مضى وقتٌ طويل جداً، ربما يماثلُ نصف عمري، لم أكتب فيه نصاً فيه بوحٌ شخصي. وبعد عدة قراءات عن المنفى، قررت أن أكتب عن المنفى أيضاً قبل أن أغادر لندن.

أصعب ما في الكتابة هي أن تبدأ، البدايات كثيرة جداً، لكن عليّ أن أختار بدايةً واحدة فقط. عادةً حين كنت «أبوح» لم أكن أفكر، لكنّي اليوم «أبحث» قبل أن أبوح. والآن أفاضلُ بين بدايتين، أن أسرد خواطري أو أن أكتب بحثاً بشاعرية. يمكنني أن أجمع بين البدايتين لكنّي لا أريد ذلك، سأختار بدايةً واحدة فقط.

حسناً.. سوف أبوح..

أصبحت لديّ عادة جديدة وأنا في لندن، كلّما مررت بحديقة، والحدائق كثيرة هنا، أرفعُ رأسي وأعدّ الطائرات في السماء. لا أعدّ الطائرات لأنني خائفٌ منها، فأنا أعلمُ أنني في لندن، وأنها مجرد طائرات مدنية لنقل الركاب. حتى عندما شاهدتُ مرةً طائرة عسكرية كبيرة وقديمة من طائرات الحرب العالمية الثانية تحلّق على علوٍ منخفض لم أخف، في الحقيقة استمتعت برؤيتها، وودت لو تعود. لم أحاول تصويرها فأنا لا أحب أن أصوّر في لندن، جلبتُ كاميرتي «الاحترافية» معي ولم استخدمها أبداً خلال سنة قضيتها في لندن. لكنّي حين أكون في ريف حلب وإدلب، أطاردُ طائرات الميغ بكاميرتي كـ«المهبول». أصعدُ الأسطح ناسياً كل إجراءات وتدريبات الأمن والسلامة التي تعلمتها وأنصح الآخرين بها على الدوام، ومع كل «الزووم» لا تنجح كاميرتي «الاحترافية» بالتقاط صور «جيدة» لطائرات الميغ أو السوخوي أو حتى الهليكوبتر. إلى اليوم لا أعرف لماذا تغريني الميغ البعيدة بتصويرها، بينما لا تحظى تلك الطائرة البريطانية الكبيرة و«السيكسي» حتى بصورة موبايل.

لقد بدأتُ هذه العادة، أن أعدّ الطائرات، حين فقدتُ جواز سفري بين باريس ولندن، وعرفتُ أنني سأحتاج لسبعة أشهر على الأقل لأحصل على جواز سفر جديد إن سارت الأمور على ما يرام. ذكّرني ذلك بوضعي حين كنت ممنوعاً من السفر في سوريا، كنتُ حينها أيضاً أنظر للسماء حين أسمع صوت طائرة، لا لأعدّها بل لأحلم بالسفر.

[quotes]من الغريب جداً أن أكتب عن الطائرات، وأنا أحاول الكتابة عن المنفى. المنفى هو طائراتٌ أعدّها.[/quotes]

رغم أنني غادرت سوريا مسافراً بسيارة أجرة حين حصلت على جواز سفر بعد انطلاق الانتفاضة السلمية، ورغم أنني أشاهد باستمرار فيديوهات لعشرات القوارب التي تقلّ الناس عبر البحر، إلا أن الطائرة بقيت رمزاً للسفر أوعدم القدرة على السفر بالنسبة لي. لم أعدّ الطائرات في سماء بيروت أو اسطنبول، ولم أعدّها في سماء لاهاي أو برلين، كنت أعدّها فقط في سماء دمشق ولندن. ولم أصوّر الطائرات سوى في سماء الريف الشمالي لسوريا، من الغريب جداً أن أكتب عن الطائرات، وأنا أحاول الكتابة عن المنفى. المنفى هو طائراتٌ أعدّها.

أحاولُ أن أتذكر، هل كانت لدي عادات جديدة في بيروت أيضاً؟

قضيتُ في بيروت ثلاثة أضعاف ما قضيته في لندن، لكنني لا أتذكر عاداتي في بيروت، كيفَ ستكون عاداتي في اسطنبول غداً؟

لا أعلم، لكنني أعرف أنه لن تكون لي عاداتٌ وأنا أزور الريف الشمالي في سوريا، باستثناء عادة الركض بين الحياة والموت، عادة الحذر من الخطف أو القتل، وعادة الحزن والعناد.

في الريف الشمالي أبتعدُ عن العادات لأن فيها مقتل، وأترك العادات للمنافي فهي ترف.

في بيروت لم تكن لدي عادات جديدة، في بيروت تخليت عن عاداتي، فالمدينة «ترانزيت» ولن تملك فيها الوقت، حتى وإن بقيت لسنين، لتكون لك عاداتك. في بيروت لن تملك الوقت لتنظر إلى نفسك وتفكر بأن تكون لك عادة ما، وحين تملك الوقت، تفضّل أن «تسرد» مع أصدقائك بدل الخوض في التفاصيل والعادات.

في بيروت، تستقبلُ من هربوا من الموت أو من قرروا العودة الى الموت ومصارعته، من نجوا من المعتقل أو من عادوا واعتقلوا، أو من بقوا وخُطفوا. في بيروت، تمشي على الكورنيش حين تحزن، ولا تحب أن تسبح في بحر بيروت فهو مليء بمخلفات الحرب.

في بيروت، قد يُفاجئك اتصال سكايب بأن داعش خطفت «سمر ومحمد»، وسكايبٌ آخر لضابط أمن يستخدم حساب أختك. في بيروت، قد تصحو يوماً لتشاهد على التلفاز صورة أختك الصغيرة وهي «تعترف» بفبركة المظاهرات. لن تملّ من المفاجآت في بيروت، فبيروت تملك هذه العادة وتحبّها. وحين تغادر بيروت تتساءل: هل كانت بيروت منفى؟ أم من المبكر أن تقرر ذلك لأنك قد تعود إليها، أو قد تكون ترانزيتك الى دمشق.

لم أفتقد دمشق بعد، لكني رغم ذلك فكرت مرة بأن أخاطر وأزروها بهوية مزورة، هو عناد يتملكني بأن انتزع حقي في المكان. أليس المنفى إبعاداً قسرياً؟

[quotes]حين تغادر بيروت تتساءل: هل كانت بيروت منفى؟ أم من المبكر أن تقرر ذلك لأنك قد تعود إليها، أو قد تكون ترانزيتك الى دمشق.[/quotes]

أريدُ أن أعود الى دمشق وأمشي في شوارع خالية من الحواجز والصور والشعارات، ومن ثم أغادرها متى أريد، ربما خلال الأسبوع الأول من زيارتي لها. المهم أنني أقرر متى أفعل ذلك وكيف، سأغادرها بالطائرة ربما لأنتهي من عادة عد الطائرات، أو كي لا تكون بيروت «ترانزيت».

لم أفتقد الريف الشمالي أيضاً، ليس لأنني أزوره كل أربعة أشهر، بل لأنني «انشققت» عنه وأنا في السابعة عشر، ومنذ التاسعة عشر وأنا أزوره كسائح، وحتى أهلي كانو يتعاملون معي كسائح. لم أتمكن من زيارة بلدتي أكثر من عدة مرات خلال أربع سنين كنت فيها ممنوعاً من السفر و«متخلّفاً» عن الجيش، وعن طلبات المراجعة الأمنية في حلب. حين زرتها قبل نهاية عام 2011 لأودع أهلي قبل مغادرتي لسوريا تفاجأتُ بأن بلدتي تتظاهر أيضاً، وبقيتُ أتفاجأ بما يحدث فيها إلى اليوم، ربما لأنني سائح؟

أشتاقُ أحياناً لوادي قنديل وكسب، للشاطئ المتواضع المختبئ خلف جبل «القصر الرئاسي»، لـ«تشالما» حيث ركوب الغيم والحلم بالطيران، أجل الطيران وليس ركوب الطائرات. لم أعد أحلم منذ سنين طويلة، باستثناء الكوابيس قبل كل مرة أسافر فيها إلى الريف الشمالي، أليس من المفروض أن أحلم في المنفى؟

أكتبُ قليلاً وأتصفحُ الأخبار وأشاهد وثائقيات عن سوريا، في أحد الوثائقيات يظهر رجل خمسيني أمام مدرسة في الحسكة ويخبر المصورة: «هون الأستاذ ضربني كف… كف الصمت… كف القمع… كف الكبت. بشعر هالكف كان مؤلم وصعب بس كان ضروري». أنا أيضاً تذكرت كفاً مؤلماً من موجه المدرسة وأنا أشاهد هذا الرجل. لم يكن الكف ضرورياً، ولا أعتقد أن هناك أي ضرورة لصفع طفل بكف، لذلك لم أنس الكف الذي تلقيته. حتى عندما تحدثتُ عن الطفولة مع صديق قديم التقيته أثناء زيارته للندن، تذكرنا الكفوف والعصي التي تلقيناها في المدرسة. تذكرنا تحديداً ضربة العصى على اليد في الشتاء، وذلك الألم الذي لا يشبه سواه، وكيف يضع أحد رفاقك كفك بين يديه ويفركه ليدفأ. لو كان ذلك ضرورياً لما تحدثنا عنه خلال لقاء لساعات قليلة بعد سنين طويلة، وضمن «عجقة» الحياة والقصص والأحداث. في المنفى، الماضي نافذة.

أتصلُ بأخي الأصغر في سوريا لأتحدث الى أمي، تصرُّ أمي منذ سنتين أن أكلمها كل يوم جمعة عبر الفايبر، وتقول لي كلما تخلفت عن ذلك أنه طلبها الوحيد الذي عليّ الالتزام به. هي دائماً في المكان نفسه كل أسبوع، وتحدثني من البيت نفسه، أما أنا فحدثتها من.مدنٍ كثيرة. تحدثني وهي جالسة ومصغية، وأنا أحدثها وأنا أمشي، في الباص، من المطار، في القطار، على الشاطئ، في المطعم، مع أصدقائي، وأنا أكتب أو أطبخ، وأنا أشاهد الأخبار أو أحضر فيلماً. المنفى أيضاً ترف الخيارات والأماكن.

[quotes] المنفى جواز سفر لا تستطيع الذهاب به حتى إلى عاصمة بلادك.[/quotes]

أكررُ الاسئلة نفسها كل مرة: «شو الأخبار؟ ضرب الطيران عليكون؟ مين مات؟»، وتسألني أمي: «شو صار بجوازك؟ إيمتى جاي؟». بين الاتصال والاتصال يموت الناس على الجانب الآخر، بينما تصدر أو لا تصدر جوازات السفر على هذا الطرف. جوازات أصلية وأخرى مزيفة، جوازات «شغل» النظام وأخرى «تبع» الائتلاف. جواز «أبو الأربعمية دولار» أو «اللي بيكلف ألف ومية دولار»، المنفى جواز سفر لا تستطيع الذهاب به حتى إلى عاصمة بلادك.

أحاولُ أن أتفادى استخدام ظروف المكان «هنا» و«هناك» وأنا أكتب عن المنفى، عن بيروت ولندن واسطنبول وسوريا. أتوه في تمييز مَن منهم «هنا» ومَن «هناك»؟ وأنا أحاول فهم الـ«هنا» والـ«هناك»، أتذكر سكيتشاً من برنامج الطفولة «افتح يا سمسم» حين يحاول «كعكي» أن يعلم طفلاً الفرق بين «هنا» و«هناك». الطفل يريد أن يكون «هناك»، وكلما وصل الى هناك يكتشف أنه أصبح «هنا»، وبعد محاولات عديدة يكتشف الطفل أنه دائماً «هنا»، وينتهي السكيتش ببكاء الطفل لأنه يريد أن يكون هناك. كان من السهل عليّ أن أميز الفرق بين الاثنين وأنا طفل حينها، أما الآن فأجد من الصعب أن أميز بينهما. أنا الآن «هنا» في لندن، وفي غضون أيام سأكون «هنا» في اسطنبول كما كنتُ «هنا» في بيروت، لكني أريد أن أكون «هناك». أريدُ أن تصبح «هناك» هي «هنا» الممكنة والآمنة، أما المنفى فهو كل ما دون ذلك.