جريمة خطف سميرة الخليل ورزان زيتونة وناظم حمادي ووائل حمادة التي ارتكبت في الشهر الأخير من عام 2013 لا تزال ترتكب كل يوم طوال ما يزيد على 600 يوم انقضت عليها. المرأتان والرجلان مغيبون دون معلومة عن مصيرهم منذ وقت الخطف الذي تتوفر قرائن كافية على مسؤولية تشكيل «جيش الإسلام» عنه، وتعلم قيادته دون أدنى ريب كل تفاصيل الجريمة منذ وقت ارتكابها. وهي مسؤولةٌ سياسياً مسؤولية قطعيةً عن الجريمة، ليس فقط لأن دوما عاصمتها، ولها الولاية السياسية الأكيدة فيها، ولكن كذلك لأنها لم تحقّق في القضية، ولم توفر في أي وقت معلومات عما حدث، لا لأهالي المخطوفتين والمخطوفين، ولا لأي هيئات سياسية وطنية، ولا لعموم المهتمين السوريين أو أية منظمات حقوقية محلية ودولية، ولا حتى للقضاء المحلي في منطقة دوما. بالعكس، على المستوى الأخير، عملت قيادة «جيش الإسلام»، وزهران علوش شخصياً، على تهريب مشتبهٍ به أساسي بارتكاب الجريمة، اسمه حسين الشاذلي، من نظارة كان أوقفه فيها القضاء المحلي. فإن كان هناك من ليس مقتنعاً بما جرى تقديمه مراراً وتكراراً من قرائن على مسؤولية قيادة «جيش الإسلام» عن ترتيب الجريمة، يُجمع أهالي المرأتين والرجلين على صوابها وكفايتها، فلا يمكن لأي شخص منصف أن يشكك في أن علوش وتشكيله، وهم سلطة الأمر الواقع في دوما ولديهم فيها مقرات أمنية وأكثر من سجن، على إحاطة كافية بملابسات الجريمة، وأنهم تالياً متسترون عليها وعلى الجناة المباشرين، هذا فضلاً عن كونهم معرقلين للتحقيق محدود الإمكانيات الذي قام به تشكيلٌ قضائيٌ في الغوطة. إعاقة العلوشيين للتحقيق في هذه الجريمة وغيرها، ومبادرتهم، بالمقابل، إلى خطف ناشطين وإعلاميين من الغوطة دون تخويل قضائي (من آخرهم الإعلامي أنس الخولي ووالده)، دفعت رئيس الهيئة القضائية المحلية، الشيخ خالد طفور، أبو سليمان، إلى الاستقالة من منصبه قبل أسابيع. الرجل كان صار رئيساً لهذه الهيئة بتوافقٍ محليٍ في دوما والغوطة.
الجريمة مستمرةٌ كل يوم بحق الأربعة لأنهم مغيبون، محرومون من الحرية، في بلدهم وبين مواطنيهم الذي قضوا أعمارهم وهم يعملون بينهم من أجل حريتهم. والجريمة مستمرة أيضاً بحق أهالي رزان ووائل وناظم، وبحق سميرة التي غيب الموت والدها قبل أيام قليلة، وهو لا يعلم أنها مخطوفة، وهي لا تعلم أنه رحل. وما يظهر المدى اللاإنساني للجريمة أن خطف الأربعة وقع في شروط معلومة في البلد ككل، وفي الغوطة، تحول بين الأهالي وبين متابعة القضية بأنفسهم وفي مسرح الجريمة. هذا أسوأ بكثير، مثلاً، من اعتقال سميرة على يد النظام عام 1987، حيث كان يمكن لذويها متابعة وضعها بدرجةٍ ما، وبعد حين صار بإمكانهم زيارتها (في سجن النساء في… دوما بالذات). لا يستطيع أهل سميرة القيام بذلك اليوم، ولا يستطيع القيام به أهل رزان أو وائل وناظم. ولو أمكن لأحد منا الذهاب إلى الغوطة، فليس هناك أدنى مؤشرٍ على استعداد سلطة الأمر الواقع للمساعدة في كشف القضية، إن كان المشتبه به تم تهريبه بترتيب شخصي من زهران، والقاضي اضطر للاستقالة. وإذا كان اغتيل عدة نشطاء، واعتقل محررو دوما والغوطة بالذات، فلا ضمانة بأن يستطيع أحد منا، الأهالي العزل للمخطوفين العزل، التقدم شبراً واحداً في معالجة القضية، هذا إن لم يُغيبوا أو يُقتلوا عاجلاً، إن اقتربوا من كشف الحقيقة.
ولا ننس أنه لم توجه تهمةٌ أبداً إلى المخطوفتين والمخطوفين، لا في العلن ولا في السر، ما يعني أن بريئتين وبريئين مخطوفون، وما يعني أن الخاطفين تصرفوا كعصابة مجرمين، بلا قضية ولا مبدأ. بالمناسبة، لم توجه تهمة إلى سميرة، لا في العلن ولا في السر، وقت اعتقلها النظام الأسدي أيام الطاغية الأب. كانت مخطوفةً أيضاً، لكن في مكان معلومٍ يتيح لأهلها زيارتها والاطمئنان عليها.
ما يجعل الجريمة مستمرةً أيضاً أن جميع المعنيين، وكثيراً من السوريين يعلمون تفاصيل لا بأس بها عن الجريمة، وقرائن لا بأس بقوتها تشير إلى مرتكبيها المرجحين. يعلمون أيضاً أن مبادرة تحكيم بين أهالي وأصدقاء المخطوفتين والمخطوفين وبين زهران وجماعته، أطلقها في في 21 أيار شركاء في القضية العامة لسميرة ورزان ووائل وناظم، لم تلقَ أي تجاوبٍ من المتهمين، رغم أنها توفر لهم فرصةً لإثبات براءتهم المزعومة. لكن كثيراً من العارفين لم يحركوا ساكناً، وبعضهم كان متواطئاً مع المجرم مشككاً بمن يتشككون به، ما يضعهم من الوجهة الأخلاقية في موقع شركاء في الجريمة.
ويبدو أن إجرام الأسديين المستمر طوال أكثر من 52 شهراً، وجرائم داعش المشهدية، واللامبالاة الدولية بالمحنة السورية الفظيعة، كلها تجعل من قضية سميرة ورزان ووائل وناظم قضيةً واحدةً من آلاف القضايا التي تُهمل لكثرتها وهولها. فكأنما يجري تطبيع الجريمة حين تتوالى الجرائم كل يوم، فتُنزع عنها الصفة الجرمية، وتُعتبر في أسوأ الأحوال حادثاً سيئاً، حدث في زمن لا تكاد الجرائم ترتكب فيه حتى تتقادم وتُنسى.
لكن هذا ما يتوهمه الجناة، وليس هو ما يراه المعنيون بتغييب الأربعة من أحبابهم وأصدقائهم. ولا شيء يمكن أن يجعلنا ننظر إلى الجريمة كشيء وقع في يوم غابر، ونترك النسيان يتسرب إليه. ولسنا بعد نحو عام وثمانية شهور من الجريمة أكثر قبولاً مما كنا في أي وقت سبق لأن يكون جرم تغييب أو قتل أو اعتقال أحبابنا واقعةً عابرة متقادمة. لدينا اليوم ملفٌ يغتني بالتفاصيل والقرائن عن القضية، ولنا شركاء سوريون ودوليون، ونحن ماضون في جهدنا العادل لنزع الثقة عن الجاني، وعن شركاه والمتواطئين معه، في الداخل والخارج.
نزع الثقة به أمام السوريين أولاً. لا يفاجئنا أن من غدر بثائرين مسالمين مثل سميرة ورزان ووائل وناظم، هو نفسه من يتطلع إلى سلطة مطلقة تخصه ولو على حارة، وهو نفسه من أقام سجوناً في عاصمته قبل أي شيء آخر، وهو نفسه من يختطف ويعتقل على هواه دون قاعدة قانونية أو حس بالعدل والكرامة الإنسانية، وهو من خذل الثورة ضد نظام الطغمة الأسدية مراراً وتكراراً، وهو نفسه من يضيِّق على السكان المحليين في الغوطة ودوما في معاشهم. وهل من المُفاجئ بعد هذا كله أن تتدنى الثقة العامة بقائد «جيش الإسلام»، على نحو ينعكس على التشكيل الذي يقوده؟ المسألة سياسية وعامة وليست مزاجية أو كيدية. فهذا الفاعل العام لم يظهر من المسؤولية وحس العدالة ما يسوغ الثقة العامة به.
ولا يحتاج السوريون إلى صفنة لمعرفة من يشبه هذا الذي له ذلك السجل المشين خلال عامين ونصف بالكاد. فقد ثاروا ضده ويعرفون سيرته في أجسادهم وفي بيوتهم المهدمة، وفي قبور أحبابهم: دولة العصابة الأسدية.