بحثاً عن جذور الاستبداد لدى الأنظمة السياسية الحاكمة في موريتانيا، يغوص بنا عالمُ الاجتماع عبد الودود ولد الشيخ عبد الودود ولد الشيخ، كاتبٌ موريتانيّ، متخصصٌ في الأنثروبولوجيا والتاريخ الاجتماعي والثقافي في منطقة الساحل والصحراء. حصلَ بعد استكمال دراسته للفلسفة وعلم الاجتماع/الأنثروبولوجيا من السوربون (باريس) على الدكتوراه، وقد قدّم أطروحةً عنوانها: البداوة والإسلام والسلطة السياسية في المجتمع البيضاني ما قبل الاستعمار (من القرن الحادي عشر إلى التاسع عشر) تزيدُ على ألف صفحة، وتتناولَ هذه الأطروحة جوانب من التمظهرات القبلية. عمل عبد الودود مديراً سابقاً للمعهد الموريتاني للبحث العلمي، وأستاذاً بجامعة نواكشوط. منذ 2001 عملَ ولد الشيخ أستاذاً للأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع في بعض الجامعات الفرنسية (جامعة ستراسبورغ، جامعة اللورين)، ويعملُ حالياً باحثاً في مختبر الأنثروبولوجيا الاجتماعية في المركز الوطني للدراسات العلمية (CNRS) بباريس.نُشرت له مساهمات متعددة، وكتبٌ ومؤلفاتٌ مشتركة، ومقالات في مجلات محكّمة. في التاريخ السياسي والبنى الاجتماعية والأنساق الثقافية الفكرية التي تحكم هذا البلد. كما يستعرضُ لنا مقارباتٍ فلسفية سعت إلى تأصيل الشرعية السياسية لدى مختلف أنماط الحكم، وإلى ربطها بظروفها التاريخية وسياقاتها الاجتماعية الخاصة. وبين نمط الاستبداد الشرقي (مصر القديمة، الصين، إمبراطورية فارس) وأنظمة الحكم الديمقراطية الغربية المعاصرة، يفسحُ ولد الشيخ مجالاً يتناول فيه بالوصف والتحليل طبيعة النظام الموريتاني الحالي. مجالٌ تقترنُ فيه التقاليد بالدين، فتكتسبُ قداستها مُشكّلةً كوابح أمام التغيير، وتتداخلُ البنى القبلية القائمة على اللامساواة مع نظم بيروقراطية مستوردة، فتكون النتيجةُ ركوداً في المؤسسات وغياباً لدولة الخدمات. وحينها يلجأ المستبد الموريتاني إلى «حفنة من أبناء العمومة» يُمكّنُ لهم في الأرض، فيؤمّنون له ما يشبه «الشرعية» التي تساهم في ديمومة سيطرته.

عبد الودود ولد الشيخ، عالمُ الاجتماع الموريتانيّ الكبير، والأستاذ في عددٍ من الجامعات الفرنسيّة، يُسلّط الضوء في مقالته هذه على تمظهرات السياق المحليّ-الموريتانيّ السياسية والاجتماعية، في بداية التسعينات. وهي الفترة التي أعقبت صراعات وأحداث أواخر الثمانينات وبداية التسعينات العنصريّة الأليمة، التي راحت ضحيّتها أرواحُ عددٍ كثيرٍ من المواطنين في ظلّ نظام معاوية ولد سيد أحمد الطايع، الذي جاء إلى السلطة بانقلابٍ عسكريّ في العام 1984، بعد أنظمةٍ انقلابيّة أخرى سابقة بدأت بتسجيل وجودها التاريخيّ الأوّل عام 1978 داخل الأرضيّة السياسية للدولة الوطنيّة الجديدة الستينيّة الاستقلال، وهو وجودٌ لايزال مُستمّراً حتى يومنا هذا مع نظام الجنرال محمد ولد عبد العزيز الحاكم حالياً في موريتانيا، والذي جاء بدوره عبرَ انقلابٍ عسكريّ عام 2008 على حكمٍ مدنيّ انتقاليّ قصير مع سيدي ولد الشيخ عبد الله.

المقالة هذه، المنشورة أصلاً في ملحق جريدة القلم المعنون بـ«Espace Calame» عام 1993، تَكشِفُ في سياقها المحليّ التسعينيّ القلق ذاك، تشّكلات الواقع المحليّ الموريتانيّ السياسية والاجتماعيّة، من خلال طرح سؤالٍ مقارباتيّ تحليليّ حول نمط الحكم السائد آنذاك في موريتانيا، معتمدةً منهجية تحليليّة تاريخيّة في مقاربة تشكلاتّ الواقع الموريتاني الاجتماعيّة السياسيّة الثقافية القديمة والحديثة، سعياً إلى إدراك آليّات السلطة الفاعلة في موريتانيا يومئذٍ، بأبعادها الكلية المختلفة والمتعددة. 

*****

لير: أتعرفني يا هذا؟

كنت: لا، سيدي، ولكني أرى في وجهك ما يليقُ لأن أناديك يا مولاي.

لير: وما ذاك؟

كنت: إنها مِسحة السلطان.

– شكسبير، مسرحية الملك لير

يحددُ ماكس فيبر في تصنيفه الشهير للسلطة السياسية، ثلاثة أنواع من السيطرة الشرعية، أي تلك التي تحظى بالاعتراف والقبول. سيطرةٌ يسميها بـ«القانونية»، أو ذات الطابع «العقلاني». تَنْبني هذه السيطرة على الاعتقاد بصحة وقانونية النُظم المؤسَّسة بعقلانية، وعلى شرعيةِ قادَتِها الذين يتم تعيينهم طبقاً للقانون. وسيطرةٌ «تقليدية» تتأسسُ على الاعتقاد بقداسة التقاليد المُتبعة، وشرعيةِ من تُوكَلُ إليهم السلطات بموجب الأعراف. النوع الثالث هو السيطرة «الكاريزمية»، التي تستندُ إلى الخضوع لشخصٍ يفرضُ سيطرته من خلال قداسته أو بطولته أو مثاليته.

ولا يبدو أن الممسكين الآن بالسلطة في موريتانيا، يستمدون شرعيتهم بالأساس من الكاريزمية ولا من القداسة ولا من إرثٍ نابعٍ من التقاليد. بل إن الاتكاء على السيطرة الشرعية في «دولة القانون»، كما تحب أن تقول الصحافة الرسمية، هو ما يسعون إلى تأسيس مشروعيتهم عليه. أما خصومهم فيؤكدون على الشخصانية المبالغ فيها لهذه السلطة، ويرتاحون للإشارة إلى الظروف غير الثابتة قانونياً لصعود الفاعل الرئيسي في هذا النظام، معاوية ولد سيد أحمد الطايع، إلى السلطة وبقائه فيها، ألا وهي الانقلاب العسكري سنة 1984، والانتخابات المشكك في نزاهتها سنة 1991.. إلخ.

ويكفي أن نُضيف إلى الطابع الأوتوقراطي للنظام السياسي، بعضَ ملامحِ وحشيةٍ من قبيل المذابح العنصرية التي وقعت سنتي 1989 و1990، لكي نجد أنفسنا أمام صورة قريبة لما سبق وأن سمّاه كارل ويتفوغل «الاستبداد الشرقي».

وهذا هو الوصف الذي حدد به هذا الأميركي ذو الأصل الألماني المُتخصص في الحضارة الصينيّة -مستحضراً بشكلٍ خاص الانبعاثَ الستاليني لهذه الظاهرة – ممارسةَ السلطة السياسية في «المجتمعات المائية» (مصر الفرعونية والصين القديمة والإمبراطورية الفارسية).. أو «المجتمعات الزراعية القائمة على الخِراج»، المعتمدة على أنشطةٍ زراعية هائلة لصالح الإمبراطور وحاشيته. وهي مجتمعاتٌ ربطَ فيها قبله هيغل بين الحرية المطلقة لفردٍ وحيد وعبودية الجميع.

هنالك بالفعل فروقٌ معتبرة بين نظم الاستبداد الشرقية الضاربة في القدم والقسوة المُتمركزة المُنتجة لأنماطها، وبين «الاستبداد الجنوبي» في موريتانيا المنبثقِ من تبيئةٍ حديثةِ العهد لنظامٍ بيروقراطي مُستوحى من المؤسسات الفرنسية داخل بُنىً قبليّةٍ يبدو أنها حافظت على كامل قوتها. ورغم ذلك سأحاول أن أوجز بضع مقاربات تبدو لي مفيدة، لتوضيح بعض خصائص (عدم) اشتغال الجهاز السياسي الإداري الموريتاني.

كانْ يا ما كانْ ذات مرةٍ في الجنوب

كتبَ دافيد هيوم في مبحث المبادئ الأولى في الحكم من كتابه مباحث أخلاقية وسياسية وأدبية: «بالنسبة لمن ينظرون إلى الشؤون الإنسانية من زاويةٍ فلسفية، لا شيء أكثر إثارة للدهشة من السهولة التي تحكم بها الأقليةُ الأغلبية، ولا من الانصياع الضمني الذي يعطل به الناس مشاعرهم وعواطفهم الخاصة لصالح قادتهم. وحين نتساءلُ عن الوسائل التي يتم بها هذا التحكم المدهش، سنجدُ أنه ما دامت القوة دائماً إلى جانب المحكومين، فليس للحكومات ما تعزز به سيطرتها سوى الرأي. وهكذا فإن الحكومات تعتمد على الرأي فقط. وهذا المبدأ ينطبق على الحكومات الأكثر استبداداً وعسْكرة، تماماً كما ينطبق على أكثرها حُريةً وشعبيّة».

أعتقدُ أن لا أحد يُفكِّرُ في الاعتراض على ما قال به مؤلفُ رسالة في الطبيعة البشرية من أن استسلامية المحكومين وانصياعهم، يُقدّمان العنصرين الأكثر حسماً في عملية السيطرة السياسية. غير أن طبيعة المسار التاريخيّ الذي أفرز هذه الاستسلامية هو لبُّ المشكلة، وهو ما يؤسسُ من دون شكٍ خصائصَ نُظُمِ الحكم المختلفة.

إن الشرعية في «الاستبداد الشرقيّ» – كما يقدمه ويتفوغل – و«الانصياع الضمني» الملازم له، يُستمدان بشكل شبه سائد من الامتثال للتقاليد. وفي هذا الاستبداد يُركز الطاغية بين يديْه كل السلطات وكل الرموز الخارقة والأسطورية، التي تُعبّر عن صفاتٍ مثيرةٍ للرعب أو مفيدةٍ في عملية السيطرة على جهاز الدولة الذي يُجسده. ويتم هذا التركيز أحياناً بطريقة إلهية أو شبه إلهية، وإذا ما حدث واستدعت حالة الطاغية العُمريّة أو ضَعفه وجودَ ناصحٍ له من أي نوع (وصيّ، وزير، مستشار، «رئيس وزراء»)، فإن هذا الأخير لا يتمتعُ إلا بسلطةٍ عابرة، ولا تُضفَى عليه أبداً هالة السلطة ولا يتمتع بميزات القيادة العظمى. إذن فالأهمية الكبيرة للأشخاص الذين يُحتمل أن يكونَ لهم تأثيرٌ على الطاغية (الزوجات، العشيقات، أفراد العائلة، رجال الحاشية، ذوو الامتيازات، الخدم…) ليست سوى انعكاسٍ لسيطرة وقوة نزوات هذا الطاغية. وتتجلى هذه السيطرة في مظاهرَ من بينها حالات الهبوط والصعود الصاعقة للمرضِيّ عنهم والمغضوبِ عليهم. وإذا ما لجأَ الطاغية إلى أعدادٍ كبيرة من المساعدين لتدوير عجلات جهازه البوليسي والضريبي، فإن هؤلاء لا يكادون يشكلون منظومة بيروقراطية فعلية. وإذا حصلَ وتمتعَ الممثلون المحليون والقطاعِيون للسلطة باستقلاليةٍ كبيرة – كتلك التي تمتع بها المَرازِبة في الإمبراطورية الإخمينية – فإنهم لا يستخدمون هذه الاستقلالية، إلا لإعادة إنتاج قيادة سيدهم على المستوى المحلي أو القطاعِي. ففي هذه الدولة الأقوى من المجتمع، لا يُسمَح بإظهار أي نوعٍ من الاستقلالية السياسية، كما أن الجماهير الشعبية «الشرقية» تشتهر بقابليتها للانصياع بشكلٍ محيّر.

أما المسار الذي أدى إلى إفراز أنماط «متضمنة» من الاستسلامية والاعتراف بالسلطة السياسية في أهم الدول القومية، التي تعيش اليوم في ظل أنظمة «قانونية ذات طابع عقلاني» (أوروبا، الولايات المتحدة، إلخ…) فهو أمرٌ مختلفٌ تماماً. في هذه الحالة نلاحظُ تاريخياً عملية تركيزٍ متدرجٍ لأنماطٍ عديدة من رأس المال، ضَمِنَت في النهاية تثبيتَ السلطات الحكومية بطريقةٍ تظهرُ فيها مستقلةً عن الإرادة الخاصة للأفراد، وفي الوقت نفسه وسيلةً للتعبير عنها، كما يتم بجلاءٍ عبر الاقتراع العام. وتجدرُ الإشارة في هذا الصدد إلى أهمية توحيد السوق الاقتصادية الوطنية، ودور الضرائب العامة للدولة (الأعباء نفسها، والواجبات نفسها) في تأصيل الوعي الوطني والشعور القومي، لكن الدول الأوربية الوليدة تدينُ بشكلٍ كبيرٍ في دمجها المتدرج للقيم المؤسَّسة انطلاقاً من رؤية كونية للدولة، إلى تركيز رأس المال الرمزي و«الإعلامي».

لقد بدأت الدولة – كما يشرح بورديو – بتوحيدٍ «نظري» للمجال الذي تحكمه، من خلال عمليات «تجميعٍ» واسعة (إحصاء)، و«تجسيد» (وضع الخرائط)، و«ترميز» (توحيد السوق الثقافي: المدونات القانونية والألسنية، وتنميط أشكال التواصل البيروقراطي بمساعدة وسائل متعددة مثل النماذج الموحدة). وقد تم غرس مجموع ثقافة الدولة هذه بكل عناصرها، وإعادةُ إنتاجها من خلال نظامٍ تربويٍ شملَ في النهاية، من خلال الانتقال عبر الأجيال، مجموعَ السكان. كما ساهمَ تدريسُ التاريخ والأدب بوجهٍ خاص في وضع أسس «دِينٍ مدني حقيقي» (بورديو) يحمل داخله البذور الأساسية لصورةٍ جماعيةٍ «نموذجية» للذات، وفي الوقت نفسه نجدُ فيه دلائل تقدمٍ ملموسٍ على طريق دمقْرطة تسيير الشؤون العامة، خارج أزمنة الأزمات. ترفعُ الحكومات «القانونية ذات الطابع العقلاني» أفكارَ الحرية والمساواة بين المواطنين كقيمٍ أساسية، ورغم أن هذه المُثُلَ لا تجد طريقها إلى التجسيد إلا بشكلٍ جزئي، فإن من يُحكَمون من أنظمة كهذه، والذين يتمتعون هذه الأيام – في غالبيتهم المطلقة – بمستوى مقبول من الرفاه المادي، يتشبثون بهذه القيم التي تشكل رافعةً لمطالبهم. وهو ما يجعلهم ينخرطون بشكلٍ جماعي، ويهتمون بسير الشؤون العامة بشكل سلس، حيث تسهر مجموعات بيروقراطية متخصصة وهرمية، يخدمها جهاز ضخم من الموظفين المكتتبين حسب معايير كفاءة محددة، على تسيير المصالح الإدارية، وتؤدي هذه المجموعات مهامها التقنية بمعزل (نظرياً) عن أي تداخلٍ مباشر مع السلطة السياسية.

إن النظام السياسي الموريتاني الحالي، وإن لم يكن وريثاً مباشراً لنظام استبدادي محلي ذي أهمية، إلا أنه رغم ذلك ينتمي – على ما يبدو على الأقل – فيما يتعلق ببنياته العقلية التي تحكم خطابه وسلوكه، إلى ثنائيةٍ تمثل في الوقت نفسه عقليةً شاملةً من نوع «الاستبداد الشرقي»، وادعاءات بيروقراطيةً ذات جذور «قانونية وذات طابع عقلاني». ومن هذا المكون الأخير، لا يوجد كثيرٌ مما يمكن قوله عدا استحضار العناصر المَرَضيّة الملازمة للبيروقراطية في سياقٍ «جنوبي» غير مواتٍ لها بالمرة. وسأعود بعد قليل إلى هذه المسألة باقتضاب، لكني سأتوقف الآن عند البعد «الشرقي» أو بالأحرى «الجنوبي» للجهاز الذي يهمنا.

تُشكّلُ الأراضي الموريتانية بحدودها الحالية إرثاً يدين بوجوده بشكل أساسي إلى الاستعمار الفرنسي (1902-1960)، وقبل الإدارة الاستعمارية كانت الأراضي الموريتانية تقعُ جزئياً أو كلياً تحت سيطرة نظمٍ سياسية إدارية غير مستقرة نسبياً وذات «سمات شرقية» جلية إلى حدٍ ما. لننظر إلى العقوبات المفروضة من طرف خطيب المرابطين (القرن الحادي عشر) ابن ياسين على من يَثبُتُ عليه التخلف عن صلاة الجماعة من رعاياه، أو فيما ما بعد ذلك إلى علامات الخضوع لدى رعايا مملكة مالي، التي شكلت مدينة ولاتة طرفها الشمالي عندما زارها الرحالة الطنجي ابن بطوطة في أبريل ١٣٥٢. فقد كان أولئك الرعايا مجبرين بموجب «الآداب» على الارتماء على الأرض في حضور الحاكم، وتعفيرِ رؤوسهم بالتراب.

إن الأشكال الجنينية للدولة (الإمارات البيضانية، «دولة» الفوتا التوروبية وإمارة الوالو…) التي سيطرت طوال القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، في أجواءَ تشوبها الفوضى على مناطق واسعة مما سيصبح موريتانيا، لم تكن لديها أجهزةٌ متمايزة (جيش، شرطة، جهاز قضائي، أو إدارة…) من شأنها أن تشكل بأي حالٍ من الأحوال ثِقلاً موازناً للمبادرات الفوضوية لمن كانوا يحكمون في تلك الفترة. وكان «النظام الضريبي» الذي يضمن جزءاً من عائداتها يعتمدُ غالباً على الابتزاز، أكثرَ من اعتماده على التحصيل الممنهج لضرائب محددة.

 لستُ هنا بصدد الادعاء بأن الجذور «الشرقية» للممارسة السياسية الموريتانية الحالية تعود في صميمها إلى إرث دولَتي سابق على الاستعمار، لأن هذا الإرث لا يشكل في النهاية إضافة ذات قيمة. فالاستبداد هنا، على ما يبدو لي، يستمد قوته من مطالبة نابعة من المجتمع المدني نفسه، أكثرَ من كونه إرثاً لسلالةٍ ما من الفراعنة، سنبحثُ عبثاً عن آثارها. وتتجلى هذه المطالبة، فيما يبدو لي، في تمظهرين أساسيين، هما حجمُ التمثيل اللامتكافئ بتاتاً مع النظام الاجتماعي، وغيابُ مطالبَ حقيقية بالحرية بمفهومها الغربي المعاصر.

تنتظم المكونات الإثنو-لغوية المختلفة التي تشكل المجتمع الموريتاني، في هرميةٍ تتداخلُ فيها «جماعاتُ أطرٍ» تحمل طابع تخصصٍ مهني متوارث وتتميز، في غيابٍ تبادلٍ تامٍ للزيجات بين مختلف هذه الطبقات «المغلقة»، كما أنه من المعلوم أن هذه المكونات تضم نسبةً معتبرة من الأرقاء والأرقاء السابقين.

ورغم أن التحولات التي بدأت منذ الفترة الكولونيالية، وتسارعت أخيراً بفعل الهجرة المكثفة من الريف والقرى، كانت لها تأثيراتٌ مهمة في بعض الأحيان، فإن الموريتانيين ما زالوا يولدون غير «أحرار» وغير «متساوين في الحقوق». إن «الصراع على التصنيف» بين الموريتانيين، وهو الصراع الذي يوحدهم ويفرقهم في الوقت نفسه، لا يزال في الوقت الحالي صراعاً فكرياً يدور بدرجة أساسية حول التصنيفات الإقصائية النابعة من التسميات التقليدية «لجماعاتِ الأُطُر». وتتوسعُ هذه التصنيفات لتشمل الانتماءات القبلية والعرقية، فالتطلع إلى المساواة الذي ظهرَ مع حركة الشباب في الخمسينيات، والكادحين في السبعينيات، أو ذلك الذي يظهر حالياً مع حركة «الحر»، لم يجذب ولا يجذب حتى الآن سوى أقليات هامشية من ناحية التعداد والتأثير الإيديولوجي.

إن غيابَ تطلعٍ فعلي إلى الحرية، أو بالأصح التطلعَ إلى غيابٍ فعليٍ للحرية، يشكل إلى جانب عقلية اللاتكافؤ، الخاصيةَ الأساسية الثانية لمطلب الاستبداد. ويرتبط هذا طبعاً بالبنى الاجتماعية التي تحدثنا عنها آنفاً، ويدين بوجوده كذلك بشكلٍ كبيرٍ لما تلعبه التقاليد من تأثيرٍ مُبالغٍ في تقديره على العقلية الجماعية، كما أنه يقوم أيضاً على اعتبارات دينية. فإذا ما تَرَكَ الإسلام، وهو المنظومة الفكرية الشاملة التي تتطلع إلى التحكم في أدق تفاصيل حياة المؤمن، مجالاً (محدوداً…) للحكم الاختياري، أو من استقلاليةٍ لإرادة «المخلوق»، لا يمكن من دونها تصور مسؤولية قانونية أو جنائية، فإن تصوره للدولة لا يفسح أي مجال للحريات المدنية. وفي كل الأحوال، لا تُمكن مقارنة ما يُمنح من حرياتٍ بالحريات المُتضمنة في النظام «القانوني ذي الطابع العقلاني» لدى فيبر، المُتَضَمِن لحرية العبادة والرأي والتنظيم ومفهوم التكافؤ (في الحقوق) بين الأفراد رجالاً ونساءً، ذوي معتقدات دينية وفلسفية وسياسية مختلفة.

إن اقتران التقاليد والدين في مجتمعات عديدة متشابهة إلى حدٍ كبير، كما نُلاحظ لدى المجتمع الموريتاني، هو خاصيةٌ لا تشجع تنوعَ الآراء، كما هو متوقع. بل على العكس من ذلك، يشكل أرضيةَ خصبة للمناورة أمام كل المحاولات الأوتوقراطية التي تتبجح بحماية «القيم الحميدة». ويَدَينُ الاستبداد الجنوبي لهذا الاقتران بعدم الاكتراث الواسع هذا، وبعض لحظات الحماس «الشعبي» التي تميز علاقته بالجماهير. كما يوفر مجالاً ترتبطُ فيه (وتتفككُ) مظاهر الشرعية البيروقراطية المسلطة بشكل عمودي، مع النفوذ المشبوه لأبناء العمومة.

من أجل حفنة من أبناء العمومة

لا أسعى هنا إلى ترك الانطباع بأن المكونة التسلطية للنظام الاستبدادي الجنوبي، تنبعُ مباشرةً وبصفةٍ حصرية من إرث تقليدي غير مرتبط بالتطورات التي أدت إلى ميلاد ما نسميه اليوم «حقوق الإنسان»، ولا أنها ناتجةٌ بالأساس من الاختيار الحر للطاغية وحده. إن الاستبداد الجنوبي، كما أراه، هو تاريخياً نتيجةَ تراكمٍ عرضي ما بين بيروقراطية عاجزة، ومنظومة تقليدية تفككت بطريقةٍ سيئة. وهذا الاقتران «السيئ» يُنتِجُ في الوقت نفسه تركيزاً عمودياً وتفكيكاً للأوتوقراطية ذات المظهر البيروقراطي، كما يقف وراء الانهيار المتدرج للبيروقراطية، وركود المؤسسات المستوردة داخل قوالب التضامن المحلية ذات المظاهر الخداعة.

إن طغيان المستبد الجنوبي يتنزّلُ في الضياع المزدوج للهوية، هذا الذي لا يشكل المستبد داخله سوى فاعلٍ مرحلي الوجود. وكلما ضعف المكون البيروقراطي لمنظومة السيطرة لديه، كلما مالت إغراءات العودة لـ«التقاليد» إلى فرض نفسها. ومن بين الطرق الراديكالية لإنجاز هذه «العودة إلى الجذور»، أن يعمل المستبد ببساطة على إنشاء سلالة خاصة به، وهو ما كان «الإمبراطور» بوكوسا سباقاً إليه. ويمكن الاقتصار (كما فعل تومبلباي وموبوتو، مثلاً) على تبني «أصالةٍ» تتضمن أحياناً أداء طقوس «غابوية» لمسؤولي الإدارة، الذين عليهم أن يغلّبوا المكون «القانوني ذي الطابع العقلاني» لوظائفهم على «مبدأ الزعيم»، كما جسده القائد الألماني هتلر.

في موريتانيا، توفِّرُ التنظيمات القبلية، دون التصريح بذلك، الملاذ العملي ضد (وفي سبيل) تآكل الشرعية البيروقراطية. فما تقدِّمه هذه التنظيمات من خدماتٍ متبادلة، وما تلحقه من أضرار مشتركة، هو ما يكسب النسخة الموريتانية من الاستبداد الجنوبي طابعها الخاص. إن كل ما يقوم به الجهاز الاستبدادي في هذا الصدد، هو العمل سراً على تحويل رأس مال، مستمد من الشرعية البيروقراطية، ذي قيمة غير مضمونة، إلى شرعية خفية تنتظم حول القبيلة. وفي عملية التحوُّل هذه، يقوم الجهاز الاستبدادي بدور «المهرب» والسمسار الذي يحدد، خلال مسار الإفساد المتبادل، ولكن بدرجات متفاوتة، سعرَ الصرف بين القيمة القبلية والقيمة البيروقراطية. وعلى غرار ما يحصل من توسعٍ في «دفن» الاقتصاد الذي ينحدر تدريجياً إلى مجاله «غير الرسمي»، يميلُ الاستبداد الجنوبي إلى نزع الصبغة الرسمية عن الجهاز البيروقراطي، الذي يتحول بفعل ذلك إلى شبكةٍ مغمورةٍ من العملاء والحاشية، المدينين شخصياً بمواقعهم «للزعامات» القَبَليّة، التي تتحكم في «مرزبانيات» كبيرة أو صغيرة وزّعها القائد الأعظم بكرمٍ حاتمي.

في هذا اليانصيب «البابلوني» كما يورده بورخيس، تطردُ العملةُ السيئة العملةَ الجيدة. ونلاحظ الآثار الضارة لقانون تشبُّعٍ يقضي بأن يصبح موظفو الإدارة الأقل مهارة هم الأكثر عدداً، وفي الوقت نفسه «الأصعب اجتثاثاً»، نظراً لكونهم أكثرُ المكتتبين بالاعتماد مباشرة على معايير الولاء القبلي والزبوني.

إن التغييرات الدورية التي تطال المناصب العليا في الإدارة (الوزراء والمديرين والولاة، إلخ…) بالإضافة إلى معيار الحجم المكتشف أخيراً من طرف حبيب ولد محفوظ، تبدو مبنيةً بشكلٍ خاصٍ حول ضرورة إضعاف أي منصب، عدا منصب القائد الأعلى في تلك اللحظة.

وتتزامن عادةً مع وصول طبقة جديدة من الموظفين العملاء، الذين يأتون ليتداخلوا مع الطبقة السابقة الموروثة من المرازبة السابقين. وكل هؤلاء سيتوافقون على قراءة الواقع بأدواته المناسبة، وفي مقدمتها التضامن القَبَلي. فأكثر البيروقراطيين «فيبرية» لا يمكنهم الهروب من (إعادة) قبْلنة وظائفهم، فهي الضمانة الحقيقية الوحيدة لاستمرارهم في مواقعهم.

إن في هذا لتبسيطاً من جانبي، لأن عددا كبيراً من العوامل الثانوية إلى حدٍ ما، تدخلُ في إجراءات اختيار البيروقراطيين ذوي الأهمية. وسنختارُ منها لنبقى في مجال المعايير البيروقراطية، أمثلةً من قبيل اللغة التي تلقى بها الموظف تكوينه، وكذا الدولة ومؤسسة التعليم. لكن عناصرَ التنافر هذه، والتي تؤثر على تشكيل بيروقراطية في جهازٍ موحد ومستقلٍ يطبق قواعد موحدة، تترك الباب مفتوحاً أمام المانح (والنازع) الأكبر للقيمة، ليُسيّر حسب إرادته الحرة، سعرَ الصرف البيروقراطي، رافعاً أو خافضاً بتعييناته أسهم ائتمان اللغة الفرنسية أو العربية أو الروسية، في هذا القطاع الإداري أو ذاك، ومؤثراً على تصنيف القيمة الغريبة لمؤسسة تكوين ذات سمعة مشكوك فيها، إلخ.

وأضيفُ لأختتم هذه النقطة، بأن التداخل الكثيف بين التضامنات ذات الأصل القَبَلي الزبوني في مجال الجهاز البيروقراطي، مشروطٌ إلى حدٍ كبيرٍ بالجو العام وتطوراته، ألا وهي الأزمة المناخية والغذائية المتواصلة منذ نهاية الستينيات، والتقري والنزوح الكثيف من الأرياف، والفجوة الكبيرة بين الطلب على فرص العمل، والخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم، وبين ما هو متوفرٌ منها. ويمكن ببساطة أن نفهم أنه في ظل سياقٍ كهذا، حيث لا يمكن لأي إجراء إداري أن يأخذ مساره الطبيعي، يعود البدو المطرودون من بيئتهم إلى شبكة المساعدة الوحيدة والتضامن التي يعرفون، أي تلك التي تتعلق قبل كل شيء بالقرابة والقرابة الوهمية. وهي بنية تقدم «هوية مدنية» وعنواناً وتاريخاً وشكلاً بدائياً من أشكال التأمين ضد كل الأخطار، وأحياناً أرضاً. وبهذا تقدّمُ القبيلة نفسها كملجأ ضد حالة الانعدامية، وكقارب نجاة من حالة الغرق التي يعيشها المجتمع الموريتاني منذ بداية الستينيات. لكن القبيلة تنتجُ وتعيدُ إنتاجَ التراتبية والفروق بين «محاربين» و«زوايا»، وبين «نبلاء» وخاضعين، وبين أقارب «حقيقيين» و«وهميين»، أي بين صميم القبيلة وعصبها، ولا تَعِدُ بأي نوعٍ من المساواة، ولا تسمحُ بأي نوع من الحرية لا ينسجم مع التقاليد والدين. وإذا لم يتطلب الأمر سوى أن تنقسم إلى ألف قطعة قبلية وألف نسخة مستقلة عن البنية الأم، فإنها لا توفر، عبر أساطينها و«أرباب عملها»، الخاضعين للسيطرة المتقلبة لبيروقراطية هيكلية مسلطة بطريقة عمودية، إلا مطلباً للاستبداد، ينسجم انسجاماً تاماً مع الممارسة والإيديولوجية التسلطية للمستفيدين الأساسيين من هذا النظام.

لم أستدعِ في السطور السابقة التبعيةَ الاقتصادية، التي تشكّل إحدى الخصائص الأساسية للاستبداد الجنوبي، وهي التي صنعت منه في نواحٍ كثيرة نظاماً خالصاً لسماسرةِ كل الخدمات وللوسطاء. فيكفي أن نُلقي نظرةً على العناوين العريضة لجريدة «الشعب»، الرسمية التي تتحدث عن تلقي الهبات. وفي هذا السياق لا يمكن أن يبقى للبيروقراطية من دورٍ سوى إزالة الطابع الشخصي عن التسول المحموم للتمويلات، التي تحتاج إليها أنظمة الاستبداد الجنوبي حاجةً ماسة. فهي لا تشرفُ، إلا في حالات نادرة على تسيير أشغال زراعية كبيرة، ولكنها تُسيّرُ ديوناً متعاظمة. ومن هذا المنطلق، فإن هذه الأنظمة هبة من صندوق النقد الدولي، بالمعنى الذي قال به هيرودوت إن مصر القديمة هبة النيل. ويمكننا أن نخمن بسهولة أننا نحتاج شروحاً مستفيضة لإدراك أشكال وآثار التبعية التي أشرنا إليها آنفاً، ولتسليط الضوء على شبكات المصالح المحلية والدولية التي تحشدها هذه الأنظمة، وعلى آليات التداول لرؤوس الأموال وحراك الأشخاص، مما يظهر أن الاستبداد الجنوبي لا يمكنه توليد تراكمٍ إنتاجيٍ للثروة، لكنه يميل إلى توليد الولاء وحسب.

أود الاقتصار على إثارة مصادر الشرعية التي يعتمدها الاستبداد الجنوبي، ففيما وراء التعدد في الأشكال، فإن التنازلات التي قد يفرضها عليه شركاؤه الأساسيون و«أولياء نعمته» لتغليب البعد «القانوني ذي الطابع العقلاني» الذي يدين لهم به، أردتُ أن أقدم ملاحظةً بأن الاستبداد الجنوبي قد يستشعر حاجةً ملحةً للاستجابة لمطلب استبدادي ذي حضورٍ قوي محلياً، يتمركز حول التنظيمات القبلية وتشعباتها. ومع ذلك فإذا كان باستطاعته -وعليه أن يسعى في هذا الاتجاه- أن يتلاعب خفيةً بالتنظيمات القَبَلية ويتركها تتلاعب به، فليس باستطاعته إظهار هذه العلاقة ولا الاعتماد عليها بوضوحٍ ولا بشكل حصري. فالتنظيمات القَبَلية تحملُ في الواقع تهديداً بالانفجار، «فليس بين القبائل» كما يقول إيفانز-بريتشارد «إلا الحرب»، وهذا الانفجار يُحتم على المستبد (وهو الذي لا يستمد سلطته بالاعتماد على قبيلة واحدة من دون القبائل الأخرى) أن يحسب له حسابه. ونظراً لأن المستبد لا يتكئ، لا على شرعية بيروقراطية حقيقية ولا على سلطة نابعة من التقاليد على طريقة المستبد الشرقي، فإنه يظل يعيش نوعاً من حالة الطوارئ القمعية والإيديولوجية الدائمة. وهذا ما يشكل جانبه «الصرعي». ويجب عليه بصفة دائمة أن يرتجل ليحتفظ بالمكونتين المتناقضتين اللتين تشكلان جنباً إلى جنب دعامتي استبداده الهش، أي البيروقراطية والسلطة المشبوهة لأبناء العمومة. ولا شيء يعزز لحمة هاتين المكونتين، مع الإبقاء على حالة الطوارئ وإغلاق الباب أمام الأسئلة غير المفيدة عن الظروف السابقة لهذا اللحمة، أكثرَ من افتراض مؤامرةٍ خارجيةٍ دائمة، تهدد وجود الدولة وكيانها، وهذا هو أفضل ما وجدته السلطات الموريتانية لتقدمه لمواطنيها منذ المذابح العنصرية لسنة 1989. ولا تَعِدُ إيديولوجية المؤامرة الدائمة في جوهرها بأي أمل بتحسين الأوضاع، ويمكن تشبيهها، موضوعياً، بآلية لا تقدم من أفقٍ للخلاص، ولا من أملٍ عدا بقائها المهدد دائماً بالزوال. وعلى عكس الأنظمة السياسية التي تتكئ على شرعية الأديان المقدسة والفلسفات الوضعية (الليبرالية والاشتراكية والشيوعية والفاشية.. إلخ)، والتي تَعِدُ ببعض أملٍ يقل أو يكثر، فإن أنظمة الاستبداد الجنوبي في سعيها لإثارة وإلهاب حماس الجماهير، لا تراهنُ في هذا السياق إلا على أفق الحفاظ على بقائها في وجه التصاعد الهدام لكل المؤامرات. إنها وضعيةٌ تشبه الحياة في عالمٍ من دون أمل؛ عالمٍ لا تشعرُ فيه الشعوب بما تعيشُ من آلام.