واجهت الديمقراطية الليبرالية عدداً كبيراً من الخصوم النظريين «والعمليين»، فعلى اليسار تموضعت كل التيارات الماركسية، التي ازدرت الديمقراطية الليبرالية بوصفها -عملياً- مجلس إدارة مصالح البرجوازية، وعلى اليمين نجد أولئك الذين اعتبروا أن التعددية السياسية تصطنع انقسامات في الشعب، وهو جسم طبيعي وموحّد أصلاً. كارل شميت (1888-1985)، الفيلسوف القانوني الألماني، كان أحد أهم أصوات هذا النوع الثاني من النقد للديمقراطية الليبرالية. اشتُهِرَ شميت بعضويته في الحزب النازي، ومناهضته للنظام البرلماني خلال جمهورية ويمار.النظام السياسي في ألمانيا بين عام 1918، أي نهاية الحرب العالمية الأولى، و1933، أي صعود النازية (المترجم).

لقيت أطروحات شميت إدانات شديدة من المفكرين المعاصرين، غير أنه لا بد من الإشارة إلى أثره الواضح في أيامنا هذه، كما سأحاول التفصيل أدناه.

لكن، قبل الوقوع في متلازمة غودوينملاحظة في التواصل الاجتماعي وضعها مايك غودوين عام 1990، وتقول أنه كلّما طال نقاش افتراضي أكثر اقتربت احتمالات استخدام مقارنة مع هتلر أو النازية من 1(م).، أود أن أراجع بعض أطروحات شميت باختصار، إذ نجد أنفسنا اليوم داخل نقاشات حيّة حول مقدرة أنظمتنا السياسية على المحاسبة وتمثيل إرادة الناس في سياق فصل السلطات وإفراغ سلطة الدولة. لذلك، أجد من الحيوي أن نتابع النقاشات الجارية اليوم مع نظرة طويلة المدى نحو الأمام ونحو الخلف، حتى لو كان ذلك لمجرد الحذر من الوقوع في ما تم الوقوع فيه سابقاً.

نقد الليبرالية

عند مراجعة أفكار الحقبة التاريخية لشميت، نجد عماد تنظيره وتنظير كثيرٍ من معاصريه في نقد الفكر الليبرالي والديمقراطية الليبرالية، ففي نصوصٍ عديدة، يحاجج شميت أن الليبرالية والبرلمانية والديمقراطية كانت عناصرَ متلازمة في حقب تاريخية عديدة سابقة، لكن لا يمكن في الوقت الحالي (ويقصد بذلك عام 1923) اعتبارُ أن الأفكار الليبرالية-البرلمانية تتطابق مع مبادئ الديمقراطية الجماهيرية. بالنسبة لشميت، تنتمي ثرثرات البرلمانات ونهج «الحكم بالنقاش» (Government by Discussion) إلى عالم الليبرالية، ولا علاقة لهذه العناصر بديناميكية الديمقراطية الجماهيرية، ما يقتضي التخلص من المؤسسات التي لم تعد صالحة، إذ لم يعد البرلمان مكاناً للسجالات العامة. هل سمعنا هذه الفكرة مؤخراً؟إحدى الأفكار المتداولة بكثرة في اسبانيا خلال الأزمة الاقتصادية والسياسية التي عصفت بالبلد ابتداءً من عام 2008، وخصوصاً بعد اندلاع الاحتجاجات الشبابية في أيار 2011 (م)..

في الواقع، نجد أن اللجان المركزية في الأحزاب أو الائتلافات تقرر مصير المواطنين وراء بابٍ مغلق، وفي الديمقراطية الجماهيرية، حيث تخضع الأحزاب لانضباط حديدي، ليس النقاشُ العام إلا مسرحيةً بحتة. ليس هناك أكثر من «توافقات مكاتب» تختطف إرادة الناس، ويبتعد البرلمان كثيراً عن أن يكون حاضن النقاشات العامة الحقيقية لعجزه عن التوفيق بين المصالح المتناقضة الموجودة في المجتمع، ولا تجد هذه التناقضات طريقة للتعايش إلا عن طريق مفاوضات تجري بعيداً عن أعين الرأي العام. عدا ذلك، ينتقد شميت كيف يحرم الانضباط الحزبي النائب المنتخب من أن يُمثّل الشعب بشكل حقيقي، ويُمنع من تغيير رأيه وموقفه على ضوء النقاش العام.

لا شك أن هناك تقاطعاتٍ كثيرة بين الانتقادات الحالية لقصور الديمقراطية البرلمانية وتشوّهاتها، وبين الأفكار التي عرضها شميت في زمنه، وكمثال على ذلك نُشير إلى طغيان المنطق الجبري على منطق التمثيل في العلاقة ما بين الممثلين المنتخبين والأحزاب التي ينتمون لها.

لم يقتصر نقد كارل شميت للديمقراطية الليبرالية على النقاط المؤسساتية فقط، بل تعداه إلى نقد جوهر الليبرالية. يرى شميت أن الليبرالية تعني نزع السياسة عن الحياة العامة، فحسبما يرى، تبحث النظرية الليبرالية عن تحييد الدولة من أجل تحرير المجتمع البرجوازي، أي، بقول آخر، البحث عن مجالات عمل رأسمالي متحرّرة من تدخلات السلطات السيادية، والسعي لحماية الحريات البرجوازية الفردانية. السياسة، حسب شميت، نقيض ذلك بالمطلق: محاربة الفردانية التي تُذيب الروابط الإنسانية.

بالنسبة لشميت، الهدف الأسمى للبرجوازية ليس إلا حماية الحقوق الفردية (خصوصاً حق التملّك) أمام الدولة، وهذا ما يدفعها للسعي إلى تقييد كل وظائف الدولة بالقوانين، والبحث عن تقسيم وفصل السلطات وتقليص المحتوى السياسي للدولة قدر الإمكان. كل تدخّل وكل مسّ بالحرية الفردانية اللامحدودة والملكية الخاصة والتنافسية الحُرّة، يُقدَّم على أنه فعل عنف من قبل الدولة. الليبرالية لا تقبل من وظائف الدولة إلا ضمانات شروط الحرية، ومسح أي حدود أو قيود أمامها.

يُدافع شميت عن فكرة أن الديمقراطية، في الواقع، هي لا-ليبراليةٌ بعمق، حيث أن الديمقراطية سياسيّةٌ بامتياز. لذلك، يجب أن تتلازم الديمقراطية مع مناهضة الليبرالية ومُنتَجها الأهم، أي دولة القانون البرجوازية. أُسّ فكرة شميت هذه هو إنهاء الأفكار حول الفصل بين الدولة والمجتمع، وأمام هذه الأفكار الليبرالية، يقترح شميت الانعطاف نحو الدولة الكلّية، القائمة على نفي الفارق بين الدولة والمجتمع.

الدولة الكلّية والتسييس

يعني مفهوم الدولة الكلّية عند شميت أن تختفي التمييزات بين الدولة والمجتمع، حيث أن الدولة ليست إلا تنظيماً ذاتياً للمجتمع، وهذه الفكرة أساسية بالنسبة لشميت، لأنها تعني اعتبار كل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية مشاكل دولةٍ بشكل مباشر.

في صياغة متأخرة لهذه الفكرة، يُشير شميت إلى «دولة كلّية» بمعاني تُركّز على النوعية والطاقة، وهذا يتعلّق بشكل مباشر بالدولة التوتاليتارية. يجب على هذه الدولة أن تكون قادرةً على الاستحواذ على تقنيات السلطة الجديدة، وألا تسمح بوجود قوى مُعادية ومُعيقة للحركة في داخلها، وأن تكون قادرة على التمييز بوضوح بين الأعداء والحلفاء. وفي تحليله للحالة الألمانية، يصرّ شميت على أن نظام الأحزاب التعددي الذي انتهجته جمهورية ويمار قد أدى إلى نموذج دولة ضعيفة وعاجزة عن مقاومة الهجمات المصلحية المنظّمة، أي الدولة كشخصٍ مريض، طريح الفراش، مُجبرٍ على القبول بكل شيء، وعلى أن يُرضي الجميع، وأن يُموّل ويخدم مصالح متناقضة فيما بينها.

يقول شميت في كتاباته «ليس لدينا في ألمانيا أي دولة كلّية، بل مجموعة أحزاب كلّية يريد كل واحدٍ منها أن يفرض كلّيته على أفراده، وأن يُهيمن عليه منذ ولادته حتى دفنه، في مدرسته وفي ناديه الرياضي، وحتى في مكتب دفن الموتى». الأثر السلبي لنزاعات الأحزاب، بالنسبة لشميت، هي أنها تُسيّس حياة الشعب بشكل كامل (نُلاحظ هنا أن شميت يستخدم مفهوم التسييس بمعنى سلبي)، ما يعني أنها «تُجزّئ الوحدة السياسية للشعب الألماني». الأحزاب تُقسّم المجتمع، هذه فكرة مألوفة بالنسبة لنا أيضاً.

يذهبُ الكاتب أبعد من ذلك في طرح السمات العامة لهذه الدولة التسلّطية، والتي يبدو أنها تستقي بعض ملامحها من الدولة الفاشية الإيطالية. من هنا يأتي طرح نوعين من «التسييس»، تسييسٌ غير شرعي ناتج عن الصراع الجماعي على المصالح ضمن المؤسسات السياسية الليبرالية-البرلمانية، أي الأحزاب؛ وتسييسٌ شرعي نجده في وعي الجوهر السياسي للشعب، أي زرع وحدة الشعب ضمن الجماعة.

رصيد الديمقراطية: التجانس والهوية

نتيجةً لما سلف ذكره، يرى شميت ضرورة وجود ديمقراطية مُطهّرة تماماً من أي مبدأ ليبرالي. لذلك، يرى أن مبادئ الحرية والمساواة متناقضةٌ فيما بينها، والثانية فقط صالحة كمبدأ ديمقراطي. لكن نجد أيضاً غرابةً في طرحه لمبدأ المساواة، حيث يقول «كل ديمقراطية حقيقية يجب أن تتأسس على مبدأ معاملة المُساوي بمساواة، ولكن أيضاً يجب أن تُعامل المُغاير بطريقة مُغايرة (….) الديمقراطية تقتضي التجانس أولاً، وعند الضرورة إبعادَ أو إزالةَ المُغاير».

يستنتج شميت من هذه الأفكار أن مسألة المساواة تعني الانتماء لأمّة معيّنة، أي التجانس القومي. لذلك، يرى أن القوّة السياسية لأي ديمقراطية تظهر في إزالة أو استبعاد الغريب. يجب أن يُنهى المُغاير الذي يهدد التجانس، ومن الممكن إقصاء جانب من الناس المنضوين تحت سلطة دولةٍ ما، دون أن تفقد هذه الدولة طابعها الديمقراطي. يُناهض شميت بوضوح فكرة المساواة بين كل البشر، هذه اليوتوبيا الديمقراطية تتناقضُ مع أطروحاته حول المساواة الجوهرية، أي التجانس.

نرى اليوم أن هذه الأفكار تستحق الإدانة، وأنها بعيدة كل البعد عن مبادئنا الأساسية، لكن شميت خطا خطواتٍ تالية كان لها مسارٌ أطول من هذه، إذ دافعَ عن ضرورة رفع التجانس إلى مستوى الهوية: هوية تجمع الحاكمين بالمحكومين. بطبيعة الحال، لجأ شميت في تنظيره هذا إلى روسو، وأعاد تفسير أفكار روسو من وجهة نظره هو.

يعتبر شميت أن العقد الاجتماعي، حين يُنزع عنه الطلاء الليبرالي ويُحافظ على نواته الجوهرية، أي الإرادة العامة (Volonté Générale)، يعني أن الدولة الحقيقية، حسب روسو، توجد فقط حيث يصل تجانس الشعب إلى الدرجة التي تسمح له بفرض الإجماع على المسائل الجوهرية. لذلك، حسب العقد الاجتماعي لا يمكن أن يوجد في الدولة أي حزب، أو أي مصالح غير عامة، ولا أي تباينات دينية تفرّق بين البشر. يجب أن يوجد حاكمٌ واحد هو الشعب، وهو الذي يفرض وجود هوية تشمل الكل. لأجل ذلك، يصرّ شميت على أن النموذج السياسي الديمقراطي لا يمكن إلا أن يتأسس على مفهوم مساواة محدد وجوهري، أي الانتماء لشعبٍ ما.

الشعب والوحدة السياسية

يعتبرُ شميت أن الشعب، بوصفه معبراً عن القوة المؤسِسة، ليس كياناً منظماً بحدّ ذاته، بل يرى أنه كتلة غير مبنيّة، لكنها لا تتوقف عن بناء نفسها باستمرار. هذا هو الدافع الرئيسي في أي حدثٍ سياسي، ويؤدي إلى إنتاج أشكال وأنماط جديدة للتنظيم باستمرار. يرى شميت أن الشعب كان «الحالة الثالثة» خلال الثورة الفرنسية في مواجهة الإكليروس والنبلاء، في حين صارت البروليتارية هي «الشعب» حين استحوذت البرجوازية على السلطة.

في المقابل، يُظهر شميت منظوره لموقع الشعب كتابعٍ في أسلوب السلطة. هذا الشعب، هذه الجموع، عليها فقط أن تعبّر في لحظات قليلة مهمة، وأن ترد بـ «نعم» أو «لا» على المسائل الأساسية، أي الاستفتاء كأسلوب أساسي في التعبير العام. بالتقاطع مع روسو، يُشير شميت إلى استحالة تمثيل الشعب. وأمام شعار «لا يمثلوننا»أحد شعارات الاحتجاجات الشبابية في اسبانيا عام 2011 (م). و«لا يمكن أن يمثلونا»، يرى شميت أن الطريقة الوحيدة للتعبير هي عن طريق الاحتجاج العام، والذي لا يمكن أن يُنظّم ولا أن يُحوّل لعملية مقوننة.

يعتبرُ شميت أن ضمانات قانونية من نوع الاقتراع السرّي، أي المطلب الكلاسيكي للطبقة العاملة، ليست أمراً مرغوباً من حيث أنها تُعيق تشكيل رأي عام علني. فالشكل الطبيعي للتعبير المباشر عن الإرادة الشعبية هو صراخ الحشود بالإيجاب أو النفي، التعبير الجماعي هو التعبير الحيوي والطبيعي واللازم لكل شعب. الليبرالية تسعى لجعل هذا النوع من التعبير الجماعي مستحيلاً، إذ أنها لا تعترف بالتجمعات الشعبية ولا تكترث بالاحتجاجات الجماعية. والانتخابات قاصرة عن التعبير عن الانفجارات الآنية، وعن التعبير عن الإرادة الشعبية. هل هناك طريقة أفضل للتعبير من أن نرى شعباً مجتمعاً في ساحة للتعبير عن الإرادة الحقيقية للناس؟

في مفهوم شميت، يشغلُ الشعب موقع حامل السلطة الأعلى من حيث المبدأ، لكن هذا الشعب عاجزٌ عن حكم نفسه. لأجل ذلك، تتزاوج الإرادة الشعبية الديمقراطية مع سلطة فرد أو أقلية تعمل على طرح المسائل على الشعب، والذي يتتبع هذه المسائل ويعمل على الموافقة عليها أو رفضها. ففي المحصلة -وهنا المسألة الأساسية- كل ما هو سياسي يقوم على التمييز بين العدو والصديق. ليست الدولة «سياسية» إلا عندما تكون قادرة على التمييز بين العدو والصديق، في الداخل والخارج.

أما في ما يخصّ المجتمع، فإنه يتحول إلى جماعة حين يتسيّس، وتتأسس الدولة وفقاً لهذه الجماعة السياسية، هذا الشعب. الطاهرون والموهوبون ضد الأعداء.

أصداء شميت

تكثرُ الانتقادات للديمقراطية الليبرالية في عالمنا اليوم، وتولدُ هذه الانتقادات من ديناميكيات بنيوية وظرفية. بنيويّة ناتجة عن التحولات التي عاشتها مجتمعاتنا، والتي أصبحت أكثر تعقيداً وأكثر عولمة، وحيث يبدو أن الفاعلين الكلاسيكيين قد باتوا عاجزين عن إدارة حجم التحديات التي نواجهها؛ وظرفية من حيث أننا نجد أنفسنا وسط أزمة كبيرة تسببت باستياء عام كبير في السياسة والاقتصاد، خصوصاً في دول جنوب أوروبا. يُشكل هذان العنصران جذع كثيرٍ من الانتقادات التي نوجهها لأنظمتنا السياسية.

في المقابل، من المهم أن ننتبه إلى فيضان كثيرٍ من الأفكار النقدية عن الواقع. البرلمانات خالية المحتوى والمعنى؛ الأحزاب ليست إلا كيانات توزع امتيازات وتقسّم الشعب؛ فصل السلطات يتناقض مع جوهر التعبير الديمقراطي؛ يجب أن نبحث عن هوية جامعة بين الحكام والشعب. هذه الأفكار التي يكثر طرحها في يومنا هذا، والتي تنتج غالباً عن كثيرٍ من النقاط العمياء التي تعاني منها النظرية الليبرالية حول الديمقراطية، والتي أدت، في حالة شميت، إلى تغذية أشباح التوتاليتارية في فكره. يبدو لنا اليوم أننا محصنون ضد التوتاليتارية، لكن إما أن نواقص وعطوبات نظامنا التي نراها ليست جديدةً على الإطلاق، أو أن علينا أن نعيد النظر في مقارباتنا لجوهر فكرة الديمقراطية.