هل هناك حاجةٌ ملحةٌ إلى تشكل أطارٍ سياسي/ أُطُرٍ سياسية جديدة، تحررية، في الساحة السورية؟ هل يمكن أصلاً ظهور فاعلين سياسيين جدد في إطار الحرب المعممة اللاغية للسياسة، وفي مواجهة ثلاثة أصناف من اللاعبين الحربيين: النظام ومحوره الطائفي الإقليمي، الإسلاميون الجهاديون الاستئصاليون، والفاعلون الإمبراطوريون، الأميركي والروسي وأتباعهما؟لكن هل الوضع مغلق تماماً بحيث يمتنع ظهور ذاتٍ أو ذواتٍ سياسية جديدة؟

ربما يمكن تعريف السياسة بأنها فن إدارة الحتميات وتوسيع فتحات التحرر، ما يعني أنه ليس هناك أوضاعٌ تستحيل السياسة فيها تماماً. وإذا كان صحيحاً أنه ليست كل الأوضاع ملائمةً لعملٍ سياسي مؤثر بالقدر نفسه، فإن أوضاع الحرب والانكشاف الواسع لمجتمع السوريين، ربما تكون في الوقت نفسه فرصةً لتفكّرٍ جذري في السياسة والمجتمع والتنظيم السياسي، والثورة.

في مثل شروطنا المعلومة، شروط الثورة المحطمة، هل يمكن ألا تكون السياسة ثورية؟ يبدو أن مشكلة المعارضة التقليدية، تنظيمات منفردة وائتلافات، هي بالضبط أنها قوىً غير ثورية، قديمةٌ وشائخةٌ في أفكارها وصيغ تنظيم عملها وسياستها، وعاجزةٌ عن التجدد.

لكن ما معنى سياسية ثورية؟ ولماذا يبدو أن تجمعاتٍ سياسية جديدة ظهرت بعد الثورة تمارس السياسة من فوق، انطلاقاً من أفكارٍ وتصوراتٍ وحساسياتٍ لا جديد فيها، وتبدو حياتها مستقلة عن عمليات الثورة وصراعاتها؟ وهل أن السياسة الثورية تُقاطع، مثلاً، المعارضة التقليدية ومساحات العمل الضيقة المتاحة لها؟ وكيف يمكن اجتناب الوقوع في أسر نزعةٍ تطهريةٍ منعزلةٍ عن الشروط الفعلية للنشاط السياسي؟

ولنفترض أننا عملنا على بناء إطارٍ للنشاط السياسي وفقاً لتصوراتٍ اتفقنا عليها، لماذا نعتقد أنه سيكون مختلفاً وقابلاً للتطور أكثر من أُطُرٍ سابقةٍ له، بعضها تشكل حديثاً؟ هل أن العاملين في هذه الأطر «سيئون»، أم أنه «هذا نحن» في الواقع، وهذه هي إمكانياتنا، وعلينا أن نعترف بتواضع قوانا وقدراتنا، بما فيها القدرات الفكرية والسياسية كمنطلقٍ أول للفعل السياسي؟

وإذا كانت السياسة من تحت هي السياسة الثورية، فكيف تكون هذه ممكنةً في شروط الحرب والشتات؟ وهل حمل السلاح في مواجهة ثالوث القوى المشار إليها فوق، أحد ممكنات هذه السياسة في أي وقت؟ وإذا كانت المعارضة التقليدية، بحكم عزلتها المديدة عن أي قوىً اجتماعية حية، انتهت إلى ممارسة السياسة من فوق، سياسة بلا جمهور، فما الذي يمكن عمله كيلا تصاب أي أُطُرٍ جديدة للعمل العام بهذه العدوى؟

وما هي مصادر القوة التي يمكن أن يستند إليها إطارٌ/ أطرٌ جديدة، ثورية، للفاعلية السياسية؟ هل يمكن بناء السياسة على الثقافة؟ على مفهومٍ مُحوَّلٍ للثقافة، يحيلُ إلى تجارب السوريين الجديدة في التعبير عن أنفسهم، وفي تمثيل تغيرات الحياة والحركة والعمل والموت في الفكر والأدب والفن؟ أم أن هذا يقود حتماً إلى أُطرٍ نخبوية للعمل العام، وأن أطراً جديدة يلزمُ أن تعمل على مستوى حاجات السكان الذين ربما يعيش ثلاثة أرباعهم دون خط الفقر اليوم؟ حاجات العمل والتعليم والسكن والصحة؟

وهل لا بد من «رموزٍ» تلتئم حولهم هذه المجموعات السياسية؟ وكيف يمكن اجتناب ما تقود إليه سياسة الرموز من شخصنة وأنَويّة من جهة، وروح شقاقٍ وتنازعٍ من جهة ثانية؟

وما هي صيغ التنظيم المحتملة في شروط الحرب والشتات السورية؟ وشروط أزمة الحزب والدولة-الأمة، والحداثة السياسية عموماً؟ وإذا لم يكن مرغوباً التنظيم المركزي الهرمي، الذي يقتضي أيضاً هويةً جامعة ومكتباً مالياً أو ميزانيةً موحدة، فهل البنية الشبكية اللامركزية، على غرار تنظيم القاعدة، هي البديل الأنسب؟ وكيف يمكن تأمين موراد لأشكال العمل السياسي غير التقليدية الجديدة؟ هل الشبكة اللامركزية تحل مشكلات التمويل بإحالتها إلى نطاقات محلية، وبالتخلص من فكرة المركز، والجسم العضوي الذي يريد أن يكبر ويستمر في الكبر؟ وهل يسهم في معالجة مشكلات التمويل أيضاً، حفزُ روح التطوع التي ميزت الثورة السورية في عاميها الأولين؟ وهل من شأن الصفة المحلية أن تساعد في انتشار الشبكة ضمن بيئاتٍ شعبية، في مناطق اللجوء أو في أحياء المدن المدمرة؟ وكيف يمكننا العمل بحيث تمتد الشكبة بين الشتات والداخل السوري؟

هل يمكن تصور الشبكة، خلافاً لتنظيم القاعدة، إطارَ تفاعلاتٍ بين مُختلفِين، يُنتج أفكاراً ومبادرات وأفعالَ تضامنٍ واحتجاج، وليس عقيدةً مقدسةً وقادةً مُعظّمين، ويتيح للشركاء مساحات عمل مستقلة وحرية أوسع لكل منهم؟ هل يتعلق الأمر بائتلافٍ عريضٍ لا يريد أن يجد لنفسه موقعاً تنافسياً في الساحة السورية، بقدر ما يريد إحراز أكثريات وإجماعات على مواقف سياسية «وطنية» يصوغها كمنبرٍ سياسي؟ أم ربما بحزب – تيار- تحالف- يجد نفسه في ساحة سياسية سورية، ويتوجه لجمهورٍ سوريٍ ويعمل على إحراز مساحته الشعبية، وله منافسون محتملون في الساحة السورية؟

وإذا كان تطلع السياسة الثورية هو اجتماعٌ جديدٌ متحرر، نساءٌ ورجالٌ متحررون، فهل يكون التحرر ممكناً بغير ممارسته، هنا والآن، ضمن صيغ العمل السياسي المراد تشكلها؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، ألا يزول التمييز المورث بين قضايا فكرية وقضايا تنظيمية وقضايا سياسية، وتنحلّ مسائل الفكر والتنظيم والسياسة في بعضها؟ وتتشكل الذاتية السياسة الجديدة من أفعال التحرر، هنا والآن، وهي تتمرّس بالعوائق التي تواجهها؟

وفي تجاربنا المعاصرة يلحظُ المرء أن عموم الأفراد المشتغلين بالشؤون العامة لا ينقصهم الذكاء، لكن أُطرَ العمل الجمعي أقلّ ذكاءً على الدوام. بعيداً عن أن تكون مجموعَ ذكاءِ أعضائها، يبدو أكثرها بالكاد بذكاءٍ من فردٍ واحد. هذا التقابل المديد بين ذكاءٍ فردي وقلة ذكاءٍ جمعية، مشكلةٌ كبيرة يتعين على أي تفكير في أشكالٍ تنظيمية جديدة مواجهتها. ونفترض أن المطلوب ليس فقط أن تكون منظماتنا محصلة ذكاء أعضائها، بل أن تكون إطاراً ذكياً يزيد ذكاء كل واحد منهم، ويوسع أفقه.

وبالنظر إلى أزمة الدولة الأمة في منطقتنا وفي العالم، هل يمكن ولادة فاعل سياسي جديد في بلدنا وحده، بدون العمل على مستوى عالمي باتجاه ظهور فاعل سياسي أو فاعلين سياسيين، لا يعترفون بنتائج ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى وجه التحديد، لا يعترفون بأن مصدر الشرعية هو مجلس الأمن، مع كل ما تحمله أبعاد هذه الفكرة من عمقٍ على مستوى مساحة العمل السياسي والمؤسساتي والتنظيمي… إلخ؟

وبنظرة عامة وعودة إلى البداية، هل يحفز فكرة الفاعل السياسي الجديدة حاجاتٌ ذاتية لناشطين ومثقفين يبحثون عن دورٍ سياسي؟ هل نحتاج إلى الفاعل السياسي المغاير من أجل التغيير السياسي، أم أن التغير شرطٌ مسبقٌ لظهور فاعلين يتطورون؟ أليست «أسباب موضوعية» تتمثل في الاستئثار بالسياسة من قبل الحكم الأسدي، ثم اليوم مشاركة المجموعات السلفية بمنطق الاستئثار نفسه؛ ثم دخول قوى لا سياسية جوهرياً، ولا تقبل بساحة عمل مشتركة كالروس والإيرانيين، ومعهم بالقدر نفسه الأميركيون؟ هل إن الفاعل السياسي المغاير غير موجودٍ بكل بساطة لأن وجوده ممتنع في مثل شروطنا؟ فإن وجد بفعل الإرادة الذاتية سيكون قزماً مريضاً غير قابلٍ للنمو؟

هذه أسئلة للتفكير في قضيةٍ تثارُ بين حينٍ وآخر، منذ ما قبل الثورة.