هناك اليوم سرديةٌ تقول بنوعٍ من الفصام الكامل بين الواقع الذي تعيشه دمشق، وواقع الحرب والموت والتشرد الذي يعيشه بقيّةُ السوريين في المناطق الأخرى من سورية. بوصفك دمشقياً عتيقاً، كيف تنظر إلى مقولة الفصام الكامل تلك، وهل لها جذورٌ تاريخية باعتقادك؟
أوّلاً، ليس هذا الانفصال قديماً، بالمعنى المقصود في هذه الأيّام، وثانياً، في دمشق أكثر من دمشق واحدة.
لا أنفي طبعاً المنافسة القديمة بين دمشق وحلب، مثلاً، ولا خصوصيّة دمشق باعتبارها عاصمة البلاد، في نظر أهلها وفي نظر بقيّة السوريّين، ولا تسيّدها التاريخي على الأرياف القريبة والبعيدة، إلّا أنّي أعتقد أنّ الانفصال الذي تتكلم عليه نتيجةٌ سياسة مقصودة من طرف نظام حافظ الأسد. لن أعود الآن إلى تحليل بنية هذا النظام، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّه كان يسعى منذ قيامه إلى إنشاء حلفٍ بين عصبته الطائفيّة الضيّقة من جهة، وبين بعض الأرياف من جهةٍ ثانية، وبين مدينة دمشق بالذات من جهةٍ ثالثة، لأنّها عاصمته و«واجهته» والمركز الرئيسي لبيروقراطيّته وأجهزته القمعيّة. ولا شكّ في أنّ حافظ الأسد استفاد في مسعاه من عداء الدمشقيّين الشديد لنظام 23 شباط، إذ دفعهم إلى الترحيب بانقلابه آملين انفتاحاً ما، سياسيّاً واقتصاديّاً، و«ترطيباً» للعلاقات المُتوتّرة مع أغلب الدول العربيّة.
ما زلت أذكر اللافتة التي رُفِعت في سوق الحميدية، «طلبنا من الله المدد، فأرسل لنا حافظ الأسد». لا يعني هذا أن الدمشقيّين أصبحوا أنصاراً مُتحمّسين للنظام، ودليلي على ذلك الاحتجاجات الشعبيّة اللاحقة، التي اتّخذ بعضها طابعاً دينيّاً، وبعضها طابعاً مدنيّاً، بهمّة النقابات المهنيّة. وفي نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، شاركت قطّاعاتٌ دمشقيّة واسعة في الحراك الشعبي الذي عمّ مناطق عدّة من البلاد.
لا يُنكَر مع ذلك، أنّ تُجّار دمشق هم الذين أفشلوا الإضراب العام آنذاك. هل كانوا فعلاً مع النظام؟ هل كانوا يؤيّدون سياسته الاقتصاديّة أو مواقفه الإقليميّة والدوليّة؟ أعتقد أنّ عواطفهم كانت تتلخّص بالمثل الشعبي المعروف «الايد يلّي ما بتقدر تعضّها بوسها وادعي عليها بالكسر»! وما زالوا حتّى اليوم على هذه «التقيّة السنيّة»، ومثلهم مشايخ النظام الدجّالون. أضفْ أنّ أغلبهم، حتّى المنتفعين مباشرةً من النظام وشركاء المافيات الأسديّة، طائفيّون في أعماقهم حتّى النخاع، قد يُدافعون في العلانية عن بشّار، ويُحمّلون المعارضة بتنويعاتها مسؤوليّة الخراب، ولكنّهم يلعنون العلويّين سرّاً في قلوبهم و«وشوشةً» في مجالسهم الخاصة. وتبقى مصالحهم الطبقيّة، بطبيعة الحال، فوق أيّ اعتبارٍ سياسيٍ أو أخلاقي. لا يستغرب مواقفهم السافلة إلّا الذين يُفرّغون الثورة من مضمونها الاجتماعي، و«يُنزّهونها» عن الصراع الطبقي.
youtube://v/yzxt_reKV9U
من جهةٍ ثانية، حين نتحدث عن دمشق، فإننا نتحدث عن مدينة عدد سكانها أربعة ملايين نسمة وأكثر، منهم سكّان حزام الفقر الذين انخرطوا في الثورة، واستهدفهم النظام بشراسةٍ تفوق الوصف. هؤلاء دمشقيّون أيضاً، وكذلك سائر أبناء ريف دمشق القريب المتّصل بها عُمرانيّاً، بالرغم من الفروق الاجتماعيّة والثقافيّة بينهم وبين قُدامى الدمشقيّين و«المُتدمشقين» من ذوي الأصول الريفيّة، الذين استقرّوا في العاصمة منذ مُنتصف الستّينات.
لم تعد دمشق منذ زمنٍ بعيد مدينة الأعيان وعلماء الدين والتجار والحرفيّين، وغيرهم من مكوّنات المجتمع الدمشقي التقليدي. لنضع في حسابنا أيضاً، عند الكلام عن الموقف الدمشقي المهادن، جميع الوافدين إلى المدينة، والقادمين من مدنٍ وأريافٍ مختلفة، ويُقدَّر عددهم بمئات الألوف. ولنضع في حسابنا، من جهة ثانية، الدمشقيّين المعارضين الذين لا يقلّون عنهم عدداً، وتظاهروا وقُتلوا وسُجِنوا.
اللوم الموجه لدمشق من جمهور الثورة يبدو مرتبطاً بشكل عضوي بنقدٍ لأبناء المدن في سوريا بشكل عام، وتحديداً طبقة أعيان المدن، والتي تبدو وكأنها منذ نهاية الخمسينات فقدت أيّ فعاليةٍ سياسية خاصة بها. كيف ينظر ابن عائلة مردم بك إلى تاريخ سوريا في عهد الاستقلال، كيف تمردتَ على إرث العائلة، وهل أعدتَ النظر في تلك المرحلة من تاريخ سوريا لاحقاً؟
يُحيّرني سؤالك، لأنّي لم أتّخذ في حياتي كلّها أيّ موقف باعتباري ابن «مردم بك»! انتزعت مبكّراً استقلالي عن العائلة، على الأقلّ عاطفيّاً، حتّى أنّي كنت أكتب اسمي «مردم» فقط، وأرفض بعنادٍ إضافة «بك». أضفتُ «البكويّة» في فرنسا لأنّ اسمي في جواز السفر، وبالتالي في بطاقة الإقامة، «مردم بك»، وعُرفت منذ ذلك الوقت بهذا الاسم (وله، والحقّ يُقال، رنّة حلوة بالفرنسيّة!).
كنتُ طالباً في المدرسة الثانويّة حين قرأت بعض الأدبيّات الماركسيّة، وتابعتُ بانتظامٍ في الوقت نفسه بعض المنشورات اليساريّة الفرنسيّة المُندّدة بالحرب الاستعماريّة في الجزائر، ثمّ صادقتُ بعض الطلّاب والكتّاب الشيوعيّين منذ بداية دراستي الجامعيّة (1961). تعرّفت أيضاً، منذ الصغر، لأسبابٍ عائليّة، إلى بعض الشخصيّات السياسيّة الكبيرة آنذاك، من طبقة الأعيان الذين تقصدهم، ولا أذكر أنّي أُعجبت فعلاً بأيٍّ منهم. الرجل السياسيّ الوحيد الذي قدّرته فعلاً حقّ قدره كان خالد العظم. كان للعظم مكانةٌ خاصّة لدى كثيرٍ من اليساريين «الانفصاليّين»، إذ أنهم كانوا يعتبرونه مختلفاً عن الآخرين، بالرغم من نشأته الأرستقراطيّة العريقة. كان مستقلّاً في رأيه، مُطّلعاً على أحوال العالم بفضل ولعه بقراءة الكتب التاريخيّة والسياسيّة، وكان يؤمن بضرورة تثبيت دعائم الوطن السوري اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً قبل المغامرة بمشاريع وحدويّة. تذكّرْ أنّ السياسيّين السوريّين كانوا إمّا من أنصار الوحدة مع العراق (حزب الشعب)، وإمّا من أنصار المحور المصري السعودي (أغلبيّة الحزب الوطني)، وكانت سورية في الحالتين منذورةً للوحدة العربيّة. حين رفع شكري القوّتلي العلم السوري بعد الاستقلال، قال إنّه ينتظر اللحظة التي سيرتفع فيها علم الوحدة العربية فوق العلم السوري. لا نجد في الخمسينات وبداية الستّينات من يُشبه خالد العظم في وطنيّته السوريّة الخالصة، ولا في وعيه «الجُمهوريّ» الناشئ عن انفتاحه على الثقافة الفرنسيّة. ولذلك كان أحد القلائل الذين جابهوا التيّار الشعبيّ الجارف آنذاك، وعارضوا الوحدة السوريّة المصريّة في العام 1958. أقول ما أقول بالرغم من أنّي عروبيٌ قحّ، ومن دون أن أنسى أنّ خالد العظم كان ابن طبقته الاجتماعيّة وتربيته وعصره.
هناك من يصف تلك الطبقة، أو تلك المرحلة بشكل عام، على أنها مرحلة «ليبرالية». هل تجد أن هذه الكلمة يمكن أن تَصِفَ أو تشرحَ روح تلك المرحلة؟
نعم، كان أغلب هؤلاء السياسيّين ليبراليين، في الاقتصاد والسياسة على السواء، ومُحافظين أيضاً، اجتماعياً (بسبب أصولهم الطبقيّة)، و«مجتمعياً» (بسبب ثقافتهم التقليديّة). في عام 1958، حين سلّموا الأمانة إلى عبد الناصر، على علمهم بأنّ النظام الجديد لن يحترم الحرّيّات العامة والخاصّة التي كانت تتمتّع بها سورية، كانوا قد عجزوا عن مواكبة التحوّلات الاجتماعيّة وأفلسوا سياسيّاً في أصعب الظروف الدوليّة (الحرب الباردة) والإقليميّة («الصراع على سورية» والمؤامرات التي كانت تُحاك في هذا السياق بهدف حرفها عن نهجها المستقلّ). هذا عدا الضغوط التي كانوا يتعرّضون لها من قبل قادة الجيش.
youtube://v/iqUbpSoow-Q
أما سؤالك السابق، عن تقييمي الحالي، بعد مرور عشرات السنين على هذه الأحداث، فأجيب عنه بأنّي أرى ضرورة تقييم دور الأعيان الذين قادوا معركة الاستقلال تقييماً موضوعيّاً، أعني أن لا نُحاكمهم بمعايير لم تكن معايير عصرهم، وأن لا نُحمّلهم ما لم يكن لهم طاقةٌ على حمله. كانت الأوضاع الإقليميّة بعد الاستقلال مُعقّدةً جدّاً، وكانت سورية أمام تحدياتٍ كبيرة، أكبر من قدراتها، أوّلها المشروع الصهيوني بكلّ زخمه بعد الحرب العالميّة الثانية، وثانيها المشروع الهاشمي («سورية الكبرى» أو «الوحدة السوريّة العراقيّة»). ولا يخفى أنّ هذين التحدّيين كانا العاملين الرئيسين في الانقلابات العسكريّة المتتالية، والصراعات المحليّة والتحالفات الدوليّة منذ 1949 وطوال الخمسينات. أخفقَ الأعيان في مجابهة العدوّ الخارجي وتدعيم الاستقلال بإصلاحات داخليّة جدّيّة، ولكنّهم كانوا، مهما أخذنا عليهم من مآخذ، أرقى وأنظف وأصدق، وأرحم بما لا يُقاس، من جميع الذين حلواّ محلّهم. لم يستبدّوا، ولم يتعرّضوا للحرّيّات العامة والخاصّة، ولم يسجنوا ويُنكّلوا ويُعذّبوا، ولم يجعلوا من سورية، أرضاً وشعباً، ملكاً خاصّاً يرثه الأولاد عن آبائهم، ولم يُمأسسوا الفساد، ولم يتصرّف حتّى أكثرهم رجعيّةً وعنجهيّةً مع المواطنين كما يتصرّف في مملكة البعث خادمٌ من خُدّام العائلة المقدّسة. ولذلك عَمِل النظام على تغييب هذه المرحلة من تاريخ سورية، فلا شيء قبل حافظ الأسد، ولا شيء بعده إلّا ذرّيته. ولا تختلف الأنظمة العسكريّة العربيّة الأُخرى في نهجها عن هذا النهج.
قضيتَ خمسين سنةً في المنفى، منها أربعون عاماً لم تعد فيها إلى دمشق. كيف تنظر إلى هذه الفترة؟ كيف يمكن لدمشقيٍ أن يبقى أربعين عاماً دون أن يزور دمشق؟ كيف تنظر إلى هذا الأمر على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد العام؟
على الصعيد الشخصي، أوّلاً. حين ذهبت إلى فرنسا في 1965، كُنت شاباً صغيراً، في العشرين من عمري، متخرجاً لتوّي من الجامعة، وكان مشروعي البقاء في فرنسا ثلاث أو أربع سنوات، أي إلى أن أحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسيّة، ثمّ أعود وأدرّس، إذا سنحت لي الفرصة، هذه المادّة في جامعة دمشق. لاحقاً، ولأسباب مختلفة، عامّة وخاصّة، طالت مدة إقامتي في فرنسا. أنجزت دبلوم العلوم السياسية، ولكنّني انخرطت بعد ذلك في العمل السياسي، عربيّاً وفرنسيّاً: عربياً، بعد 1967، في الإطار الفلسطيني الفتحاوي بشكل خاص، وفرنسيّاً، بعد 1968، في الإطار الشيوعي الماوي.
استمرَّ هذا الوضع حتى منتصف السبعينات، وكنت أعود إلى دمشق كلّ سنة في الصيف، ولكن، منذ 1976، لم يعد بإمكاني العودة، إذ أنّي شاركت مع بعض الأصدقاء السوريّين واللبنانيّين والفلسطينيّين في الاحتجاجات على دخول الجيش السوري إلى لبنان، وتظاهرنا أمام السفارة السورية في باريس، ووقعنا العرائض، فصدرَ قرارٌ بعدم تجديد جواز سفري، وباعتقالي حال وصولي إلى الحدود السوريّة. لم أعد إذاً قادراً على القيام ولو بزيارة بسيطة إلى سورية، وشعرت للمرّة الأولى بأنني منفيّ، وعانيت ما كنت أسمعه من غيري عن الحنين إلى الوطن. لم يخطر ببالي أبداً أن أطلب الجنسيّة الفرنسيّة بالرغم من أنّي كنت موظّفاً في مؤسّسة ثقافيّة فرنسيّة رسميّة، هي مكتبة معهد اللغات الشرقيّة، ولي عنوانٌ ثابت، وأسدّد ضرائبي بانتظام. قرّرت أن أطلبها في 1981 لأنّني كنت لا أستطيع مغادرة فرنسا إلى أي مكان، وكنت أتوق بصورةٍ خاصّة، تعويضاً عن حرماني من العودة إلى سورية، إلى زيارة بعض البلدان العربية. وهكذا نِلتُ الجنسية الفرنسية في أواخر 1982.
ربما لهذا السبب تصف نفسك بأنك عربيٌ فرنسي.
سوريٌ وعربيٌ وفرنسيٌ بالأحرى! لكن دعني أكمل القصّة! حتّى 1982، حين تسلّمت الجواز الفرنسي، كانت قد مرّت عليّ كما قلت خمس أو ست سنوات لم أتمكّن فيها من مغادرة فرنسا. وفي هذه السنوات استكشفت فرنسا بعمق، من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. كانت الإجازات في المكتبة طويلة، مثل إجازات الجامعات، وكنت أستغلها للسياحة في فرنسا. بِدءاً من 1982، وعلى مدى أربع أو خمس سنوات، صرت أسافرُ كلّ سنةٍ في الشتاء إلى مصر، وفي الصيف إلى تونس. كنت متعطّشاً إلى سماع الناس وهم يتكلّمون اللغة العربيّة.
جددت بهذه الطريقة صلتك بالعالم العربي.
تماماً.
ما المعنى الذي تعطيه لكونك عربياً- فرنسياً على المستوى الفكري والأخلاقي؟
كثيراً ما طرحت على نفسي موضوع الهويّة، وهو موضوعٌ معقّد، فلسفيٌ وسياسيٌ وأخلاقي، عدا عن كونه يخصّ كلّ فردٍ من الأفراد حسبَ تجربته الشخصيّة. اقتنعت من جهتي بأنّ الهويّة قلّما تكون أحادية الجانب، وإن تغلّب فيها جانب على الجوانب الأخرى. علينا مثلاً، نحن السوريّين، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، أن نُغلّب هويّتنا السوريّة على ما عداها، ولكنّ من حقّ السوري أن يكون عربيّاً أيضاً أو كرديّاً أو ما يشاء، ومن حقّه أن ينتمي إلى الدين الفلاني أو إلى الطائفة الفلانيّة، ومن حقّه أن ينتسب إلى منطقته أو مدينته، إلخ، كلّ ذلك في إطار الهويّة الوطنيّة الجامعة. وفي حالتنا العويصة، ألا يجب أن نتساءل منذ الآن ما هي، أو ما ستكون، هويّة الطفل السوري الذي نزح مع أهله في السنوات الأخيرة إلى بلدٍ من البلدان الأوروبيّة، أو وُلدَ فيه، وأتقن لغته ودرس في مدارسه؟ هل نؤاخذه إذا اكتسب جنسيّته، واندمج في مجتمعه، وتمنّى له الخير، واعتبر نفسه سوريّاً وألمانيّاً أو سوريّاً وسويديّاً أو …؟
youtube://v/Bxru4u1bVio
ثمّ إنّ عصرنا، عصر العولمة، أحببناه أو كرهناه، يفرض علينا قبول فكرة الهويّة المُتعدّدة الأبعاد، ولن تُغيّرَ هذا المنحى العام جميعُ الظواهر المَرَضيّة التي نراها هنا وهناك، من التشنّج القومي إلى التعصّب الديني حتّى أقصى درجات الهمجيّة، بل تدعو كلّها إلى عولمةٍ بديلة تقضي على أسباب المرض، وتحتاج هذه الأسباب إلى شرحٍ طويل يُبعدنا عن موضوعنا. مهما يكن، للإجابة عن سؤالك، لا شكّ في أنّ الانتقال من بلدٍ إلى بلد لأيّ مبرّر كان، والإقامة فيه مدّةً طويلة يُنشئان علاقة حميمة معه، إن لم يكن في جيل الهجرة الأوّل، ففي الجيل الثاني أو الثالث على أبعد تقدير, أنا لا أخجل من القول بأنّي أحبُّ فرنسا وطبيعتها وطعامها وشرابها، وأهتم بالسياسة الفرنسيّة، وأُدلي بصوتي في الانتخابات الفرنسيّة، وأُتصرّف في حياتي اليوميّة كالفرنسيّين العاديّين (و«أزاود» عليهم عند اللزوم)، وأشجّع طبعاً فريقي الفوتبول والركبي الفرنسيّين!
مارستَ نشاطاً سياسياً ضمن التيار الشيوعي الماوي في فرنسا، وفي الوقت نفسه كنتَ قومياً عربياً وناشطاً بفعالية في السياق الفلسطيني. ولا تزال اليوم، بعد أن تجاوزت السبعين، تُعرِّف نفسك كيساري. ما هو المعنى الذي تعطيه لوصف نفسك باليساري؟
صفة اليساري الأولى في نظري هي انحيازه العفوي، العاطفيً، الحسّيًّ، قبل أيّ اعتبارٍ ايديولوجي، فكريّ، عقلانيّ، موضوعيّ، إلى المظلومين ضدّ الظالمين، إلى الضعفاء ضدّ الأقوياء، ممّا يعني أنني أعتبر ثلاثة أرباع المنتمين إسميّاً إلى اليسار من غلاة اليمينيّين! لم يُسئ أحدٌ إلى القيم اليساريّة في بلادنا أكثر من «الشيوعيّين» الذين استزلموا للأنظمة القمعيّة بحجّة التقدّميّة والعداء للإمبرياليّة ومقاومة الإسلاميّين، ونراهم اليوم يُناصرون بسفالةٍ نادرة أحقر هذه الأنظمة على الإطلاق، نظام الطغمة الأسديّة.
ذكرتُ عَرَضاً سنة 1968 باعتبارها سنةً حاسمة في تكويني. لماذا؟ لأنّي مدينٌ لانتفاضة أيّار في تلك السنة بتجديد حساسيّتي اليساريّة، إذا صحّ التعبير، بصورةٍ جذريّة. شارَكتْ في الانتفاضةِ الجماعاتُ اليسارية المعادية للحزب الشيوعي، من التروتسكيّين بتيّاراتهم المختلفة إلى الماركسيّين اللينينيّن إلى المجالسيّين إلى الفوضويّين، كلّ واحدةٍ منها بشعاراتها وأعلامها، ثمّ شارك الحزب الشيوعي بقواه النقابيّة الضخمة، ولكنّ «النَفَس» السائد في الشارع كان، في الوقت نفسه، معادياً للإمبرياليّة (كانت حرب فيتنام محتدمة، وكانت حركة التضامن مع جبهة التحرير تضمّ عشرات الألوف من الشبّان)، معادياً للرأسماليّة، معادياً للستالينيّة أو البيروقراطيّة أو برجوازيّة الدولة، أو ما شئت من تسمياتٍ للنظام القائم في الاتّحاد السوفييتي وملحقاته. هذا، بالإضافة إلى نزعةٍ تمرّديّة «لاسلطويّة» كان لها فيما بعد تأثيرٌ عميق، يتراوح بين الإيجابيّة والسلبيّة، على الحياة الاجتماعيّة الفرنسيّة برمّتها.
حفظت هذا الدرس عن ظهر قلب، ولم أنسه بعد أن انقلب عليه أكثر الذين تعلّمته منهم. أن تكون يساريّاً كان وما زال يعني بالنسبة لي أن تنحاز للطبقات المسحوقة في بلدك وفي كلّ مكان، وأن تتضامن عفويّاً، وفي الوقت نفسه، مع الثورة الفيتناميّة، ومع ربيع براغ والمعارضين الروس والبولونيّين، ومع المطالب العمّاليّة في فرنسا وايطاليا، ومع المظاهرات الطلّابيّة في بركلي وبرلين ومكسيكو وطوكيو، وتتألم مع التشيليّين في أيلول 1973، وتفرح مع البرتغاليّن في نيسان 1974، إلخ.
أين الماويّة من هذا كلّه؟ بماذا كانت الصين تختلف عن دول المعسكر السوفييتي؟ الحقيقةُ أنّ التيّار الماوي الذي رافقته، وكان يُشنَّع عليه بأنّه أقرب إلى الفوضويّة منه إلى الماركسيّة، كان يُبشّر بنظريّة، خاطئة طبعاً، وهي أنّ الثورة الثقافيّة في الصين ثورة الجماهير بقيادة ماو تسي تونغ ضّد الحزب المتكلّس، وأنّها بذلك تشكّل النقد الجذري المنشود، لا للستالينيّة فحسب، بل وللينينيّة أيضاً. لم نكن آنذاك نعرف شيئاً عن فظائع الثورة الثقافيّة، ولا عن كارثة «القفزة الكبرى إلى الأمام» التي سبقتها، وكانت الكتب المنشورة عن الصين بالفرنسيّة أو المترجمة إلى الفرنسيّة، وأغلبها لكتّابٍ زاروا الصين، وكذلك تنظيرات بعض كبار المثقّفين الأوروبيّين، «تُزوّد طاحوننا بالماء» حسبَ التعبير الفرنسي، بالإضافة إلى أنّنا كنّا نجد في مؤلّفات ماو النظريّة والسياسيّة والعسكريّة طوال سنوات الثورة الصينيّة، دلائلَ مُقنعةً على فهمٍ مُختلفٍ عن الفهم السوفييتي للثورة والحزب الثوري وعلاقته بالشعب. إلى أن بدأت في 1971-1972 تتّضح صورة الصراع على السلطة خلف «حركة الجماهير»، وانكشفت تدريجيّاً الحقيقة المرّة التي كان يعرف جوانب منها بعض المستشرقين. ولكن من كان يقرأ «هرطقاتهم»؟
هذا على المستوى الشخصي. أمّا على المستوى الفكريّ، فيهمّني التركيز على ثلاث نقاط: الأولى، أنّ اليسار فقد هيمنته الفكريّة منذ ثمانينات القرن الماضي، حتّى ذلك التاريخ لم يكن من المبالغة في نظر جُمهور المثقّفين قول سارتر عن الماركسيّة أنّها الأفق الذي لا يُمكن تجاوزه في عصرنا. كان اليسار، بالرغم من أنّه «أقلّوي» بطبيعته، بحسب جيل دولوز، يبدو وكأنّه الأغلبيّة الإيديولوجية حتّى إذا لم تكن له بعد الأغلبيّة السياسيّة، لا في واقع المجتمعات ولا في صناديق الاقتراع. الهيمنة الفكريّة في أيّامنا لليمين، واليسار، اليسار العالمي كلّه، في أزمة عميقة سببها بالدرجة الأولي رواسب التجارب الاشتراكيّة الفاشلة. أزمة اليسار أزمةٌ في الهويّة: من نحن إذا لم نكن «شيوعيّين» على نمط الأحزاب الشيوعيّة القديمة، ولا «اشتراكيّين- ديموقراطيّين» على نمط الأحزاب الاشتراكيّة المُدجّنة؟ وفي الفكر: ما الذي غيّرته وما الذي لم تُغيّره العولمة النيوليبيراليّة، والثورة العلميّة التكنولوجيّة في طبيعة العلاقات الاجتماعيّة وفي بنية الطبقة العاملة؟ وفي «المخيال»: أي في تصّور عولمةٍ بديلة، ورسم معالم مجتمعٍ لا يُشبه المجتمعات «الاشتراكيّة» البائدة.
النقطة الثانية، أنّ فكر ماركس كان وما زال في نظري المُرتكز المتين لفهم أصل الرأسماليّة وفصلها (وليس في عالمنا مسألة أهمّ هذه المسألة)، وكان وما زال أيضاً، من حيث المنهج، أداةً ضروريّة، وإن لم تكن كافية، لقراءة التاريخ والتحوّلات الاجتماعيّة. هذا بالإضافة إلى أنّه، في مجمله، «المرافعة» الفلسفيّة الأرقى في قضيّة التحرّر الإنساني. وحين نتتبّع في أعمال ماركس المعروفة، وفي مُراسلاته، تطوّرَ هذا الفكر وحركته الداخليّة الدائبة، نستنتج أنّه لا يمتّ بصلة إلى «الماركسيّة» كما يراها الأصوليّون، أي كمنظومة عقائديّة مغلقة، مُكتفية بنفسها، وندرك أنّه يدعونا إلى أن نفعل فعله، أي إلى إغنائه باستمرار بالمادّة التاريخيّة الحيّة من جهة، وبمنجزات العلوم الاجتماعيّة من جهةٍ ثانية.
youtube://v/AURYlhCG7qA
النقطة الثالثة، هي أنّه لا معنى في أيّامنا للتحزّب لتيارٍ بعينه من التيارات اليساريّة التاريخيّة، ولا معنى لخوض معارك لينين وروزا لوكسمبورغ وتروتسكي وغرامشي وبانكوك وماو وغيرهم من جديد، ولكنْ لا غنى لأيّ يساريّ عن معرفتها، ولو بخطوطها العريضة، لأنّها تُحيلُ إلى تاريخ اليسار التراجيدي، وتُبيّن أكثر من أيّ دراسةٍ عناصرَ قوّته وأسباب فشله، النظريّة والعمليّة، الموضوعيّة والذاتيّة. فَهِمَ ذلك بعض اليساريّين الأوروبيّين، ولم يفهمه غيرهم. أشعر بقربى سياسيّة وفكريّة مع الذين فهموه وتخلّوا عن هويّاتهم القديمة الضيّقة، وأنفرُ من سجالات الآخرين المكرورة التي تُشبه ذكريات قدماء محاربي الحرب العالميّة الأولى.
بالنسبة للحركات اليسارية الجديدة التي خرجت من جنوب أوروبا، أي سيريزا في اليونان أو بوديموس في اسبانيا، هل هي في رأيك «جديدةٌ» فعلاً؟ أم يمكن أن تقع في المطبّ الذي وقعت فيه «اشتراكية القرن الواحد والعشرين» في أميركا اللاتينية، والتي تصرّفت في لحظاتٍ عديدة، وأمام امتحاناتٍ معينة، وكأنها اشتراكية النصف الأول من القرن العشرين.
الشق الثاني من السؤال هو التالي: رغم مرور فرنسا بأزمة عميقة -بالتأكيد ليست بعمق أزمة اسبانيا أو اليونان أو البرتغال- لماذا لم نشهد ظهوراً لحركاتٍ سياسية يسارية مثل اليونان أو اسبانيا، لا بل يبدو أن اليمين المتطرف هو من استطاع أن يحمل راية الاحتجاج على ظروف الأزمة الاقتصادية؟
ما جرى في اليونان وفي اسبانيا مهمّ جدّاً بإنجازاته وتناقضاته وتعثّره ودروسه. مهمٌّ أن ينشأ حزبٌ يساريّ جديد يضمّ شتات الشراذم اليساريّة المستقلّة عن الحزب الشيوعي وعن الحزب الاشتراكي، وأن ينجح في استقطاب قطّاعٍ واسع من المهمّشين ومن الشبيبة. ومهمٌّ أن يكون قادراً على خوض معركةٍ انتخابية طاحنة في ظروفٍ عسيرة، وأن يفوز فيها. حصل سيريزا على الأغلبيّة في الانتخابات التشريعيّة في اليونان، وانتزع بوديموس بلديّتي مدريد وبرشلونة. حين ترى وضع اليسار الكارثي في العالم بعد انهيار المعسكر السوفييتي وتحوّل الصين الرأسمالي، وترى عجز اليساريّين في كلّ مكان عن توحيد صفوفهم وتعبئة الجمهور الشاب على برنامجٍ يجمع بين الطموح والواقعيّة، لا يُمكنك إلّا أن تهتمّ بهاتين التجربتين، وبحماسة. المطبّ، بحسب تعبيرك، ليس في «الشعبويّة» التي يُتّهم بها الحزبان، ولكن في التناقض الصارخ بين برنامجهما المخالف جذريّاً للسياسات الاقتصاديّة النيوليبيراليّة المفروضة من الاتحاد الأوروبي، وبين التزامهما البقاء في منطقة اليورو. هذا التناقض هو الذي أفقد تسيرباس أيّ قدرةٍ على المناورة في مفاوضاته المستحيلة مع عصابة من المرابين. ماذا سيحدث في اليونان بعد رضوخِ حكومة سيريزا لإملاءات الاتّحاد الأوروبي، عِلماً أنّها إملاءات متهالكة في منطقها الاقتصادي نفسه، وأنّها لن تؤدّي إلّا إلى المزيد من الديون على كاهل اليونان، وإلى طردها في النهاية من منطقة اليورو؟ وما الدرس الذي سيستخلصه بوديموس من تجربة اليونان؟ ربّما كان السبب في التشنّج الألماني بصدد الديون هو تحذير الشعوب الأوروبيّة كلّها، وبالأخصّ شعوب أوروبا الجنوبيّة، بأنّه لا جدوى من رفض التقشّف ولا خلاص من الجنّة النيوليبيراليّة التي ينعمون بخيراتها.
لماذا لم تظهر في فرنسا حركة شبيهة بسيريزا وبوديموس؟ يطرح اليساريّون الفرنسيّون على أنفسهم هذا السؤال بإلحاحٍ لأنّ المشهد السياسي في بلادهم يُشبه إلى حدّ بعيد المشهد الإسباني: من جهة حزبٌ يميني ينزع أكثر فأكثر إلى التطرّف بقيادة ساركوزي، وإلى استعارة بعض شعارات اليمين المتطرف العنصريّة، وحزبٌ اشتراكي خان ناخبيه بصفاقة حين ادّعى وهو في المعارضة أنّ عدوّه الأوّل هو الرأسماليّة الماليّة، كما قال هولاند في أثناء حملته الانتخابيّة، وانتهج وهو في السلطة سياسةً اقتصاديّة على النقيض من ذلك تماماً. لم يستطع اليسار الآخر، من الحزب الشيوعي إلى حزب اليسار إلى الخضر إلى الأحزاب والجماعات غير الممثّلة في البرلمان، حتّى الآن، زعزعةَ هذه الثنائيّة لأسبابٍ عديدة، منها أنّ الحزب الشيوعي الذي يُعارض سياسة هولاند مضطرٌّ إلى التحالف انتخابيّاً مع الحزب الاشتراكي وإلّا فقد كلّ نوّابه وبلديّاته، ومنها برأيي عدوانيّة زعيم حزب اليسار المجّانيّة، وحساباته الخاطئة التي نفّرت أغلب الجمهور الذي كان الحزب قد استقطبه فور تأسيسه، ومنها أيضاً حالة حزب الخضر الملتبسة التي تُشبه حالة الشيوعيّين، بالإضافة إلى توزّعهم بين تيّارات وحساسيّات مختلفة. هذه الأحزاب الثلاثة، منفردة ومجتمعة، لا تُلبّي الحاجة إلى معارضة يساريّة فعّالة، ولم يحسم أيّ منها أمره بشأن المسألة الاقتصاديّة الأوروبيّة الكبرى اليوم، مسألة اليورو.
من الطبيعي في هذه الحالة أن ترتفع أسهم اليمين المتطرف، لا أعتقد أنّ خطابه العنصريّ المعادي للعرب والمسلمين هو السبب الأهمّ، كما يُقال، في شعبيّته الحاليّة، صحيحٌ أنّ هذا الخطاب يلقى صدىً لدى قسم من الرأي العام الفرنسي، وهو القسم الذي يُزاحمه على كسب ودّه اليمين التقليدي، ولكنّه لا يكفي لتفسير بروز «الجبهة القوميّة» بهذه القوّة. أعتقدُ أنّ السبب هو موقفها السيادي من موضوع الوحدة الأوروبيّة، مستغلّةً انحسار الحلم الأوروبي الديمقراطي، وشعور قطّاعٍ واسعٍ من الفرنسيّين بأنّهم فقدوا حقّهم في تقرير سياسة بلادهم بسبب القيود التي كبّلتهم بها الحكومات اليمينيّة والاشتراكيّة المتعاقبة منذ اتّفاقيّة مايستريخ. هذا الخطاب أقرب للفهم من خطاب أيّ حزبٍ يساري يُعلن عن تمسّكه باليورو، ويعترض على السياسة الاقتصاديّة التي التزمت بها بلاده للبقاء في منطقة اليورو. ومن المفارقة أن يُصبح حزبٌ كهذا، أسّسه أحد ورثة اليمين الأقصى المتعاون مع الاحتلال النازي، هو حامل راية السيادة الوطنيّة، والمدافع عن الخيار الشعبي الديمقراطي فيما يخصّ قضايا الوحدة الأوروبيّة، وأكثر الأحزاب شعبيّة في صفوف الطبقة العاملة. كلُّ هذا يُنذر بأزمةٍ سياسيّة قد تتّضح معالمها بعد سنتين، في الانتخابات الرئاسيّة القادمة.
كلمةٌ أخيرة: وضع اليسار في إيطاليا لا يقلُّ سوءاً، ولولا ذلك لما استطاع مليونير نصّاب مثل برلسكوني أن يحكمها سنواتٍ طويلة. هذا البلد الذي كان حزبه الشيوعي أقوى الأحزاب الأوروبيّة وأكثرها انفتاحاً فكريّاً واستقلاليّةً عن الاتّحاد السوفييتي، وكان يحظى بأصوات ثلث الناخبين ويرأسُ بلديّاتِ أكبرِ مدن إيطاليا، وقاده رجالٌ من وزن تولياتي وبيرلنغوير، لا تجد فيه اليوم من بقايا هذا الحزب إلّا تجمّعاً وسطيّاً لا لون له ولا رائحة، وإلّا بعض الشراذم المهترئة، مثل جماعة المانيفيستو التي صار خطابها السياسي، وخصوصاً في المسائل الدوليّة، لا يختلف كثيراً عن مانشيتات جريدة الأخبار اللبنانيّة!
هناك تعقيبٌ يخصّ نقاشاً شاركتَ فيه بقوة على الفيسبوك حول مفهوم «الشعبوية»، وكان يتعلق بالرد على اتهام سيريزا وبوديموس بأنهم «شعبويون». كان لديك موقفٌ رافض لهذا القول، وقلتَ إن هناك مشكلةً في تعريف مصطلح الشعبوية في سياقنا أصلاً. هل بإمكانك توضيح هذه النقطة؟
كلّ ما قلته هو أنّ لكلمة «شعبويّة» أكثر من معنى، وأنّ على من يستخدمها أن يحدّد المقصود منها، وما دعاني إلى ذلك هو أنّ أغلب التعليقات التي قرأتها في الصحافة الفرنسيّة عن أزمة الديون اليونانيّة، كانت تتّهم حكومة سيريزا بالشعبويّة دون أيّ تفسير إلّا ما يُقرأ بين السطور، وهو أنّها تمرّدٌ على الُنخب التكنوقراطيّة. قرأتُ برنامج سيريزا ووجدته برنامجاً إصلاحيّاً لا أكثر، يُمكن أن نعيب عليه نزعته التوفيقيّة كما سبق أن قلت وليس ديماغوجيّته. ما هي الشعبويّة على لسان المنحازين دائماً للأقوى؟ هل من الشعبويّة أو من الديماغوجيّة القول بضرورة – وإمكانيّة – انتهاج سياسةٍ أخرى غير سياسة التقشّف؟ لماذا تُنظّم في الدول الديمقراطيّة الاستفتاءات والانتخابات إذا كانت نتائجها مرفوضةً سلفاً من قبل الأسواق الماليّة، وبالتالي من قبل قادةِ الاتّحاد الأوروبي؟ نُظِّمَ في فرنسا سنة 2005 استفتاءٌ يتعلق بمشروع الدستور الأوروبي، ورَفَضَهُ الشعب الفرنسي بأغلبيّة 55 في المائة، ومع ذلك فُرِضَ هذا الدستور فرضاً بحيلةٍ ساركوزيّة فظّة. كان أمل اليونانيّين عندما منحوا سيريزا الأغلبيّة، وعندما قالوا «لا» في الاستفتاء، أن يقتنع قادة الاتحاد الأوروبي بضرورة الاتّفاق على حلٍّ وسط يسمح لليونان بالخروج من الورطة التي ورّطتها فيها الحكومات السابقة (غيرُ «الشعبويّة»!). ماذا كانت النتيجة؟ هل للديمقراطيّة أيّ معنىً إذا لم يكن للشعب الحقّ في تقرير أيّ سياسة اقتصاديّةٍ يريد؟
youtube://v/u_HVdb143_g
ثمّة أمرٌ آخر لفت نظري في جوّنا، أقصد جوّ المعارضين السوريين، وأثارني آنذاك، وهو انحياز الكثيرين، المباشر، العفوي -بالمعنى الذي ذكرته سابقاً– لا للضعيف المظلوم بل للقويّ الظالم! لو شرحوا موقفهم بكلام عقلانيّ لما عتبت عليهم. أليس من المؤسف أن تسمع سورياً يقول عن اليونانييّن أنهم «كُسالى»؟
وبمناسبة الكلام عن الكسل، أتساءل، وأنا جادٌّ في سؤالي، ما الفائدة من كل هذا التطوّر العلمي، وكلّ هذا التطوّر التقني، وهذه الثورة المعلوماتيّة، إلخ، إذا كان عليّ أن أعمل اليوم أكثر مما كنت أعمل قبل عشرين عاماً؟ ما الفائدة من المدنيّة الحديثة كلّها إذا لم تفسح للإنسان وقتاً أطول لسماع الموسيقى وقراءة الشعر والرياضة والسياحة والنزهة… والحبّ؟
والكسل!
والطبيخ!
ما الذي أتى بك، وأنتَ المثقف اليساري الملتزم، إلى كتابات عن المطبخ والحمص، وهو ما لا يمكن تصوره من جيلك من المثقفين والكُتاب اليساريين؟
دفعتني إلى الكتابة عن الغذاء والطبخ
يبدو أنه عندك قضيّتان أبرز من غيرهما، القضية الفلسطينية والقضية السوريّة. كيف ترى الوضع في ظل الفلسطنة الرهيبة للسوريين، والضياع الفلسطيني؟
لم تحظَ القضيّة الفلسطينيّة في تاريخها بدعمٍ شعبيٍّ في العالم كالدعم الذي تحظى به اليوم، وثمّة إقرارٌ من قبل «المجتمع الدولي» بأنّ للفلسطينيّين حقوقاً وطنيّةً مشروعة، بما فيها الحقّ بإقامة دولةٍ مستقلّة في الأراضي التي احتلّتها إسرائيل في حزيران 1967. وفي الوقت نفسه، صار انتزاع هذه الحقوق أصعب من ذي قبل، بل شبه مستحيل، بسبب سياسة الأمر الواقع التي تتَّبِعها إسرائيل بابتلاع الضفّة الغربيّة لقمةً بعد لقمة، وبسبب الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني، واختلال ميزان القوّة على الأرض وفي المنطقة وفي العالم. أغلب الفلسطينيّين على ما أعتقد لا يأملون شيئاً من المفاوضات مع إسرائيل، ولا من مغامرات حماس العسكريّة. وأغلبهم مقتنعون بأنّ السلطتين القائمتين تحولانِ دون بلورة استراتيجيّةٍ عمليّةٍ لمقاومة الاحتلال والاستيطان. المسألة المطروحة منذ نحو عشر سنوات هي: هل بقيت إمكانيّة ما، ولو ضعيفة، للحلّ المعروف بحلّ الدولتين، بعد أن جعلت إسرائيل من الضفّة الغربيّة أرخبيلاً من الجزر المحاطة بالمستعمرات والطرق الالتفافيّة والحواجز؟ وقد احتدم الجدل حول هذه المسألة، وسُوِّدت مئات الصفحات لاستكشاف حلٍّ بديل يُمكن تعبئة جميع مكوّنات الشعب الفلسطينيّ حوله، في الداخل وفي الشتات، كحلّ الدولة الواحدة الديموقراطيّة العلمانيّة، أو حلّ الدولة ثنائية القوميّة، دون أن يُسفر السجال عن أيّ مشروعٍ سياسي مقنع. فبالإضافة إلى أنّ كلا الحلّين أصعب منالاً في الواقع من دولةٍ فلسطينيّة مستقلّة في الضفّة وغزّة، يبدو لي أنّ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة لا تستطيع التخلّي عن مطلب الاستقلال، لأنّه المطلب الطبيعيّ لأيّ حركة وطنيّة، ولأنّ الشعب الفلسطيني انتزع اعترافاً دوليّاً بشرعيّته، وبالتالي بلاشرعيّة الاحتلال. ثمَّ، ألا يعني التخلّي عنه والمطالبة بدولةٍ واحدة لجميع سكّانها الإسرائيليّين والفلسطينيّين، وذلك بحجّة وجود المستوطنات، قبولاً ضمنيّاً بوجودها؟ ولنفترضْ أنّ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة تحوّلت بقدرة قادر من حركة تحرّر وطنيّ ضدّ الاحتلال، إلى حركة حقوق مدنيّة ضدّ التمييز العنصريّ، هل يُعقل أن يقبل الإسرائيليّون الاندماج مع الفلسطينيّين في دولةٍ واحدة ليست لهم فيها الأغلبيّة العدديّة والأولويّة القانونيّة؟ وإذا كان الحلُّ دولةً ثنائيّة القوميّة، ألا يقتضي ذلك اعترافاً مسبقاً من إحدى القوميّتين بحقوق القوميّة الأخرى كاملةً، وأوّلها حقّ تقرير المصير، وأين إسرائيل من اعترافٍ كهذا؟
youtube://v/ybXw0K8BSQI
لا خيار للفلسطينيّين على كلّ حال، في ظلّ علاقة القوى القائمة في المنطقة وفي العالم، إلّا المقاومة بجميع الأساليب السلميّة والتمسّك بحق تقرير المصير والاستقلال في دولةٍ ذات سيادة، حتّى إذا كان الأفق البعيد دولةً ثنائيّة القوميّة.
وحماس؟ وصواريخ القسام؟
حماس في مأزق. حماس محاصرةٌ من كلّ الجهات، مضطرّةٌ لمهادنة إسرائيل والإذعان لشروطها حتّى تستمرّ في حكم 300 كيلومتر مربّعٍ من فلسطين. وحماس، حتّى حماس، ليست بمنجاةٍ من داعش!
وماذا الآن عن قضيتك السورية؟
قضيّتي السورية هي القضيّةَ! كلّ ما جرى ويجري في سورية خارقٌ للمألوف: شجاعة السوريّين العاديّين وصمودهم، عمق مأساتهم الإنسانيّة وحجمها، عزلتهم السياسيّة، نذالة حكّامهم، غزوات الجهاديّين في بلادهم، وسفاهة معارضتهم الرسميّة. سيأتي يومٌ يكتشف فيه العالم هول ما تعرّضت له سورية من جرائم، ويُضطرّ إلى الاعتراف بحقارته.
وقضيّتي السوريّة مسدودة الأفق إلى حين. لا داعي للتطويل في عرض المعطيات: بعد أكثر من أربع سنين على اندلاع الثورة في ظروفٍ محلّيّةٍ وإقليميّة ودوليّة معاكسة، وغياب قيادةٍ ثوريّة، وعسكرةٍ عشوائية، وأسلمةٍ جهاديّة جرّت عليها الويلات، لم تستطع حتّى الآن، ولن تستطيع في المستقبل القريب، أيّ قوّة من القوى العسكريّة الفاعلة على الأرض حسم الموقف لصالحها. ولذلك يكثر الكلام في هذه الأيّام عن التقسيم، باتّفاقٍ ما بين رعاة هذه القوى أو بالأمر الواقع. إلّا أنّ التقسيم نفسه، إذا ما تمّ، لا يُمكن أن يدوم طويلاً لأنّ المناطق التي يُسيطر عليها الجيش أو داعش أو النصرة أو غيرها من الجماعات المسلّحة، غيرُ متجانسة، لا سياسيّاً ولا طائفيّاً، إذا افترضنا أنّ التقسيم سيكون على أساس أحد هذين المعيارين. ما هي المقوّمات السياسيّة أو الطائفيّة الثابتة لدولةٍ تضمّ العاصمة والقلمون والساحل؟ وما مصير باقي البلاد الموزّع اليوم بين قوى تنتمي للثورة، وأُخرى للثورة المضادّة؟ لعلّ المنطقة الوحيدة التي يُمكن أن تنتزع في المستقبل شكلاً من أشكال الحكم الذاتي، بغضّ النظر عن التقسيم أو عدمه، هي المنطقة ذات الأغلبيّة الكرديّة، وهذا حقّ، ولكنّه حقّ مشروطٌ باحترام حقوق السكّان غير الأكراد، ومرهونٌ إلى حدٍّ بعيد بتطوّر العلاقات بين دول الإقليم.
لنعترف إذاً أنّ سورية أفلتت من أيدي السوريّين جميعاً، وأن سفك الدماء لن يتوقّف من دون تدخّلٍ دوليّ حاسم، وليس في الأفق حتّى هذه الساعة ما يُبشّر به. كنت أستبعد التدخّل الدولي ضدّ النظام حين كان الناس يتناوشون بشأنه بين مؤيّدٍ ومعارض كما لو أنّه محتوم. وحتّى بعد المجزرة الكيماويّة والتهديدات الغربيّة بالتدخّل، لم أصدّق أنّ أوباما سيخطو خطوةً من هذا النوع في الوقت الذي كان يستعجل فيه الانسحاب من الشرق الأوسط. ومع ذلك، بسبب هذه المجزرة، وبسبب الاتّفاق الأميركي- الروسي الذي منح العصابة الحاكمة الحقّ في تجاوز جميع الخطوط الحمراء، وبسبب بدء امتداد داعش الذي تزامن مع هذه الأحداث، صرت أرى (غصباً عنّي في الحقيقة) أن لا خلاص لسورية، كياناً ودولةً وشعباً، من دون شكلٍ ما من أشكال الوصاية الدوليّة تهيئُ الظروف للسلم الأهلي ولمرحلةٍ انتقاليّة طويلة نسبياً لا تقلّ عن ثلاث سنوات، يتمّ بعدها انتخاب جمعيّة تأسيسيّة. ولن يحصل ذلك إلّا إذا اقتنعت القوى الدوليّة بأن الوضع في سورية يُهدّد مصالحها في المنطقة. هل يُمكن تصوّر مخرجٍ آخر، والوضع كما هو في البلاد، حتّى إذا قُتِلَ غداً بشّار الأسد أو عُزل أو تنحّى؟
ماذا نريد لسورية بعد الأسد؟ اسألْ المعارضين الديمقراطيّين بعد أكثر من أربع سنين على اندلاع الثورة، وسيُجيبون بصوتٍ واحد: نريد نظاماً تعدّديّاً مدنيّاً لا يُميّز بين المواطنين على أساس الطائفة أو الجنس. حسناً، وماذا بعد؟ كيف نلمّ شمل هذا الشعب المنكوب؟ كيف نبني جيشاً وطنيّاً جديداً وأجهزةً أمنيّة جديدة؟ ما هي معالم جُمهورٍيّتنا المنشودة من الناحية الدستوريّة؟ كيف سَيُفصلُ فيها عمليّاً بين الدين والدولة؟ ما هو الحلّ المناسب للمسألة الطائفية؟
محاصصة على الطريقة اللبنانية؟
أتساءل أحياناً عمّا إذا لم يكن من الحكمة، بالنظر إلى الاحتقان الطائفي، أن نكفَّ عن التكاذب وعن التحايل على واقعنا، وأن نعترف بوجود مسألةٍ طائفيّة ونُفكّر بحلولٍ عمليّة لها. هل يكمن الحلّ في مجلس تمثيلي للأقلّيّات الطائفية يختاره أبناؤها؟ هل الحلّ مجلس شيوخٍ إلى جانب المجلس النيابي المنتخب بالاقتراع العام النسبيّ على مستوى الجُمهوريّة أو المحافظة؟ هل الحلّ نظامٌ إداري لا مركزي؟ ألا تؤدّي هذه الحلول إلى تعميق الهوّة بين المواطنين بدلاً من تضييقها وردمها؟ ما الحلّ إذاً؟ هذه المسألة عويصة، وكلّ مسائلنا عويصة، وإذا لم يطرحها الديمقراطيّون بصراحةٍ للمناقشة الحرّة فمن يطرحها؟ وإذا لم يطرحوها الآن فمتى؟ نُشِرَت في 2011 و2012 نصوصٌ مفيدة تتضمّن اقتراحات ملموسة بصدد عدّة أمور مُهمّة، ولكن سرعان ما طويت وانتهى أمرها تحت وطأة الأحداث المتسارعة، وخيبات الأمل المتكرّرة. نحن بحاجةٍ ماسّة إلى عملٍ فكريّ جماعيّ عن ماضي سورية وحاضرها، ونفتقر بصورةٍ خاصّة إلى الدراسات الاجتماعيّة والاستطلاعات الحيّة، ولكنّ مثقّفينا مشغولون إجمالاً بالمماحكة «السياسويّة» أو، في أحسن الأحوال، بالتحليل الاستراتيجي اليومي وتخيّل سيناريوهات ما أنزل الله بها من سلطان انطلاقاً من كلمة قالها كيري أو ديميستورا، وغالباً ما لا تعني شيئاً. هذه رياضةٌ مارسها كثيرٌ من اللبنانيّين خلال ستة عشر عاماً من الحروب الأهليّة وغير الأهليّة، واستمتع بها أيضاً باحثو بعض مراكز الدراسات الفلسطينيّة بعد اتفاقيّات أوسلو، فبنوا سيناريوهات لا تُعدّ ولا تُحصى ثبتَ بعد مدّةٍ قليلةٍ من نشرها أنّها خاطئة كلّها، ممّا لم يمنعهم من المثابرة عليها من دون كللٍ ولا ملل!
youtube://v/-1UQ8pYuysM
تعثرت الثورات العربية كثيراً، ويبدو العالم العربي بعد موسم الثورات أكثر فقداناً للوجهة والمشروع، مُستباحاً لخارجيّين متنوعين، وأقل شأناً مما كان. ماذا جرى؟ أين الخطأ؟
هل كان العالم العربي ذا شأنٍ قبل الثورات؟ ألم يكن مستباحاً من قبل الغُرباء، ومن قبل حكّامه وطبقاته السائدة؟ حين تسمع القائلين بأنّ الثورات مؤامرة امبرياليّة خبيثة يُخيّل لك أنّ الشعوب العربيّة كانت في نعيمٍ مقيم، وأنّها كانت مضرب المثل في الاستقلال الوطني والتقدّم الاقتصادي والثقافي والعلمي. لم يكن في العالم كلّه منطقة تجمّعت فيها أسباب الثورة كالعالم العربيّ. أين تجد رؤوساً مثل التي كنّا نراها في اجتماعات القمّة العربيّة، وما يُمثّله كلٌ منها، وما تُمثّله مجتمعةً، من استهتارٍ وطغيان وانحطاط؟
ثارت الشعوب العربيّة تحت شعارات بسيطة جدّاً، وعميقة جدّاً في مدلولاتها (حرّيّة، كرامة، عدالة اجتماعيّة). ثارت من دون قيادةٍ ثوريّة تملك برنامجاً يُفسّر هذه الشعارات، واستراتيجيّة واضحة لبلوغ الهدف، وخبرةٍ في المناورة وإدارة التحالفات. وتعرّضت في أثناء ثورتها إلى ما تعرّضت له جميع الثورات في التاريخ، كلّ بلدٍ بحسب طبيعة مؤسّساته وتكوينه الاجتماعي وتقاليد الطبقات المنخرطة في الثورة، وبحسب الأحداث الطارئة التي ليس باستطاعة أحد أن يتنبّأ بها، ويُمكن أن تُسرّع مسيرة الثورة أو تبطّئها أو تحرفها عن مجراها. أين الخطأ إذاً؟ ليس الخطأ حتماً في الثورة على أنظمة بن علي ومبارك والقذّافي وعلي عبد الله الصالح وبشّار الأسد وملك البحرين. وليس في خروج المتظاهرين من الجوامع، ولا في الكفاح المسلّح بحدّ ذاته، ولا في التوقيت (على فكرة، لا تأتي الثورات في موعدها، كما يقول العمّ ماركس، بل تأتي دائماً متقدّمةً أو متأخّرة، ممّا ينفي عنه تهمة الإيمان الأعمى بالحتميّة التاريخيّة!). ربّما كان الخطأ في الاعتقاد بأنّ الثورة تسيرُ على خطٍّ مستقيم، وبأنْ لا رجوع إلى الوراء بعد تحقيقها أولى انتصاراتها، ولا تقدّم إلى الأمام بعد انتصار الثورة المضادة.
حين تنظر إلى حال الثقافة والمثقفين في سورية والمحيط العربي، ماذا ترى؟ وأيّ معنىً للرابطة العربية اليوم؟
سأبدأ بالشقّ الثاني من السؤال. موضوع الرابطة العربيّة والعروبة موضوع سجال دائم بيني وبين كثيرٍ من الأصدقاء. ثمّة عروبةٌ عقائدية نشأت مشوّهةً في رحم الفكر القومي الألماني، وتنطلق من المفهوم اللغوي للأمّة، أي أنّ ما يُحّدد وجود الأمّة أو عدم وجودها هو وحدة اللغة. ولذلك، يقولون، إنّ الأمّة العربيّة موجودةٌ منذ ما قبل الإسلام، وإنّها تضمُّ جميع الناطقين بالعربيّة من العرب، ومن الذين تعرّبت لغتهم عبر التاريخ. ولمّا كان لكلِّ أمّة دولة، فقد كان للعرب دولتهم، وكان لها عصرٌ ذهبي، ثمّ جاء الاستعمار ومزّقها إلى دويلات. لقد رُبيَت أجيالٌ من الناس في بلادنا على هذه «النظريّة» التي تنقضها وقائع التاريخ، وعلى خزعبلاتٍ مماثلة تمسّ التاريخ العربي-الإسلامي برمّته، إلى أن أدّت الكوارث المتلاحقة التي حلّت بنا، وأغلبها على يد قوميّين عروبيّين، بالاسم على الأقلّ، تسلّطوا على هذه الدويلات وحكموها بالبسطار، إلى «شرشحتها» في نظر الشعوب العربيّة، فلفظت أنفاسها الأخيرة غير مأسوفٍ عليها. جَنَحَ منذ ذلك أغلب المثقفين من الذين كانوا يدينون بها، إمّا إلى عصبيّةٍ قديمةٍ أو جديدة من العصبيّات المحلّية، وإمّا إلى الإسلام السياسي، وإمّا إلى… لا شيء.
هل ينبغي، بحجّة التميٌز عن العقيدة إيّاها، نفي الرابطة العربيّة، هل ينبغي اعتبارها وهماً ضارّاً لا غير، كما يقول بعض الأصدقاء الليبيراليّين الجدد، وما الفائدة التي نجنيها من نفيها؟
منذ أواخر القرن التاسع عشر على الأقلّ، أي منذ تخلخل الرابطة الإمبراطوريّة العثمانيّة، بقيت العروبة عنصراً ثابتاً من عناصر الهويّات الفرديّة والجمعيّة في كلّ البلدان الناطقة باللغة العربية، أستثني من ذلك بطبيعة الحال الأقلّيات غير العربيّة. قد يبرز هذا العنصر أو يضمر، حسبَ الظروف السياسيّة، ولكنّه حقيقةٌ واقعة حتّى إذا أنكرها أو قلّل من شأنها بعض المفجوعين بحالتها الراهنة. وبفضل هذه الحقيقة الواقعة، مارست الحركات الوطنيّة الاستقلاليّة، بقيادة «الأعيان» الذين تكلّمنا عنهم، أنواعاً عدّة من العروبة «العملية»، إذا صحّ التعبير، بالرغم من التناقضات السياسيّة فيما بينها في أكثر من مرحلةٍ من تاريخها. ولعلّ المفارقة الكبرى في الحياة العربية المعاصرة، أنّ التشرذم السياسي الذي بلغ حدّاً مأساوياً في السنين الثلاثين الأخيرة، لم يحلْ دون تكوّن حقلٍ ثقافيّ عربيّ موحّد، يمتدّ بالفعل من المحيط إلى الخليج على نحوٍ غير مسبوق، ويشمل بفضل وسائل الاتّصال الحديثة ثقافة النُخب والثقافة الشعبيّة على السواء.
youtube://v/DJMTNgWEqjA
لقد انطلق القوميّون العرب من فكرةٍ قاصرة، مُفادها أنّ الأمّة العربية تركةٌ جاهزة ورثناها عن عصرٍ ذهبي. أعتقد، على النقيض من ذلك، أنّها مشروعٌ مؤجّل يقتضي تنفيذه بناء دولٍ ومجتمعات عصريّة تتعاون وتتقارب وتتوحّد تدريجياً، على غرارِ ما شرع فيه الأوروبيون في أواخر الخمسينات، على أساسٍ ملموسٍ من المصالح المشتركة. لا تُبنى الأمم على أيّ أساسٍ آخر.
لن أتكلّم، للإجابة عن الشقّ الأوّل من السؤال، عمّا أراه إيجابيّاً أو سلبيّاً في الإنتاج الثقافي العربي الحالي، ولا أظنّ أنّ هذا هو المطلوب. ما يحتاج إلى بحثٍ ومناقشةٍ بيننا هو العقليّة المستحكمة بالمثقّفين العرب، وأعني بهم، المعنيّين بقضايا سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة خارج نطاق اختصاصاتهم الضيقة. هؤلاء، خصوصاً أكثرهم تشدّقاً بالحداثة، قلّما يُفكّرون بموضوعيّة وتجرّد، إمّا لارتباطهم بطوائفهم أو بالدولة «العميقة» أو بمن يوفّر لهم رزقهم، وإمّا لأنّ بضاعتهم الفكريّة لا تتعدّى بعض الثنائيّات التبسيطيّة العاجزة عن الإحاطة بتعقيدات الواقع، من نمط «الأصالة أو المعاصرة» و«الشرق أو الغرب» و«الإسلام هو الحلّ أو الإسلام هو السبب». ولذلك تراهم يتّخذون مواقف مُخزيةً من الأحداث في بلادهم وخارجها، ويُبرّرونها باعتباراتٍ واهية. حداثتهم كاذبة، وديمقراطيّتهم كاذبة، وعلمانيّتهم كاذبة.
كيف تنظر إلى حال العالم اليوم؟ يبدو احتياطيه من القيم والطاقة على التجدد في أدنى مستوياته منذ قرنٍ أو أكثر، بينما هو متقاربٌ أكثر من أي وقت سبق (قرية صغيرة… إلخ). إلى أين نسير؟
هذا سؤال جميل ومفاجئ، لأنّنا، نحن السوريّين، نحن العرب إجمالاً، لا نُفكّر في ما هو أبعد من أنوفنا، وكأنّ حالنا ليس من حال العالم، أي كأنّ ما نعاني منه أكثر من أيّ وقتٍ مضى من استبدادٍ وحشيٍّ وتخلّف وبطالة وفساد وفقرٍ مدقع (يقابله غنىً فاحش وتبذيرٌ غبيّ)، لا علاقة له من قريبٍ أو بعيد بالنظام العالمي.
هذا النظام، نظام العولمة النيوليبيراليّة، لا يُهدّد فقط استقلال الشعوب وتطلّعاتها الديمقراطيّة، ويُعمّق الفجوة بين الدول الغنيّة والدول الفقيرة وبين الطبقات الاجتماعيّة في جميع أنحاء العالم، ولكنّه يُبدّد أيضاً ما توارثته الإنسانيّة كلّها جيلاً بعد جيل، وهو خيراتها الطبيعيّة. كان اليساريّون إلى زمنٍ قريب يهزأون من التوقّعات الكارثيّة التي بنى عليها الخُضرُ خطابهم السياسيّ والاجتماعيّ، وينعتونهم بالمالتوسيّة، وذلك أنّ الأنموذج الاقتصادي الذي كانوا يُسمّونه «اشتراكيّة» لم يكن يختلف كثيراً عن الرأسماليّة في علاقته المتوحّشة بالطبيعة. ولكنّنا نعلم اليوم أنّ هذه التوقّعات صحيحةٌ بالرغم من المبالغة أحياناً في تقديراتها الزمنيّة، ونعرف أسباب التغيّر المناخي واختلال التوازن البيئي، ونشهد انقراض عددٍ كبير من الأنواع الحيّة الحيوانيّة والنباتيّة في البرّ والبحر، واستنفاد ثرواتٍ معدنيّة لا يُمكن تجديدها، وبصورةٍ عامّة تخريبَ ما لم يعد بالإمكان إصلاحه أو التعويض عنه. ومن المؤكّد أنّ النيوليبيراليّة المهيمنة على العالم تُسرِّع ما بدأت به الرأسماليّة الصناعيّة منذ انطلاقها، بتعميمها منطق الربح السريع على حساب أيّ قيمةٍ أخلاقيّة، واعتبار الثراء المعيار الوحيد للنجاح في الحياة، والسعي إلى خصخصة جميع المرافق العامة، وابتداع حاجات استهلاكيّة متجدّدة لا ضرورة لها، والنزوع الدائم إلى الأكثر وليس إلى الأفضل، في الإنتاج وفي التسويق وفي الاستهلاك. ولذلك فلا حلَّ لمسألة الخلل في التوازن بين الموارد الطبيعيّة، مهما تطوّرت العلوم والتقنيّات، وبين النموّ الديموغرافيّ المتوقّع في العقود القادمة إلّا بتغييرٍ جذريٍّ لا يُصحّح فحسب شطط النيوليبيراليّة، وإنّما الأسس التي قامت عليها الحضارة الرأسماليّة الحديثة. ليس الحلّ حتماً في العودة إلى ما قبل الرأسماليّة كما يدعو بعض حماةِ البيئة، وليس في تأميم وسائل الإنتاج مع المحافظة على العقليّة الرأسماليّة (وعلى المفهوم الرأسمالي للعمل، عزيزي ياسين!) كما فعل السوفييت وغيرهم.
أعرف أنّ هذا كلّه بعيدٌ عن همومنا المباشرة ومآسينا، وأنّ تصوّر البدائل يقع أوّلاً على عاتق شعوب الدول الصناعيّة المتطوّرة، ولكن لا بأس في أن نفكّر بين الحين والحين بالعالم على أنّه كلٌّ متكامل، وأن ننظر إلى الأفق.
لا تبدو محبطاً متشائماً أبداً، تبدو بالأحرى قوةً تبثّ الثقة والطاقة في من حولك. كيف بقيتَ شابّاً طوال هذا الوقت؟
هذا من رضا الله والوالدين! وربّما لأنّني على قناعةٍ عميقة، عقلاً وقلباً، بأنّ تغيير العالم ما زال ممكناً.
youtube://l/PLSW5JL18fTmiqmWic41cMEQYKwNyGrZ3s
تصوير: شيرين الحايك.