قُدِّمت هذه المادة في ندوة عقدت مساء يوم 10/11/2015 عن «سورية وحدودها»على هامش معرض الكتاب العربي الأول في اسطنبول، الذي نظمته الشبكة العربية للأبحاث والنشر. شارك في الندوة ياسين الحاج صالح بمادة بعنوان «سياسة المكان: الحدود، حركة السكان، والخيال السياسي». وأدار الندوة كرم نشار.
اضطر أكثر من خُمس السوريين على الخروج من بلدهم خلال السنوات الخمس الأخيرة. هذا أحد أوجه التحطيم الأشنع الذي عاناه المجتمع السوري منذ اندلاع الثورة السورية ضد النظام الأسدي، أي بعد تحطيم شنيع استمر خمسة عقود. لم تهبط «أزمة اللاجئين» فجأة حين اكتشفها الأوروبيون قبل أشهر ليست بكثيرة، بل بدأت أواخر ربيع عام 2011، بعد شهور قليلة من اندلاع الثورة، أي مع تشييد المخيمات الأولى في الدول المحيطة بسوريا، ومنها تركيا، حيث يقيم فيها اليوم أكثر من مليوني سوري، ويعبرها الآلاف شهرياً باتجاه أوروبا.
حصل تحوّل تدريجي مهم في المنطق السائد لدى غالبية اللاجئين السوريين بما يخص نظرتهم وتوقعاتهم لمسألة لجوئهم، وبدت معالمه واضحة خلال العام والنصف الأخيرين. خلال السنتين الأوليتين للثورة، كان الشعور الدارج لدى النسبة الأكبر من اللاجئين أنهم خارجون بشكل مؤقت بانتظار حسم الصراع في سوريا، أو ببساطة بانتظار أن تهدأ الأمور في مناطقهم، التي كانوا قد خرجوا منها على عجل بسبب تدهور الأوضاع فيها، أو تعرضها لقصف، أو اندلاع اشتباكات فيها. لم يعد الأمر كذلك اليوم مع تعقد الأمور في سوريا وغياب أي أفق للحل، فهؤلاء نفسهم الذين خرجوا معتقدين أنهم سيعودون خلال أيام أو أسابيع أو أشهر وجدوا أنفسهم الآن ليس فقط عاجزين عن العودة، وليس فقط غير قادرين على توقّع متى يمكن أن تُحل الأمور في سوريا، أو متى يمكن أن تهدأ الأوضاع بشكل يسمح لهم بالعودة، بل أنهم لم يعودوا يملكون شيئاً يعودون إليه مع الدمار الشامل الذي أصاب مساحات شاسعة من الجغرافيا السوريّة والتدمير الهائل في المدن والأحياء والبلدات، وتحطّم الشبكات الاقتصادية-الاجتماعية وفقدان مصادر الرزق. هؤلاء لم يعد مطلبهم «ملجأ» طارئاً وقصير المدى، بل مكان استقرار، حتى لو أرادوا اعتباره مستقراً مؤقتاً على المديين المتوسط والبعيد.
ربما يمكن القول أن هذا التحوّل هو أحد الأسباب الأساسية في تضاعف حجم موجات الهجرة إلى أوروبا، حيث الفرص الأكبر وحيث تقدّم شبكات الضمان الاجتماعي الموجودة مساعدات تتيح لبداية جديدة بظروف أفضل من تلك المُتاحة في تركيا أو غيرها من الدول المحيطة بسوريا.
[quotes]لم تهبط «أزمة اللاجئين» فجأة حين اكتشفها الأوروبيون قبل أشهر ليست بكثيرة، بل بدأت أواخر ربيع عام 2011.[/quotes]
لهذا الكلام استثناء كبير الحجم، وذو مأساة ضخمة المعالم. أي اللاجئين الأكثر حرماناً، والعاجزين عن السيطرة على شروط حياتهم ومحاولة تغييرها، وبالتالي لا خيارات لديهم. غالبية هؤلاء يقيمون في المخيمات. وهؤلاء يحتاجون، باعتقادي، لمقاربة مختلفة إلى حد كبير عن الآخرين الذين، رغم كل الأذى والخسارات التي لحقت بهم، استطاعوا تأمين الشروط اللازمة لتأمين خيارات مختلفة. وهنا نجد نقطة أساسية في السجال مع المنطق الغربي السائد بخصوص «أزمة اللاجئين»، حيث يُقدّم اللاجئون الواصلون إلى أوروبا على أنهم الحد الأعلى لمأساة سورية ضبابية وغير واضحة المعالم، والمعروف الوحيد فيها هو داعش. ليس القصد هنا التقليل من شأن معاناة اللاجئين الذين توجهوا إلى أوروبا، وخصوصاً وأن منهم أعداداً كبيرة قضت غرقاً في البحر المتوسط أثناء رحلة العبور من تركيا أو من مصر أو من ليبيا، لكن ليس فقط تقديمهم على أنهم قعر معاناة ضحايا المأساة السورية مخطئ فحسب، فهم ليسوا قعر مأساة «أزمة اللاجئين». هم، مع كل الاحترام لمعاناتهم والتضامن معهم، «طبقة وسطى» إن صحّ التعبير، استطاعت تأمين ما يلزم للقيام برحلة اللجوء إلى أوروبا. هناك من لم يستطع تأمين حتى رحلة الوصول من بلدته أو مدينته إلى الحدود السورية- التركية. لا يجب أن ننسى هذه النقطة.
بالعودة إلى التحوّل في رؤية نسبة كبيرة من اللاجئين لأبعاد لجوئهم الزمنية وشروعهم بالبحث عن خيارات وفرص، نشهد أيضاً تحولاً في طبيعة «الحالة السورية» في دول اللجوء. لم تعد «الحالة سورية» في بلدان اللجوء متعلقة فقط بوجود فيها عشرات أو مئات الآلاف من السوريين فحسب، بل أيضاً لأن منطق تعامل جزء كبير من السوريين مع إقامتهم في هذا البلد أو ذاك قد تغيّر. نستطيع تتبع ذلك عبر ملاحظة تغيّر وتطوّر هموم ومطالب السوريين في تركيا بالتحديد، أي من مرحلة أولى كان العثور فيها على سكن بسعر ملائم يكاد يكون الهم الأوحد إلى محاولة البحث عن خيارات تتيح استمرارية الحياة هنا بصفة مستقرة، من البحث عن عمل، أو محاولة تأسيس مشروع تجاري أو صناعي، أو البحث عن فرص التعليم للأطفال أو لاستكمال الدراسة الجامعية للشباب. هذا أيضاً يفرض منطق جديد في التعامل مع المجتمع المحلي وبنيته والعلاقات فيه، ويفرض أيضاً علاقة جديدة مع الدولة «المضيفة» يتطوّر من مجرد السماح بالتواجد إلى التفكير والبحث والمطالب بالسماح رسمياً بالعمل وتأمين فرص الدراسة للأطفال في سن المدرسة أو للجامعيين، وغيرها من الأمور الحياتية الأساسية.
هذه «الحالة السورية» اللاجئة، بوصفها جزء من مأساتنا السورية العامة، تفرض علينا العمل على إيجاد مقاربات شاملة قدر الإمكان لمسألة وجود هذا العدد الهائل من السوريين (وهو عدد مرشح للازدياد خلال الشهور والسنوات المقبلة) موزعين على عدد كبير من الدول. لا تكفي المقاربة الإنسانية -على أهميتها-، كما لا يكفي أن ندخل في السجال السياسوي الضيّق مع الجدال الحاصل حول «أزمة اللاجئين» في بلدان اللجوء مع مواقف عنصرية أو معادية سياسياً، فالمعنى السياسي لمسألة اللجوء السوري، وتبعيات هذه المسألة أكبر وأعمق من هذا الجدال السياسوي، ليس فقط بالنسبة للاجئين في الدول المعنية، بل للشأن السوري ككل. لا شك أن منطلق التفكير السياسي باللاجئين هو التأكيد على أنهم لم يخرجوا من بلدهم هرباً من كارثة طبيعية كزلزال أو فيضانات أو براكين أو غيرها، بل خرجوا هرباً من تبعات الحرب المطلقة التي شنّها نظام بشار الأسد على السوريين، والتي لم تقصد فقط القضاء على معارضيه، سلميين كانوا أم مسلحين، بل مسح ما اعتبره «بيئة حاضنة» للتمرد عليه من الوجود! هذا الكلام يشمل أيضاً أولئك الذين هربوا من مناطق سيطرة داعش، وبالتالي لا داعٍ لأن نحاول إقامة فرز وتمييز بين من هرب من داعش ومن هرب من النظام، ونعمل على التأكيد على أن الهاربين من النظام أكثر بكثير كموقف دفاع أمام جزء مهم من الخطاب الغربي حول موضوع اللاجئين.
هذه النقطة منطلق سياسي بالفعل، لكنه منطلق فحسب. إن أرادت السياسة أن تواكب مأساة الهجرة السورية وتعمل خلالها ومعها فإن عليها أن تعمل على فهم كل عمق المسألة، وأن تواكب تحولاتها وتغيراتها، وأن تقرأ الأهداف والمصالح والهواجس. هذا لا يخص مسألة الهجرة فحسب بل ينطبق على المأساة السورية ككل. هذا، بصراحة، هو الغائب الأكبر في الواقع السوري، وهو مأساة مضافة.
[quotes]منطلق التفكير السياسي باللاجئين هو التأكيد على أنهم لم يخرجوا من بلدهم هرباً من كارثة طبيعية كزلزال أو فيضانات أو براكين أو غيرها، بل خرجوا هرباً من تبعات الحرب المطلقة التي شنّها نظام بشار الأسد على السوريين.[/quotes]
هناك الكثير من الأسئلة التي نستطيع أن نطرحها كمحاولة لتلمّس كيفية البدء ببناء مقاربة شاملة -قدر الإمكان- حول مسألة اللاجئين السوريين وأوضاعهم، أسئلة لا جواب موحد عليها، بل ستختلف باختلاف دول اللجوء، بل وحتى ضمن الدولة الواحدة: ما هي درجات استيعاب صدمة الخروج وأسبابه؟ وكم يمكن أن يدوم المفعول المباشر لهذه الصدمة على سلوكهم وعلى تمكّنهم من تفهم الواقع الجديد والتأقلم معه؟ كيف تتمكن الجماعات السورية المتواجدة في مختلف مناطق اللجوء من بدء السيطرة على أوضاعها العامة والخاصة؟ كيف ستتخطى الحواجز التي ستُلاقيها، من لغة وعادات وأنظمة عمل ودراسة مختلفة؟ ما هو وضع اللاجئين الأطفال، وكيف سيتمكنون من التأقلم مع واقعهم الجديد؟ هناك جيل ولد في اللجوء وبعد سنة أو سنتين سيبلغ عمر المدرسة، كيف سيستوعب هذا الجيل غرابته عن المكان الذي ولد فيه، وهل ستحصل أزمة ما بين الأجيال بعد سنوات؟ ما هي التغيرات الثقافية (بالمعنى الواسع للمصطلح) التي ستعيشها الجماعات السورية، وكيف ستتعامل معها؟ كيف ستكون علاقة هذه الجماعات السورية ببلدها؟ ماذا ستنتج على صعيد السياسة والثقافة؟ ما هي طبيعة تفاعلاتها الداخلية، وسلوكها مع المجتمع المحلي في الدولة التي لجأت إليها؟
في الواقع، بإمكاننا أن نطرح عشراتٍ أخرى من هذه الأسئلة، وأغلب هذه الأسئلة ستولّد أسئلة متفرعة، وهذا ميدان عمل هائل الحجم وذو أهمية كبرى بالنسبة لنا كسوريين. كما أننا نعاني صعوبة مضافة لأننا أمام متغيّر لا نستطيع حتى أن نتلمس معالمه: ماذا سيحصل في سوريا في السنوات المقبلة.
تشكّل مراجعة التاريخ الاجتماعي لموجات اللجوء والهجرة خلال القرن العشرين مدخلاً مهماً، بل ربما أمكن القول أنه لا غنى عنه، للعمل والبحث والتفكير في مستقبل حالة اللجوء السوري. لا شك أنه لا توجد حالتان متطابقتان، والأزمنة والجغرافيا لا تشبه بعضها، لكن الكثير من المعالم صالحة على الأقل لإجراء مقارنات مفيدة للدراسة والبحث. شملت الهجرة في حديثي لا لأساوي بين اللجوء والهجرة، ولكن بعض موجات الهجرة الكبيرة هي في الحقيقة لجوء، مع اختلاف الأسباب الذي يؤدي لاختلاف طبيعة الانتقال وطريقة عيش هذا الانتقال واستيعاب صدمته، لكن -فعلياً- لا فروقات جوهرية بين اللاجئ والمُهاجر فيما يخص السلوك الاجتماعي اعتباراً من اللحظة التي يستوعب اللاجئ صدمة اللجوء الأولى فيها، ويبدأ بالبحث عن امتلاك شروط حياته ويسعى للكسب والتعلم والترقي الاجتماعي.. الخ.
أود هنا أن أتوقف للقول بأن التشابه ينحصر في السلوك الاجتماعي، وليس في المعنى السياسي: اللاجئ يبقى لاجئاً إلى أن يُتاح له أن يعود إلى بلده بكرامة، وحين يُتاح له ذلك فإن قرار القاء في البلد الذي استقر فيه أو العودة إلى بلده يكون خياراً شخصياً وخاصاً. إلى أن تأتي تلك اللحظة، إن أتت، اللجوء قضية عامة، وجزء أساسي من قضية البلد ككل.
لدينا في منطقتنا نماذج مهمة لموجات لجوء كبيرة تستحق الدراسة واستخلاص النتائج المفيدة للمقارنة. أولها، بطبيعة الحال، اللجوء الفلسطيني. في الواقع، يعيش اللجوء الفلسطيني فصلاً جديداً من مأساته ضمن المأساة السورية، حيث أن جزءاً مهماً من اللاجئين السوريين هم فلسطينيون سوريون. وهناك النموذج الأرمني، وأيضاً النموذج العراقي. لدينا أيضاً تجربة الهجرة السورية-اللبنانية باتجاه الأميركتين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وأيضاً الهجرة واللجوء اللبناني خلال الحرب الأهلية اللبنانية وما بعدها باتجاه أوروبا والولايات المتحدة وأفريقيا والخليج. لكن بإمكاننا البحث أيضاً في تجارب هجرة كبيرة أو لجوء في مناطق أبعد من العالم، وسنجد فيها أيضاً أفكاراً ونماذج مفيدة للمقارنة.
[quotes]اللجوء قضية عامة، وجزء أساسي من قضية البلد ككل.[/quotes]
ثمة نقطة مهمة تجدر الإشارة إليها في حالة اللجوء السوري، وهي أنه أول موجة لجوء كبرى في عصر تطوّر وسائل الاتصال وتعميم استخدام الوسائط المتعددة وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها. أعتقد أن جميعنا شهد كيف كانت رحلة اللجوء السوري باتجاه أوروبا أول رحلة لجوء منقولة بشكل شبه مباشر، فالكثير من اللاجئين وثّق رحلته بالصوت والصورة، ونقلها بشكل لحظي أو شبه لحظة، من ركوب السفينة إلى الوصول، ثم تعامل السلطات المحلية في بلدان اللجوء.. الخ. وهذا تحوّل مهم باعتقادي، وله توابع عديدة وإضافات إلى اللجوء السوري مقارنةً بما سبقه من موجات اللجوء السابقة، لأهمية هذا الأمر على المستوى الإعلامي، وعلى دور هذه القدرة على التشبيك والتواصل في استمرار اللجوء السوري كإطار عام مشترك إلى حد كبير، دون أن يتجزأ حسب دول اللجوء مثل حالات اللجوء الأقدم، وأيضاً سيكون له دور في علاقة اللاجئين مع بلدهم وتفاعلهم مع المجريات فيه، ومشاركتهم في النقاش العام حول أوضاعه، بل وحتى التأثير سياسياً فيه.
نجد في التاريخ المعاصر أمثلة كثيرة لموجات لجوء وهجرة كان لها إسهام كبير لاحقاً في تغيير أوضاع بلد الأصل، سياسياً واقتصادياً وثقافياً (مجدداً، بالمعنى الواسع لكلمة ثقافة). وهناك حالات كثيرة كان للاجئين أو المهاجرين إسهام أساسي في بناء هوية بلد أصلهم واستنباط رموزه الجامعة والإسهام ثقافياً في تحوّله. الحالة السورية مرشحة، برأيي، لأن تكون مثالاً متقدماً على ذلك. فاللاجئون السوريون جزء أساسي من مأساة تحطيمية بقدر ما هي تأسيسية، وخروجهم من بلدهم جزء أساسي من السردية العامة للمأساة القيامية السورية، وهذه السردية، السردية العامة ككل، وسردية اللجوء والنزوح، هي مجموع القصص الشخصية لمعاناة الناس وآلامهم وليست مجرد سردية كبرى مجرّدة ومبنية بالشعارات. بقليل من التجاوز أقول أن في هذا الواقع معالماً ديمقراطية، ولا مركزية، وبُعدها الاجتماعي تقدمي إلى حد كبير، لأنه يُساهم في بناء ذاكرة تاريخية سوريّة: كيف كنا؟ ماذا حصل بنا؟ من أجرم بحقّنا؟ كيف دافعنا عن أنفسنا؟ إلى أين ذهبنا؟ إلى أين نريد أن نعود (مكانياً وفكرياً) وإلى أين لا نريد أن نعود (مكانياً وفكرياً كذلك). كانت الهجرة واللجوء جزءاً من الذاكرة التاريخية لشعوب كثيرة منذ قرن وقرنين، واليوم، مع سهولة التواصل، وازدياد فرص المشاركة في النقاش العام والإسهام الثقافي والفكري والسياسي، للوضع السوري حظوظ كثيرة لأن يكون نقلة نوعية جديدة في هذا المجال.
ربما تبدو النتيجة الأخيرة متفائلة وسط الخراب العام، قد تكون كذلك فعلاً. محاولة التفاؤل هي أيضاً رحلة لجوء.