوجوديّة، والانتقال بها إلى منطقة الوصل ذهاباً وإياباً كمنطقة واقعيّة يتمّ التعرف إليها تفصيلياً. ورؤية انتشار السلطة وعدم مرْكزتها. الشيء الذي يساعدنا على رؤية سلطة المحكوم ومقاومته، ورؤية طاعةٍ ما عند الحاكم، ورؤية سلطة كامنة في مْن لا سُلطة لهم، وأخيراً التفاعل مع انبثاق فاعلين جدد.