مظاهراتٌ غاضبةٌ وشهيدان في درعا ظهيرة الثامن عشر من آذار عام 2011، أكثر من ستة اتصالات متتالية مساء ذلك اليوم من أقارب وأصدقاء ومعارف يقيمون في الساحل السوري، والجملة الأولى موحدةٌ كهتاف في مسيرة لتمجيد القائد: «خربانة الدنيا ببانياس .. عم يكسّروا سرافيس العلوية»، هكذا بدأت مسيرة المنفى الطويل الذي يبدو بلا نهاية.
كانت بالنسبة لي ثورةً منتظرةً ومحققةً وقادمةً حتماً، لكن الشك يتسرب إلى النفس رغم يقين العقل والقلب. صحيحٌ أنه لا بد أن يسقط نظام الأسد كي تستعيد الحياة بعض بهجتها، لكن «السنّة» في بانياس يحطمون باصات النقل إلى قرى «العلويين». كانت هذه الرواية تكثيفاً لما تلاها من الروايات التي ستسري كالنار في هشيم أنصار الأسد.
الذهاب إلى دمشق وريفها ضروريٌ لمزيد من الفهم والدخول في صلب الحكاية. خمسة عشر يوماً في دمشق في النصف الثاني من نيسان كانت كافية تماماً كي لا يتسرب أي شك إلى النفس بعد ذلك.. يبدو سقوط نظام الأسد حتمياً، ليس هذا فحسب، بل يبدو ضرورةً سياسية وأخلاقية. هل يمكن أن يتجاهلَ هتافات المتظاهرين في دمشق وريفها، وأجسادهم المفتوحة للرصاص الحي والتعذيب، إلا عديم الفهم والأخلاق معاً؟
المنفى الذي ساهمتُ في بناء جدرانه
كانت العودة إلى الساحل السوري بعد خمسة عشر يوماَ في دمشق وريفها ربيع عام 2011 أشبه بالهجرة. هناك، كانت الأشياء مختلفةً تماماً: «ثمة طائفيون قتلة يتظاهرون مسلحين، وهؤلاء ينبغي سحقهم بلا أي رحمة»، هذا ما يقوله أنصار النظام السوري. فاشيةٌ صاعدة تتحدث عن وطن سوري مقاوم صامد، وتفوح منها طائفية عميقة ومركبة ومخيفة، واستعدادٌ بربري لاجتثاث كل من يقول شيئاً آخر غير هذا.
نُعزِّي النفس قليلاً، فهذه ليست إلا «الفاشية في صعودها الأخير»، قليل من الصبر فقط، وسينتهي كل هذا وتنتصر الثورة. هل يمكن أن يتمكن هؤلاء من التصدي لأمواج المتظاهرين التي تضرب صخور الساحات القاسية؟ لن يتمكنوا من ذلك مهما طال الأمر. لكن الواضح أن الأمر سيطول، وأنا أعيش بينهم. هنا عائلتي وأقربائي وحارتي والدروب التي حَفِظَتها أقدام الطفل الذي كنته، رفاق الطفولة والدراسة الذين يلتحقون بالجيش، أقربائي وجيراني المذعورين على أبنائهم الموظفين في مدن وأرياف الداخل المنتفضة، وفي قطعات الجيش والأفرع الأمنية، المذعورين من كل شيء، وكل كلمة، وكل لفتة.
بضعة نقاشاتٍ لم أزد فيها عن القول بأنه لا يجوز قتل المتظاهرين في الشوارع، كانت كافية كي أبدأ ببناء الأسوار لحماية شرنقتي التي سأعيش فيها بانتظار سقوط النظام. كانت الردود مخيفةً، وكان مجرد قولي أن ثمة متظاهرين يتم قتلهم كافياً لاتهامي بأشياء كثيرة، تبدأ مثلاً بالقول إنني شاب أحمق ومتهور وسأتسبب أنا وأمثالي بتدمير البلاد، ولا تنتهي بوصفي بالخائن الذي ينبغي معاقبته.
فلندع جانباً جميع التحليلات العميقة للسلطة وبنيتها، وللدولة ومعناها ووظيفتها، وهي التحليلات التي تنتهي عندي بأن نظاماً كنظام الأسد ينبغي تحطيمه أصلاً، ذلك حتى قبل أن يطلق عناصر أمنه رصاصة واحدة. لكنني رأيتهم بأم عيني يطلقون الرصاص الحيّ في ريف دمشق، رأيتهم يتجمعون بالعصي والسكاكين والسلاسل المعدنية عند أبواب المساجد في دمشق، رأيت آثار التعذيب على أجساد رفاقٍ بعد خروجهم من المعتقلات، رأيت أن ثمة «شعباً» يريد، وأن ثمة سلطةً تريد أيضاً، تريد تحطيم إرادة ذلك «الشعب».
هكذا بدا أنصار النظام من حولي كما لو أنهم مجموعة من القتلة، أو كما لو أنهم صناع وحراس آلة قتلٍ جهنمية، لا تكف عن قتل بقية السوريين وتدمير حيواتهم، ولا تكفّ عن تدمير أحلامي وإذلالي في كل لحظة. في مكان العمل وفي وسائط النقل العامة وعلى مقاعد المقاهي، كان كل حديثٍ عابرٍ يحمل ألف إهانةٍ وتهديدٍ مبطنٍ بالسحق.
«لماذا لا يتم قتل جميع الذين تظاهروا في اللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس؟ هؤلاء مجموعة من السفلة والخونة»، يقولها حلاقٌ وهو يحمل مقصاً فوق رأسي. أبتسم محاولاً امتصاص غضبه، والبدء بنقاشٍ يتجاوز كلمات التأييد والدعم التي تلقاها من الزبائن وزملائه على كراسي الحلاقة الأخرى: «القتل ليس حلاً، ربما أن …»، يرغي الحلاق ويزبد ملوحاً بمقصه في الهواء كما لو أن مساً أصابه: «أنتم المثقفون لا تعرفون شيئاً لأنكم تعيشون بين الكتب، لو يسمح لنا بشار الأسد لبدأت بقتلهم واحداً واحداً … أعرف بيوت بعضهم في الحارة المجاورة».
أعرف هذا الشاب جيداً، وكُنت دائم الشتيمة للحكومة أمامه، وهو يعرف مقدار بغضي لعائلة الأسد، كان يقول مازحاً «لا ترفع سقف شتائمك إلى الأعلى أكثر .. ستتسبب بإغلاق باب رزقنا يا (ابن العم)». لقد قص شعر رأسي عشرات المرات، ترى هل هو جاد في استعداده لقص رأسي اليوم مثلاً؟ هل كان يقصدني عندما تحدث عن الذين «يعرف بيوتهم في الحارة المجاورة»؟.
تبدأ الوساوس القهرية، لا يتعلق الأمر بالحلاق فقط، بل يتعلق أيضاً ببعض الأقارب وزملاء العمل، يتعلق ببعض الرفاق القدامى والباعة المتجولين وسائقي السرافيس. لا إمكانية لإعلان الانحياز إلى الثورة التي بدأت تتسلح وتتزايد فيها الشعارات الإسلامية، ولا إمكانية لمواجهة هؤلاء أو الحوار معهم حول أي شيء، ذلك أنهم كثرٌ جداً من حولي، ومسلحون حتى أسنانهم، مسلحون بالخطاب الصلب «الوطني/الطائفي» الذي لا يمكن تفكيكه بغير نقاشات عميقة ومفتوحة لا مكان لها في أي فضاء، ذلك فضلاً عن تسلحهم ببنادق النظام وزنازينه وقبضات جلاديه.
شخصيتان مؤقتتان ستتكفلان بحل المعضلة، واحدة في الخارج بهيئة «مثقفٍ وطنيٍ معارضٍ سلمي» لا يشغل بال أحد، وسيصحو من أوهامه ذات «صباحٍ جميلٍ» تنكشف فيه المؤامرة، وأخرى تعيش في شرنقة لا يدخلها إلا أفراد العائلة الصغيرة والأصدقاء الذين يشبهون صاحبها في كل شيء حتى في بناء شرانقهم الخاصة. شخصيتان تتجولان معاً بين الأنحاء الممكنة من سوريا الثائرة والساحل السوري المختنق باللعنات والأوهام والمخاوف. تفترقان في مقرِّ العمل والكراجات والزيارات العائلية واللقاءات العابرة ببعض الأصدقاء، وتلتقيان في بعض «المجالس والنشاطات الثورية»، وكذلك في داخل الشرنقة التي كبرت بعد أن تم إدماجها بشرانق أصدقاءٍ آخرين.
التباسُ المنفى بالوطن
في الشرنقة إياها ينهار الوطن، أعني الوطن السوري الذي نعرفه، ولا مجال في الحقيقة لمواصلة الأكاذيب، إذ لا تصلح أي من المناطق «المحررة» وطناً لمن هم مثلي، أما مناطق النظام فإنها لا تصلح وطناً .. ربما لأي أحد. لم يعد ثمة وجود لسوريا، وعلى هذا فإنني لست سورياً، ولكن ما الذي أنا عليه إذن؟ ليس هذا سؤالاً شعرياً تنبغي الإجابة عليه لأسباب وجدانية، ولا سؤالاً فلسفياً تنبغي الإجابة عليه لأسباب معرفية، بل هو سؤال حياة أو موت.
باغتني ذلك السؤال يوم صفعتني صورة واحد من رفاق المدرسة القدامى على ناصية شارعٍ: «الشهيد البطل …»، ثم صفعتني الصورة نفسها على فيسبوك: «تم الدعس على الشبيح …». يا للهول، هذا الفتى ليس شبيحاً، لقد كان بالغ الطيبة والصدق، كما أنني التقيته في الشارع صدفة قبل نحو ستة أشهر، في حديثنا العابر وقتها قال إنه ينبغي لبشار أن «يحل عن ط…». لعله اختار القتال أو أجبر عليه، لا أعرف، لكنه لا يستحق أن يقال في حضرة موته «تم الدعس».
إذا كان لا بد من وطن، فإنه لا بد من مواطنين، ولكن ليس ثمة مواطنون هنا بل مشاريع «مدعوسٍ» عليهم. يتفاقم المنفى، أتلوى كالدودة داخل شرنقتي، لا وجود لسوريا، أنا لست سورياً، فلماذا تكون ثورة بعض السوريين على سلطةٍ يدعمها بعضهم الآخر قضية حياتي؟ وهؤلاء القتلة الحمقى الذين يملأون كل مكان حولي، وينتهي خطابهم المتعجرف الأبله دفاعاً عن «سوريا الأسد» إلى إرسال شابٍ كهذا إلى الموت، هؤلاء لا يمكن أن تكون بلادهم وطني، فلماذا تعنيني حروبهم وآلامهم؟
تزداد شوارع المدينة التي أعرف ملامحها كما أعرف ملامح وجهي غربةً واختناقاً، تتزايد فيها اللافتات التي تدعو إلى سحق المتآمرين الخونة مرفقةً بصور القائد الرمز وأبيه، وبصور الضحايا/القتلى/الشهداء. يجب انتقاء الألفاظ جيداً، ذلك لأنهم شهداء حتماً عندما آتي على ذكرهم خارج الشرنقة، وقتلى حتماً عندما آتي على ذكرهم داخلها، وضحايا دوماً، ضحايا أعرف كثيرين منهم، وأعرف تماماً أية تعقيدات وخطايا آلت بهم إلى تلك النهايات المفجعة.
تتواصل المذابح، تكبر وتصبح أكثر وحشيةً وعلنية، يستشهد أصدقاء ورفاق ومعارف كثر، ويُعتقل آخرون، يموت بعضهم تحت التعذيب في سجون النظام، ويخرج بعضهم الآخر محطم الجسد والروح. معارفُ وأقارب ورفاق آخرون يقاتلون في صفوف النظام، يعود بعضهم مصاباً أو في تابوتٍ، أو لا يعود أبداً. يغادر كثيرون البلاد إلى غير رجعة فراراً من خدمة العلم أو خطر الاعتقال أو بحثاً عن حياة أفضل وأكثر أمناً. يتفاقم البكاء الليلي داخل الشرنقة ويصبح طقساً غبياً مكرراً بلا معنى، يزداد الرفاق المتشابهون التصاقاً ببعضهم بعضاً، تتداخل حيواتهم، وتصبح الشرنقة المليئة بالعزلة والغربة وطناً صغيراً على مقاسنا، نرتبه ونغني «أناشيده الوطنية» في الخفاء، إنه وطنٌ صغيرٌ داخلَ الوطن/المنفى الكبير.
لعلّ مزيجاً من «الذكاء والتخطيط والجبن والانكفاء في اللحظة المناسبة» كان كفيلاً بنجاتي من الموت والاعتقال، وهذا قد يعني في واحدٍ من مناحيه أنني لا أزال أملك وطناً، لكنه وطن يهينني كل يوم، ويحتقر كل ما أفكر به، وطنٌ رهيبٌ لا مفر منه سوى بالالتجاء يوماً إلى الوطن الصغير الذي أسسناه معاً أنا وأصدقائي «الثائرين». ثائرون نعم، تصبح الكلمة أقرب إلى النكتة يوماً بعد يوم، ويضيق «وطننا البديل» ويتناقص «مواطنوه» يوماً بعد يوم أيضاً.
ثمة حالة ملتبسة لا مجال إلى تفكيكها ببساطة، فالأصل أنني منحاز إلى الثورة لأنني أريد لحياتي وحياتهم أن تصبح أفضل، أعني عموم السوريين ومن بينهم سكان مدينتي، لكن سكان مدينتي يمعنون في خنق حياتي، ويمعنون في تغطية المقتلة الرهيبة، المقتلة التي هم أنفسهم من ضحاياها إذ يرسلون أبناءهم، أصدقائي وزملائي القدامى، إلى الموت. أحب مدينتي، وأشعر بالألفة في شوارعها وأزقتها التي أريد لها أن تصير وطناً، وبمزيج من الحقد والخوف والغضب إذ تخنق الشوارع والأزقة إياها أنفاسي .. كرٌ وفرٌ بين وطن أرفض مغادرته وفاءً لأحلام صغيرة، ومنفىً أتحرق للانعتاق منه، وفاءً لأحلام صغيرة غيرها.
التطبيع مع المنفى
متجولاً في سوق الخضار الشعبي في مدينتي، وبعد جلسة «افتراضية» كان فيها تواصلٌ عبر سكايب مع أصدقاء في غوطة دمشق الشرقية، وفيديو على يوتيوب يظهر قصفاً عشوائياً بالبراميل على داريا، أفكر أنه لا عدالة في السماء أو في الأرض إذا لم يتم تحطيم النظام السوري عن آخره. ترتعد فرائضي من فكرة أنني لو قلت ما أفكر به بصوت عالٍ فسيقوم أقرب شخص إلي بقتلي وسط تصفيق الرجال وزغاريد النساء. صورة متخيلةٌ عابرةٌ كانت كفيلةً بجعلي أسرع الخطا بعيداً خارج الازدحام، خشية أن أحدِّث نفسي بصوت مرتفع في لحظة شرود.
خارج الازدحام تحاصرني صور الضحايا على أعمدة الإنارة والأشجار وجدران المؤسسات العامة وواجهات الدكاكين والبيوت، جارتنا تشتم من تسببوا في موت ولدها، الذي كان زميل مقعد دراستي، وهي تبيعني بعض الخبز. أهرب من وجهها خَجِلاً رغم أنها لا تعرف حقيقة موقفي، ترى هل أحمِّل نفسي مسؤولية موت ابنها؟
قبالة دكانها تتصدى ليَّ ابتسامة بشار الأسد البلهاء في صورة معلقة على جدار، أستعيد بعض الثقة في موقفي، إذ لا بد أن الخلاص الضروري من هذه الابتسامة سيكلف مئات آلاف الضحايا، وابن هذه العجوز كان واحداً منهم، وربما أكون أنا واحداً منهم أيضاً في أي لحظة، سيكون جيداً أن أبقى هنا متنقلاً بين الساحل والداخل، لأن ذلك يجعل احتمال موتي أو اعتقالي أو اختطافي وارداً في كل لحظة. هكذا يصبح احتمال الموت أو الاعتقال مصدراً وحيداً للتعامل مع هذه الركام بوصفه وطناً، ذلك أنه يمكن لهؤلاء أن يكونوا أهلي ومواطنيَّ المحتملين طالما أنني أشاركهم خوفهم وضيق ذات يدهم.
مفارقةٌ مذهلةٌ أن يكون الخوف وضيق الحياة ممراً وحيداً للتطبيع مع المنفى وجعله أقل وطأة وأكثر شبهاً بالوطن، فالمنفى في الأصل ليس سوى الضيق الذي يشعر به المرء جراء إكراهه على العيش في مكان ما، أو خارج مكان ما. الإكراه .. تلك هي كلمة السر التي ستؤسس للتطبيع مع ذاك المنفى: «أنا موجود هنا باختياري، وليس ثمة ما يمنعني من المغادرة».
الخروج إلى الاقتلاع
أشهرٌ طويلة من التطبيع مع كل ما يدور حولي.. هنا وطن كامل يحترق، وأنا أعيش على أرضه وبين أبنائه بمحض إرادتي، جميع الأخطار واردة في كل لحظة. سيكون الذهاب إلى دمشق مراراً أمراً ضرورياً للمزيد من التوازن، بضعة قذائف هاون على مقربةٍ مني في باب توما كانت كفيلةً بمنحي إحساساً كاملاً «بالمواطنة»، وستكون القذائف الصاروخية التي بدأت تتساقط أحياناً على مناطق في الساحل السوري مصدراً لراحةٍ خفيةٍ إضافية، هكذا تقترب الشراكة «الوطنية» قليلاً من الاكتمال.
أتابع الأخبار من شرنقتي، أغني أهازيج الثورة وتمجيد «ما تبقى» من الجيش الحر في الخفاء، أو مع بعض الأصدقاء/الشركاء. تصبح الحياة رتيبةً في انتظار أخبارٍ جيدةٍ لا تأتي، رتيبةً وخانقةً كما ينبغي لها أن تكون في وطنٍ كهذا. يتزايد الحديث من حولي عن ضرورة السفر وحتميته لمواصلة الحياة، لكنني أرتعد جراء فكرة السفر، وأقول إنني لن أحتمل المنفى الخارجي، وأنه لن يكون لدي وسيلة للتطبيع معه. ولكنني أواجه نفسي عندما أكون في شرنقتي وحيداً، فهذه ليست إلا ذرائع كاذبة، لأن ما يخيفني في الحقيقة هو أن يكون العيش خارج هذه البلاد جميلاً، كيف سأواصل حياتي إذا وجدت وطناً في الغربة؟
ستجبرني سلطات النظام السوري على الخروج مما كنت فيه، وسأجد نفسي مُكرهاً على مغادرة سوريا هرباً من الخدمة في جيشها النظامي. يحضر الإكراه هذه المرة، سأكون مكرهاً على العيش خارج البلاد، إنه منفىً حقيقي مكتمل الأركان، منفىً ثقيلٌ وقاسٍ إذ أذهب إليه حاملاً شرنقتي وبعض الذكريات من الأوطان والمنافي الكثيرة الملتبسة في بلادي. أذهب إليه حاملاً إحساساً مُذِلاً بالهزيمة والاقتلاع. لقد هُزمتُ وتم اقتلاعي أخيراً، لكن صعود الطائرة إلى السماء من مطار بيروت سيحمل ابتسامةً خفيفةً ضروريةً كبدايةٍ للتطبيع مع الاقتلاع: «لا بأس أيها الفتى المُقتَلع، سوف يكون لديك منفىً حقيقي هذه المرة، وهذا يعني أنه ربما يكون لديك وطنٌ حقيقيٌ في قادم الأيام».