1
تولي معظم الهيئات عبر-الدولية العاملة في مجال السلام، وهو المجال الذي تغلب عليه النزعة الليبرالية أو النيوليبرالية أحياناً، أهمية كبرى لدور العنصر المحلي في عمليات إعادة بناء مجتمعات ما بعد الصراع، وتحقيق السلام فيها؛ أو «السلام الليبرالي» كما يحلو لأكاديمييّ هذا المجال نعته
2
يعزو معظم دارسي تاريخ القومية والدولة القومية الحديثة، كالفيلسوف والانثروبولوجي البريطاني من أصل تشيكي أرنست غيلنر والمؤرخ البريطاني الماركسي إريك جون هوبزباوم، ظهور هذه المفاهيم وتطبيقاتها إلى آليات تحديث المجتمعات الأوربية خاصة خلال حقبة الثورة الصناعية. وبتطور هذه المفاهيم وتهجينها بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، تحولت الدولة الحديثة خاصةً في أوربا إلى دولة المواطنة التي تعتبر جميع مواطنيها سواسية في حضرة قوانينها الوضعية ودساتيرها القومية.
إلا أن بعض الأوساط المعاصرة، والتي قد تُحسب على تيارات ما بعد الحداثة، ترى في نمط هذه الدولة نمطاً ناجحاً بقدر ما يكون مجتمع هذه الدولة متجانساً، وتراه نمطاً فاشلاً بقدر ما يكون المجتمع متنوعاً. بالنسبة لهؤلاء فإن جميع مواطني الدولة الحديثة غير متساوين، وأن هناك لا عدالةً تعاني منها بعض فئات المجتمع المتمايزة ثقافياً. أقصد هنا بـ «ثقافياً»، المعنى الواسع للكلمة، الذي يتضمن الدين والإثنية والميثولوجيا وإلى ما هنالك من التشكيلات التي تصبغ المجموعات البشرية بمزايا محددة. بالنسبة لهؤلاء المشككين، مهما كانت الدولة الحديثة مدنية وديمقراطية وتكنوقراطية خاضعةً للقانون ومجردة من أي خصائص دينية أو عرقية، فإنها لا بد أن تحمل وتحمي خواصاً ثقافية خاصة بالأغلبية المكونة لمجتمعها. والمثال الأبرز عند هؤلاء هو أنه طالما كان لدولة كهذه لغة رسمية أساسية فإن هذه اللغة، لا بوصفها أداة تواصل بل بوصفها حامل لثقافة قوم محدد، تعمل ولو بصورة غير مباشرة على إيذاء الجماعات غير المتحدثة بهذه اللغة إيذاءاً ثقافياً.
يأتي على رأس هؤلاء الفيلسوف السياسي الكندي ويل كيمليكا، وأفكاره المتعلقة بما يسميها هو «الأقليات الوطنية» و«المواطنة متعددة الثقافات». فوفقاً لكمليكا يكمن الحل الأمثل لإدارة دولة متعددة الأٌعراق والطوائف في اللامركزية، وفي توفير قدرات وصلاحيات حَوكمية كبيرة نسبياً للعناصر المحلية الأقلوية، بهدف ضمان عدم إهدار حقوقها الثقافية والسياسية.
3
بعد غرق الجيش الأمريكي في حيثيات وتبعات تدخله في أفغانستان والعراق، ومن ثم طي عهد ما يسمى بـ «المحافظين الجدد» الليبراليين
في الحالة السورية، برزت قوات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) كإحدى أقوى أعداء داعش. حالة العداء هذه يمكن تفسيرها، بعجالة، ضمن مستويات أيديولوجية واقتصادية وحَوكمية وإقليمية مختلفة.
فبينما يتبنى حزب الاتحاد الديمقراطي فكراً اشتراكياً علمانياً ولو نظرياً على الأقل، تعتمد أيديولوجية داعش على أكثر التفسيرات تشدداً للإرث والنصوص والتعاليم الدينية الإسلامية. إلى جانب ذلك، يتقاسم كل من داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي السيطرة على إحدى أغنى المساحات الجغرافية السورية بموارد الطاقة والزراعة؛ الأمر الذي خلق بين الطرفين حالة من التنافس الاقتصادي خاصة في مجال التجارة السوداء في السوقين المحلية والإقليمية، كالتجارة مع النظام السوري وكذلك طرح المنتجات السورية، النفط ومشتقاته بالأساس، في السوق التركية. هذا ناهيك عن حالة التضاد الكاملة بين نموذجي الحوكمة لدى كل طرف، الخلافة الإسلامية في حالة داعش، والإدارة الذاتية الديمقراطية وكانتوناتها الثلاثة في حالة حزب الاتحاد الديمقراطي. على ألا يغفل عن أذهاننا الأسباب، وإن كانت ثانوية، التي أدت إلى تسارع معدل عسكرة الجانبين. فمن مخرجات ما تمسى بمسيرة السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني التي بدأت في العام 2012 وانهارت قبل أيام، انسحاب مقاتلي الحزب إلى خارج الأراضي التركية
كل هذه العوامل أدت إلى تقديم حزب الاتحاد الديمقراطي على أنه الرقم واحد في مكافحة إرهاب وفظائع داعش. وأدت بالنتيجة إلى تعويم الحزب وميليشياه، وحدات الحماية الشعبية، بوصفها الحليف المحلي الأكثر فاعلية للولايات المتحدة ولاستراتيجية رئيسها الهجينة في مكافحة داعش. واستفاد الحزب من هذا التنسيق العملياتي العسكري بشكل كبير في تدعيم سلطة الأمر الواقع التي يتبوءها عبر تقديمه، أي التنسيق، كـ «شرعية دولية» تعزز شرعيته المحلية في الفضاء المحلي الذي يسيطر عليه.
من جهة أخرى وكما هو الحال في معظم المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة\حروبا أهلية، فإن صوت السلاح هو الأعلى وإن الجهة الأقوى عسكرياً (واقتصادياً أيضاً)، ضمن فريق ما، هي الجهة المسؤولة عن\المتحكمة بجميع ميادين الحياة ضمن الفريق نفسه. وبالرغم من أن استفراد هذه الجهة بسلطتها المحلية قد يكون له مبرراته الميكافيللية والواقعية (Realpolitik) من قبيل «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، فإن الوقوف في وجه الممارسات الخاطئة لهذه الجهة أثناء وبعد الصراع ضروري لمنع تراكمها، أي الممارسات، وتحولها، بمرور الزمن، إلى سلطة لها صفات الاستبداد والشمول.
في حالة حزب الاتحاد الديمقراطي، هناك العديد من حوادث الاعتداء على مراكز الأحزاب والتيارات السياسية الكردية الأخرى، التي اتهم مناصروها وموالوها حزب الاتحاد بالوقوف وراءها، كحادثة حرق مكتب حزب يكيتي في بلدة عامودا قبل عامين ونيف، والاعتداء على مقر حزب البارتي في مدينة الحسكة مؤخراً. هذا كله ناهيك عن عدم قيام مؤسسات الحزب القضائية بتوفير إجابات عن حالات التصفية الجسدية، التي جرت في ظروف غامضة، بحق عدد من الناشطين المحليين، وكذلك وجود اتهامات بتجنيد القاصرين والقاصرات قسراً للانضمام إلى صفوف ميليشيا الحزب كحادثة تجنيد الطفلة همرين عيدي على سبيل المثال لا الحصر
يشير مجموع ونوع هذه الادعاءات إلى سير الحزب وهياكل سلطاته المحلية الحاكمة في سيرورات قد تفضي به وبها إلى التحول المطلق إلى بنىً غير ديمقراطية لا تحتمل وجود أصوات مخالفة لها. وأن الحزب وإن انتهت حالة الاقتتال في سوريا، فإن موقعه الحالي بوصفه شريكاً مقاتلاً محلياً قوياً في الحرب على الإرهاب سيمهد، على الأرجح، الطريق أمامه ليكون الشريك المحلي مع الجهات الدولية التي قد تنشط في سوريا ما بعد الصراع، ضمن نطاق نشاطات ما تسمى بإعادة البناء وترسيخ السلم.
4
يبدو مما سبق أن هناك تركيزاً متزايداً نشهده الآن على أهمية العنصر المحلي في بناء وإدارة الدول والمجتمعات التعددية. وأن هذا التركيز العولمي هو تركيز راسخ في الحقيقة له جذوره في الفلسفة السياسية المعاصرة، وفي أدوات العولمة كالمنظمات الدولية، وبصورة ملموسة أكثر في ميادين القتال وعسكرة المجتمعات ومكافحة الإرهاب.
تجدر الإشارة هنا إلى أن السلبية الأساسية لهذا التركيز لا تكمن في مبدأ أهمية العنصر المحلي بحد ذاته، والتي تبدو وبحق فكرة جذابة، بل في طبيعة هذا العنصر وبنيانه. فالكثير من الأسئلة بهذا الصدد غير واضحة الإجابة: كيف يفرز العنصر المحلي طبقة السلطة فيه؟ كيف ومن قبل أي جهة ضمن العنصر المحلي سيتم استخدام المزايا الممنوحة إليه؟ كيف يمكن ضمان حقوق أفراد\مواطني هذا العنصر المحلي إن كانت لهم توجهات ثقافية أو سياسية مغايرة للعنصر المحلي الذي [ينتمون] إليه؟ أي، كيف يمكن ضمان تعددية هذا العنصر نفسه؟ من يضمن عدم نشوء بنىً استبدادية محلية بصورة أو بأخرى ضمن العنصر المحلي؟
في حال عدم تقسيم الوطن السوري، فإن تنميط العناصر المحلية أو الأقليات الدينية والعرقية سيكون جوهر المشكلة التي سيعاني منها مواطنو سوريا المحسوبون على هذا العناصر المحلية. وقد لا تعني قابلية تطبيق أفكار ويل كيمليكا في حالة مقاطعة كيبك الكندية، بالضرورة، أن تكون كذلك في دول أخرى كسوريا. فالنظرة الرومانسية الزائدة للعنصر المحلي قد تحمل في طياتها مخاطر كبيرة. على أن كل هذا لا يعني إلغاء فكرة اللامركزية في سوريا المستقبل بل يعني ضرورة وجود أدوات وطنية دولتية مدنية يلجأ إليها جميع المواطنين من المركز واللامركز لمراقبة سلطتي المركز واللامركز على حد سواء. فالتخلص من نظام بشار الأسد وبناء سوريا مدنية لامركزية يجب ألا يعني الركون إلى سلطات محلية قد تصبح استبدادية.