في الذكرى الخامسة للثورة، نرى أننا بحاجة إلى استخلاص العبرة من المقتلة السورية المفتوحة. العبرة بسيطة ومباشرة: يريد الناس أن يعيشوا أحراراً كما خلقتهم أمهاتهم، ويرفض الطغاة ذلك.
هذه هي الثورة باختصار. يحاول هذا المقال أن يميز بين المحطات السياسية الهامة في سياق الثورة، والمعنى المتعارف عليه حول بدايتها ونهايتها، وبين مفهومٍ أعمق وأشمل للثورة، نرى أن الربيع العربي قدمه لنا في السنوات الخمس الماضية. يفكر معظم المتابعين للشأن السياسي السوري بمحطاتٍ كبرى تؤرّخ لبداية الثورات ونهايتها، بناءً على تغيير نظام الحكم أو بقائه. هذا صحيحٌ، جزئياً، ولكن هناك ما هو أعمق في ثورات الربيع العربي. غيّرت هذه الثورات من مفهوم التعاطي مع السياسة بشكل جذري، ونهائي، لا عودة عنه. من الآن فصاعداً، للمواطن العادي دورٌ وصوتٌ في تقرير شؤون حياته ومستقبله. الثورة، بمعناها الأعمق، مشروعٌ مستمرٌ ودائم. هذا المقال محاولةٌ لتسليط الضوء على هذا المعنى للثورة.
الثورة مشروع مستمر
السمة الأساسية لثورات الربيع العربي تتمثّل في مشاركة قطاعات واسعة من الشعب في المظاهرات والحراك، قطاعات كانت مغيّبة بشكل شبه كامل عن اتخاذ القرار. هذه هي المرة الأولى، ربما، في تاريخنا، التي تتجه الجماهير فيها إلى السياسة لتغييرها، إن استثنينا الحركات التي قارعت الاستعمار.
الثورة محاولة ليس لتغيير النظام السياسي فقط، بل محاولة لتغيير مفهوم العمل السياسي جملةً وتفصيلاً. لا تقتصر على التحول إلى نظام ديمقراطي انتخابي يستبدل مجموعة الطغاة الموجودين؛ بل على الثورة أن تذهب أعمق كثيراً من ذلك: تغيير بنية العمل السياسي بحيث يصبح للمواطن العادي القدرة على مواجهة البيروقراطية هائلة الحجم، وعلى التأثير في سياق الأحداث والوقائع ورسم السياسات. التحرك الجماهيري الهائل الذي حصل، ومازال مستمراً بطرقٍ مختلفة، يعكس هذا التعريف للثورة، بمعناها الأعمق.
إذن، هل انتهت هذه الثورة؟
الثورة تنتهي، عند من يبحث على تغيير النظام السياسي، بأحد حلين: تغيير نظام الحكم، أو بقاء النظام الحاكم وقمعه للثورة. الثورات العربية تبدو في حالة وسط: تغيّر نظام الحكم في بعضها، وعاد شبيهه بشكل أكثر دموية وكوميدية، كما في مصر. سوريا وليبيا واليمن دخلت مرحلة حروب أهلية طويلة الأمد. تونس الوحيدة التي نجحت، ولكنها لم تحقق، حتى اللحظة، ما كان مأمولاً في العمق: تغيير مفهوم السياسة ذاته.
ولكن الثورات، بالمعنى الأعمق الذي طرحناه أعلاه، لا تنتهي ولا تبدأ بالضبط مع تغيراتٍ في الشكل السياسي. تفشل الثورات عندما يستطيع النظام الحاكم، أو سليله المسخ المصري مثلاً، في إعادة الناس إلى بيت الطاعة، في جعلهم يؤمنون بأنهم غير قادرين على إدارة شؤون حياتهم، وأن عليهم تسليم زمام الأمور إلى الساسة والعسكر اللذين سيحمونهم من مؤامرات الغرب الصهيوني، وغدر الزمن الأرعن.
على الأرض، يبدو أن الأمور لا تسير على الإطلاق كما يتمنى الطغاة. على الرغم من تعثر الثورات، ما زال الإيمان بأن المواطن العادي له الحق في تقرير مصيره عميقاً، وأن زمن القيادات الأبوية «الحكيمة» ولّى إلى غير رجعة؛ الثورة ما زالت قائمة، بأساليب مختلفة ومتجددة.
تنتهي الثورات بخسارة كاملة حين ينجح الطغاة في محو كافة مظاهر التذمر عند المواطنين؛ في تحويلنا، مرة أخرى، إلى رعايا للحاكم بأمر الله، سنياً كان أم شيعياً أم علمانياً، أم مزيجاً من هؤلاء، باسم مفاهيم مطلقة مجردة، كالحرية والاشتراكية والقومية وفلسطين، تُستخدم لقمع المواطن إلى الأبد.
هكذا إذن، لا يبدو أن الثورات انتهت، بالرغم من المأزق الذي تعيشه.
فيما يلي محاولة للإضاءة على بعض جوانب هذا المأزق.
الهزائم المرحلية والخسارات النهائية
لمواجهة المأزق الذي دخلته الثورات، يجب أن نميز، أو أن نعيد التأكيد على التمييز، بين المبادئ وبين التكتيكات؛ وبين الهزائم المرحلية والخسارات النهائية.
على المرء أن يميز بين مبادئ أخلاقية تحكم علاقته بالسياسة، وبين تكتيكات متبعة لتحقيق غاياته. هذا التمييز يكتسب اليوم أهمية استثنائية بسبب المأزق الذي وصلناه. نستطيع على سبيل المثال أن نميز بين قضية التفاوض مع النظام السوري، وبين التسليم للنظام؛ بين الهدنة وبين الاستسلام. يعيش السوريون في خوف من التفاوض والهدن بسبب خيانات الأصدقاء المتكررة، والدعوات للسوريين بقبول حلول تُبقي النظام القائم، مع تعديلاتٍ بسيطة لا تُذكر.
التمييز الثاني بين هزائم مرحلية، وبين خسارات نهائية، وهو يتبع من التمييز السابق. هناك هزائم مرحلية كبيرة تعرض لها الربيع: تربع السيسي على عرش مصر، وقصف القوات الجوية الروسية للشمال السوري، وتدخل القوات العسكرية السعودية في البحرين، وغيرها، أمثلةٌ ناصعة. على أن هذه الأمثلة أثبتت أنها لم تستطع القضاء على بذرة الحرية التي زرعتها انتفاضات 2011، ومازال الصراع قائماً بطرق مختلفة ومتعددة حسب المكان والزمان. أي أن هذه هزائم مرحلية في الصراع الطويل مع الاستبداد.
الخسارة النهائية تأتي عندما نتخلى عن المبادئ، عندما نسلّم بأن الناس تريد وتحب عبد الفتاح السيسي، بأن السوريين سيسلمون للمحتل الروسي والإيراني شؤونهم، عندما نقتنع بأن الحل الأمثل لمملكة البحرين يكمن في حكمها عسكرياً من قبل قوات سعودية؛ باختصار، عندما نرى الحل الأمثل يكمن في عودة المواطنين إلى منازلهم، والتسليم بحكمة الأب القائد وجهازه الأمني الممثل لهذه الحكمة.
الخسارات النهائية لا تتجسد في التطورات السياسية المذكورة أعلاه، بل في غياب أي مقاومة شعبية لمثل هذه التطورات؛ عندما يستسلم الناس للشر المطلق؛ عندما يفقدون الأمل. هذه هي الخسارة النهائية.
يقتضي هذا، بعد ثورات الربيع العربي، قمع غريزة الحرية بشكل لم يسبق له مثيل حتى في تاريخنا. من تذوّق، ولو بشكل بسيط وقصير ومبتسر، الحرية لأشهر قليلة، عامي 2011 و2012، لن يعود إلى العبودية. الربيع العربي، بهذا المعنى، يشبه الثورة الفرنسية. بالرغم من مآسٍ وحروبٍ استمرت أكثر من قرن، لم يعد بالإمكان إقناع الأوروبيين بتسليم سلطات العصور الوسطى شؤونهم ومستقبلهم. ما حدث هنا يشكل انقلاباً كاملاً في نظرة الناس لأنفسهم ولطبيعتهم ولمستقبلهم.
تغيّر الناس، وتغيّرت المفاهيم، وتغيّر الزمن.
الأنظمة، وأجهزتها الأمنية، ومثقفوها، ومثقفو الغرب المشككون بالثورات، وحكام الغرب المتواطئين مع الأنظمة، لم يتغيروا، بعد.
نعيد القول إذن أن الثورة لا تنتهي بقلب نظام الحكم فقط. الثورة تسعى إلى إشراك أكبر عدد من المواطنين في إدارة شؤون حياتهم، وهذه العملية تستغرق زمناً قد يطول، وقد لا تنتهي، بمعنى ما: أي أننا دوماً نستطيع تطوير أدوات التفكير والحكم، في محاولةٍ للوصول إلى صيغ ومؤسسات تسمح للمواطن بأن يكون أكثر فعالية ومشاركة في عملية اتخاذ القرارات.
الثورة مشروع مستقبلي، مشروع لا ينتهي ولا يتوقف.
لو كان تعريف الثورة أعلاه صحيحاً، لطُرحت علينا مسألة بداية الثورة أيضاً، بطريقة مختلفة.
أسطورة الطوفان
في فيلم الطوفان للراحل عمر أميرلاي، مشاهدُ من مدرسةٍ يجلس فيها الطلاب مسحوقين تماماً، مرددين كببغاوات ما يقوله المعلم، المسحوق بدوره، كأنهم غرقى بعد الطوفان: طوفان الاستبداد الذي حكم سورية لمدة أربعين سنة.
لطالما حيّرني مشهد الطلاب: يبدو لي أن أميرلاي لم يستطع أن يتواصل مع الطلاب، أو أن يرى ما وراء الكلمات الشاحبة التي يرددونها. لم يكن أميرلاي وحده من لم يملك القدرة على الذهاب أبعد في العلاقة مع الطلاب. في سوريا، هناك اختلاف عميق بين ثلاثة أجيال مختلفة: الجيل الذي لم يدخل مدارس البعث وما فيها من عبادة للقائد الخالد، والجيل الذي لم ير إلا هذه المدارس، أي جيلي أنا، والجيل الثالث الذي عاصر عهد الأسد الابن، حيث تقلصت مساحات العبادة قليلاً، وتحول الجو إلى كوميديا لا يصدقها أحد، لا من الطلاب ولا من الأساتذة، ولا من النظام نفسه.
علاقة الجيل الأكبر مع الجيلين الأصغر يسودها سوء الفهم والتشكك. يبدو، على العموم، أن ذلك الجيل رأى في الجيل الأصغر حالةً ميؤوساً منها، وصدّق أن الدعاية البعثية نجحت في غسل أدمغتنا وجعلها عاجزةً تماماً عن الفعل والتفكير. في بدايات عام 2011، صرّح كثيرٌ من أبناء الجيل الأكبر أنهم فوجؤا بالمظاهرات وحجمها الهائل.
لم تنجح آلة التعليم البعثية في إخضاع الطلاب، لا في الثمانينيات ولا في التسعينيات. كطلابٍ، لم نكن نتمتع بالوعي السياسي الكافي لكشف زيف الدعاية، ولكننا لم نكن نصدّق أن الأب القائد كامل الحكمة والمعرفة والقدرة. في المدارس، وبعدها بشكل أوضح في الجامعات، كان الملل، والسخرية، هما السائدان عملياً. كان جلّ ما نتمناه هو أن تنتهي حصص العسكرية والقومية بسرعة، علّنا نعود إلى الصخب، أو الفهم، في حصص الرياضيات وعلم الأحياء، حيث التدريس يأخذ مساراً طبيعياً معقولاً. أضف إلى ذلك، أن الانقسامات الطائفية والدينية والأثنية والمناطقية كانت حاضرةً باستمرار. الأكراد أقل تأثراً وأكثر تمرداً من العرب، السنة أكثر تململاً من العلويين، المسيحيون على الحياد، وهكذا.
يوحي مشهد المدرسة في فيلم أميرالاي، لو صح فهمي له، بأن الطوفان غمر المدارس. لا يوجد أي نسمة هواء في المشهد؛ لا يوجد حتى ابتسامة خفيفة أو تثاؤب ما؛ لا يوجد إلا الغياب والفراغ، في عالم حافظ الأسد الرحيب الشاسع السرمدي.
يخطئ أميرالاي، برأيي، في رؤيته هذه. أتمنى لو كان الرجل حياً لنسمع منه. لو عاش ليلمس الثورة التي انتظرها طويلاً، لكسبنا عيناً ثاقبةً في الثورة. أجزمُ بأنه لن يتواني عن الانخراط فيها، لكنه، ككافة أبناء جليه تقريباً، سيعلنُ دهشته منها.
لم يغمر الطوفان سوريا يوماً، كما أنه لم يغمر غيرها. من المستحيل إخضاع الناس واستعبادهم بشكلٍ كامل، مهما اشتد عسف الحاكم وجنونه.
يقول ميخائيل باكونين، الثائر الروسي الأشهر، بأن البشر، كل البشر، في كل مكان وزمان، يتمتعون بغريزة أصيلة هي غريزة الحرية. لا يستطيع أي نظام طغيانٍ أن يقضي عليها، حتى لو خنع الناس مضطرين لفترات طويلة.
ما يحدث في الثورات هو أن الوعي بهذه الغريزة يصل إلى درجة عالية، تجعل من الصعب، أو من المستحيل، إعادة الناس إلى ما كانوا عليه قبل وعيهم هذا.
الثورة، إذن، لم تبدأ في 2011، لا في سوريا ولا مصر ولا في غيرها. الثورة كانت كامنةً في كل مكان، في ابتسامات الطلاب أثناء حصص التربية العسكرية، في نزقهم في معسكرات التدريب الجامعي، في قدرتهم على الاستمرار بالتعلم والحب والضحك والأذى، بالرغم من كل ذلك الذل والخوف الصارخ، كانت الثورة حاضرةً دوماً. سبق الثورة تحركات أعمق، متفاوتة الحجم والقيمة، في مصر وسوريا وليبيا واليمن والبحرين. كل هذه الإرهاصات جزءٌ أصيل من الثورة.
لا تبدأ الثورة، ولا تنتهي، بمعناها الأعمق، في فترة محددة.
الثورة مشروع دائم.
تنتصرُ الثورة عندما تستمر في توسيع مساحات الحرية والخلق والإلهام باستمرار، إلى ما لا نهاية.