ما الذي يفعله هذا الشيخ الكبير في هذا المكان القذر، كنْتُ أسأل نفسي عندما أجلسوني جاثياً إلى جانبه في فرع الأمن السياسي في مدينة إدلب، في ذلك الممر الطويل وأمام باب الغرفة، بحيث نستطيع أن نسمعَ دون أن نرى ماذا يحدث، فنتركَ لمخيلتنا أن ترسم الصورة، وتُخرِج «العمل» كلّ دقيقة بسيناريوهات كثيرة، كلها تودي بنا إلى اللاعودة.

التفتُّ إليه، كان غارقاً في الموت، أردْتُ أن أسألَه، ولكنّ لونَه الشاحبَ منعني من خرق هذه الهدنة مع الصمت. دقائقُ قليلة مرت فشعرْتُ أن ركبتايَ قد انهارتا، أردتُ استبدال جلستي، نهضتُ قليلاً ثم جثوْتُ مرّة أخرى، والبلاط يأكل من قدميّ الضعيفتين، بينما الشيخ بجانبي لا يتحرك، ولولا هذا الصفير الذي يخرج من صدره لأيقنت أنه ميت.

سعلْتُ وتنحنحْتُ وأردتُ أن أبصق الدخان العالق في حنجرتي، فمنذ أن طُلبَ إليّ أن أراجع فرع الأمن السياسي منذ يومين؛ وأنا أعيشُ على الدخان وقليلٍ من الماء.

فُتِحَ باب الغرفة، تقدّمَ رجلٌ ثلاثيني من الشيخ وطلب إليه أن يقف: «شو متساوي هون».

أنصتُّ لأسمعَ صوت الشيخ، لكنه أخرجَ ورقةً من جيب قميصه وقدمها للرجل دون أن ينطق، قلبها الرجل بين يديه ثم قال له: «تعا بعد 15 يوم»، ذهبَ الشيخ الكبير بذات هدوئه المميت من أمامي، ثم غاب في الممر الطويل.

المساعد الذي قابلته قبل يوم من مراجعتي للفرع، وهو «الواسطة» الذي سلبني خمسين ألف ليرة، مرَّ من أمامي وكأنه لا يعرفني. بعد قليلٍ وقفَ أمامي وطلبَ مني الوقوف أيضاً، أدخلني إلى غرفةٍ فتخيلتُ أن الشيخ ذاته موجودٌ داخلها، للحظةٍ نسيتُ ما الذي عليّ أن أقوله، وأردتُ أن أسأله عن قصة الشيخ، إلا أنني تذكرتُ مثَلاً كانت أمي دوماً تقذفه في وجهي بمناسبةٍ وبغير مناسبة: «كتير الغلبة دخلوه عالنار.. سألهون ليش الحطب نديان».

أغلقَ المساعدُ باب الغرفة، وطلب مني أن أجلس على الكرسي، عندها شعرتُ بالراحة لأنّه ما زال يتذكرني، وأن النقود ما زال لها هذا الوقع السحري، وأنّ «واسطتي كبيرة».

«هات تشوف.. حكيلنا شو كنت متعمل بالعراق؟».

أردتُ أن أقولَ له إنّي مثل كلّ الشباب، أردتُ أن أدافعَ عن الحق، وأن الله قد فرض علينا الجهاد حين يُعتدى علينا، وأنّ «الحق يعلو ولا يُعلا عليه»، وأردتُ أن أستعير كل الكلمات الرنانة التي تعلمناها في المدارس عن النضال، وعن «الحقوق التي لا تموت»، وأنه منذ طفولتي كانت شخصية «أم سعد» عند غسان كنفاني لا تفارقني، وأني كنتُ في مرات كثيرة أتعمد أن لا أنظر في وجه أمي لأنها لا تشبه «أم سعد»، وأني العائد إلى حيفا، وأن بغداد مدينة السلام، وأن أمريكا عدونا الأكبر الذي أرضعتمونا كرهه، تريد أن تُقسّمنا وتَنهب ثرواتنا، وأنكم قلتم لنا أن «الدفاع عن الوطن شهادة».

نظرْتُ في وجه المساعد أمامي فهدأ ما بداخلي، وقلتُ بصوت متلعثمٍ كطفلٍ خائفٍ من تسميع الدرس:

«يا سيدي، ضحكوا علينا وأفهمونا أنه علينا أن نذهب إلى العراق لنقاتل الأمريكان، وأن الدولة هي من أتاحت لهم ذلك وهي على علم، وأنّا سندافع عن سوريا حين نذهب إلى هناك، وأنّ الوطنية كانت تحتمُّ علينا أن نفعل ذلك، فمن لسوريا غير شبابها؟».

ضَحِكَ الرجل، وابتسمْتُ معه خوفاً: «لاااء.. حفظان درسك» قالَ لي، وطلبَ مني أن أنتظرَ خارج الغرفة، وبعد قليلٍ خرجَ وأعطاني ورقةً تفيد أنْ عليَّ أن أراجعهم بعد 15 يوماً، وأوضحَ لي أنه إجراءٌ روتيني لفترة، وسينتهي كل شيء.

كنّا في سنة 2004، وكان عليَّ أن أقطع كل 15 يومٍ الطريق لأراجع فرع الأمن السياسي، وأن أعيش حالة القلق نفسها في كل مرة أدخل، وأنا أكرر ذات العبارات في كل مرة متلافياً إعادة صياغتها بطريقة جديدة، وكان عليَّ أن أرى الشيخ الكبير في كل مرة أيضاً، فموعدنا كان واحداً، وكأنّ قدرنا سيكون واحداً أيضاً.

ألِفْتُ الشيخ الكبير، وكنت دائماً أتمنى أن تنتهي فترة استجوابي قبله لأنتظره في الخارج وأسأله، خُيّلَ لي أنه أيضاً ذهب إلى العراق، وأنه زميل قضية واحدة. عبثاً كنتُ أحاول طردَه من مخيلتي بهدوئه الغريب، وذقنه الحليقة دوماً، وصمته. في كل مرة كان المساعد ينظر في ورقته، ويقول له: «روح وتعا بعد 15 يوم».

مرّتْ ثلاثة أشهر؛ فطُلِبَ مني أن أُراجعهم كل شهر، أخذتُ ورقة المراجعة وخرجت من الفرع مصمماً أن آتي بعد خمسة عشر يوماً لأقابل ذلك الشيخ. انتظرْتُه خارج الفرع لأكثر من ساعتين، رأيْتُه خرج من الفرع ويتجه بعيداً عن الشارع الرئيسي إلى زقاق في المدينة، فتبعتُه؛ وحين وصلتُ بجانبه سلّمتُ عليه فردّ السلام بصوتٍ خافت، كانتِ المرة الأولى التي أسمعُ صوته فيها، سرى صوته في جسدي مسبباً قشعريرةً غريبة.

«عمو.. عرفتني؟»، هزَّ رأسه بالإيجاب وتابع طريقه، سرتُ إلى جانبه، «عمو خير.. ليش أنت عبتجي لهون؟». لم يجب وتابع طريقه، ألححتُ بالسؤال فنظر إلي: «أرجوك»، سمّرني في مكاني، لا أعرف لماذا تخليت في تلك اللحظة عن فضولي، وأردتُ العودة بشدة، وربما أردت أن أحضنه بشدة، ولكنني لا أعرف كم من الوقت وقفتُ هناك.

ثلاث سنواتٍ مرّت وأنا أراجع ذلك الفرع اللعين، كثيراً ما كنتُ أنتظرُ حتى الثانية ظهراً ثم أقفل راجعاً: «عد بعد شهر». ما عدت أرى الشيخ الكبير، ربما فرغوا من التحقيق معه.

في عام 2012 كان خيار الثورة قد فَرَضَ علينا الانتقال بعيداً عن أماكن تواجد الجيش إلى المناطق المحررة خوفاً من الاعتقال، وكانت إدلب المدينة معقلاً للأمن والشبيحة، فحطَّ بي الرحال في قرية من قرى سهل الغاب، في قلعة المضيق.

على دور الخبز الطويل الذي تسببت به ندرة الطحين في مناطقنا المُعاقبة، رأيتُ الشيخ الكبير، كان يقف مثلي في الدور الذي لا ينتهي، اقتربتُ منه، ابتسمَ لي هذه المرة، عَرَفَني جيداً، ابتسامته شجعتني على معانقته:

– أنا مصطفى.

– أنا أبو أحمد.

سألني عن نفسي وعن أحوالي وعن سكني وبدا مهتماً، ما زال أمامنا ساعاتٌ حتى نأخذ خبزنا، وقتٌ كافٍ لحديثٍ لن أنساه ما حييت.

«عمو ليش…. » قاطعني العم أبو أحمد، ابتسمتُ لأنه صار لهذا الشيخ اسمٌ في ذاكرتي:

– يا إبني، كنت مدرسّاً للغة العربية، وفي سنة 1980 زارني أحد أصدقائي القدامى في جامعة دمشق، جلسنا وتبادلنا الحديث وسهرنا ونام عندي، وفي الصباح ودّعته إلى البوسطة، وذهب.

ما هي إلا ساعاتٌ قليلة حتى طوّق الأمن المكان، ودخلوا إلى بيتي واقتادوني،

ومن هنا بدأت القصة. لم أكن أعرف ما الذي حدث، ولم يسمحوا لي بالكلام، وضعوني في باكاج السيارة واقتادوني إلى مكانٍ لم أعرفه، فقد أغلقوا عيني بقطعة قماشٍ سوداء، وسارت السيارة بنا قرابة الساعتين، وأنزلوني هناك.

كل ما أذكره أن الرائحة كانت مقرفة، وأنّ «الشباب» كانوا مستائين جداً، فقد جرب كل منهم قوة يده على جزءٍ من جسدي النحيل، الألم كان أكثر من الاحتمال، والمعجزة الوحيدة كانت أني ما زلت على قيد الحياة. اقتادوني في ممرٍ طويلٍ ثم أنزلوني الدرج ركلاً بالأقدام، وفتحوا باباً من الحديد ورموني هناك.

لم أستطع الحراك، اقتربَ مني أحدهم ورفع العصابة عن عيني، المكان كان معتماً والوجه الذي أمامي كان بقايا وجه، في الزنزانة كنا 25 رجلاً بأعمار مختلفة وآلام كبيرة ومعدومة في آن. غبتُ عن الوعي للحظات من كثرة الألم، فحملني رجلان ووضعاني لأستند على جدار. برودة الجدار أعادت لي بعض الحياة، فتحتُ عيني بصعوبة ونظرتُ إلى المكان أتفحصه وأتأملُ الوجوه الساكنة فيه، وقتها أدركتُ أن الموت هنا سيكون أمنية.

أمضينا شهراً في هذا المكان، يتناوبُ علينا الحراس بكل أساليب الضرب والإهانة والذل والسباب، طعامنا كسرة خبز يابسة كغداء والقليلُ من الماء.

يسألك السجان: أنت من إخوان المسلمين؟ إن أجبته بـ«لا» ينهالُ عليك بالضرب: «عبتكذب يا ابن الحرام.. يعني مظلوم يا ابن الكلب»، وإن أجبته بـ«نعم» ينهالُ عليك بالضرب والشتائم: «مبسوط يا خاين»، وإن صمَتَّ تحركت في قلبه غريزة الحيوان. فقدنا أشخاصاً ممن كانوا معنا، لا نعرف أين هم، ولكن الأغلب أنهم ماتوا وارتاحوا.

بعد شهرٍ جاؤوا بسلسلة طويلة من الحديد وقيدونا جميعاً من أيدينا وأرجلنا، وعصبوا أعيننا من جديد واقتادونا لساعات. أنزلونا في سجنٍ عرفتُ بعدها أنه سجن تدمر، ووضعونا في زنزانة لا تتسعُ لخمسة أشخاص، كنا 21 رجلاً لا نستطيعُ الوقوف فيها، وفي طرفها دورة مياه مكشوفه.

مكان التحقيق الذي علينا زيارته ثلاث مرات يومياً كان أشبه بدكان الحدادة، فيه كل أنواع الآلات الحديدية للتعذيب.

يا إبني، لا مكان هناك للرجولة، كنا نعترفُ كل يومٍ بكل شيء لم نفعله، اعترفنا بالقتل والسرقة والخيانة العظمى وتدمير البلد والتفجيرات التي حصلت، وكنا ننسج القصص عن جرائمنا التي ارتكبناها وكأنها حدثت بالفعل، لا بل كنا نصدقها فعلاً حتى أنها صارت جزءاً من ذاكرتنا.

أكثر ما كان يزيدهم غضباً أن تقول يا الله، فطرةُ الألم أن تطلب العون من الله، لا شعورياً كنا ننادي يا الله، وكانوا يزدادون إيلاماً عند سماعها، ويبدؤون بسلسلةٍ الكفر التي لا تنتهي، لقد كانوا كفاراً يا بني.

معظم الموجودين في الزنزانة كانوا صغاراً في السن، وكانوا من أهل الريف البسطاء، كانت التهمة جاهزةً طبعاً، بل أنكَ لستَ بحاجةٍ إلى تهمة.

صدرت بحقنا الأحكام، أقلُّنا حُكم بالمؤبد، دون أن نعلم ودون أن نُحاكم أو نرى قاضياً أو محامياً. لم يكن يعنينا ذلك، كلٌ منا كان يريد الموت أكثر من الحياة.

«انتبيييه» كانت اسوأ الكلمات التي تُشعرنا بالقشعريرة، وجوهنا إلى الحائط ويدخلُ رجل لا نعرف ملامحه، يتفحص ظهورنا ويؤشر للحراس فيأخذون منا أصحاب رحلة الألم الجديدة، ليعودوا بعد ساعتين وقد فقدوا كل حواسهم، نرشقهم بالماء، نحتضنهم، بعضهم يبقى وكثيرون يفارقوننا فنحسدهم بغبطة.

كلما أمعنّا في التأقلم مع حالة الموت، يعيدوننا إلى الحياة بحديثٍ عابرٍ أو فسحة تنفس، هم لا يريدون موتنا، لأنهم يدركون راحتنا في الموت، هم يريدون موتنا المتجدد لا الدائم.

سنواتٌ وسنواتٌ مرّت يا بني، صارَ الألم أكبر، ربما خفَّ العذاب الجسدي، «بس وجع الروح أقسى»، كنتُ دائم التفكير في أطفالي، أحمد وإخوته: «شبين وثلاث بنات» وزوجتي، ترى ما الذي حدث لهم، ترى هل هم في سجنٍ مجاور؟

أم أحمد رقيقةٌ لا تحتملُ صفعةً، هل ماتت؟ ثم يخطر في بالي أنهم أخبروها أنني متُّ كما كانوا يقولون لنا دائماً: «ما حدا برا عبينتظركون يا خونة».

هل تزوجت؟ أقولُ في نفسي وأرسمُ قصصاً في مخيلتي، وأعدُّ أيام أطفالي وسنواتهم،

نسيتُ أن أخبركَ أن صديقي الذي زارني كان أحد المنتسبين إلى حركة الإخوان المسلمين.

في عام 2000 أُفرجَ عني، عشرون سنة. لم أكن أعلم بخبر الإفراج حتى جاء أحد الحراس وقال لي: «جهز حالك إفراج»، ما الذي تعنيه هذه الكلمة؟ كنتُ قد نسيت طعم الحياة خارجاً. أعطوني أماناتي (ضحكَ ابو أحمد بألم) ومبلغ 500 ليرة، وقالوا لي: «أنت بريء».

عدتُ إلى قريتي، أولادي قد أصبحوا رجالاً وبناتي قد تزوجْنَ والحمد لله، وأم أحمد الأصيلة بَقيَت على العهد.

سألته: «عمو مو طلعت بريء؟ ليش كنت تروح عالفرع؟».

«يا إبني، كان عليَّ أن أراجعهم كل 15 يومٍ حتى يتأكدوا من براءتي، يستدعونني فأذهبُ إليهم، يمعنون في إذلالي بالانتظار، ثم أعودُ دون أن يتكلموا معي كلمةً واحدة، عشر سنواتٍ وأنا أفعلُ ذلك، المرة الوحيدة التي تحدثوا فيها إلي، سألوني لماذا لم أذهب إلى التربية لأستعيدَ عملي، فأنا بريء.

في الصباح ذهبتُ إلى مديرية التربية، وألف ورقة وورقة قدمتها، ولما اكتملت إضبارتي من كل مؤسسات الأرض، جاءَ طلبي مع عدم الموافقة.

لم أكن أريدُ الوظيفة، وهم يعلمون أنه لن تتم الموافقة على طلبي، القهرُ يا بني ألا تكون حرّاً فيما تريد».

تركتُ أبا أحمد بعد أن دلني على بيته وطلب مني زيارته، أخذتُ خبزي وعدتُ إلى البيت.

بعد أيامٍ قليلة، وعند صلاة العصر، ألقت المروحية برميلاً على قلعة المضيق، ركضنا كلنا إلى المكان، كان أبو أحمد جالساً على بيته المهدم، هادئاً كما اعتدتُ أن أراه. هذه المرة كان يقول: «يا رب، أخذ والده من عمري عشرين سنة، وها هو يأخذ مني 23 شخصاً هم كل عائلتي يا رب، حسبنا الله ونعم الوكيل».

ليس مهماً جداً أن تبحث عن سبب لحياتك، إن كانت عيناك تراقب كيف سيُحدِثُ برميلٌ ثقباً في خاصرتك.