بفعل تحطم الثورة على يد التحالف الدولي المساند لتجديد انتداب السلالة الأسدية على سورية، يُحتمل للسوريين الأكثر تماهياً بالثورة أن يدخلوا في حالة ذهنية سلبية، حالة الضدية المعتصمة برفضٍ غاضبٍ بقدر ما هو عقيم. هناك شعورٌ منتشرٌ بالمهانة لم يتولد عن الظلم الاستثنائي فقط، ولكن عن عدم الاعتراف به، وعن ازدراء المظلومين الذين ثاروا من أجل كرامتهم، وكانت ثنائية الكرامة والذل حاضرة جداً منذ بداية تمردهم. بفعل الصدمة المزدوجة، صدمة العنف والإذلال، وصدمة عدم الاعتراف بما تعرضنا له من ظلمٍ وإذلال، بل والتضامن مع القاتل، يمكن أن يتطور تكوينٌ نفسي جمعي يجمع بين الغضب والانكفاء على النفس والانسحاب من العالم، والضدية المحض التي تفضي إلى الهامشية والخروج من الفاعلية السياسية. نحن غاضبون، نشعر أن العدالة معنا، ونرى حقنا يُنكر إنكاراً فظاً، لكننا ننزع إلى لعق جراحنا في العزلة وتَحيُّنِ فُرَصِ الثأر، بدل محاولة العمل بطرقٍ مبتكرة لتغيير واقع الحال.

هذا المزيج من العدالة والغضب والمهانة، ومن الانسحاب في مواجهة عالمٍ قويٍ وغير عادل، يمكنه أن يكون خطراً كفاية، ويؤدي بنا إلى مواقع أشد عزلة، دون أن يُلحق أي ضررٍ بأعدائنا الأقوياء. وهذا قد يدوم لسنواتٍ طويلة قبل الإفاقة من الصدمة، سنوات أثمن من أن نضيعها في الحرد من العالم، ولعن كل شيء. هذا على كل حال ما تحاول هذه المقالة قوله.

الاحتلال السياسي

الأصل في حالة الضدية، في كل وقت، هو الطرد العنيف للسكان من أرضهم السياسية، أي الدولة، واحتلال هذه الأرض بالقوة من قبل حزب أو نخبة أو قلة أو أسرة. وبخاصة حين يقترن الاحتلال بالإذلال، أي بتعيمم شروط حرب مستمرة ينبغي كسبها في كل وقت ضد المحتلين المجردين سياسياً. وهو ما كان واقع الحال طوال سنوات الحكم الأسدي التي خرج العنف فيها من إطار العقاب المقنن، وحتى من إطار القمع الذي يمارسه حكم دكتاتوري بحق معارضيه، إلى إطار الإذلال الشخصي والجمعي، على نحو تجسده الأجهزة الأمنية الأسدية كلها، وكان يبلغ ذروته في سجن تدمر، قبل أن يجري تحطيم رقم تدمر القياسي عبر «تدمرة» المجتمع السوري، أعني تعميم تجربة سجن تدمر التعذيبي الإذلالي على المجتمع ككل في سياق مواجهة الثورة. أتكلم على احتلال الأراضي السياسية السورية كافة، أي احتلال الدولة السورية، بسبب الصفة الاستعمارية لهذا العنف الممتزج بالكراهية والإذلال.

سورية افتقرت إلى أرض سياسية حرة أو مساحة سياسية مشتركة منذ بداية الحكم البعثي عام 1963، وطوال نصف قرن لم يكن السوريون مُمثَّلين في هياكل السلطة تمثيلاً ينتجونه هم، ويتحكمون به هم. قبل الحكم البعثي، لم تكن المساحة السياسية المشتركة مُمأسسة ومترسخة كفاية في بنى الحكم وفي نفوس الناس، لكن تسنت فُرصٌ للتمثيل على نحو متقطع، وكان للتغيرات السياسية العاصفة، المتعاقبة في البلد، مفعولٌ معادلٌ لحيازة مساحة للمداولة العامة، وجنبت البلاد حال «الكربجة» أو الضدية المحض.

اليوم تبدو الضديةُ الغاضبةُ الموقعَ الذي لا بديلَ عنه للغاضبين المُهانين غير المعترف بهم، الذين حُطمت ثورتهم وحياة ما لا يحصى منهم، وأُغلق بعنفٍ ماحقٍ أفق التغير السياسي الذي فتحوه لأنفسهم قبل خمس سنوات، لم تُعرض عليهم خلالها قط مساحة سياسية مشتركة يمكن أن يجدوا لهم فيها موطأ قدمٍ ومنبرَ قولٍ وساحة اجتماع، وفرصةً للتمثيل. بالعكس، اليوم تتضاعف شروط الضدية، الحالة الذهنية الغاضبة، الجانحة نحو رفضية عقيمة. سبق لمثل ذلك أن لوحظ في الإطار الفلسطيني، وكان «الرفض» شعاراً سياسياً فلسطينياً في ثمانينات القرن العشرين، تكونت حوله جبهة خاصة: «جبهة الرفض». وهو ما اندرج ضمن سياسات النظامين الأسدي والليبي وقتها، ثم الإيراني، وما كان مساهمة إضافية في تفريق الفلسطينيين وإضعاف قضيتهم.

السلفية كضدية محض

المثال الأصفى والأكثر تشنجاً للضدية المحض هو المجموعات السلفية، «الروافض الجدد». تولدت هذه المجموعات عن شروط احتلال الدولة وطرد السكان خارجها، أي منعهم من تحقيق ذاتية سياسية حديثة في وقت كانت ذاتيتهم الدينية تتراجع، وكانوا مُقبلين فعلاً على ذاتيةٍ جديدة. وانقضى نحو جيلين بين أول مقاومات سياسية متنوعة من أجل استعادة الأراضي السياسية المحتلة، من قبل علمانيين وإسلاميين، قبل الصعود السلفي الذي يعيد إنتاج الشروط التي ولدته، أعني احتلال «الدولة» في مناطق سيطرته وطرد المنافسين وجميع السكان منها، وشُفِعَ ذلك وفقاً للنهج الأسدي نفسه بسحق إذلالي للمعترضين، وإحالتهم إلى الصمت أو إلى حالة الضدية السلبية.

وأكثر ما يُظهر السيكولوجية الجمعية الضدية ما يتواتر في الخطاب السلفي من كلام على النكاية بالأعداء والكيد لهم، وشفاء صدور المؤمنين («شفاء الصدور» هو مثلاً عنوان «الإصدار» الذي يصور الحرق المتفنن للطيار الأردني معاذ الكساسبة)، فضلاً عن عقيدة الولاء والبراء التي هي بمثابة رفعٍ للضدية إلى مرتبة دين. «الإسلام» يوفر للسلفية المحاربة خطاباً ورمزياتٍ وذاكرة، وبؤرة تكثيفٍ للانفعالات، وسند شرعية، ومصدر كرامة واعتزاز «عزة الإسلام»، لكنه ليس الأصل السببي لهذه الحالة. الأصل هو وقائع الاحتلال السياسي المديد، والحرمان من الدولة ومن التمثيل، وما اقترن بهما (الاحتلال والحرمان) من عنفٍ وإذلالٍ بحق الطامحين إلى امتلاك قطعة أرض سياسية. وبقدر ما استمر شرط العنف والإذلال طويلاً، على ما يشهد سجن تدمر، فإنه يحفر عميقاً في النفس ثنائي المهانة وطلب الثأر. قد لا يظهر هذا الثنائي على السطح، لكنه يبقى حياً، تغذيه حرب قوات الاحتلال السياسي المستمرة ضد المحرومين من الدولة والسياسة والتمثيل (من أحط وجوهها في «سوريا الأسد» الاتهام المستمر لمعارضي النظام بأنهم حاقدون!).

يركّز برتراند بديع في كتاب له تُرجم إلى العربية مؤخراً على الإذلال، ويرى في دينامياته ووقائعه مصدراً لما سماه «باثولوجيا العلاقات الدولية» (أو مرضيات العلاقات الدولية). لكن بديع قصر الإذلال على العلاقات بين الدول مستبعداً العلاقات داخل الدول (كتابه: زمن المذلولين، باثولوجيا العلاقات الدولية)، مستبعداً أيضاً ما يمكن تسميته الإذلال الثقافي أو الحضاري، المتولد عن علاقات القوة بين الثقافات، وما تقترن به من أحكام تبخيس وتغذية مشاعر الدينية (هذا مهم جداً في المجال الإسلامي).

يلزم التوضيح هنا أنه بقدر ما هو انسحابي ومنكفئ، فليس في التركيب النفسي الضدي شيءٌ ثوري. كانت الثورة السورية أنهت حالة التضاد العقيم ونمط الوجود الهامشي الفقير الذي ألفت تشكيلات معارضة، علمانية وإسلامية، نفسها أسيرة له منذ ثمانينات القرن العشرين. فتحت الثورة أبواباً لامتلاك السياسة دخل منها ملايين الناس، تجمعوا واحتجوا وأسمعوا أصواتهم، وأشهدوا العالم على تمردهم. السياسة نزلت إلى تحت، أو أنزل الناس السياسة إلى تحت وامتلكوها. حين كانوا يحطمون صور حافظ وتماثيله، وصور بشار، ورمزيات النظام عموماً، وقد كانت دوماً مرفوعةً فوق رؤوسهم، كانوا ينزلونها إلى تحت، ويضعونها تحت أقدامهم. كانوا بذلك يخرجون رموز الاحتلال من فضاء السياسة الجديد، الذي عمّروه بأصواتهم وأجسادهم واجتماعهم. خرجنا على هذا النحو من انكفاء وضدية سلبية لا تُثمر، إلى فعل إيجابي صانع لواقع جديد، جمهوري، السياسة فيه ملكٌ الناس، العموم، وليست ملكاً حصرياً محروساً بالقتل لسلالة وأتباعها.

الثأر وصنع القبائل

ما يُفضي إليه التولد المديد لمشاعر المهانة ونوازع الثأر، يبدو مواتياً لصعود الروابط العضوية، القبلية والطائفية والإثنية. هذا يحدث بطرق متعددة. أولها ما يترتب على الاحتلال السياسي من نزع الصفة العامة للجماعات وأسرها في نطاق الخاص، ووضع اختلاطها وتمازجها وتشاركها تحت رقابة قوات الاحتلال السياسي. كان من شأن التمازج والتشارك أن يؤدي إلى انخفاض الحدود بين الجماعات، وربما مع الزمن إمحائها، وبالعكس. في المقام الثاني تُقلِّصُ شروطُ القسوة والإذلال الحارسة للاحتلال، والمُمارسة على نحو تمييزي، أُطُرَ الثقة بين الناس إلى أضيق الروابط العضوية، الأسرة، والأسرة الممتدة، والطائفة. «الوطن» و«الشعب» يكفان عن أن يكونا إطار ثقة عام، وهو ما يفتح الباب لأن يثق المرء بشريكٍ في العشيرة أو الجماعة الدينية من بلدٍ مغاير. والعنف التمييزي والمهين، خلافاً للعنف العقابي العام، يدفع الناس إلى الانكفاء على أنفسهم، وتجنب الاختلاط بغيرهم بفعل مشاعر العار والخزي المرافقة لها. وفي المقام الثالث، تُفضّل نخبةُ احتلالِ الدولة ظهورَ أُطُرِ استتباعٍ متخارجة، تدير ظهرها لبعضها، مثل العشائر والطوائف، وربما تخلق مساحات ظل فرعية، وعرفية، مع كل منها، أعني إقطاعات سياسية خاصة للحيازة الفئوية، لا تنضبط بقاعدة عامة، بما يبقي المركز الاحتلالي حراً، ويبقي هذه الجماعات في حالة تبعية، ويمكن نزع حيازاتها الخاصة في أي وقت.

وفضلاً عما سبق، فإن طلب الثأر (والثأر هو سياسة الضدية)، يجد مستقراً اجتماعياً ونفسياً له في القبائل والطوائف، إلى درجة تُغري بالقول إن الثأر ليس شيئاً تقوم به القبائل وما في حكمها، بل إن هذه تتكون حول مطالب الثأر وحاجاته. بعبارة أخرى، الثأر هو الذي يُنتج القبائل، وليس العكس. يكفي أن تحبس وتعذب وتقتل لوقتٍ كافٍ، وجيلٌ واحدٌ هو وقتٌ كافٍ وزيادة، حتى تنتج عشائر وقبائل وطوائف حتى دون سوابق لوجودها. يستثمر المذلولون في أي تمايز جمعي في متناول اليد كي يطوروا رابطة جمعية تساعد على تحمل مذلتهم، وعلى احتضان نوازع الثأر. فإن وُجدت أصلاً عشائر وطوائف كان بها، وإن لم توجد، تُخترع. ما السلفية الجهادية غير طائفة جديدة، متكونة بالضبط حول إذلالٍ ثقافيٍ وسياسي، عالميٍ ومحلي، أي حول الثأر؟

أما نوازع الثأر ذاتها فتتولد كما تقدم من التمييز والإذلال، وما يخلق الاحتلال السياسي المسلح من ضغائن وعداوات بين من يملكون أراضٍ سياسية، ومن لا يملكون. ومنذ أن نتكلم على احتلال وعلى استئثار بأراضي السياسة، فإن طبيعة السياسة ذاتها تتبدل، تصير سيادةً تُقابلها تبعية، بعد أن كانت مداولةً وتفاوضاً وتسويةً محتملة بين متساوين مبدئياً. يتحول المالكون الخاصون المسلحون للسياسة إلى أسياد، إلى عرقٍ نبيل، أرفع في المرتبة البشرية من عموم منزوعي الملكية السياسية. هؤلاء يتدهورون إلى مرتبة الأتباع والعبيد. بعبارةٍ أخرى، حين لا تكون السياسة ملكاً مشتركاً للعموم فإنها لا تكون، ذلك أن الامتلاك الخاص لها يغير طبيعتها، وينقلها من نطاق الشراكة المبدئية إلى نطاق العلاقة بين أرستقراطية وعوام، متبوعين وأتباع. وهو ما يفتح أبواب الامتياز الجوهري والعنصرية، والإيديولوجيات المسوغة لهما.

ولعل هذا في الواقع هو أصل كل أرستقراطية تاريخية: ليس لأنك سيدٌ تمارس العنف التمييزي والإذلالي بحق عبيدك وأتباعك، بل سنحت لك الفرصة لأن تمارس العنف والإذلال بحق غيرك لأمدٍ يتجاوز جيلاً، فصرت السيد وصاروا الأتباع.

والمسألة في المحصلة ضربٌ من صراع الطبقات السياسي، بين من يملكون السياسة ومن لا يملكونها. لا يغير من هذه الثنائية جوهرياً أن يستعين السيد بوكلاء وتابعين مفضلين، أن يستحدث طبقة وسطى سياسية (تتمتع بحيازات سياسية وقتية، وليست مالكة أصيلة للسياسة)، وأن يبني مساحات مشتركة عرفية خاصة بهذه الطبقة السياسية. فهذا يندرج فقط ضمن تحسين شروط الاستتباع على السيد. وكنت تناولت هذا الضرب من الاجتماع السلطاني في مقالة مطولة (السلطان الحديث)، حيث يتولى أعيانٌ جدد تَعهُّدَ المساحات المشتركة الخاصة مع الجماعات. الطوائف نتاجُ بناءِ هذه المساحات الخاصة.

الغرض أن اجتماعيات الثأر في زمننا مصنوعةٌ سياسياً وحديثاً، وليست عطايا من الطبيعة أو من أعماق التاريخ السحيقة. ما يُحتمل أن التاريخ أعطانا إياه يُعاد اكتسابه وبنائه اليوم، لا يستمر من تلقاء ذاته. ليس الثأر نتاج اجتماعٍ ووعيٍ قبليين ممانعين للموت؛ بالعكس، إن القبيلة تتكون حول ثأر أُنتج أو أُعيد إنتاجه في زمننا الراهن.

مسار «قومنة»

لكن حين تتكون القبيلة حول الثأر، فإنها تتشكل به، وتجنح إلى التحول إلى رابطة دموية شديدة الالتحام. ما يمكن أن نسميه أثننة الطوائف في سورية، يستجيب في تقديري لهذه العملية التي يبدو أنها مرشحة لقطع خطوات كبيرة إلى الأمام بفعل الصراع الجاري اليوم منذ تفجر الثورة قبل خمس سنوات. عندما نتكلم على «طائفية» في سورية، نُضمر تهويناً لفوارق ندرك اتساعها بين الجماعات الاعتقادية السورية، ونوحي لأنفسنا ولغيرنا بأنه لولا التلاعب السياسي، المحلي وغير المحلي، بها لأمكن دونما عُسرٍ كبير أن يتشكل منها شعب، الشعب السوري. والواقع أنها كانت تتقدم باتجاه أن يتشكل منها شعب، لولا أن مساراً من النكوص تسارع في الأربعين سنة الأخيرة، هي سنوات تشكل السلطنة الأسدية، وهي ذاتها سنوات احتلال الدولة الأرض السياسية السورية بمجملها. منذ الاحتلال السوري للبنان عام 1976 على الأقل، سرنا في اتجاه معاكسٍ للمسار الذي وصفه بندكت أندرسون، مسار ظهور الأمم كجماعات سياسية متخيلة بفعل رأسمالية الطباعة وتعمم اللغات القومية وظهور الصحف، والمثقفين. بمقدار بلدٍ متحررٍ حديثاً من الاستعمار، كان كل ما هو صلبٌ في بلدنا الفتي ذاته قد أخذ يذوب، بحسب عبارة لماركس في «البيان الشيوعي». في الأربعين سنة الأخيرة سارت العملية سيراً معاكساً في سورية. كل ما كان سائراً في طريق الذوبان عاد يتصلب، وما أخذ يتلامح على أفق تطورنا السياسي من شعب سوري أُعيد إلى روابط الدم أو سار بسرعة نحوها، وما كان يتشكل كفضاءٍ عامٍ تآكلَ وجرى الاستيلاء عليه، ونصبت السلطنة الأسدية رايات نصرها فوقه.

هذا المسار الراجع من المتخيل إلى المحسوس، هو مسار «قومنة» (أثننة) ما نسميه عموماً الطوائف. منذ بدأ الكلام على الطائفية قبل أربعين عاماً، كان يبطنه شعور لم يجد صيغَ مفهومية مناسبة لتصلب الفوارق، وتحول الجماعات الاعتقادية إلى إثنيات، أو «أقوام». الطوائف كائنات خطرة لأنها أطر ثقة استبعادية خاصة، تشكل في الوقت نفسه حدوداً للمتخيل الاجتماعي، لكن قومنة الطوائف أخطر بعد لأنها تقربها من قوميات محدثة، تستبطن الحرب كشرط لعلاقتها مع غيرها، والحدود بينها أشدُّ تصلباً من أي شي كنا نتخيله بين الطوائف. وعليه، قد يكون الاستمرار في الكلام على طوائف وطائفية في سورية ضرباً من تفاؤل يفقد سنده الواقعي شيئاً فشيئاً، وأن ما يتشكل هو أمم- قبائل محاربة، نموذجها المثالي هو إسرائيل.

ترتبط القومنة بالضدية، بما تقترن به الضدية من عداء وتصلب نفسي، ومن رفضٍ غاضبٍ ومن طلب الثأر. وهذا سيخلف آثاراً يرجح لها أن تكون طويلة الأمد، ولا يكاد يقف في وجهها اليوم شيء. لا أحد منا يستطيع وضع نفسه خارج الحالة الذهنية التي أنتجت، فيما أنتجت، داعش. أنتجت قبلها صناعة القتل المنظم تحت التعذيب والمذبحة الكيماوية، وأنتجت ما لا يعرفه غير السوريين: مقادير مهولة من الإذلال والبذاءة والمهانة.

هذا التجارب تغير المجتمع، تصنع وقائع وأوضاعاً اجتماعية جديدة. في التاريخ الاجتماعي لا شيء يزول، ما يتكون يتغير، لكنه لا يزول كأن لم يكن، يُسجل في النفوس، في الذاكرات، في المتخيلات، ويتصلب في تشكيلات اجتماعية.

ويبدو أن للدم بالذات قوة خاصة في التاريخ، من حيث أنه بالضبط يرتبط بالذاكرة وبالخيال وبالأطر الاجتماعية. قد نفكر في أن التاريخ جدل بين الدموي والمتخيل، أي بين الطبيعي والثقافي، وأن الاحتلال يعني حتماً الدم، والدم يعني القبيلة، والقبيلة تعني الثأر، والثأر يغلق الدائرة ويجعل التاريخ دورياً. كسر هذا التتابع يبدأ من كسر الاحتلال السياسي، وهو بقدر ما نتكلم على سورية اليوم، محروس دولياً.

وما أريد قوله في خلاصة هذه الفقرة أن هناك ارتباطاً بين احتلال الدولة، ونزع الملكيات السياسية من السكان، وبين الذهنية الضدية التي تأسر أعداداً كبيرة من الناس في إطار ردود فعلٍ هي الأقل مُلاءمة، ثم بين هذه الذهنية وصعود أطرٍ اجتماعية «قومية»، لا يتمايز التحرر في عالمها عن الثأر والانتقام (كان شعار حركة القوميين العرب التي تأسست عام 1951 هو وحدة، تحرر، ثأر). الثأر ليس وعياً، إنه إطار اجتماعي مصنوعٌ سياسياً، بفعل حرمان الناس من الدولة والسياسة، أي الشراكة في إدارة الشأن العام. وفرصنا للتغلب على الثأر، لذلك، مرهونة بالاشتراك السياسي، أي بالجمهورية.

بناء القضية السورية

والخلاصة أن المخرج الرئيس من الضدية، والقبلية التي تنفتح عليها طلبات الثأر المقترنة بها، هو الامتلاك العام للسياسة من قبل عموم السكان، وتحطيم الهياكل الحارسة للفصل بين من يملكون السياسة، ومن لا يملكون.

لكن يبدو أن حراسة الفصل السياسي محمية بقوى عالمية تتجاوز مواجهتها طاقتنا اليوم، بما يخرج عمليا طلب الاشتراك في السياسة من السياسة. في جذر هذا الوضع أن الدولة-الأمة الحديثة هي، على المستوى الدولي، قبيلة، وقوة إذلال لأعدائها الخارجيين. سيرة الكولونيالية الغربية وصولاً إلى احتلال العراق، وسيرة روسيا في الشيشان وفي سورية اليوم، وسيرة إسرائيل في فلسطين، لا تكذب هذا الخبر.

حالنا اليوم مثل حال الفلسطينيين، إما ان نُحال إلى مرتبة متدنية، ونرضى بأن نُسلب قضيتنا كقضية مساواة وامتلاك متساوٍ للدولة والسياسة، أو أن نُسحقَ إن قاومنا، أو نبني كياناً ضدياً في تفكيره وبنيته، غير قابل لتطورٍ سياسي أو ترقٍ أخلاقي أو نهوضٍ ثقافي، مثل حكم حماس في غزة. وهذا كيان يندرج بطريقته الخاصة أيضا في ألعاب الدول، ويشكل مثل سابقه «جبهة الرفض» عنصر إضعافٍ للقضية الفلسطينية الجامعة، على نحو يكمل الإضعاف الذي تسببت به أوسلو وسلطة محمود عباس.

المثال الفلسطيني مضيءٌ جداً لحالنا السوري في تصوري، لأنه يجسم أمامنا الوضع العضال الذي نجد أنفسنا منذ الآن فيه. مثل الفلسطينيين نحن تحت احتلال (يحتل الدولة في حالتنا، ولا يحتل الأرض)، ومثلهم نخسر قضيتنا إن رجعنا إلى الوراء، ونُسحق أن تقدمنا إلى الأمام، ونُعزل ونهمش إن بقينا في مكاننا.

ولعله بكل بساطة ليس هناك حل في مواجهة قبائل قوية قادرة على سحقنا في كل وقت. لكن يمكن تصور «عروة وثقى» على مستويين، تربط من جهة بين السوريين اللاجئين في البلدان المجاورة، والمتناثرين في الشتات العالمي، وسوريي الداخل، وتربط من جهة أخرى بين الثبات على مبدأ الجمهورية والمساواة السياسية، وإيلاء اهتمام كبير لشغلٍ تأسيسيٍ على المستوى الثقافي. يُعوّلُ على شغل كهذا أن يكون إطاراً لتوليد المعاني ينقذ من الضدية والمرارة، ومن الندب ولوم الذات، ويكرم الثورة المقتولة ومجتمعها، ويمكن أن يسهم في إعادة بناء السياسة ذاتها على أسسٍ تحررية، لا تواجه السلطنة نفسها، ولكن تناسلات السلطانية أيضاً من قبائل وطوائف مقاتلة. تمثيل سورية ثقافياً كقضية تحرر، ليس أقل أهمية من تحرير الأرض السياسية، والتمثيل السياسي الذاتي.

القضية السورية هي هذا الربط  المزدوج بين السوريين في شتاتاتهم، وبين السياسي والثقافي.  وينبغي ألا تمر عشر سنوات على النكبة السورية، قبل أن يبدأ العمل من أجل بناء منظمة تحرير سورية.

خسرنا المعركة اليوم بعد كفاحٍ عظيم، وما تتعين مقاومته بكل قوة هو أن نخسر قضيتنا، إن بالاستكانة لمخططات القوى المتفوقة التي سحقت الثورة، أو بالانزواء السلبي، أو باستبطان القبلية.