إلى جلالة الملكة إليزابيث الثانية:

أعتذرُ عن كتابة رسالة علنية إليك ونشرها على العموم، ولكنني أودُّ أن أطلب مساعدتك في الحصول على تأشيرة دخول إلى أراضي مملكتك، ومن المستحيل الحصول على تأشيرة في هذه الأيام لمن يحملون وثيقة سفر سورية.

أودُّ أن أكون واضحاً منذ البداية، أنا لا أحب كتابة رسائل علنية إلى قادة الدول؛ ولكنني تشجعت بسبب زملائي في المهنة اللذين كتبوا مثل هذه الرسائل، بالرغم من أن نتائجها كانت صفراً.

لست أول كاتب سوري يكتب رسالة إلى أحد القادة في الصحف، يا جلالة الملكة. الشاعر الكبير أدونيس كتب رسالة إلى سيادة الرئيس السوري «المنتخب»، كما وصفه، بشار الأسد، في بداية الثورة، حاثاً إياه على تقديم بعض الإصلاحات، مؤمناً بأن الرجل لا يريد الخراب لسوريا. لم يوضّح الشاعر ما الذي يريده من الرئيس بالضبط، أي لم يكن هناك خطواتٌ عمليةٌ واضحة، ولكنه تمنى عليه، كما يتمنى صديقٌ على صديق، أن يفعل شيئاً ما.

بالطبع، لم يفعل الرئيس ما أراده الشاعر، أميلُ إلى أن الرئيس لم يقرأ رسالة الشاعر، لأنه لو قرأها، لكان بالطبع استمعَ إلى صوت الضمير. لا يحتاجُ هذا الأمر إلى نقاش، وإلا، إن لم يكن الأمر كذلك، هل تعتقدين ان شاعراً بحجم أدونيس سيحرج نفسه بكتابة هذه الرسالة؟

أيضاً، الكاتب السوري الكبير جورج طرابيشي كتبَ رسالة إلى باراك أوباما، في بداية الثورة، حاثاً إياه على إيجاد حل للحرب السورية. ولكن طرابيشي أخبث من أدونيس، يا سيدتي. نشر الرجل مقالةً فيها رسالة كان يود ان يكتبها إلى أوباما، ولكنه لم يكتبها. بالمناسبة، هل التقيتِ أوباما يوماً، يا سيدتي؟ يبدو لي رجلاً طيباً على العموم، وأنا سعيدٌ جداً بوصوله إلى رئاسة أمريكا. خفّفَ الاحتقان الناتج عن حماقات سلفه، وقدّم بعض الضمانات الصحية، وزارَ كوبا، إلا أنه لم يساعد السوريين. لا أحد ساعد السوريين في محنتهم هذه. فلنعد إلى طرابيشي يا سيدتي. قال الرجل إنه سينشر الرسالة التي كان يريد كتابتها إلى أوباما ولكنه لم يكتبها. الرسالة تناشد المشاعر الطيبة لأوباما، لإنقاذ سوريا من براثن الحرب الأهلية القادمة. تضحكين يا سيدتي؟ أي والله، هذا كان مضمون الرسالة! فكَّرَ طرابيشي بينه وبين نفسه: سوريا على شفا حرب أهلية طاحنة، وأنا، المثقف العلماني التنويري، يجبُ أن يكون لي دور خاص في إنقاذ سوريا. ما الذي أفعله؟ هل أشارك في الثورة؟ هل أذهب إلى الناس؟ إلى الصنمين؟ إلى سقبا؟ إلى منبج؟ هل أكون جزءاً من هذه المعمعة التي ستغيّر وجه سوريا؟ أم هل أكتبُ رسالةً إلى سيد البيت الأبيض، وأتوجّه إليه كما فعَلَت معظم قيادات المعارضة السورية التقليدية، أسأله فيها أن يساعد هؤلاء المساكين؟ الجواب واضحٌ بالنسبة لهذا التنويري العلماني: فلنكتب رسالةً إلى السلطة، ولندع الشعب الجاهل يجرّب قليلاً درب الخراب.

سيدتي، أنا لست كأدونيس وطرابيشي، أنا لا أعتقد أن الديمقراطية الموعودة تأتي بالتذلل إلى أصحاب السلطة، سواء كان صاحب السلطة هو الطاغي المحلي أم الحاكم الغربي. إن كان لي أن أكتب لحاكمٍ، أتمنى أن أكتب مثل الروائي الفرنسي إميل زولا: «أنا أتهم». يا الله، العنوان لوحده تحفة! هذه رسالة مثقفٍ يمتلئ بالعنفوان والقوة والعزيمة والبأس: أنا أتهم الجيش الفرنسي، الشرطة الفرنسية، القضاء الفرنسي، الصحافة الفرنسية، مسمياً بالاسم المجرمين اللذين اعتدوا على الحريات الخاصة، وزوّروا وثائق رسيمة لتأجيج سُعار عنصريةٍ همجيةٍ تخدم السلطان وأصحابه. يقف زولا ليشهّر بفعلة السلطة الحقيرة في جعل أحد المواطنين، اليهودي دريفوس، يدفع ثمن عنصرية البلد والمجتمع وأساطيرهم القومية والمسيحية. دافع الرجل بشجاعة عن دريفوس، اليهودي الفرنسي الذي اتُهم ظلماً وبهتاناً بالتجسس لصالح ألمانيا، وتحولت قضيته إلى قضية رأي عام في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، قضية رأيٍ عامٍ تحمل في طياتها كل قذارات وسفالات السلطة. هكذا تكون الرسائل يا جلالة الملكة، لا الكلمات اللاهية الناعمة المستجدية للمذكورين أعلاه. وأنا يا سيدتي لست ضد الالتقاء بأهل السلطة، فليلتقي بهم السياسيون ما أردوا، ولكني لا أعتقد أن دور المثقف هو التذلل لأهل السلطة. لا يتوجه إلى أصحاب السلطة من المثقفين طالبين مساعدتهم في تحسين الأمور إلا من يتمسّح بالسلطة، كما هو حال مجموعة المثقفين المصريين التي التقت عبد الفتاح السيسي مؤخراً، أو كما في الرسالة التي وجهتها فاطمة ناعوت إليه شاكرةً إياه على مواقفه الشجاعة ودعمه للتنوير. كل أولئك، يا سيدتي، عبيد السلطان، وسدنة الظلام. الديمقراطية والتنوير يأتيان فقط من الناس العاديين، من السوريين اللذين يعيشون تحت الحصار في الغوطتين، في حلب، من الناس التي تعيش الأمرّين في الرقة ودير الزور، من مخيمات اللجوء. ولكن، هل تفهمين ما أقصده؟ أعني، ربما لم تُتَح لك الفرصة يوماً للانخراط في حركةٍ شعبيةٍ تسعى إلى تغيير بنية السلطة؛ لذا، ربما لا توافقين على ما أقول.

على أي حال، أنا، على العكس من هؤلاء، لا أدعوك إلى إنقاذ سوريا من مآسيها. إن أردتُ ذلك، سأتوجّه برسالة إلى الشعب الإنكليزي، محاولاً شرح ما يحدث في سوريا، لا إلى السلطة في إنكلترا. أسألك في هذه الرسالة فقط شيئاً شخصياً جداً: فيزا لزيارة لندن. سأحدّثك عن نفسي وعن مشاكلي، علّ قلبك يرق لي وترسلين تأشيرة الدخول، أطال الله في عمرك وفي عمر أحبابك. لا أريد أن أجعل الأمور تبدو أسوأ مما هي: في حالات استثنائية جداً، دخل بعض السوريين أراضي المملكة، على العكس من دول أقرب، كمصر والأردن، حيث لن نحصل على فيزا مهما كانت الأسباب.

أريد أن أُطمئنك يا سيدتي، لن أطلب اللجوء في بريطانيا، لأنني أعيش الآن في الدنمارك، تحت حمى الملكة المبجّلة مارغريت. هل تعرفين الملكة مارغريت؟ هي امرأةٌ لطيفة جداً، وقريبة من الناس. لا أقصد أنك لست قريبة من رعاياك، معاذ الله. أنت الأقرب والأطيب، يا سيدتي. ولكنني أقول إنني أعيش في بلدٍ أوروبي، ولست بحاجة إلى لجوء في بلد آخر.

حياتي في كوبنهاغن سهلة، يا سيدتي. الدنماركيون على العموم مهذبون؛ واعذريني إن قلت، أكثر تهذيباً من رعاياك الإنكليز. كما أنهم طوال القامة، ونظيفون على الدوام. عنصريون؟ ربما! أعني أنني لم أحتكَّ بهم بعد. أيضاً لم أحتكَّ كثيراً برعاياك في بريطانيا. تعرفين كيف تجري الأمور، عندما تكون جديداً في البلد، وغريباً ومرتبكاً وخائفاً، لا تُصادق إلا الغرباء أمثالك. ولكن هناك ما هو مشتركٌ بين بريطانيا والدنمارك، إن سمحتِ لي بأن أبدي ملاحظة عن علاقة رعاياك بعائلتك الملكية: في كلا البلدين، يتمسّك الناس بالعائلة الحاكمة. بالنسبة لشابٍ ثوريٍ استقى آماله ورؤاه وقيمه من مشروع تحرري اشتراكي يساوي بين الناس جميعاً، أشعرُ بأن هذه المحبة لا عقلانية، ومخيفة. أستميحك عذراً، لا أقصد بأنك غير محببة. لا لا، ليس الأمر عن شخصك الكريم، بل عن مفهوم الحكم نفسه. تملكُ العائلات الحاكمة في الممالك الوراثية أمولاً وأراضٍ لا حدود لها، أليس غريباً هذا الأمر، وهل يستقيم مع المساواة بين الناس؟

كنتُ أريد أن أمزح حول انتقالي للعيش في أراضي ملكة الدنمارك المعظّمة، الحجّة مارغريت، ولكنني غيّرت رأيي في اللحظة الأخيرة. المزحة كانت هي أنك ستغارين إن عرفت أنني أعيش في حماها؛ ولكنني تنبّهت إلى أنها مزحةٌ ذكورية. كل مزحةٍ عن الغيرة بين النسوان هي مزحةٌ ذكورية تافهة. أنا يا سيدتي أدعم الحركة النسوية بكل قلبي وجوارحي، ولكنني أحياناً أفكر وأمزح بطريقة ذكورية. مهما راقبَ المرءُ نفسه، هناك بعض الأفكار الذكورية التي تبقى مترسبةً في الأعماق. ولكن، بصراحة، أقل بكثير مما تراه النسويات فينا. أنا يا سيدتي لا أخاف من أحد كما أخاف من النسويات، يتهمننا في كل لفتةٍ وتنهيدةٍ بأننا ذكوريون، إن انتقدنا إحداهن لخلافٍ في الرأي، أو إن قرأنا شعراً رومانسياً، أو إن لعبنا الورق مع الأصدقاء في المقهى. صحيحٌ أن معظم الاتهامات للنسويات مغلّفة باتهامات جنسية مقيتة، صحيح، وهذه هي المصيبة الأكبر في النقاش السياسي؛ ولكن، ليس كل الرجال ذكوريين طوال الوقت. النسويات، ككل أصحاب القضايا، من شيوعيين وفلسطينيين ومدافعين عن البيئة ومشجعي ريال مدريد وبرشلونة ومحبّي فيروز ومعجبي محمود درويش، وسوريين اليوم، يدفعون بالقضية إلى حدود الهوس. على صاحب القضية أن يترك لنفسه مساحةً صغيرةً يتنفس فيها خارج قضيته.

بالمناسبة، هل قرأت مقالي همم الفتى الذي كتبته عن إقامتي في أراضيك؟ هل أخبرك خدمك عنه؟ المقال جيد جداً، برأيي المتواضع. فيه محاولةٌ للوصول إلى معنى المنفى من خلال وصف محاولتي وداع عاصمتك وتجوالي فيها، حيث أتأمل في معاني الفن والأسرة والأسْر وأسرار الحياة، وأستحضر أوسكار وايلد وأبو تمام (ذكي، هه؟ واحد من الشرق وواحد من الغرب! وصفة النجاح في عالم اليوم)، وأنتقد الغربيين كما أنتقد الشرقيين، تاركاً شعاعاً من الأمل في الخاتمة. جميل جميل، أعرف. آه، نسيت أن أخبرك: انا كاتب، أعيش من الكتابة. مهنة سيئة يا إليزابيث. سأدعوكِ إليزابيث. لا حاجة إلى بناء هذه الأسوار حول الناس باسم سلطات مختلفة. لا أقصد أن أقلل من احترامك، ولكنني سمعت أنك متفهمة. أنا عدي، وأنت إليزابيث. هكذا، كأي صديقين يلتقيان صدفةً، أو يتعارفان على النت، أو يتبادلان الرسائل دون أن يلتقيا، كما كان يحدث في القرون السابقة.

إذن، أنا كاتب، وهي مهنة لعينة. مادياً، غير مجزية على الإطلاق؛ نفسياً، مرهقة جداً. تشعرُ بأنك تقرأ لأسابيع، وتكتبُ مقالاً لا تتقاضى عليه ما يسد الرمق. لا أعلم إن كنتِ قد وقعتِ يوماً في هذه المعضلة: اختيار مهنةٍ يميل لها قلبك، ولكنها ليست مجزية. من جهة أخرى، الكتاب والفنانون كائنات شديدة الحساسية، وشديدة الكسل، على العموم؛ ينتظرون دائماً المديح على أعمالهم، ولا ينتجون كثيراً، يتسكعون في المقاهي والبارات معظم الوقت، ويعيشون في عوالم مغلقة تقتصرُ على مثقفين يشبهونهم. ومرض المثقفين هذا عام، تجدينه في كل الثقافات وفي كل العصور. على أي حال، أنا اخترتُ الكتابة. حسناً، بصدق، لم أخترها تماماً. الأمر أشبه بما كان العرب قديماً يطلقون عليه شيطان الشعر، أكتب لأنني أشعر بأنني يجب ان أكتب. نشرت مجموعة قصصية العام الماضي، تجاهلها القراء والنقاد والمثقفون. لا بأس. على الكاتب أن يكون صبوراً. يوماً ما، سيكتشف الناس أهميتي، فلنأمل ألا يتأخروا كثيراً، وألا ينتظروا وفاتي. القصص تدور حول حياة الناس العاديين، وليس فيها صراخ أصحاب القضايا الكبرى، ولا مآسيهم المملة. على القاص ألا يكتب نشرة أخبار، لن أقول المزيد عن قصصي، سأترك لك حرية اختيار قراءة المجموعة.

وعلى سيرة الكتّاب، لا أعلم إن سمعت بالمدعو ملاذ الزعبي. هذا أحد أبناء عمومتي، وهم يعدّون بالآلاف، وهو يعيش على أراضي جلالتك. أودُّ أن أطلب منك ألا تخلطي بيني وبينه. حصل هذا الخلط عدة مرات، وأزعجني كثيراً. دعيني أوضّح الصورة لك: ملاذ صحفيٌ ساخرٌ ولمّاح وذكي، ناقدٌ سياسي من الدرجة الأولى، نشيطٌ بشكلٍ ملفت للنظر، يكتب كثيراً، مقالات ومقابلات وتقارير. أما أنا، بصراحة، فلا أحب الكتابة السياسية الساخرة، حيث يتظاهر الكاتب بأنه يكتب شيئاً ساخراً كي يوصل رسالة سياسية عميقة. أنا لست ساخراً على الإطلاق؛ كتابتي على العموم مدرسية مملة، خصوصاً مقالاتي الفكرية؛ مقالاتي الصحفية أقل إثارة للملل؛ أما قصصي فممتازة، بالرغم من أنها مملة قليلاً، ربما. أنا لا أتذمر: أعتقد أن العمل الفكري يجب أن يكون واضحاً ومباشراً وبسيطاً. كما هو الأمر مع أساتذتي، برتراند راسل ونعوم تشومسكي، أُعادي الغموض المقصود وتفاهات التشابيه الشاعرية والمصطلحات المتذاكية. أجل، أنا دقة قديمة: أكره نيتشة وديريدا وجيجيك وأمثالهم؛ أقدّر عالياً فلاسفة التنوير، وخلفاءهم العقلانيين، ككارل بوبر وجون سيرل. أعتقد أنكِ التقيتِ بوبر، عندما حصل على لقب «سير». أليس هذا بالأمر الغريب، يحاضر أحدهم علينا ليل نهار حول العقل، ثم يسعد بحصوله على لقب من سلطة تستمد مصدرها من لا عقلانية عميقة؟ ربما. وعلى سيرة النفاق، هل تعرفين أن دار النشر التي تملك حقوق نشر أعمال برتراند راسل رفضت إعطاءنا، أنا ومروان عدوان، حقوق نشر ترجمة مقالاته، وسحبوا العقد بعد توقيعنا عليه؟ قالوا إن العقوبات على السوريين تشملنا، لأنهم لا يريدون أن يدعموا الإرهاب، أو جيش النظام؛ ونشر مقالاته، إذن، بالعربية في الحرية الدينية والسياسية والعقلانية تصب في مصلحة أحد الطرفين. هكذا يفكر ورثة راسل الإنكليز، يا سيدتي. رحمَ الله برتراند، هذا الرجل الطيب الشجاع، الذي يخونه ورثته باسم الحرب على الإرهاب. ما زال الأمر معلّقاً معهم. ما الذي كنت أقوله؟ أجل، أنا شخص ممل. لا أحب بيكيت على الإطلاق، وكثيرُ التشكك في قيمة جويس. ما الذي أحبه؟ على العموم كتّاب القرن التاسع عشر: تولستوي وفلوبير وموباسان؛ أحب كاوباتا وأكوتوجاوا أيضاً، ونجيب محفوظ وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي. ليس فقط في الثقافة ممل، في حياتي الشخصية أيضاً، أمثّل «كليشيه» الفيلسوف المضجرة. لا أعرفُ كيف أتعامل مع التكنولوجيا، أخافُ من كل وسائل التواصل الاجتماعي، وأخرقٌ بشكل كامل في الأمور العملية، سواء حجز الطائرة أو القطار، أو إصلاح الغسالة أو قبضة الباب.

ما علينا، أريد فقط أن أتأكد من أنك تميّزين بيني وبين المدعو ملاذ. ملاذ مختص بالسخرية السياسية، ويركّز على شخصيات محددة: لؤي حسين ومنى غانم وفراس طلاس ومعاذ الخطيب، وريم تركماني. ربما عليه ألا يقتصر على أولئك، حان الوقت كي يوسّع دائرة أعدائه. هل تعرفين ريم؟ ريم تعيش في أراضيك، أيضاً. وريم، يا إليزابيث، كما يقول المدعو ملاذ، «تريد دوراً». ريم تجول في العواصم العالمية، وتلتقي وزراء خارجية ومسؤولين كثر، وتلتقي الأخ دي مستورا. كل أبناء المنظمات غير الحكومية وقادة المعارضة السياسية وغير السياسية والموالاة وأنصاف المثقفين التقوا دي مستورا. صدّقي أو لا تصدّقي: دي مستورا هذا التقى بكل السوريين وتجاهلني: أنا، وأعوذ بالله من كلمة أنا، الحاصل على دكتوراه في فلسفة اللغة من أراضي حضرتك، أنا القاص والمترجم والصحفي، يتجاهلني أنا، ليلتقي بهؤلاء!

وجزءٌ من هؤلاء المثقفين يؤمن بأن لهم دوراً مميزاً في مستقبل سوريا، وإننا يجب أن نكون صوت العقل. صوت العقل هو شعار التيار الثالث، وكل الجبناء في سوريا الحزينة. على أن هذا الكلام لا صلة له بالعقل. أولاً، لا يوجد فرق في المعركة من أجل الحرية بين المثقفين وغير المثقفين، هذا تمييز وهمي يرسمه «البيض السوريون» كما يسميهم ياسين الحاج صالح. صوت العقل لا يعني أن نكون أقرب إلى الحياد في معركتنا مع الطغاة. العقل، كما يقول راسل، مستلهماً ديفيد هيوم، الإسكتلندي الذي عاش تحت رحمة أجدادك العظماء، لا يزوّدنا بالقيم الأخلاقية، بل فقط يخبرنا بالوسيلة، لا بالهدف. ربما يجب أن يشتري هؤلاء المثقفون نسخةً من ترجمتي لمقالات راسل، علهم يستفيدون قليلاً، ويرحمون أهالينا من كلامهم الدائم عن صوت العقل، ويفكرون قليلاً في الفارق بين الجبن، والحياد الأخلاقي، والعقل. على من يدّعي أنه صوت العقل أن يعرف أنه من المخجل أن يلتقي المرء بدي مستورا أو هيلاري كلينتون أو وزراء الخارجية والداخلية العرب والأجانب: التغيير لا يأتي من التمسّح بالسلطة، بل بتغيير بنية السلطة.

قلتُ إن المدعو ملاذ أحد أبناء عمومتي، وأشرتُ إليه فقط لأنه يعيشُ في أراضيك. الشاب لطيفٌ، وخجولٌ قليلاً. لا يعرفُ كيف يتعامل ببساطة مع الشهرة المستجدة، مثلي. في القريب العاجل سأتعلّم الحيل التي يستخدمها الصحفيون والكتاب، وسأتحول إلى منافق مثقف، لا يهاجم أحداً بوضوح كي يبقي شعرة معاوية قائمة مع مدراء التحرير وكبار الكتاب ممن يملكون مفاتيح الشهرة. على العموم، هذا مصير كل كاتب يريد أن يشتهر.

قلت إن أبناء عمومتي يعدّون بالآلاف، هؤلاء هم عشيرة الزعبي، عشيرة كبيرة جداً، تعيش بين سوريا والأردن ولبنان وفلسطين. أما أنا، يا سيدتي، فمن حوارنة الشام. ولدتُ وعشتُ في دمشق، لا أعرف مدينة غيرها؛ لا أحب، ولا أكره، إلاها؛ المدينة الوحيدة التي أعود إليها في أحلامي. أفتح باب بيتي في «نوريتش»، وأتجه إلى سوبر ماركت «تيسكو» في شارع العابد. مدير المدرسة الثانوية يهددني بالإنكليزية بأنه سيسلّمني لفرع المخابرات الأقرب، حيث يظهر ضابط المخابرات الإنكليزي الذي استجوبني في مطار «هيثرو»، سائلاً عن علاقتي بداعش، أخرج من الفرع-مدرستي الثانوية في مشروع دمر فرحاً، لأتجول في سوق الشام المركزي، مراهقاً نحيلاً لا يثقل كاهله شيء.

هل تعرفين هذا الشعور الغريب يا إليزابيث؟ ألا يكون لك انتماء إلا إلى مدينة لا تقبل بك ابناً لها؟ مئات الألوف مثلي يعيشون في دمشق دون أن تكون مدينتهم: دروز وعلويون وحوارنة وديرية وحماصنة وحموية وأكراد وفلسطينيون وأرمن وشركس وعراقيون ولبنانيون، وغيرهم. نتجمّع في العاصمة التي تغلق علينا الأبواب، ولا تفتحها إلا كي نخرج إلى أصولنا التي لا نعرف شيئاً عنها. تضخّمت المدينة بشكل هستيري منذ الخمسينيات، لتشرب الناس وتمزجهم بلا هوادة؛ وتقذفهم في النهاية بعنف في بلد يغلق هوياته على جماعاته الدينية والإثنية والمناطقية، تاركاً الآلاف خارج السور تائهين.

ما أريد قوله يا ليز، أنني أشعر بأنني شامي. ليس الأمر أنني أنكر الأصل الحوراني، ولكنني ولدت وعشت حياتي في الشام. أقصد أنني حوراني وشامي، في الوقت ذاته؛ إلا أنهم يرفضونني فيها. حتى أصدقائي الشوام، محمد العطار (كاتب مسرحي موهوب، عاش سنة في ربوع أراضيك) وعمار حمودة (زار أراضيك عدة مرات)، يسخرون مني. لا أعرف إن كانوا نصف جادين أم لا. عانى محمد وعمار من مشكلة جواز السفر، هل تعانين منها؟ وهل تسهرين على أن يحصل كل من رعاياك على وثيقة سفر ملائمة؟ رفضت حكومتك إعطاء فيزا لمحمد السنة الماضية أو التي قبلها، حيث كان يود حضور عرضٍ لمسرحيته من تمثيل فرقة إسكتلندية. أجل، هكذا هي الأمور يا إليزابيث.

وحكومتك، يا ليز، ترفض منحنا تأشيرات دخول، حتى لأسبابٍ إنسانية. ابن خالة صديقتي ناندا، سعيد ميرخان، مات في لندن. شاب في الثلاثين من العمر. استسلم قلبه مبكراً، مبكراً جداً يا ليز. رفضت حكومتك الموقرة منح فيزا لأمه وأخته كي تحضرا الدفن. والله! دفنه بعض الأصدقاء في جنازة صغيرة. نموت على هامش المجزرة الكبرى، ولا تسمح حكومات حقوق الإنسان حتى لأمهاتنا بوداعنا. هكذا هي الحياة يا ليز!

لقد عشت ست سنين في أراضيك، ست سنين مليئة بالأفراح والأتراح، كما تقول العرب. اليوم أشعر بالحنين إلى «نوريتش»، بقي جزءٌ مني هناك، على ضفة نهر «وينسم»، يعبث بنظرية الأفعال الكلامية وحيداً بإنكليزية لن تبلغ يوماً الكمال؛ تعلّمت ونضجت ودرّست وتغرّبت وتزوّجت على أراضيك. بمعنىً ما، جانب مني أصبح إنكليزياً. الهوية تتفتّح وتتغيّر وتتقلّب مع التقدم في السن ومع التجارب المختلفة، يا صديقتي. أتمنى لو استطعت زيارة بريطانيا زيارةً قصيرة للاطمئنان على الأصدقاء. لذا، أطلبُ منك مساعدتي في الحصول على الفيزا، كأحد أبنائك المخلصين.

هل سألتِ نفسك يوماً عن هويتك، يا ليز؟ أم أنك عشتِ حياتك كلها مطمئنةً إلى تراث الأجداد؟ ألم تسألي نفسك يوماً عن خياراتك لو لم تكوني ملكة؟ أحياناً أفكر بأن العائلات الملكية، وأبناء الأثرياء، وعائلات الحكام وحاشيتهم، مسجونون في البيت الكبير؛ لا يعرفون كيف يتصرفون خارجه، ولا يجرؤون على العيش مع العامة؛ لا فارق إن كان الحاكم عربياً أم أجنبياً، متديناً أم ملحداً؛ إن كان الثري هندياً أم أوروبياً أم خليجياً. السلطة والمال تشلّ البشر يا ليز. مع الثورة السورية اتّضحَت لنا نذالة العالم الذي يعيش مستقرّاً يورث فيه الآباءُ الأبناءَ المالَ والسلطة، والعجزَ والجبن.

الحزن يا ليز، الحزن هو بالضبط أن يولد المرء دون خيارات، أن يعيش تحت رحمة القدر، صامتاً هادئاً محافظاً، داعياً: «لا تُدخلنا في التجربة».

ولكن ليس الحكام وحدهم من يعيشون بلا أسئلة، الشباب الأوروبي أيضاً. حين أقارن الشباب العربي بالشباب الأوروبي في الدنمارك وإنكلترا وغيرها، أشعر بأسى شديد على الأوروبيين. يعيشون على الهامش حياةً لا روح فيها، يأكلون ويشربون ويلهون، ويرتبكون عندما يروننا: ما الذي تفعلونه في حيواتكم يا أبناء الأسئلة؟ يسألوننا برهبة. غريب أمرهم يا ليز، يتوفر لهم كل ما يحتاجون كي يغيروا الكوكب، ولكنهم يتقاعسون. هل أقسو عليهم؟ ربما! ولكنني لا أستطيع التفكير بحيادية، المجزرة الكبرى هناك، تعصف بسوريا، وبما يجاورها، فيما شباب بعمر الورد، يلهون على الهامش بعطالة. مئات آلاف السوريين الذين انتشروا في الشوارع طالبوا بحياةٍ مختلفة، رفضوا القدر الذي كان يسحقهم. أبناء الأسئلة لم يقبلوا بما كتب عليهم. الملوك والملكات، الأمراء والأميرات، الشيوخ والشيخات، أبناء الرؤساء وبناتهم، في الشرق والغرب، والشباب العاطل «الكوول» في القارة العجوز، سحقهم القدر، قدرٌ أحمقُ الخطى، كما يقول حليم بتراجيدية ممجوجة، وقبلوا بكل ما أورثه إياهم الأهل، مكتفين بالطاعة العمياء.

أتمنى لو أُتيحَ لهم ما أُتيحَ لنا: سحر السؤال وغواية التجربة. التجربة أكبر بكثيرٍ مما نحتمله، أجل بالطبع، ولكننا نخوضها يا ليز، نخوضها كل يوم، كسيزيف اليوناني.

هكذا هي الحياة يا ليز: البعض يقبل بما كتبه القدر مستسلماً خانعاً، والبعض يطرح الأسئلة، ناقضاً القدر وأحكامه؛

البعض يكتب رسائل إلى أهل السلطة متوسّلاً إياهم مساعدته ويسعى إلى لقائهم ليلَ نهار، والبعض ينخرط بين الناس لتغيير بنية السلطة.

أتمنى لك يوماً سعيداً يا ليز،

خادمك الأمين المطيع،

عدي الزعبي