نُشر هذا المقال بالانكليزية في مجلة بوليتيكال كريتيك.
لدى يانيس فاروفاكيس خطة، يقف من خلفها كثيرٌ من المؤيدين له ولأوروبا التي يجب أن تكون، والتي يمكن إنقاذها أيضاً. والسؤال اليوم ما إذا كانت خطته (التي لازالت في طورها النظري) وأنصاره وحكايته، قادرة على التحول إلى حركة في نهاية المطاف. السؤال التالي هو ما إذا كانت هذه الحركة، قادرةً على تقديم توجهٍ سياسي مماثل لصفقة روزفلت الجديدة في ثلاثينيات القرن الماضي
الخطة بسيطة، وتقوم على تأويل متناغم للنظرية الاقتصادية، لكنها أقرب إلى الكينزية
دعونا نبدأ بالاقتصاد: الركود والبطالة في منطقة اليورو الناتج عن نقص الاستثمارات. أمورٌ تبدو أقل أهمية، لكنها مدعّمة بفكرة واضحة، يجب ترميم الفجوة في الناتج «الفرق بين مستوى الاستثمار الحالي، ومستوى الاستثمارات اللازمة لتشغيل العمالة بالكامل» من خلال استثمارات القطاع العام، التي من شأنها رفع الفاعلية الاقتصادية إلى أعلى مستوى بتمويلٍ من بنك الاستثمار الأوروبي، الاستثمارات واسعة النطاق. يتحدث فاروفاكيس عن 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، يتم تمويلها بضمانة البنك المركزي الأوروبي.
يدّعي مؤيدوه أن هذا الطرح ما هو إلّا سياسة مالية كينزية، وأنها لن توفر التحفيز الاقتصادي «التشغيل» فحسب، بل تمكين التحول الاقتصادي الهيكلي أيضاً، لأن تمويل هذه «الصفقة الخضراء الجديدة» سيكون من خلال بنك الاستثمار الأوروبي. لكن معارضيه في المقلب الآخر سيقولون إن «قوانين الاقتصاد الطبيعية» ستعود بنتائج عكسية على خطته، عبر طبع عملات إضافية (وبالتالي على مدخرات المواطنين)، ما سيؤدي إلى تضخمٍ هائل.
مع ذلك، وفي ظل الظروف الراهنة التي يشير إليها فاروفاكيس، تبدو مخاطر الصفقة منخفضة جداً، ذلك لأن الاقتصاد الأوروبي لديه كثيرٌ من العوامل غير المُستغَلَّة في الإنتاج بالشكل السليم، بما فيها الملايين من الشباب العاطلين عن العمل، من الجيل الأكثر تحصيلاً للعلم في التاريخ. لن يكون لطبع المزيد من العملات تأثيرٌ تضخمي، قبل أن يصل الاقتصاد إلى تشغيلٍ كاملٍ للعمالة (بمعنى أن ضخ عملات إضافية من شأنه رفع الأسعار). أو بدلاً من ذلك، عوضاً عن رفع الناتج المحلي نقومُ بشراء واستيراد بضائع إضافية (رفع الديون الخارجية). إن حالة العمالة الكاملة لازالت بعيدة المنال، والميزان التجاري للإتحاد الأوروبي أقرب إلى التوازن (واحتمال سقوط سعر صرف اليورو، الذي يمكن أن ينتج عن اتّباع خطة فاروفاكيس، من شأنه أن يسهّل الطريق للصادرات الأوربية في واقع الأمر).
بالإضافة إلى ذلك، فإن الانخفاض المتوقع في معدلات البطالة يحسّن من الموقف التفاوضي للعاملين (بالتالي، نقض الاتجاه الذي يمكن أن يدّعي بأن «العمال لا يعملون»)، ولهذا السبب، يؤدي إلى زيادة احتمالات سياسات الاحتفاظ بالعمالة «الصديقة للتنمية». هكذا يكون الجميع سعداء، الناس يعملون بدلاً من إلقاء القنابل الحارقة على الشرطة، ورجال الأعمال يبيعون بضاعتهم، والاتحاد الأوروبي يزداد قوة، والجميع يعيش في سعادة دائمة.
تبدو خطة بسيطة، هذا صحيح؟ لكن هناك مشاكلاً للأسف. يفسّر فاروفاكيس ببلاغة سبب الضعف الشديد للحركات الاجتماعية الناشئة عن الحركة العمالية، فمن الصعب عليهم أن يكونوا أقوياء عندما يكون هناك سباقٌ نحو القاع في سوق العمل لسنوات عديدة، فيما الاستثمارات (ما عدى تلك الموظفة في سوق العالم الافتراضي) قليلة ومتباعدة. بعد الحرب العالمية الثانية (وقبلها بعقد كامل في الولايات المتحدة الأمريكية)، كانت الحركات النقابية في العالم الغربي في تصاعد: قدّم الخبراء في سياسة «إدارة المطالب» الكينزية لأعضاء نقابات العمال مفهوماً صارماً لكيفية زيادة مستوى معيشة العمال، وكانت النخبة الصناعية مستعدةً للقبول بهذا العقد الاجتماعي: أي حصة عادلة للعمال من ثمار النمو، وفي المقابل سلامٌ اجتماعي. إنّ تضامن ما بعد الحرب في المجتمعات سهّل نجاح الصفقة، وهو ما ضمن سنوات من الاستقرار، وعلاوة على كل هذا فقد أبعد شبح الشيوعية ودبابات الجيش الأحمر عن نهر إلبه
ألمحَ فاروفاكيس إلى تلك الحقبة، وذكرَ العواقب المأساوية للأخطاء التي ارتكبها الألمان، من اشتراكيين ديمقراطيين وديمقراطيين مسيحيين في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي (عندما نُظِرَ إلى التخفيضات في الميزانية كحلٍ للأزمة). ذكَّرَ بالتشكيك بين اليمين واليسار حينها، والذي يتجلّى اليوم عند الديمقراطيين الليبراليين أنفسهم. (إذا أردتَ الدفاع عن فايمار
من غير المؤكد أن يحمل هذا المنظور الإقناع والتهديد الكافي، وفي حين أن نخب التكنوقراط الليبرالية في بروكسل لا يحبون أوربان
من الناحية النظرية، يمكن لرؤية فاروفيسكي لأوروبا اجتماعية أن تثير كثيراً من التعاطف في عالم الأعمال، لاسيما القطاع «الحقيقي»، حيث البطالة والفقر ونقص الطلب الإجمالي، تعد مشاكلَ أكبرَ بكثيرٍ من شبح التضخم والزيادة المحتملة في أسعار الفائدة. مع هذا فإن المشروع الذي أعلن عنه في برلين، وصل إلى طريق مسدود على غرار ما حدث في أربعينيات القرن الماضي مع ميشيل كاليتشي
إن التوسع في تدخل الدولة، أو على الأقل بإدارة مؤسسات الإتحاد الأوروبي، يجب أن يكون واضحاً. وتمكين العمال لن يكون مقبولاً لدى أصحاب رؤوس الأموال، حتى لأولئك (الصناعيين) الذين يستحقون فعلاً وصف «رجال أعمال»؛ ناهيك عن المنتفعين من هذه المرحلة. بالنسبة لهذه القائمة المعارضة «لخيار فاروفسكي»، علينا إضافة كل التكتلات الضاغطة من أجل اتفاقية الشراكة في التجارة والاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، شراكة يعارضها بيان DiEM 25
بالنظر إلى ضعف وفوضى العمل (خصوصاً الآن، في بداية إصلاح فاروفيسكي المنشود)، يبدو أن التوازنات الحالية بين القوى السياسية لا تبشر بالخير لهذه الحركة اليسارية الأوربية المحتملة. أخيراً وليس آخراً، من الجيد الأخذ بالاعتبار إلى حين ترسخ «النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود»، والمفاهيم العملية الكينزية
الحركة الاجتماعية، هي الجزء الأكثر صعوبة في رؤية فاروفاكيس، والمقصود قدرتها على فرض التغيير بما يماثل صيغة التمثيل السابقة للعمال. يجب على الحركة أن تكون «أفقيةً تماماً»، ديمقراطيةً بالطبع، وبالتحديد من دون وجود لجنة مركزية؛ بمعنى أن أي عضو فيها لديه القدرة على الإدارة عبر تطبيق محمّل على هاتفه الذكي. هذا النوع من اللغة معروف جيداً، ومفضّل بين صفوف «الشباب التقدمي»، وعند مؤلف كتاب المينوتور العالمي أيضاً. يستخدم فاروفاكيس شعارات تتناسب والشعور العام بالسخط والتردد الكبير والإدانة، لكن مشكلة «الأفقية المفرطة» التي تصوَّرَها في الحركة، أنها ربما لا تتسق مع الأجندة التي قدّمها، ومع ذلك فتبنيها ربما يكون عبر التكنوقراط التقدمي.
إنّ مقارنته مع ما جرى في ثلاثينات القرن الماضي، وتأكيده على الدور المحدد للمؤسسات في القطاع الاقتصادي خلال نقاشاته، يشير إلى اعتقاده بأن تكنوقراطية فرنكفورت وبروكسيل ولندن، يجب أن تُعارَض من قبل تكنوقراطيي اليسار، بالتركيز على تحفيز الاستثمار والتوزيع العادل والتحوّل الأخضر.. إلخ. لكن، هل سيكون للحركة الأفقية فرصة كهذه في الواقع؟ أو أنها ربما لن تكون أفقيةً تماماً بالمعنى المنشود؟ قد يقول قائلٌ إن الفن الأكثر تقديراً في الديمقراطية، هو إقناع الناس بأن أفكار زعمائهم هي أفكارهم في الواقع، وأن زعيمهم يتبناها رضوخاً لإرادتهم.
على الحركة أن تواجه مجموعةً من التحديات بما فيها ترجمة، أو ربما توفيق، وجهات نظر الناس من جميع الخلفيات وخصوصاً الإثنية؛ من لشبونة إلى تالين، وربما حتى كييف في أحسن تقدير. أنا لا أعرف كم من الراديكاليين (أو التقدميين على الأقل) في مجتمعات جنوب وشرق وشمال أوروبا، على استعداد للقتال معاً من أجل ولاية «كينزية» للبنك المركزي وبنك الاستثمار، وتبني الإصلاح والتغيير في منطق تفعيل آلية الاستقرار في أوروبا. هذا مع الاحتفاظ (وربما تمديد) العمل على إصلاح اليورو؛ لأن إعلان DiEM 25 يعتزم استبعاد دعاة العودة إلى العملات الوطنية. ولا أعرف أيضاً إن كان باستطاعة فاروفاكيس تحويل التوتر الحاد والمعقد بين المؤسسة «السيئة» في كلٍ من فرانكفورت وبروكسيل من جهة، وبين التكنوقراط التقدمي «الجيد» من جهة أخرى، إلى طاقة كافية لتحفيز الناس على الفعل، وجعل هذه الحركة الاجتماعية أكثر تأثيراً وأعظم كتلة.
إنّ كسب عقول المؤسسة (وجيوبها لاحقاً) من أجل تبني مطالب الحركة الاجتماعية، هو أمرٌ أكثر صعوبة. فليس لدى الذين «يملكون» في العالم ما يمكن أن يخيفهم، طالما أن أقصى اليمين يعادي اللاجئين والعاطلين عن العمل والنساء والأقليات الضعيفة. للأسف، إن سيطرة القلق المتعاظم من تدفق المهاجرين، حلَّ محل النقاش حول البدائل الاقتصادية منذ سنوات.
ما الذي يعنيه كل هذا؟ نشر فاروفاكيس كتابه مينوتور الأعمال، وفيه إسقاطٌ لنموذج الأسطورة اليونانية القديمة على واقع القرن الحادي والعشرين. اليونانيُ الذي شارك في الحكم، ضاعَ في متاهة «المينوتورات». ومع هذا، إن نجح في ترويض هذه الوحوش، فقد يكون هو نفسه اسماً لأسطورةٍ جديدة.