مع دخول الربيع العربي نفقاً مظلماً قد يمتدّ إلى سنوات، نحن بحاجة إلى الإجابة عن بعض الأسئلة الفكرية. تتكرر هذه الأسئلة منذ بدايات القرن التاسع عشر، أي الأسئلة المتعلقة بالحرية والدين والعقلانية. شخصياً أجدُ إجابات شافية، إلى درجة كبيرة، في أعمال الفيلسوف البريطاني برتراند راسل.
لا نكادُ نجدُ أي أثرٍ لراسل في الفكر العربي الحديث، باستثناء أعمال الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود وبعض تلامذته
سنبدأ بعرضٍ سريع لحياة راسل وأثره في الفلسفة الأنكلو-ساكسونية. بعد ذلك، سنعرض لفكره في الحرية، ثم في الدين، وأخيراً في العقلانية؛ هذه الأجزاء الثلاثة مترابطة بالطبع. سنختتم هذا المقال بملاحظات حول العلاقة بين الحرية والعقلانية، وفي كل جزء من أجزاء المقال، سنضيء على أهمية هذا الفكر لمأزقنا الراهن.
حياة راسل وأعماله
من الصعوبة بمكان تقييم أثر راسل في الفلسفة الغربية اليوم. في الأربعينيات والخمسينيات، كان راسل الفيلسوف الأكثر شهرة على الإطلاق؛ مع الستينيات تراجعت مكانته نتيجة الهجوم الذي شنه فلاسفة اللغة العادية عليه. في السبعينيات، أصبح تراثه المتعدد الاتجاهات مؤثراً في دراسات المنطق واللغة، ولكن لم يكن أحدٌ قادراً على تكوين صورة عامة عن دوره ومركزه في تاريخ الفلسفة. بعد عقدين، يعود الفلاسفة باستمرار إلى آرائه في الحقيقة وواحدية الوجود (أي أنه يوجد مادة واحدة يتكون منها الوجود). إلى اليوم، تتباين رؤية الناس في تقييم عمله ومكانته سواء في اللغة أو المنطق أو الإبستمولوجيا أو السياسة والأخلاق.
في بدايات القرن، تأثّر راسل بصديقه الفيلسوف جورج إدوارد مور، وقادا معاً ثورة أنهت السيطرة القصيرة للهيجلية بنسختها الإنكليزية في بريطانيا. في الوقت نفسه تقريباً، بدأ راسل بدراسة الأعمال المنطقية للفيلسوف الألماني غوتلوب فريجة. من هنا وُلد المنطق الحديث، من أعمال فريجة وراسل. من جهة، تُنسب الفلسفة التحليلية إلى مور وراسل؛ ومن جهة أخرى، يُنسب المنطق الحديث إلى فريجة وراسل.
بعد حوالي عقدين، تأسست الوضعية المنطقية في فيينا، مُستلهمةً أعمال راسل وتلميذه فتجنشتين بشكل رئيس. منذ الثلاثينيات، هاجمَ كارل بوبر الوضعية المنطقية بشدة، ليكون عمله أحد أسباب نهايتها في الستينات؛ ولكن بوبر نفسه كان متأثراً بعمق براسل. نعوم تشومسكي، مؤسس القواعد التوليدية وعدو التجريبية الأول، يرى في فلسفة راسل في نظرية المعرفة وفي أعماله السياسية ملهماً دائماً. هذا غيض من فيض من تأثير راسل في الفلسفة.
في الأدب، أيضاً، نجد راسل. يعود الرجل، ومقاله الشهير «لماذا لست مسيحياً؟»، إلى واجهة الأحداث في رواية فيليب روث سخط (2001)، كبطل الفكر الحر في عالم تحكمه تقاليد بالية ووحشية.
سنعمل هنا على عرض فكر راسل في ثلاث قضايا، نرى أنها ترتبط مباشرةً بنا وبهمومنا وبأسئلتنا: الحرية والدين والعقلانية. لن يُتاح لنا أن نناقش كل ما قاله راسل، ولكننا نسعى إلى استخلاص العبر والتوجهات الرئيسية فقط في أعماله، علّنا نسهم في دفع النقاش الفلسفي والفكري خطوة في الاتجاه الصحيح.
الحرية
في حياة راسل وفي كتاباته، دافعَ عن الحرية بشكل دائم وحار. سنركّز على جانبين من عمله في هذا المجال: الأول تحذيره من تعدد القوى القامعة للحريات، والتي تظهر بمظهر المدافع عنها، والثاني دفاعه عن الحرية الفردية.
القوى القامعة للحرية متعددة ومتنوعة، بل ومتناقضة ومتصارعة أحياناً؛ لذا علينا الحذر والتيقظ في معاركنا. على سبيل المثال، كان الصراع بين الاتحاد السوفييتي من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى يتم تحت شعارات براقة كاذبة. ادّعى الشيوعيون أنهم حرروا الناس من القمع الاقتصادي الذي تمارسه الرأسمالية؛ ولكنهم في الواقع استعبدوا الناس بشكل كامل لمصلحة الحزب والدولة وبعض المتنفّذين. ادّعى الليبراليون أن الناس أحرار في خياراتهم الاقتصادية والسياسية؛ ولكنهم استعبدوهم اقتصادياً في الواقع، بل وحتى سياسياً، لمصلحة أصحاب النفوذ والثروة والسلطة. القوى التي تقمع الناس هنا متشابهة على طرفي الصراع، أي رؤوس السلطة والمتنفّذون، بالرغم من تناقضها وصراعها.
انتقدَ راسل الطرفين على الدوام، وأثار اليسار واليمين ضده. من هنا، ليس مستغرباً أن يتجاهله أكاديميو ومثقفو الطرفين. جمعَ راسل بين تراث ليبرالي إنكليزي لم يتخل يوماً عنه، يؤمن دوماً بحرية التعبير والنقاش، مستمد من جون لوك وديفيد هيوم وجون ستيوارت مِل، وبين أفكار يسارية واشتراكية مستمدة من ماركس وبرودون وباكونين ومِل نفسه، ومن تحركات نقابية وعمالية مختلفة. لم يرَ راسل أي تناقض بين هذين المذهبين؛ على العكس، كان الجمع بينهما هو المعنى الحقيقي للدفاع عن الحرية. أسقطَ الليبرالية الاقتصادية من أساتذته الليبراليين لتعارضها الواضح مع الحرية نتيجة تطور الرأسمالية الاحتكاري، وتحكّم رأس المال بحياة الناس بطريقة لم تكن ظاهرة في عصر الليبراليين الأوائل؛ وأسقطَ الهجوم على حرية التعبير والديمقراطية من قبل اليساريين، والاتهامات للمدافعين عنها بكونهم بورجوازيين لتعارضها الفاقع مع الحرية أيضاً. من الطرفين، احتفظ راسل بما هو حقيقةً في صلب مفهوم الحرية
كان راسل، إذن، فوضوياً معادياً للدولة ولكل أشكال القمع؛ ولكنه لم يكن فوضوياً بمعنى إيديولوجي وتنظيمي ثابت ونهائي. لم يقدّس راسل أعمال الفوضويين السابقين كبرودون وباكونين وكروبوتكين، ولم يعمل على نشرها وتفسيرها على طريقة الأتباع. كان موقفه من الفوضوية موقفاً منفتحاً. على سبيل المثال، لم يؤمن بأن التخلص النهائي من الدولة هدف واقعي، على الرغم من أن هذا ما يعرف الفوضويين به أنفسهم، وما يميزهم عن الاشتراكيين والماركسيين
يجب أن نسجّل هنا أن الأمر نفسه ينطبق على موقفه من الفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية. لم يؤسس راسل ومور مدرسةً ولم يبحثا عن أتباع، على عكس كثيرٍ من الفلاسفة. أيضاً، حين قامت الوضعية المنطقية بالإعلان عن نفسها في مانفستو شهير، وفي اجتماعات دورية لاحقاً، حافظ راسل على مسافة تفصله عن المدرسة كمدرسة. أحد أسباب هذا الابتعاد تكمن في قناعته أن الفكر لا يتطور من خلال التعاليم والتفسيرات، بل من خلال الانفتاح الفكري والنقد الخلّاق. كما أن راسل نفسه كان يعلم أن أفكاره تتغير باستمرار مع تقدمه في السن، واطلاعه على فلاسفة مختلفين ومحاولاته حل مشاكل فكرية مختلفة. على سبيل المثال، في نظرية المعرفة، تحوَّل راسل إلى موقف أقل تجريبية وأكثر عقلانية مع تقدمه في العمر
بالإضافة إلى ذلك، شدَّد راسل، كما فعل أسلافه الليبراليون، على الحرية الفردية
لم يؤمن راسل بوجود عقيدة واحدة نطمئن لها في مواجهة أعداء الحرية. ليست الليبرالية أو الماركسية أو الاشتراكية هي ما يضمن لنا أننا نسعى نحو الحرية. استُخدمت هذه العقائد بفعالية لقمع الحرية باسم الحرية ذاتها. الحرية، في مفهوم راسل، هي قيمة ثابتة. ليس المذهب السياسي أو الديني هو الثابت والمقدّس، بل الحرية التي تقبع خلف التبريرات الإيديولوجية للقمع.
العبرة هنا في عالمنا اليوم هي أن لا ننحاز لطغيان يريد أن يحكمنا باسم الحرية، ولا أن ننحاز لطغيان ضد طغيان آخر. الرأسمالية تدّعي أنها تحكم الناس باسم الحرية، ونصرها المؤقت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لن يدوم. أيضاً، اليسار المتحجر الذي دعم القذافي والأسد وصدّام حسين باسم الحرية ومعاداة الإمبريالية، ليس بالحل الملائم لأزمة الرأسمالية. تقوم أنظمة عربية كنظام الأسد والسيسي بقمع الإسلاميين، وغيرهم، بحجة أن الإسلاميين يعادون الحرية. الإسلاميون في تجاربهم المختلفة أثبتوا، إلى اليوم، عدم قدرتهم على التعايش مع من يختلف عنهم. في كل هذه الحالات، علينا الدفاع عن المعتقلين الإسلاميين في سجون الأسد والسيسي، وعن الليبراليين واليساريين في سجون إيران والسعودية والسودان، وعن المسلمين في الغرب، وعن الأقليات في العالم العربي: لا يوجد ما يبرر قمع الناس؛ وأي إيديولوجية، دينية أو علمانية أو قومية، تبرر القمع مرفوضة.
أما بالنسبة للحرية الفردية، فمن الصعب حقاً أن نفهم لِمَ يبخس قيمتها البعض، من اليساريين والقوميين وما بعد الحداثيين، تحديداً في العالم الثالث. في عالم يقوم بشكل أساسي على تهميش الفرد لمصلحة الجماعة، سواء كانت الجماعة الدينية أو العرقية أو الإثنية، يكون الدفاع عن الفرد وحريته هو الواجب الأخلاقي الأول. قد نفهم هجوم فلاسفة وكتّاب الغرب على الفردانية، ضمن سياق محددٍ غربي، يعاني بحدة من الأنانية وغياب أي مصلحة جمعية تعاونية؛ ولكن حتى مثل هذا الهجوم، إن اشتمل على رفض الفردانية لمصلحة الجماعة، سيكون مخطئاً في التحليل النهائي. على أي حال، ما الذي يعينه أن يتخلى البعض عن الفردانية في معاركنا في المشرق هنا؟ ألا يشكل هذا سوء فهم كامل لمعركة الحرية في حاضرنا المعاش والعياني؟ في عصرنا وفي زمننا، وفي المكان الذي ننتمي إليه، الدفاع عن الفرد هو المؤشر الأهم على فهم عميق لمصائبنا المتتالية. الفرد هنا لا يستطيع أن يختار دينه أو مذهبه أو مهنته أو شريكه، لا يستطيع أن يعبّر عن رأيه في السياسة والفن والأدب والتاريخ، لا يُسمح له بأن ينتقد الأكبر سناً والأكثر نفوذاً: في مجتمع ما زال العنف المنزلي والمدرسي والمجتمعي يسحق أية بذرة لنمو الشخصية المستقلة، من الصعب أن نفهم ألا يكون الدفاع عن الفرد هو محور العمل التحرري الحقيقي.
الدين
موقف راسل من الدين مركّب، ويشتمل على ثلاث نقاط مختلفة.
أولاً، موقفه الفكري من الدين. كان راسل عقلانياً على الدوام، ويتصف موقفه من الدين بهذه العقلانية. القراءة العقلاينة تجعله يرى في الإيمان الديني بالآلهة أو بتفوق الأنبياء مواقف لا عقلانية. ولكن لم يكن راسل ملحداً، بالضبط لأنه عقلاني؛ كان لا-أدرياً يرى أننا لا نملك أجوبة قاطعة ونهائية، أو براهين معقولة، في قضايا ما ورائية تتعلق بالموت ووجود الآلهة وغيرها. بحسب راسل، الإلحاد، كالإيمان، مواقف لاعقلاينة ولا تستند إلى دليل
ثانياً، يرى راسل في الدين، تحديداً في شكله المؤسساتي القائم، عقبة في وجه أي تقدم أخلاقي أو فكري. الدين قائم على الخوف، وعلينا مواجهة المؤسسات الدينية التي تنشر الجهل والقسوة، مستندةً إلى الخوف. لم يقدم الدين أي مساهمات في الحضارة؛ على العكس، كان دوماً محركاً وأداة لإشباع الدوافع الوحشية عند البشر. فقط انتشار العلم والتفكير العقلاني سيحدُّ من هذه الآثار المدمرة، ويهذّبها قدر المستطاع
ثالثاً، دافعَ راسل عن حق المؤمنين والمتدينين في نشر أفكارهم وطرحها ونقاشها، كما دافع عن حق الملحدين واللا-أدريين في الأمر نفسه. لا يجوز قمع من يحمل معتقدات مختلفة. النقطة التي أود التشديد عليها هي التالية: رفض راسل بشدة قمع الاتحاد السوفييتي للمؤمنين، على الرغم من كون راسل نفسه لا-أدرياً. علينا الدفاع عن الحرية أولاً، وبغض النظر عن موقفنا الشخصي من القضية التي يحملها من يتعرض للقمع والاضطهاد. أيضاً، دافع راسل عن حق الملحدين واللا-أدريين في الدفاع عن آرائهم وطرحها في المجتمعات الغربية، التي لم تكن في ذلك الزمن تقبل بمثل هذه الآراء.
موقف راسل إذن مركب، يجمع بين العقلانية والحرية.
الموقف العقلاني يقتضي أن يقف المرء عند حدود العقل، أي حدود التجربة والأدلة والبراهين، العقلية والتجريبية. يبدو أننا في معظم الأمور الميتافيزيقية ما زلنا نجهل طريقنا ونقف كما كان أجدادنا مندهشين من الموت والحياة وأسرارهما. لذا، على المرء أن يمتنع عن الجواب في هذه الأمور. ولكن لا يعني هذا أن يخفي المرء أو يشكّ بما يستطيع العقل إثباته. نعرف اليوم أن الأرض تدور حول الشمس؛ أن الأمراض لا تسببها السحر والتعاويذ وغير ذلك من الخرافات؛ أن الخسوف والكسوف ظواهر طبيعية لا علاقة لها بغضب الآلهة؛ أن نظرية التطور التي يقول بها العلم تناقض نظرية الخلق؛ وغير ذلك مما أثبته العلم في وجه الأساطير الدينية المنتشرة في كل مكان. لا يجوز التسليم للمؤمنين بخرافات تناقض العلم والبراهين: العقل هنا يحكم بوضوح ودون تردد. في كل هذه الأمور، وقف الدين حائلاً أمام تقدم العلم. أيضاً، من الناحية الأخلاقية، كان للأديان المنظمة، وما زال، دور تخريبي ووحشي في حياة البشر: تبرير الوحشية والجرائم والتحالف مع السلطات التي تقمع البشر حولت الدين إلى عائق أمام التقدّم الأخلاقي.
علينا إذن أن نميّز بين اللا-أدرية والإيمان والإلحاد من جهة، وبين النتائج العملية للدين المؤسساتي المنظم من جهة أخرى. يهاجم راسل وبشدة الدين المنظّم، في حين أنه يترك الأمور الروحية للإيمان الفردي، ويدافع عن حرية الأفراد في اختيار ما يرونه مناسباً لهم، رافضاً بشكل قاطع القمع المُمَارس باسم العقل والعقلانية. مهما كان إيمان المرء نفسه، عليه أن يدافع دوماً وبحماسة عن المقموعين والمظلومين. لا يحق لأيّ سلطة أن تفرض آرائها الدينية على البشر، ولا فارق إن كانت السلطة علمانية أم دينية. في كلا الحالتين، تتعدى السلطة على حريات الأفراد والمجموعات، بشكل لا شرعي وغير مقبول وغير مبرر، عندما تحاول أن تفرض رأياً واحداً على الناس، هو رأي السلطة.
هذا هو موقف راسل من الدين باختصار. أريد الآن أن أقارن بين موقفه الليبرالي المنفتح، وبين مواقف أخرى معادية للدين تمتعت بشهرة كبيرة فلسفياً وفكرياً وعملياً.
تيارات لاعقلانية، كفلسفة نيتشه، عادت المسيحية ودعت إلى أخلاق القسوة والوحشية؛ وقد استخدم النازيون نيتشه بنجاح باهر كما نعلم. كان راسل يحتقر فلسفة نيتشة بعمق. من وجهة نظر عقلانية، تشكل فلسفة نيتشة ارتداداً إلى عصر الظلمات؛ من وجهة نظر أخلاقية، تشكل دفاعاً عن القسوة والوحشية. بالرغم من أن نيشتة وراسل هاجما الدين دون هوادة، إلا أن الفارق يكمن في الموقف المنفتح لراسل، القائم على مزيج من عقلانية منفتحة وموقف ليبرالي متأصل، في مقابل الموقف العصابي اللاعقلاني والظلامي لفيلسوف القسوة وعدو الضعفاء والمسيحيين الألماني. هذه المقارنة، برأيي، تميل إلى مصلحة راسل بالطبع.
التيارات التاريخانية، التي تدَّعي أنها تثبت أن الدين بأكمله خاطئ، وينتمي إلى مرحلة تاريخية مختلفة متخلّفة، كفلسفة ماركس وأتباعه وغيره من التاريخانيين، أدت إلى فرض الإلحاد، ورفض التسامح، طالما أنها تملك الحقيقة. راسل ،أيضاً، اتخذ موقفاً تاريخيانياً من الدين: أي أنه كان يرى في الدين حالة عقلية تنتمي إلى طفولة الجنس البشري علينا تجاوزها اليوم مع تقدم العلوم وبسط العقلانية؛ ولكن هذا الموقف التاريخاني لا يلغي إيمان راسل الراسخ بحرية الإيمان. هذا الموقف يميز راسل عن الشيوعيين واليساريين والماركسيين، اللذين يميلون إلى قمع الناس وفرض آراء الأب ماركس على الجماهير. هنا يكمن الفارق بين من يريد تنوير الناس بالعقل والحجة، مع ترك القرار النهائي لهم، وبين من يعتقد أنه امتلك الحقيقة الدينية، ويريد فرضها على الآخرين
موقف راسل العقلاني الليبرالي المنفتح، هو في العمق موقف متسامح قائم على قبول الآخر واحترام رأيه. نتمنى من القارئ أن يفكر ملياً في هذه المواقف الثلاثة، وفي مآلاتها في الفلسفة الغربية والتاريخ الغربي، وفي انعكاساتها على ثقافتنا. ربما نخصص لاحقاً وقتاً أكبر لمقارنة هذه المواقف الثلاثة وتجلياتها.
في النهاية، يبدو لي في عالمنا اليوم، وأود القول في أي عالم حقيقةً، أن موقف راسل هو الأكثر أخلاقية وعقلانية. من جهة، يجب الدفاع عن المسلمين والإسلاميين المقموعين في كل مكان، من مصر السيسي إلى سوريا الأسد إلى الغرب وتعاطيه المنافق في معظم الأحيان مع قضايا المسلمين وحرياتهم ودعمه للطغاة العرب، إلى منع النقاب في فرنسا والتضييق على المحجبات. من جهة أخرى، يجب الدفاع عن حق الملحدين واللا-أدريين في التعبير عن آرائهم بحرية وبشكل كامل في الدول العربية والإسلامية. هذان الأمران وجهان لعملة واحدة.
أيضاً، أعتقدُ أن المؤسسات الدينية ما زالت، كما كانت في عهد راسل، مطيّةً لكل السلطات. مؤسسة الأزهر،على سبيل المثال، تقف مع الحاكم المصري مهما كان توجهه. مفتي السعودية أو سوريا أو غيرها موظفٌ عند الحاكم. لنا في إيران والسودان والسعودية نماذج عن تحالف السلطة مع المؤسسات الدينية. الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أعلنت منذ أيام دعمها للحرب المقدسة على الأراضي السورية. تصريحات الكنائس الغربية عن المسلمين واللاجئين، وتخويف الجماهير منهم، وتفضيل اللاجئين المسيحيين، تتناغم مع توجهات أصحاب السلطة وتزيد العنصرية والوحشية الكامنة في المجتمعات الغربية. فضحُ المؤسسة الدينية مازال من المهام الرئيسية المطلوبة اليوم.
العقلانية
العنصر الذي يجمع أعمال راسل الفلسفية والمنطقية واللغوية والسياسية والأخلاقية هو العقلانية. يكرّر راسل أن السبيل إلى أخلاق أسمى وإلى سياسة أفضل يكمن في العقلانية: ألّا يصدق الناس إلا ما يمكن البرهنة عليه. كما يرى في انتشار التعصب والجهل والخرافات العائقَ الرئيس أمام تقدم الأخلاق، نستطيعُ التخلص من معظم هذه الشرور عن طريق العقل.
يدعو راسل إلى تبني الأسلوب العلمي، العقلاني الناقد، في الفلسفة والسياسة والأخلاق. في العلم، لا نقبل أي مقولةٍ دون برهان؛ نُبقي دوماً على مسحةٍ من الشك بخصوص نظريتنا؛ نعمل مع المجتمع العلمي على الوصول إلى نظريات جديدة، ونتخلى عن النظريات التي ثبت بطلانها، لمصلحة نظريات جديدة أكثر وثوقية
على أن راسل كان يرى أن للعقل حدوداً. منذ ديفيد هيوم، ميّزت الفلسفة الغربية بين الواقع والقيمة
يرتبطُ بعقلانية راسل أسلوبه في التعبير عن نفسه. يصفُ كار بوبر راسل ب«معلم الوضوح الذي لا منافس له، ومعلم البساطة وروح الدعابة في الفلسفة»
في عالم اليوم، مرةً أخرى، أرى أننا بأمسّ الحاجة إلى المزيد والمزيد من العقلانية. ينتشرُ التعصب الإثني والقومي والديني بطريقة غير مسبوقة. فقط العقلانية الناقدة المنفتحة تستطيع أن تُنقذنا.
في العالم العربي والعالم الثالث، الحاجة إلى العقلانية مضاعفة. تنتشر الأمية والخرافات والسحر والإيمان بالغيبيات بشكلٍ مدهش، وحاجتنا إلى العقلانية مصيرية . أما أن يرى البعض في هجوم ما بعد الحداثة والنسبوية على العقلانية والتنوير فتحاً فكرياً، وأمراً جديراً بالترجمة والنقل والنقاش والتبني في العالم الثالث، فهو أمرٌ مستغرب حقاً. ربما أتفهّم، ولكن لا أوافق، ملل وسخرية الكاتب والفيلسوف الغربي المدلل من عالم يتحكم به العقل والعلم والمنطق، كما يتذمر أطفال المدارس من الهدوء والنظام، حاسدين الجهلة على جهلهم في الكتاتيب والشوارع. أما أن يعيش الكاتب والمثقف في العالم الثالث، ويسخر من العقلانية في وسط كل هذا الظلام والخرافات، فهو أمر مسيءٌ أخلاقياً. هل يدعو اللاعقلاني إلى المزيد من النور القادم من الميتافيزيقيا، وإلى الإشراق المنبعث من ما وراء العقل، على طريقة أدونيس؟ هل يعلن أن القلب للشرق والعقل للغرب، إن استعرنا تعبير مهدي عامل الصائب، على طريقة الاستشراقيين؟ هل يدعو إلى تعميم الأمية والجهل؟ الجواب واضح وبسيط: العقلانية، عدا عن كونها في صلب حياتنا العقلية وتمتاز عن اللاعقلانية والخرافات والسحر فكرياً، هي مطلبٌ أخلاقي لمن ما زال يعاني من الجهل والأمية.
العقلانية والحرية: التراث التنويري الأصيل
عاش راسل ما يقرب من المئة سنة، ملأ فيها الدنيا وشغل الناس. إرثه الفكري غني بشكل استثنائي. لا يستطيع أي دارس لفلسفة اللغة أو المنطق تجاهلَ راسل. في قضايا السياسة والأخلاق، أرى أن لنا في عمل راسل مُرشداً ومُلهماً.
لم يقدّم راسل نظرية متكاملة في الأخلاق والسياسة، بل كان دوماً مهتماً بالعالم الواقعي وكيفية تغييره. غرفَ من أعمال الفلاسفة السابقين دون تردد، وكان يصرُّ على أنه لا يملك عبقرية خاصة به، وأنه مدين لمن سبقه بما يكتب؛ شغله الشاغل دوماً هو القدرة على التأثير في الناس ونشر العقلانية والدفاع عن الحرية، سعياً لعالم أفضل.
يجب أن نتنبّه إلى أن العقلانية في التراث الغربي توجد في تيارات مختلفة ومتناقضة، حتى داخل التنوير نفسه. يتميز راسل بدفاعه الحار عن العقلانية والحرية معاً. كان أحد أقطاب الفلسفة العقلانية، ورفض بحدّة، واحتقار، فلسفات اللاعقلانية والبراغماتية والنسبوية كفلسفات نيتشة ووليم جيمس والوجودية؛ ورفض قمع الحريات باسم العقل، سواء كانت حريات دينية أو فردية أو فنية، محافظاً على التراث الليبرالي الأصيل (من هنا رفضه للفسلفات الألمانية ما بعد الكانطية). نخلصُ إلى أن راسل رأى أن العقلانية، والتنوير المرتبط بها، لا تستقيم، دون إعلاء الحرية كقيمة أولى
ربما يُتاح لنا لاحقاً البحث في هذه العلاقة بين الحرية والعقلانية: يميلُ بعض العقلانيين إلى الاستبداد، من فولتير وهيغل في الغرب، إلى جورج طرابيشي في الشرق، وتيارات ماركسية وشيوعية وفاشية تدعي انتمائها إلى العقلانية، بالإضافة إلى المؤمنين بالنخب من الطليعة الثورية واليمين القومي والفاشي وعَبَدَة الدولة، كلهم يُعلون العقل، أو ما يرونه عقلاً، على الحرية. في المقابل، لوك وهيوم ومِل وباكونين، وطه حسين والنهضويون الأوائل عندنا، وآخرون كثر، ربطوا العقلانية بالحرية. برتراند راسل أحد أفضل وأهم النماذج الفكرية لتأصيل العقلانية في الحرية.
نحن بحاجة اليوم إلى الدفاع عن العقلانية، في وجه الظلام الذي ينتشر مع أصوليات قومية وإثنية ودينية؛ بحاجة للدفاع عن الفقراء في وجه رأسمالية محلية وعالمية متغوّلة ومنافقة وفاسدة؛ وبحاجة للدفاع عن الحرية في وجه الديكتاتوريات العربية والإسلام السياسي، وأولئك اللذين ينحازون إلى أحد الشرّين؛ وبحاجة للتأكيد على دفاعنا الدائم عن حرية من يختلف معنا، من متدينين وشيوعيين وقوميين وإسلاميين، لنرفض تعذيب البشر والحكم عليهم بناءً على اختياراتهم المختلفة.
في كل من هذه المجالات، قدّم راسل مساهمات أصيلة، نظرية وعملية، تجعلنا نعود إلى أعماله اليوم أكثر من أي وقت مضى.