عندما كنتُ في الثانية عشرة أو في الثالثة عشرة من عمري وأعيشُ في أحد بلدان الاغتراب،  كنت كثيراً ما أُثقل سمع أمي وأبي بجدالاتٍ وفرضيات حول حقوق المرأة وتحريرها. أفكارٌ كانت تعصف في عقلي حينها، يغذيها مخزون جمعته من محيطي وأحوال النساء من حولي، كتبٌ قرأتها وأشياء شاهدتها على التلفاز، إضافةً إلى البيئة الإسلامية التي كبرتُ فيها، ووجدتُ فيها صوتي من عمرٍ صغير.  كان أبي يستمع إليّ عادة باهتمام وهو يكتم ابتسامة على وجهه محاولاً أخذ الموضوع بجدية. كثيراً ما كنا نختم جلسة التنظير تلك بقوله: «عندما نعود إلى سوريا عليك أن تنضمي إلى الاتحاد النسائي». لكن سرعانَ ما كان يغير أبي رأيه و يقول: «ما بدك ياها، بكرة بيعملوكِ بعثية!».

اقتراحُ أبي هذا بغض النظر عن كونه ساخراً أو جدياً، كان نابعاً من واقعٍ سوري حقيقي، ألا وهو أن نقاشات تحرر المرأة كانت بشكل كبير حكراً على هوامش ضيقة سمح بها النظام، أعطاها حدودها ومدى فاعليتها، وحتى في بعض الأحيان لغتها ومفرداتها. لم يكن هذا حكراً على جدل تحرر المرأة، وإنما كان عرضاً عاماً من أعراض الاستبداد، ونتيجةً حتمية لفقدانِ المجال العام، الأمرُ الذي شلّ النشاط الاجتماعي التنموي السياسي، وقوقع مؤسسات المجتمع المدني مختطفاً جدالات التحرر والتنمية.

مع بداية الثورة انفتحَ المجالُ العام لأول مرة منذ عقود، وكان ظاهرُ هذا الانفتاح افتراضياً على وسائل التواصل الاجتماعي، أما ما خفي منه عن العموم، فقد كان محاطاً بكثير من السرية بين دوائر الثوار على الأرض. هكذا انبثقت جدالات التحرر كزوابع صغيرة خرجت من صناديق مغلقة قديمة، أصبحَ الشباب السوري يتكلم لغة غير متداولة ويقلِّبها بنشوة كطفل تعلم الكلام لأول مرة. عدمُ التمرس بأدوات الجدال والحوار، لم يمنع من أن تخاض بضراوةٍ معاركُ فكرية حول الحرية ورؤى الوطن المنشود بين صفوف الثائرين، وضمنَ هذه المعارك الفكرية عادت قضية تحرر المرأة إلى الواجهة من جديد، وأصبحت قيد التنازع بين أطراف عدة كلٌّ منها يدعي امتلاك جدل تحرر المرأة، وكلٌّ يزعم أن رواده هم أصحاب الرؤية الفُضلى دون غيرهم.

هذا النزاع ليس بجديد، وإنما يكاد أن يكون متوارثاً جيلاً بعد جيل. طرفٌ يريد تحرر المرأة على الطراز الغربي، يرفض التقاليد والعادات، وأهم ما على لائحة الرفض هو الدين، الذي اعتُبِرَ عائقا كبيراً أمام تحرر المرأة. أما الطرف الآخر فاعتبرَ هذا النمط الغربي من التحرر خطراً على المرأة والمجتمع، ورأى أن تحررَ المرأة لا ينبغي أن يكون من منظور لا ينسلخ عن الهوية الثقافية والدينية، إنما في كسر بعض العادات و التقاليد، وشقِّ مسارات تقودها المرأة في مدراس التديّن والدعوة في سورية. اتفقَ الطرفان على أهمية انخراط المرأة بقوة في التعليم والحياة العملية والمهنية في المجتمع السوري.

مع المدّ الثوري في بداية 2011، خرجت هذه الرؤى المتضادة من الصناديق كغيرها، وأخذت أشكالاً جديدة، دافعةً كثيراً من النساء إلى ساحات التظاهر، حيث كانت المشاركة في الثورة وتحرير الوطن من الطغيان خطوة نحو خلق واقع أكثر عدالة ومساواة للمرأة السورية. يمكن أن نرى التجسيد العملي لهذا في أعداد النساء الكبيرة التي شاركت في المظاهرات والعمل السلمي الإغاثي، ويكفي أن نشاهد فيديو أي مظاهرة من أيام العمل السلمي لكي نرى كيف تصدرت المرأة تلك المرحلة الثورية. هكذا امتزجت هذه الرؤى المتضادة مع أماني تحرر الوطن من الطغيان، وأخذت مكاناً واضحاً في المعسكر الذي تصوَّره كل طرف لنفسه في عملية صياغة المناخ السياسي الوطني في مرحلة ما بعد الأسد. لكن ما يجب التنبيه إليه هنا، هو أن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن جدل تحرر المرأة هو ما شقَّ الصفوف، وإنما كان جزءاً من حالة الحوار الثوري التي كانت تشهد تشنجات كبيرة بين التيارات الإسلامية والعلمانية خصوصاً على الساحة الافتراضية، تشنجاتٌ كانت كثيراً ما تشفيها بشكل مؤقت حالات التعاضد العام السوري بعد مذبحة أو مأساة أو إنجاز ما، وكثيراً ما كانت تُشعلها حالة العطالة الثورية التي نتجت عن الاختفاء التدريجي لمجالات العمل السلمي وعسكرة الثورة، لكن الصورة لم تكن بهذه البساطة.

هذه النقاشات لم تكن بين الإسلاميين والعلمانيين فحسب، إنما كانت تحتدم أيضاً بين أفراد التيارات أنفسهم. وتجلّى ذلك في خلافات تفصيلية تكشف عن تنوع التوجهات ضمن التيار الواحد. مع انسحاب نشوة الحرية الأولية، وتنامي الخيبات الثورية، فَهِمَ الثوار أن هذا صراعٌ طويل الأمد، وأن النصر فيه لن يكون سهلاً على الإطلاق. البعض مثلاً تخلى تماماً عن هويته الإسلامية التي تربّى عليها، واختارَ أن يتخذ نقلة نوعية تفصله عن كل ما مضى صانعاً هوية جديدة علمانية لا دينية؛ على العكس تماماً هنالك من انتقل من الإلحاد الخالص نحو منهج متدين مغايرٍ لما سبق. لم ينحصر التطرف بتيارٍ محدد، بل كان عابراً لكل التيارات، فأصبح هنالك تطرف ديني وتطرف علماني وآخر إثني. لكن هذه التغيرات الراديكالية، على الرغم من أنها أحدثت الضجة الأعظم، لم تشكل -في رأيي- التغيَّر الأكبر، فالأغلبية اختارت البقاء ضمن تياراتها الأصلية، وحافظت على الاعتدال والوسطية، لكنها قررت بوعي أن تتناول الماضي بعين ناقدة، وأن تفصل نفسها عن التكتلات الفكرية والأيديولوجية والسياسية في مرحلة ما قبل الثورة. لكن من المبكر حقاً أن نتوقع ما ستنتجه هذه التيارات، أو إن كانت ستستطيع أي شيء ذا قيمة وسط جعجعة السلاح.

خاضت المرأة الثائرة هذه المرحلة بشكل أكثر شراسة، فلا هي قادرة على اعتناق كل ما تنتجه التيارات الأقرب إلى توجهاتها، ولا هي قادرة على أن تدير ظهرها لما تؤمنُ به وتنسجُ عليه هويتها النسوية الثورية. كانت التحديات أمامها أكبر على صعيد تغيير التوجه أو الهوية؛ تحدياتٌ جعلت أي خطوة تريد المرأة الثائرة اتخاذها على هذا الصعيد أمراً ذا تداعيات كبيرة. أوضحُ ما ظهر للعيان على هذا الصعيد هو حالات نزع الحجاب، أو حالات اختيار ارتداء الحجاب بين صفوف الثائرات؛ فهذا القرار الشخصي أصبحَ ذا أهمية رمزية كبيرة، وصُنِعَت حوله ضجة أكبر من أثر الفعل نفسه، إضافة إلى أنه جلب معه هجوماً ونقداً من كل الأطراف.

الحجابُ، وإن كان أكثر هذه التحولات ضجيجاً، إلا أنه فعلياً لا يمثل اتساع الطيف النسوي السوري واختلاف التوجهات والآراء، بل وحتى الرؤى فيه، فالنساء اللواتي اتخذن قرار خلع الحجاب لسن بالضرورة في معسكر واحد: بعضهن خلع الحجاب تعبيراً عن الانسلاخ الكامل عن اي هوية دينية، وبعضهن الآخر خلع الحجاب تعبيراً عن رغبة بإيجاد تيارات تجديدية أكثر ليونة ضمن الدين نفسه، أما بالنسبة لأخرياتٍ فقد كان تمرداً على المجتمع المحيط بهن، الذي أجبرهن على وضع الحجاب في مرحلة سابقة. وقد يعني هذا التمرد الابتعاد عن أي رؤية دينية، وقد يعني العكس تماماً.

إذا أردنا أن نرى الموضوع من وجهة نظر نسوية صرفة، فالحجاب أيضاً ليس له أي دلالة على من يقوم فعلياً بالنضال من أجل حقوق المرأة على الأرض، وعلى النسق نفسه لا يمكن اتخاذ الحجاب كمعيارٍ ثوري، على الرغم من ادعاء البعض أن ذروة الثورة للمرأة السورية يجب أن تكون في خلع الحجاب، بل الواقع على الأرض يقول عكس ذلك، فلا يشكل الحجاب حقاً أي وزن في مدى الالتزام الفعلي بالثورة.

تبنّي مثل هذا المنطق الإقصائي هو الخيار الأسهل، وبناء على ما عايشته شخصياً في الثورة أستطيع أن أصنع صورة مختلفة عن قصة نضال المرأة السورية للتحرر، بإمكاني في هذه اللحظة أن أسرد عشرة أمثلة، أو عشرين مثالاً، على نساء و شابات محجبات كنَّ ولا تزلن قائماتٍ على العديد من المشاريع الثورية والإغاثية على مختلف مساحات الثورة. نساءٌ وضعن أنفسهن في مقدمة العمل الثوري رغم المخاطر المتعددة التي واجهتهن، منهن الشهيدات وأخرياتٌ اعتقلن أكثر من مرة، ومنهن من انتقلن بكامل إرادتهن من مناطق النظام الآمنة نسبياً، إلى المناطق المحررة الخطرة حتى يستطعن اكمال رسالتهن الثورية. وبناءاً فقط على الدائرة الثورية التي اعرفها، وتفوّق المحجبات فيها عددياً وأحياناً نوعياً على غيرهن، أستطيعُ أن أفهم زعم من يزعم أن الثائرة المحجبة هي من مثَّلت الثورة فعلياً على الأرض وحملت راية التحرر والحرية، لكنني أرفض الوقوع في هذا الفخ المميت، فأنا أعرف قطعياً أن مثل هذا التهاتر هو قراءة سطحية، ولا تمثّل الواقع على الأرض.

كل هذا التجاذب الفارغ  يكاد أن ينقل المرأة من موقع الفاعل في النضال التحرري إلى موقع المفعول به، وللأسف فهو يحمل في طياته أحياناً تبعاتٍ طائفية واثنيه إقصائية، ولا يخدم قضية المرأة خصوصاً، ولا القضية الثورية السورية عموماً، بل يزيد من الشرخ والانقسام. لعلَّ أكثر تجليات هذه الظاهرة وضوحاً  يكون في أدبيات بعض المشاريع الثورية التي وضعت مهمتها تحرير المرأة السورية، هذه الأدبيات تبنت كثيراً من التنظير النسوي المستورد، والذي يُظَّنُ أنه صالح لكل زمان ومكان وشعب، بغض النظر عن أي اعتبارات ثقافية أو محلية، تكادُ المرأة فيه أن تكون طبعةً موحدة تمثّل المرأة الحرة دون غيرها. وللأسف فإن من وضع أدبيات هذه المشاريع لم يأخذ في الاعتبار أن بعضاً من هذا التنظير النسوي المستورد هو إقصائي وعنصري منذ نشأته الأولى، وأنه روَّج  لتفوّق المرأة الغربية البيضاء دون غيرها من نساء الأرض. هذا الإقصاء المتوارث عندما يتم إقحامه بهذا الشكل في الوضع السوري، فإنه يتوازى مع خطوط افتراق أخرى تفصل المرأة السنية عن المرأة الشيعية عن المرأة العلوية والمسيحية، صانعاً مزيجاً خطيراً يكاد يجعل من قضية تحرر المرأة سلاحاً طائفياً، ويتعاظمُ أثر هذا المزيج مع العنف والقهر المتبادل في جدلية نحن أو هم، والناجي هو من سيحدّد شكل الآتي.

ينبغي التوضيح أن المشكلة ليست في الأخذ والاستفادة من تجارب النساء حول العالم، وما أنتجته حركات التحرر النسوي من نظريات وأدبيات عبر التاريخ، لكن المشكلة تكمن في أخذ قوالب جاهزة ومحاولة إقحام واقع ومشاكل المرأة السورية لتناسب هذه القوالب. قولبة المرأة كانت عبر التاريخ سلاحاً يمنع المرأة أن تشقَّ طريقها الخاص، فعبر العصور صُنفت كالعذراء الطاهرة، العاهرة، الأم، الساحرة الشمطاء، المُصلحة، المُفسدة، الراهبة وغيرها. هذه التصنيفات أملَت على المرأة كيف تتصرف وتعيش، ووضعت لقدراتها ومدى فعاليتها حدوداً ومحاذير وحتى عقوبات، أحياناً أجد أن الإفراط  في تبني بعض هذا الجدل والتنظير النسوي الجندري يصنع  قالباً جديداً يعمي الأبصار، ويعيقنا عن درب تحررنا الخاص، بل ويعزل من يتبناه عن الواقع ليصبح أشبه بخيار إقصاء ذاتي، يجعلُ من تتخذهُ تضعُ نفسَها في برج عاجي تصنِّفُ فيه غيرها من النساء بين الأحرار والعبيد، دون أن تنخرط في نضال التحرّر الفعلي.

كل ما سبق يكشفُ عن حاجة ماسة لتجديد جدل تحرر المرأة السورية، اليوم نجد أنفسنا كثائراتٍ على مختلف أطيافنا في خضم معركة فكرية جديدة خاصة بنا، معركة لخطِّ مسارٍ نسوي سوري حقيقي، مسار لا يُمليه أي طرف ويجمع النساء من كل التيارات، و يكون ذا هوية سورية جامعة. لكن الموضوع ليس بهذه البساطة، فالمرحلة التي نمر بها الآن كسوريين تجعل الأمر شبه مستحيل، فانعدام الأفق الثوري والموت الذي لا ينتهي قد جمد كل الآمال الثورية ووضع جدالات التحرير والتنمية على الرفّ بانتظار أي نهاية لهذه الدوامة القاتلة، ولا ننسى أيضاً صعود الخطابات الطائفية والاثنية بصورة تحول دون تشكيل أي صورة جامعة للسوريين. أما الأهم فهو الخسائر التي تكبدتها المرأة السورية على كل الصعد، فهي منذ بداية الثورة قد خسرت أكثر بكثير من أي انجاز حققته، وتعاظمت المظالم التي تتعرض لها سواء كانت من النظام أو من الجماعات التي تدعي انتهاج الإسلام أو في مخيمات اللجوء، وحتى في البيوت.  فهل سننجح كثائرات في شق هذا المسار النسوي الثوري؟ أم هل سنخضع لضغط التجاذبات وانعدام الرؤية؟ هل ستسلَب منا القدرة على المبادرة في حراكنا النسوي تحت عباءات اقصائية؟ أم أننا سنتحلى بالشجاعة للقيام بما يلزم لكسر هذه الدائرة المغلقة؟ هل من أمل لنا؟

في هذه المقالة حاولتُ أن أرسم صورة ما لجدل تحرر المرأة في الوضع السوري، ولعلّ من الواجب تنبيه القارئ أنها صورة منقوصة أرسمها من منظور شخصي بحت، صيغ مما عايشته وشهدته واستخلصته فكرياً. قطعةٌ واحدة من قطع كثيرة تشكل لوحة غاية في التعقيد. ما أريدُ قوله في الختام أنه لم يعد لأحد حقٌ أن يدعي امتلاك جدل تحرر المرأة، أو أنه وحده يستطيع خط المسار. أمامنا كنساء وكمجتمع كثيرٌ من العمل، وعلينا بناء الجسور الفكرية حتى نستطيعَ الالتقاء في المنتصف ورفع هذا الظلم معاً بكل اختلافاتنا ومناهجنا، أن نؤمن أنه لا يمكن فصل تحرر المرأة عن مسار التحرر العام، وأن نؤمن بأن التحرر العام لا يكتمل دون تحرر المرأة.

عندما خرجتُ في الثورة  في بداية 2011، قادتني إلى الشارع كما قادت العديد من النساء غيري رؤىً لوطنٍ حرٍّ تنالُ فيه المرأة كامل حقوقها، وطنٌ كرامةُ المرأة فيه جزء لا يتجزأ من كرامة الشعب السوري، الذي هتفنا جميعاً أنه لا يُذَّل. اليوم، ورغم كل شيء، لا أزالُ أحلمُ بتحقيق تلك الرؤى، ولا أزالُ أحلمُ باليوم الذي أعود فيه إلى أبي بأول خيط لتحقيق الحلم.