في مسار الصراع السوري، وتطوّراته الأحدث بصورة خاصة، ما يوحي بشيء عتيق متكرر، يبدو كأنه ينحدر إلينا من زمن يسبق تكوّن الكيان السوري المعاصر في نهاية الحرب العالمية الأولى، نحو القرن التاسع عشر وما قبله. ويبدو أن وراء مسلسل العتيق، الذي تستعرضُ هذه المقالة حلقاتٍ منه، ديناميكية تعتيق إن جاز التعبير، تواكبها تسويغاتٌ لانبعاثات العتيق المتكررة.

ظواهرُ العتيق وديناميته وتسويغاته، هي أوجه الرجعية الصاعدة في نطاقٍ يتجاوز سورية إلى عالم اليوم كله.

منابعُ العتيق

آخرُ المستجدات العتيقة احتلالُ قواتٍ روسية مناطقَ في سورية، في اللاذقية وحماه وغيرهما، وإشرافها على توجيه العمليات العسكرية للنظام، وقيامها هي ذاتها بمهمات عسكرية جوية على الأقل. في ذلك ما يذكّر بزمن الحملات الاستعمارية في شكلها التقليدي: تَنشرُ قوةٌ استعمارية متفوقة قواتِها المسلّحة في بلد ضعيف لتحمي ما لها من «مصالح مشروعة» فيه. وهذا بعد نصف قرن من نزع الاستعمار على الأقل، ونحو 70 عاماً على استقلال سورية نفسها. ويكتمل إيحاء العتيق بمباركة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لحربِ الحكومة الروسية في سورية، بوصفها «معركة مقدسة». «وطنُ الاشتراكية الأول»، المقدّس بطريقته الخاصة، يعود إلى «روسيا المقدسة» التي كانها قبل الفاصل البلشفي والشيوعي. لا يُستغنى في كل حال عن «رسالة خالدة». ومن تجربتنا وتجارب غيرنا نعلم أن القداسة والفرادة والرسائل الخالدة تقترن بالوحشية، وبطلبِ الاستثناء مما يُحتمَل وجوده من قواعد عامة يُفترض أن تنتظمَ جميع الفاعلين في حقلٍ ما.

قبل روسيا المقدسة شهدنا ولا نزال نموذجاً مذهلاً من العِتَق والقداسة يتمثل في داعش: مزيجٌ خارقٌ من مظهرٍ بشري عتيق، مصطنع بقدر ما هو قبيح، ومن خطابٍ عتيق مصطنع بدوره وخاوٍ من أي روح، ومن رموز عتيقة لم يكن يعرفها أكثر المسلمين بالذات، ومن ممارسات عنف بالغة الوحشية والحسيّة، ولا تعرف حدوداً.

ما كانت داعش لتخطر ببال أجمحنا خيالاً حتى وقت ظهورها: هل ما نراه واقعٌ فعلاً؟ فعلاً فعلاً؟ حتى من كان يعلم شيئاً عن «دولة العراق الإسلامية»، وقد كانت بدورها شيئاً غير متصوَّرٍ وقت ظهورها، كان يُخَيل له أن الأمر يتعلق بتشكيل خاص غامض، في وضع خاص غريب، يُرجّح له أن يزول سريعاً. لا يبدو الأمر كذلك، وحتى لو طُويت صفحة داعش الآن، فقد خلّف هذا العتيق البهيمي في وعينا ومجتمعنا وسياستنا رضّةً كبيرة تستوقف لزمن طويل قادم. داعش أدخلت دولنا المعاصرة كلها في النسبية واحتمال الزوال، لا كمؤسسات سياسية وسكان فقط، ولكن كجغرافية أيضاً. أدخلتنا كلنا في النسبية، في دوارٍ من الأسئلة عمّا نكون وعمّا نعرف وعمّا نعيش وعمّا نعني وعمّا نريد. وأدخلت دين المسلمين، الإسلام، في سؤالٍ لا مهرب من مواجهته: هل هذا دينٌ يدعو للعدل والإحسان فعلاً، أم هو كاتالوغ للقتل وحكم الناس بالإرهاب؟ وهل من منطقٍ في اعتقاد أيٍّ كان بأن «الحاكمية الإلهية» و«تطبيق الشريعة» يؤدي إلى غير داعش؟

وداعش ليست العتيق الوحيد على جبهة «الإسلام»، وإن تكن المسرحة الأتم والاصطناع الأكمل للعتيق. الإسلامية المقاتلة في سورية اليوم عتيقة كلها، مصطنعة، بلا روح ولا فكر، ولا عدل. وكلها تثير أسئلةً بخصوص ما يبدو لدينا من استعداد قوي للعتيق يتخلل حاضرنا. وبقدر ما إن داعش إسلام، إن لم تكن الإسلام ذاته كما تقول هي وكما يقول أعند خصومها، ألا يثور هنا تساؤلٌ عمّا إذا كان الإسلام هو منبع العتيق في حياتنا المعاصرة؟

لكن، قبل داعش، ألم نشهد عتيقاً كان غير مُتخيل لنا حتى رأينا بوادره تقترب بالعام والشهر واليوم، أعني نشوءَ سلالة حاكمة حديثة، تكونت عند مستدار القرن الحالي، بعد أن كان مؤسسها قتل عشرات الألوف من محكوميه قبل نحو عقدين من توريث «الجمهورية» إلى ابنه الألثغ، الذي يستعمره شعورٌ حادٌ بالنقص؟ دستور الحكم السلالي الباطن هو استمرار السلالة «إلى الأبد»، ويكاد كل ما بقي من تطوراتٍ في سورية خلال ما يقترب اليوم من خمس سنوات، وخمسة عشر عاماً منذ نشوء المملكة، يكون «مكتوباً» في هذا الدستور الباطن. ومن ترجمات هذا الدستور تلك الشعارات التي تبدو رغم حداثة عهدنا بها مأثورة، معتّقة: الأسد أو نحرق البلد! الأسد أو لا أحد! الأسد أو بلاها هالبلد! أو «آياتُ» وحيٍ جديد تُكتب على الجدران في دمشق: المخابرات نور السموات!

مثل سلالات غيرها، في زمننا وفي أزمنة قديمة، تضع سلالتنا الفتيّة نفسها تحت حماية قوىً أجنبية كي تستمر. ومع السلالة ودولتها وعالمها، نجدنا مشدودين إلى عالم من الأديان والطوائف، من صرخات الحرب، بل «الجهاد»، تستحضر اسم الله أو محمد أو الحسين أو زينب، وتمزج المقدس بالقتل. وكذلك إلى عالم «حماية الأقليات» و«المسألة الشرقية»، والتمييز الديني والطائفي الفاجر، وإلى عالم الاستعمار والحملات الاستعمارية.

فهل يكون منبع العتيق هو هذا، السلالة الأسدية ودولتها وولاءاتها وتبعياتها؟

وتعطي تحركاتُ اللاجئين السوريين، بحراً وعلى أقدامهم، عابرينَ حدود دولٍ معادية تُعرِّف ذاتها بماضيها، نحو دول تُعرِّف ذاتها بماضٍ أقرب، ووقوع كثيرين منهم على الطريق، تعطي انطباعاً بشيء قديم بدوره، قد يكون نموذجه البدئي تحركات البشر عبر الأراضي والقارات في أزمنة قبل تاريخية. شيءٌ نشعر أننا نفهمه بيسر رغم ما تعرضنا له من «إفساد» على يد الدولة- الأمة التي لطالما شكلت إطاراً ملزماً لكل تفكير وسياسة. هذا يجري والدولة- الأمة شاهدة، تقف إما عاجزة، أو هي تحاول تطويق آثار هذه التحركات التي تنتهك معناها قبل أن تنتهك حدودها. هذا حين لا تتصرف بفجور عنصري يستلهم مسوِّغاته من «الحضارة» و«الثقافة» و«المسيحية».

كانت سورية دولة- أمة تنفي ذاتها نفياً إيديولوجياً غيرياً (الأمة أكبر من الدولة)، قبل أن تنتهي إلى نفي ذاتها نفياً سياسياً منحطاً (السلالة أكبر من الدولة، ومن الأمة). لكنها مع ذلك إحدى وحدات النظام الدولي المعاصر، مع ألمانيا والسويد، المقصدان المفضلان للاجئين السوريين، ومع «روسيا المقدسة»، ومع السعودية المقدسة بطريقتها، وإيران المقدسة بطريقتها الأخرى، ومع أميركا وإسرائيل، أرضي الميعاد المقدستين بطريقتيهما أيضاً.

وقبل عودة روسيا المقدسة ودولة الخلافة الداعشية ومملكة الأسديين، لدينا في الإقليم الشرق أوسطي ما قد يكون أغرب عتيقٍ في العالم وأحدثه: إسرائيل. دولة مبنيةٌ على أساس ديني، ومسلحة بسلاح نووي. من جهة لا تخفي عنصريتها ورفضها المساواة مع الفلسطينيين والعرب، ومن جهة ثانية تحظى بحماية دولية معلنة. من جهة هي مكفولة التفوق على العرب أجمعين، ومن جهة هي لا تكفّ عن الصراخ بأنها مهددة ومحاصرة. وبينما انبنت القومية العربية على أساس لا ديني (يؤخذ عليها مع ذلك، وبغير قليل من الحق، أنها إسلامٌ مُعلمن)، يجد المرء دولة بجانبه لا تكفّ عن القول إنها دولة الشعب اليهودي، ولا يرى «العالم» فيها إلا دولة كاملة الشرعية، ومعياراً لشرعية العالم نفسه.

فهل هذا الكيان الإسرائيلي الذي يُفترض أن يكون فضيحةً من وجهة نظر قيم العدالة والحرية  وحكم القانون، القيم التي يفترض أن الشرعية الدولية تقوم عليها، هو منبع العتيق والرجعي  في إقليمنا؟

لكن أليسَ لدينا هنا قبل إسرائيل «المملكة العربية السعودية»، الدولة التي تقوم على أساس ديني بدورها، بل الدولة التي تُماهي نفسها بالإسلام، وتسيطر على مهوده الأقدم؟ والوحيدة في العالم، قبل أن تنضم إليها دولة داعش مؤخراً، التي تلغي وجه المرأة، وتمنع قيادتها للسيارة؟ أليست دولة الإسلام الوهابي هذه، التي تملكها سلالة حاكمة، تستعبد أجانبها الفقراء والنساء، وتقطع الرؤوس بالسيوف، وتحرس البترول، هي منبعُ العتيق؟ العتيق الديني والعتيق الاجتماعي والعتيق السياسي؟ الرجعية في كمالها؟

وبعد السعودية، «جمهورية إيران الإسلامية» التي لا تملكها سلالة حاكمة، لكنها تقوم على أساس ديني بدورها، وهي فاجرة في طائفيتها، وقوة تفجير طائفي في الإقليم الشرق أوسطي المنكود.

وبفضل مملكتي إسرائيل والبترول، تتمركزُ سياسات القوى الدولية النافذة في المنطقة حول أولوية الاستقرار، أي عملياً رعايةُ تحوّل الدول إلى وكالاتٍ أمنية تفتك بمحكوميها غير المنضبطين، وتمنعهم من التدخل في الشؤون الداخلية للسلالات والطغم الحاكمة التي تحكم بلدانهم وتتحكم بحياتهم. وأولوية الاستقرار هذه هي ما تلعب دوماً لمصلح نظم الطغيان، ومنها النظام الأسدي، ولا تلعب أبداً لمصلحة عموم السكان ومطالبهم ونشاطهم السياسي.

أليس هذا، بالأحرى، هو المنبعُ الأهم للعتيق، الذي يتحكم بالمنابع الأخرى؟

مرضُ العالم

بنظرةٍ مجملة، يبدو تيارُ العتيق الغامر الذي يجرفنا نتيجةً لتلاقي مياه ثلاثة منابع: منبع الدين الذي يعطي شرعيةً لسلطات طغيانٍ قائمة أو تريد القيام، منبع دول الطغيان الذي يتلقى المساندة والشرعية من نظام دولي متمركز حول الاستقرار، ثم منبع هذا النظام نفسه كسندٍ لأشكال مختلفة من التمييز والامتياز والتعسف. العتيق هو مزيج من التمييز والتعسف المحمي بالقوة، والحامي للامتيازات. وهو وجه الرجعية الصاعدة في عالم اليوم.

أتكلمُ على الفعل المتضافر لثلاثة عوامل، وإن كنت أميلُ إلى اعتبار النظام الدولي الذي تسيطر فيه الولايات المتحدة والغرب عموماً، ومنه إسرائيل، (ومن نصيب سورية التعيس أن روسيا شريكة في هذه السيطرة)، هذا النظام هو المنبع الديناميكي للعتيق في مجالنا، للتعتيق والرجعية، بما في ذلك الإيغال في الوحشية الدينية وفي طغيان الدول. وهذا لأن أقوى العتيق هو عتيقُ الأقوياء. الغربُ الديمقراطي هو راعي إسرائيل، والسعودية، وله فضل عميم في قيام القاعدة، وهو الداعم البنيوي للطغيان الدولتي، حتى حين لا يكون داعماً سياسياً لبعض الدول.

ولا تصدر هذه الأولوية المقررة للنظام الدولي كمنبعٍ للرجعية عن دوافع قومية أو وطنية، استكان أصحابها عادة إلى لوم الغرب بحقٍ وبغير حق، واشتقوا من ذلك وجوب الركون إلى الطغيان المحلي الذي ينتحل معاداة الغرب (السعودية نفسها تفعل ذلك، ليس «ثقافياً» فقط، بل وحتى سياسياً)، أو استنفار ثقافتنا الأصيلة، وعملياً الدين، في مواجهته. أي مواجهة اللاعدالة في النظام الدولي بطغيان السلالات والطغم الحاكمة، أو بطغيان الدين وطغم دينية لا تقل شراهة للسلطة والمال.

النظامُ الدولي ليس الغرب على كل حال، ولا يرتد إلى الغرب، وإن كان الغرب مركزياً فيه. نحن من هذا النظام، ولنا إسهامنا الكبير في تفاقم الرجعية في العالم عبر الإسلامية العنيفة النافية للعالم نفياً سلبياً عقيماً، وعبر طغيان الدول المعادي للجمهور العام والديمقراطية. وقوميونا الذين يستندون إلى أمثال الدولة الأسدية وإيران، وأمثال حزب الله وحماس، وإلى عقائد تمتد من فكر منير شفيق إلى المرحوم الجابري، وكثيرين غيرهما، هم ممن يعيدون إنتاج النظام الدولي في السياسة والثقافة، ولا يوفرون مخارج منه أو بدائل عنه. ومن هذا النظام روسيا والصين اللتين صمدتا في وجه الديمقراطية، ومنه وفي قلبه إسرائيل الحبيبة التي يباح لها أن تكون إقطاعياً مدللاً بين برجوازيين، وعلى رأسه القوى الغربية التي ترفض كما إسرائيل، وبالقوة نفسها، المساواةَ مع غيرها.

الدافعُ إلى الكلام على أوليّة النظام الدولي في تقدم الرجعية والعتيق في العالم يتمثّل في شيئين، نظري وعملي. النظري هو أن العالم وحدةُ التحليل الوحيدة اليوم، فلم يعد هناك ما هو محلي، ولا نستطيع فهم شيءٍ دون التفكير عالمياً، على ما تدعو إليه حركات العولمة البديلة. وهذا أصحّ بعد في «الشرق الأوسط»، الإقليم الأكثر تدويلاً في العالم، الذي لا ترتد مصائر مجتمعاته إلى بنياتها ودينامياتها الداخلية بحال. وهو أصحّ بعد في «سورية الأسد»، «الدولة الخارجية» التي تتمتع بقاعدةٍ دولية واسعة تعوض عن ضيق قاعدتها الاجتماعية المحلية. أما الشيء العملي، فيتمثل في وجوب إدراج تغيّرنا في عملية تغيّر عالمية مرغوبة وتزداد إلحاحاً. لم يعد كافياً العمل محلياً، وإن فكرنا عالمياً، على ما تدعو حركات العولمة البديلة نفسها؛ يلزم العمل محلياً وعالمياً في آن، وتزداد الحاجة إلى إطار عالمي جديد للعمل التغييري والتحرري، بعد إخفاق الأمميات وتحجّر آخرها.

كسوريين، ومعنا الفلسطينيون، نحن مؤهلون للكلام في هذا الشأن بقدر ما إن تدمير بلدنا وإزالة فلسطين مشروطان عالمياً، وليسا نتاج أفعال السوريين أو الفلسطينيين، الموفقة أو الخرقاء، إلا بقدرٍ محدود. العالم مريض، ومرضه يُفَاقم أمراضنا، الموروث منها والمكتسب.

هناك مسألة عالمية اليوم هي المسألة السورية، وهي ليست مسألة سوريين ابتُلي العالم بها وبهم، بل مسألة العالم الذي هَندَسَ، عبر وقائع معلومة، لمّا تسقط من الذاكرة بعد، التراجيديا السورية، وخلقها على صورته ومثاله.

تغيير العالم قضية تطرح نفسها منذ اليوم، والأرجح أن تطرح نفسها بقوة أكبر في السنين القادمة.

ثقافة الرجعية

كانت عملية التحول السلالي في سورية واستعباد المحكومين قد وجدت دعماً من قبل قوى العالم الكبرى كلها. لم تُسمَع نأمة اعتراض أو تشكك من طرف أي دولة ديمقراطية في العالم، ولا من قبل اليسار العالمي. بشار الأسد جرى تعميده وريثاً لأبيه من الأميركيين والفرنسيين كما هو معلوم، ومن الدول العربية التي إما هي ممالك وراثية من قبل، أو وجَدت في السابقة الأسدية شيئاً سوف يُحاول الاستنادَ إليه رؤساؤها المعمرون بعد حين. انقلابُ تاريخ سورية، وما يبدو من سير البلد بسرعة كبيرة نحو الماضي، عوداً إلى أزمنة تاريخية كان يفترض أنها طُويَت، غيرُ منقطع الصلة بهذه الرعاية الأممية.

هذا للقول مرة أخرى إن عتيقنا ليس شيئاً محلياً حصراً، يحيل إلى هشاشة جديدنا المحلي وحدها، بل هو نتاج الجديد العالمي، أو ما في هذا الجديد من عتيق، وتحديداً ظواهر المحسوبية والتمييز والاستثناء من العدالة، وقد استفادت منها دولة الأسديين مثلما تستفيد منها إسرائيل، والسعودية، وإيران. من لديه دولة يكسب، مهما أوغلت دولته في الأجرام، وهذا ما دام إجرامها يطال الضعفاء وحدهم، وليس الأقوياء.

نظام الدول المعاصر هذا، هو مضخة العتيق، أو «القدامة»، الكلمة المفضلة عند من يعتقدون بكل حرارة الإيمان الديني أن «الحداثة» هي الحل أو أن العالم المعاصر هو الحل. أعني بالضبط إن ما في هذا النظام من تفاوت ولا عدالة، ومن عنف وامتياز، وأكثر منهما، ما فيه من تمييز وكيد و«تآمر»، هو منبع ما هو عتيق ومظلم، ورجعي، في عالم اليوم.

أتكلم على كيد وتآمر وتمييز للقول إن الصفة الأبرز للنظام الدولي اليوم، ومنذ نحو ربع قرن، التمييز المدروس والمتعمد وليس «الفوارق البنيوية». اعتدنا قبل ربع القرن الأخير على تصور قانوني للعدالة، وعلى التفسيرات البنيوية للّاعدالة كشيء متولد عن آليات مجردة لا شخصية، تتصل بالسوق الرأسمالية والتبادل اللامتكافئ، أو بتوزع للقوة غير متكافئ تحدده عوامل بنيوية، أو بتحولات سكانية وبيئية. هذا ليس غير كافٍ اليوم فقط، وإنما هو مضللٍ أكثر وأكثر. أبرز أشكال اللاعدالة في عالم اليوم تُحيل إلى التمييز المتعمد، وإلى المحسوبية والطائفية (أو «الحضارية»)، وإلى الحساب السياسي الواعي والكيدي. بأيّ معنىً الفلسطينيون متأخرون عن إسرائيل، بفعل منطق ما للرأسمالية، أو «الحداثة»؟ الأمر أوثقُ صلةً بالكولونيالية مفهومةً كجملة عمليات متعمدة لتحطيم حياة المُستعمَرين والمُسيطَر عليهم. وبأي معنى غير كولونيالي تتأخر قطاعات واسعة من السوريين عن الطغمة الأسدية التي تنهب البلد منذ عقود، ولا تكف عن قطع الرؤوس المستقلة في مجتمع السوريين السود، وتنكيد عيشهم؟ كأننا حيال سوق تنافسية عالمية للمجتمعات والدول، يفوز فيها من تعب على نفسه أكثر، وليس هناك أي شيء آخر!

ولعل هذه النقطة جديرة باهتمامٍ أوسع في نطاق علم السياسة، والإنسانيات عموماً، وهي تهتم اليوم أكثر بالأهلية أو القدرة السياسية Political agency، وبالقادر السياسي الذي يختار وينفلت من الحتميات، ولا يمكن استنفاد تفسير سلوكه بإكراهات بنيوية. القادر السياسي واعٍ، يفكر ويمحّص ويختار، ويمكر ويكيد. والوعي ليس مبدأً للتمييز بين الخير والشر، ولا بين الخيّرين والأشرار، ولكنه كذلك مبدأٌ للخبث والمكر والدهاء وسوء النية والتعمّل والكيد، مما لا يمكن التفكير في السياسة في عالمنا المعاصر دون أخذه في الحسبان. يكفي أن يتلفت المرء حوله في بيئاتنا الاجتماعية حتى يعاين انتشار الخبث وسوء النية والمكر، مما يتصل بتدبيرات الفرد وسياسته الخاصة، أو بهويات الجماعات وسياستها، لكنه مندرجٌ في بنىً محلية ودولية، يتراجع فيها وزن اعتبارات التضامن الوطني والتكافل الاجتماعي، بينما يصعد وزن اعتبارات الطائفة والجماعة الخاصة.

العالم اليوم مهزوم أمام خبثه ومكره وسوء نيته، خبث ومكر وسوء نية الأقوياء فيه أكثر، لكن الضعفاء ليسوا منزهين عن هذه المسالك، وبخاصة حين يتصرفون كمجرد ضعفاء، حين لا يحاولون تغيير أنفسهم والعالم. فإن كان من وصفٍ لقوى العتيق، فهو الانحطاط والأنانية والخبث: وحشية روسيا المقدسة وكذبها، وانحطاط الإسلاميين وسوء نيتهم، وأنانية الأسديين وحقدهم، وكيد الإسرائيليين وعنصريتهم، وغطرسة الأميركيين وخبثهم، ولؤم السعوديين وفسادهم، وعدائية الإيرانيين وضغينتهم. وطائفية الجميع.

هذا هو عالم الرجعية، عالمٌ من الخبث واللؤم والكيد، والتمييز والعنف، والفساد. وهو غير منفصل في تقديري عن صعود الثقافوية (أو «الحضاروية») في العالم منذ نهاية الحرب الباردة، وبخاصة من حيث أن هذه تسوّغ امتيازات البعض بأفضلياتهم الخاصة، وحرمانات البعض الآخر بعيوبهم ونواقصهم الذاتية، ثم من حيث أن الثقافوية ترفع من شأن «الحضارات» والأديان والطوائف، والقرابات والمحسوبيات المرتبطة بها، وتجعل منها معياراً للتفكير والحكم.

هذا المناخ الفكري وجهٌ مكونٌ للنظام الدولي الحالي، وأساس تسوّيغ التمييز فيه.

تأميمُ العالم

حتى وقتٍ غير بعيد، ثمانينات القرن السابق، كان يُعتقَد أن التوافق مضمون وبديهي بين المعاصر والعادل. كان مفهوم التقدّم يتكفل بجمع البعدين، ويضيف إليهما بعداً ثالثاً، اجتماعياً: صالح أكثرية سكان أي بلد، وأكثرية البشر في العالم. كان التقدم هو عدالة تعود بالخير على كثرة متكاثرة من الناس، وفق صيغ لا نكف عن تحسينها (وليس كتحقيق لصيغ معطاة من الماضي).

انهارَ التقدم منذ جيل وأكثر، هناك اليوم ما هو معاصر، لكنه امتيازي وتمييزي، وليس غير عادلٍ فقط. ولم يعد هناك تصورٌ عالمي للعدالة، وقتَ لم يعد هناك أي بلد يمكن أن ينعزل عن العالم، ولم تعد ممكنةً عدالةٌ غير عالمية. في الوقت نفسه، الماضي لا يعطينا عدالة، العدالة في العالم مشروع لليوم والمستقبل.

أعتقدُ أن أزمة اليسار في العالم، وكانت الثورة السورية مناسبةً لظهورها في أبشع شكل، تعود في جانب منها إلى أن اليسار لم يَعُد يشغلُ موقعاً مُراجِعاً للنظام الدولي، ولم تَعُد قضية تغيير العالم والثورة في العالم تشغل باله. اليسار اليوم في معظمه قوىً داجنةٌ من الطبقة الوسطى، ماضوية التفكير والسياسات، لم تعرف الخروج من زمن الحرب الباردة، وتجد نفسها عاجزة كلياً عن فهم التفجرات الاجتماعية في إقليمنا المُدوَّل وغيره.

الخلاصة: العتيق وغير العادل يمشيان اليوم معاً، ومعهما تفتت معنى العالم. ليس هناك تقدم لا يكون عالمياً اليوم، وليس هناك عالمٌ لا يتقاسم التقدم، وليس هناك عالمٌ يتقاسم التقدم دون أن يكون معاصراً، يقيم في الحاضر ويتوجه نحو المستقبل.

تقاسمُ التقدّم يعني تملّكَ الناس للعالم، تأميم العالم والشراكة في امتلاك العالم، وإقامة معنى العالم، أي الثقافة، حول هذه الشراكة. أقوى العوائق في وجه الشراكة هو امتيازات الأقوياء الأثرياء، والتقدمُ في أزمةٍ بفعل ما يقفُ في وجه تعميمه عالمياً من عوائقَ سياسية.

لكن حين لا يكون التقدم عالمياً، الرجعية تكون، وتتقدّم.