كحال بقية مجتمعات المنطقة، وبشكل رديفٍ للتحولات التي أحدثها «الربيع العربي»، فإن الطيف الأوسع من المجتمع السياسي الكُردي في عموم المنطقة، بات يستشعر أمكانيةً أكبر لتحقيق ما يصبو إليه من «حرية».
لكن تبعاً للخصائص السياسية التاريخية التي عاشتها هذه المُجتمعات الكُردية، خلال مسيرة القرن الماضي كُله، منذ انهيار الإمبراطورية العُثمانية وحتى الراهن، فإن الوجدان والوعي السياسي الكُردي الراهن يستشعر مفهوم «الحُرية» بدلالات ورؤى متمايزة فيما بينه، مُختلفة ومتباينة ورُبما متصارعة. على عكس ما تسعى التيارات السياسية الكُردية «الحزبية» أن توحي به، حيث تتخيل الكُرد كتلةً سياسيةً صلبة، لها جُملةٌ من الأهداف والمرامي المُتفق عليها، وكأنه للكُرد ذاتٌ جمعية صلبة، وليسوا مجتمعاً واسعَ الطيف ومتنوع المنابت والمصالح والميول والخيارات السياسية.
ما سوف تحاول هذه المقالة تفكيكه، هو هذا التمايز/التطابق في الوعي السياسي الكُردي حول «مفهوم التحرر»، عبر سبر المسيرة التاريخية «المُركبة» التي خاضها هذا المفهوم في الحياة السياسية الكُردية المعاصرة.
التأسيس
ربما يصح القول إن تاريخ تأسيس جمعية الاتحاد والترقي العُثمانية 1889، هو التاريخ الذي بدأت فيه نُخب ومُجتمعات المنطقة تتبنى مفاهيم الحداثة السياسية، التي كانت تتطابق مع قيم الثورة الفرنسية وعموم المذاهب الوضعية الأوربية. فعبرَ أدبيات «القادة» السياسيين لهذه الجمعية، تسربت مفاهيم الحُرية والديمقراطية والبرلمان والدستور بمعناها السياسي المعاصر لأول مرة إلى العالم السياسي التقليدي للسلطنة العثمانية. فالجامع المُشترك الأكبر بين مؤسسي هذه الجمعية كان الإعجاب والولاء لهذه «القيّم الغربية» وكراهيتهم لنمط «استبداد السُلطان عبد الحميد»، ورغبتهم في تحديث السلطنة العُثمانية عبر «التحرر من الاستبداد الحميدي».
لم تكن واضحةً في السنوات التأسيسية الأولى التناقضاتُ الداخلية ضمن تلك الجمعية السياسية، وبالذات منها تناقضات «المرامي القومية» لأعضائها المُنتمين إلى أرومات عُثمانية قومية شتى، خصوصا التُرك والكُرد منهم. فمن بين الآباء المؤسسين الستة، كان الكُرديان عبد الله جودت وإسحاق سكوتي من أبرز المُنظرين لرؤية الجمعية التحديثية، ومن بعدهما كان الشيخ عبد القادر النهري نجل «مؤسس» الوعي القومي الكُردي الحديث عُبيد الله النهري من أبرز قادة الجمعية الذين قادوا الثورة الفاشلة ضد السلطان عبد الحميد عام 1896.
استمر هذا التناغم الكُردي/التُركي
سعى القادة الترك إلى بناء دولة مركزية حديثة، مطابقة لتلك التي أسسها جيل القوميين الفرنسيين الثاني بعد انتصار الثورة الفرنسية، من خلال تتريك المجال العام وصناعة سُلطة قرار وتوجيه مركزية شمولية. كان هذا الأمر بطبيعته على حساب الوعي الكُردي لمفهوم «التحرّر» السياسي، الذي كانت يعني وقتها مزيداً من اللامركزية السياسية والإدارية، التي كانت متوفرةً أساساً في عموم المناطق الكُردية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية تقليدياً.
وسعى القادة الكُرد إلى تأسيس جمعيات سياسية كُردية خاصة، تُعبر صراحةً عن الطموحات السياسية الكُردية الخاصة، المتمايزة عن نظيرتها التُركية، والتي لا تسعى فقط إلى التحرر من نمط وهوية الحاكم الأعلى للإمبراطورية، بل تعني أيضاً التحرر من سُلطة وهيمنة ومركزية العُنصر التركي في العالم السياسي للإمبراطورية العُثمانية.
في تلك السنوات الأولى انضم العشرات من أبناء النُخب الكُردية الأكثر «تحديثاً» وتأثراً بالمفاهيم الألمانية والفرنسية للـ«الحرية» بمعناها القومي/الإثني، وكانت جمعية التعاون والتقدم الكُردية، التي عُرفت فيما بعد باللجنة القومية وأسسها الأمير أمين عالي بدرخان والجنرال محمد شريف باشا والشيخ عبد القادر النهري، كانت المنبر الأكثر تعبيراً، والذي عبره تسرب ذلك الوعي «القومي» الكُردي للتحرّر. فهؤلاء الثلاثة ينتمون إلى العائلات الكُردية التقليدية، التي تُعتبر «العوائل المؤسسة» للوعي القومي الكُردي.
خلال تلك السنوات بين انتصار «ثورة تُركيا الفتاة» 1908 واندلاع الحرب العالمية الأولى، وبفعل وتأثيرات مجريات تلك الأحداث التي سببت قطيعة مع الماضي العُثماني المديد، كان الوعي السياسي الكُردي لمفهوم «التحرّر» ينقسم إلى حيزين متباينين تماماً:
– النُخب السياسية التي كانت تعيش في الحواضر الكُردية والعاصمة، التي باتت تستشعر بالتقادم أن الحل الوحيد هو الخلاص الكُلي من هيمنة العنصر التُركي ومركزيته، وأن الكيان القومي الكُردي وحده قد يحقق «الحُرية» المُرتجاة. حاول هؤلاء بشكل مُستميت نشر دعوتهم ورؤيتهم السياسية هذه، في الأوساط الشعبية الكُردية، عبر نشر أديباتهم القومية «التحريضية»، والتي لم تكن تلقى قبولا شعبياً، لعدم قُدرتها على الوصول بسبب الأُمية، ولما تعرضت له من نبذ وتشويه من قِبل النُخب «السُلطوية» المشيخية والعشائرية التقليدية، التي كانت تعاند كُل سياسات وبرامج التحديث العُثمانية التي بدأت تنتشر منذ أيام السلطان محمود الثاني، وإن كان عبر نُخب تنتمي للأرومة الكُردية.
– القادة والزعماء الكُرد المحليون، الذين هيمنوا على قطاعاتٍ جُغرافيةٍ بعينها، بعدما ظلت الإمبراطورية العُثمانية تُحطم الأمارات الكُردية طوال القرن التاسع عشر. كان هؤلاء القادة يمتلكون رؤية «قومية كُردية» لمفهوم التحرُر، لكنهم كانوا يشعرون بأن السُلطان عبد الحميد من خلال «سياسة الوحدة الإسلاميّة» التي بدأ ينشرها منذ أوائل عهده، إنما يمنح الكُرد امتيازات استثنائية، خصوصاً في مواجهة خصوم الأكراد المحليين، الأرمن والآشوريين واليزيدين، وأن الكُرد إنما يجب أن يتحرروا من تبعات السياسات التحديثية في الإمبراطورية العُثمانية، التي قد تمنح هؤلاء «الخصوم» ميزات سياسية موازية لنظيرتها الكُردية.
شكّل الزعماء المحليون أمثال الشيخ عبد السلام بارزاني والشيخ نور محمد الدهوكي والشيخ محمود الحفيد وأبناء إبراهيم باشا الملي نماذج عن هؤلاء الزعماء، حيث كانوا على الدوام يُرسلون التماساتٍ إلى السُلطات الحاكمة، تُطالبُ بتبني اللُغة الكُردية كلغة رسمية في أرجاء الجُغرافيات الكُردية، وأن يتمتع الزُعماء المحليون بسُلطة تعيين الموظفين المحليين وتبني المذهب الشافعي الذي يتبعه الأكراد في القوانين والأحكام …إلخ. لكن حجم الكراهية العميقة المزدوجة التي كان قادة «الاتحاد والترقي» يحملونها تجاه هؤلاء القادة المحليين، كونهم تقليديين موالين للسُلطان عبد الحميد من جهة، وكونهم كُرداً من جهة أُخرى، أدت إلى الفتك بأغلبيتهم المُطلقة. وهو ما ساعد على صعود «المفهوم القومي» للتحرُر في المُخيلة الجمعية الكُردية، والتي سوف تؤدي فيما بعد إلى تشكل «الفصام» الكُردي/التُركي، لكن فقط بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وتحقيق القوميين الأتراك كامل برنامجهم السياسي «القومي».
أثناء الحرب وبعدها
لم تكن الحرب العالمية الأولى تعني بالنسبة للكُرد لحظة «التحرر» من الإمبراطورية العُثمانية وهيمنة العُنصر التُركي وصعود الرؤية القومية الكُردية، مثلما كان الحال بالنسبة لأبناء القوميات العُثمانية الأخرى، اليونان والبُلغار والأرمن والآشوريين والعرب. فالوجدان الكُردي كان مُنقسماً بشكل حاد في سنوات الحرب الخمسة (1914-1919)، والتي امتدت مع الكُرد لتغدو عقداً كاملاً (1914-1924)، حتى تأسيس الجمهورية التُركية الحديثة، والإدراك الكُردي لمستوى «الخديعة» التي تعرضوا لها.
فنُخب الحواضر مع كثيرٍ من القادة العسكريين، وبمشاركةٍ من طيف صغير من القادة المحليين في المُدن، كانوا يرون في دول الحُلفاء وبالذات بريطانيا فُرصةً لتحرّر الكُرد من نير الهيمنة العُثمانية المديدة، وأن الكُرد يجب ان يعقدوا معاهدات وتعاوناً عسكرياً وثيقاً مع دول الحُلفاء، بشكل مُطابق لما فعله أبناء القوميات العثمانية الأخرى.
صحيحٌ أن هذه الرؤية كانت مُعزَّزةً بخيبة المجتمعات الكُردية «التقليدية» من برامج قادة الاتحاد وسلوكياتهم العنيفة تجاه القادة المحليين الكُرد «التقليديين»؛ لكنها مع ذلك لم تكن تستطيع أن توازي حجم المخاوف الكُردية الرهيبة من التحولات التي قد تُؤدي إلى انهيار السلطنة العُثمانية، والتي سوف تؤدي بشكل موازٍ لهيمنة دول الحُلفاء وروسيا على المنطقة الكُردية، الحُلفاء «المسيحيين» الطبيعيين لأبناء القوميتين الأرمنية والآشورية، الذين كانوا خاضعين بشكل أو آخر للسُلطة السياسية للزُعماء الأكراد، بـ«فضل» السياسة الاستراتيجية التقليدية للإمبراطورية العثمانية في تلك المنطقة منذ خمسة قرون، والتي تُمايز الكُرد «السُنة» عن نُظراءهم في تلك المنطقة.
لذا، وعلى عكس باقي مناطق السلطنة العثمانية غير التُركية كُلها، لم تدخل قوات الحلفاء إلى المناطق الكُردية بشكل سهل وقبول جماهيري، بل شهدت هذه المناطق الكُردية أنماط مُركبة من الحروب الاهلية، بالذات بين الكُرد الموالين للسلطنة العثمانية وأبناء الجماعات الأثنية الأخرى المتحالفين من دول الحُلفاء
فبينما كانت جميع مناطق السلطنة العُثمانية غير التُركية قد سقطت بيد الحلفاء بدأ من عام 1917، فإن تلك القوات لم تدخل المناطق الكُردية قط، بالذات منها المناطق التي تقع في تُركيا راهناً، وكذلك لم تدخل المناطق الكُردية العراقية إلا عبر سلسلةٍ من التوافقات مع القوى السياسية المحلية، أو عبر سلسلة من الحروب المريرة مع هذه القوى السياسية الكُردية المحلية، وكانت حالة الزعيم الشيخ محمود الحفيد في مدينة السُليمانية نموذجاً مُركباً عن ذلك.
انسحبَ ذلك الانقسام ليطال اللحظة التي عرض فيها الكُرد مطالبهم على دول الحُلفاء في مؤتمر الصلح الشهير عقب نهاية الحرب، فبينما عرضت النُخبة السياسية الكُردية بقيادة الجنرال شريف باشا –سفير السلطنة العُثمانية في السويد- المطالبَ الكُردية بالاستقلال و«التحرّر» من سُلطة الدولة التُركية الحديثة، فإن قادة المناطق وزعماء العشائر الكُردية عبروا بأغلبيتهم المُطلقة عن رغبتهم في البقاء ضمن الدولة التُركية، من خلال شهاداتهم أمام اللجنة الشهيرة التي قرر المؤتمر إرسالها إلى المنطقة لتقصّي حقيقة خيارات السكان المحليين.
في الدول الحديثة وصعود اليسار
بُعيد نهاية الحرب العالمية الأولى، وبدء تأسيس الدول الحديثة الأربعة، فإنه لأول مرة بات «الوجدان» السياسي الكُردي «التقليدي» و«الحديث» على اتساق في وعيه للـ«التحرُر». وكانت ثورتا الشيخ سعيد بيران 1925، ومن ثم الشيخ علي سيد رضا 1937، أكبر تمثيلٍ سياسيٍ لذلك الاتساق.
فصحيح أن كلا الثورتين كانتا مُلتبستين بخطابية دينية/مذهبية، إلا أنهما كانتا مشبعتين بالنزعة الكُردية لأول مرة، ولم تستطع السُلطة المركزية اللعب على خيوط «التباين» الكُردي الداخلية.
تعمق ذلك الاتساق في الوعي الكُردي لـ«مفهوم التحرّر» في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى، وبالذات في «كُردستان تُركيا»،التي يُسميها الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني بـ«مصر كُردستان»، وذلك لحجمها ومركزيتها وتأثيرها على المسألة الكُردية في باقي المناطق. فـ«الأتاتوركية» خاضت معركة اقتلاع ضد النُخب الكُردية والأعيان الأكراد على حد سواء، وبذلك خلقت وعياً سياسياً كُردياً عمومياً، يرى في «التحرّر» حيزها الذي يعني التحرر من «جبروت الدولة» الحديثة ومؤسساتها القسرية المركزية.
في الدول الثلاثة الباقية، إيران والعراق وسوريا، كان الوجدان السياسي الكُردي منقسماً بحدة بين طبقة من السياسيين الذين كانوا يرون في «المُستعمرين» فرصةً للإقرار بالمطالب القومية الكُردية، ويستشعرون بأن هذه الدول سوف تتنكر لأي حقوق قومية فيما لو تخلصت من الاستعمار. مقابل نُخبةٍ «اندماجية» كانت تعتقد بأن المعضلة المركزية هي في وجود «العُنصر الأجنبي» الغريب، وأن الكٌرد يستطيعون حل مُعضلاتهم مع ذوي البلاد الأصليين فيما لو تحرر الطرفان من نيّر الاستعمار الغربي.
كان الانقسام الشاقولي بين الأكراد السوريين عام 1936، حول مُستقبل وحالة الكُرد في سوريا، أثناء المفاوضات السورية/الفرنسية على الاستقلال، والتي أدت إلى شبه حرب أهلية داخلية كُردية في الجزيرة السورية، كانت صورة مُصغرة عن الانقسام الكُردي في تلك السنوات الفاصلة بين الحربين.
لكن تحطُم الحركة القومية الكٌردية عقب الانهيار السريع ل«جمهورية كُردستان» في مهاباد عام 1946، وقدرة الدول الثلاث، على غرار الدولة التركية، إعادة بناء مؤسساتها المركزية، وبالذات منها المؤسسات التي تحتكر العنف، كالجيش والاستخبارات، أدت لأن تتوخى النُخب السياسية الكٌردية «التحرّر« عبر ما هو مُمكن. فطوال النصف الثاني من الأربعينات وعقد الخمسينات، كانت «الحركة التحررية» الكُردية، بمختلف مساراتها في الدول الأربع، تنقسم إلى حيزين متناظرين:
– الطبقات السياسية التي كانت ذات صلة و«مصالح» اجتماعية واقتصادية وسياسية مع سُلطات الدولة الحديثة، أو تلك التي يُمكن تسميتها ب«الطبقات الاندماجية». كانت الأغلبية المُطلقة من أفراد هذه الطبقة منحدرين بالأساس من طبقات «الزُعماء المحليين» وأبناء الإقطاع الكُردي، الذي أعادوا ترتيب خصائصهم وأدوات سيطرتهم على المُجتمعات الكُردية المحلية، وباتوا يمتهنون «السياسة الوسائطية» بين المركز السياسي والأطراف الكُردية، بطريقة تضمن ولاء الطرف للمركز، مقابلهم حصولهم نيابةً عن الأطراف على بعض المكاسب والمواقع الوظيفية في جسم الدولة.
كان ذلك يصح في إيران الشاهنشاهية والعراق الملكي وسوريا الديمقراطية البرجوازية، وبدرجةٍ أقل بكثير في تُركيا، التي أتبعت فيها الأتاتوركية سياسة تحطيمية تجاه النُخب السياسية التقليدية الكُردية. وهذا بالذات ما كان يُشكل نوعا من الشرعنة لهذه الطبقات الكُردية في باقي الدول، حيث كانوا يستشهدون بما يجري في تُركيا، ويعتبرون أن سُلطة دولهم النسبية وشكل علاقتهم مع المركز وما يحرزونه من مراكز في سُلطة، يُشكل مكسباً للأكراد.
– الطبقة السياسية الكُردية «الثورية»، والتي انبعثت مع صعود الحركات اليسارية في المنطقة واندمجت معها. كانت هذه الطبقة السياسية الكُردية تملك قراءةً خاصة للتاريخ السياسي الكُردي، ترى أن المُعضلة الأساسية كامنة في شكل العلاقات المُجتمعية الكُردية، حيث هيمنة الإقطاع الكُردي شبه الاستملاكية للطبقات الكُردية الفلاحية والرعوية؛ وبالتالي فإن عتبة التحرّر الكُردية الأولى يجب أن تكون من هذه الطبقة الإقطاعية أولاً. ومن هنا تأسس الصراع السياسي الكُردي الداخلي الحديث، وما زاد من حدة ذلك الصراع، الهيمنةُ «الكُردية» على كثيرٍ من الأحزاب الشيوعية في هذه البلدان، وبالذات في سوريا والعراق.
في تُركيا كانت الحال مُختلفة نوعاً ما، فالحياة السياسية كانت منقسمة بين الحزب الأتاتوركي القومي «اليساري» وأحزاب «يمين الوسط» شبه الإسلامية، الشيء الذي دفع بالحركة اليسارية لأن تتخذ أكثر أشكال الشيوعية «الثورية» تطرفاً، وأن تكون غطاءاً سياسياً وخطابياً للمُشكلتين الكُردية والعلوية في البلاد. طبعاً كانت الطبقة الإقطاعية الكُردية وقتئذٍ موالية للحزب الحاكم أياً كان، وليس مقابل أي حظوة أو مناصب سياسية في المركز، بل فقط مُقابل الحفاظ على مراكزهم الاجتماعية.
الديمقراطية والحركة القومية الكُردية
تُعدُّ «ثورة أيلول 1961» التي قادها المُلا مصطفى البرزاني في العراق تاريخاً موضوعياً لبدءِ المرحلة الثانية من «الحركة التحررية الكُردية»، بعدما تحطمت المرحلة الأولى تماماً عقب انهيار جُمهورية كُردستان في مهاباد عام 1946. أثّرَ ذلك الحدث بعمق على مُختلف أحوال المسألة الكُردية في دول المنطقة، بالذات لأنها كانت المبعث لتأسيس التيار السياسي القومي الكُردي، الذي يقبل بشرعية الدول الراهنة، ويملك جملة من المطالب القومية الكُردية الخاصة، التي يَعتبِرُ تحقيقها شرطاً للاندماج في الحركات الاحتجاجية/المعارضة في هذه الدول.
كان تأسيس الحزب الديمقراطي الكُردستاني في كُل من إيران وتُركيا، ومن ثم تأسس حزب العُمال الكُردستاني، وتحول الحزب الديمقراطي الكُردي السوري إلى حزب جماهيري شعبي، كانت من الآثار الارتدادية لتلك «الثورة» الكُردية.
صحيح أنه سيطرت وانبعثت من التيارات القومية الكُردية نفسها كثيرٌ من الرؤى والقراءات والميول السياسية، لكنها جميعاً كانت تنقسم شاقولياً فيما بينها إلى تيارين رئيسيين فيما يخصُّ موقفها من مسألة «التحرّر» الكُردي:
– تيار «قومي» كان يرى في تحقيق المطالب القومية الكُردية في هذه البُلدان شرطاً لتحقيق ديمقراطيتها وشرعية أنظمة الحُكم بها. ولم تكن تتوانى عن التذكير والتعبير أن «كُردستان» حقيقةٌ تاريخية وجغرافية وسياسية، تملك شرعية التحقق في المُستقبل. كان هذا التيار السياسي الأقرب والأكثر قُدرة على خوض صراعات دامية في هذه البُلدان الأربعة، لأنها كانت ترى في هذا العُنف الأسلوب والأداة الوحيدة التي يُمكن لـ«شعوب« وأنظمة المنطقة أن تستشعر عبره بعمق «الجرح» الكُردي، وأنه الأداة الوحيدة التي قد تحمي المسألةَ الكُردية من الاضمحلال، والمجتمعات الكُردية من الذوبان في الثقافات والمُجتمعات الأخرى. يُحاجج المُنتمون إلى هذه الرؤية بأن الكُرد في النهاية أقلياتٌ صغيرة في هذه الدول، وأنهم لا يستطيعون تحقيق أي مكسب معقول عبر العمليات والمؤسسات الديمقراطية، لأن باقي الجماعات الأهلية في هذه الدول تملك رؤية استراتيجية لحرمان الكُرد من أي مكاسب سياسية متوقعة. وأن تبدل هوية «الحاكمين» وإيدلوجيتهم عبر قرن كامل، لم تُغير من رؤيتهم وتعاطيهم مع المسألة الكُردية.
– تيارٌ «ديمقراطي» يرى أن جوهر المسألة الكُردية نابع من شكل التعقيدات الاقتصادية والسياسية والمذهبية التي تعاني منها هذه الدول، أي أن المسألة الكُردية تتعلق أولاً ببناء وهيكل وجوهر مؤسسات وهوية الدولة في هذه الكيانات. وأن الكُرد لا يستطيعون تحقيق أي من تطلعاتهم طالما أن الدولة في هذه الكيانات مُعطلة وأداة لنُخبة حاكمة سلطوية، تنتمي لأرومة أو تيار أيديولوجي أو طبقي بعينه في هذه الدول، وأن الجرح الكُردي ليس إلا جزءاً من الجرح الكبير لأبناء هذه البُلدان.
يزيد المُنتمون إلى هذا التيار بالقول إن النزعات السياسية الكُردية «القومية»، التي تسعى لتحقيق المطالب القومية الكُردية، دون تفكيرٍ بشكل وهوية الدول التي يحيا بها الكُرد، أنما تُشكّل غطاءاً إيديولوجياً لهيمنة طبقةٍ وتيارٍ سياسي كُردي بعينه على المُجتمع الكُردي. وأن هذه التيارات تُريد عبر هذا الخطاب القومي غضَّ النظر عن ممارساتها وسلوكياتها وامتيازاتها، التي تشغلها على حساب الطيف الأوسع من ملايين الأكراد في المنطقة.