شهد التاريخ كثيراً من حركات المناهضة التي أدى خطابها إلى عكس ما يرجوه المشاركون المخلصون في سياق نضالهم ونقدهم للطرف الذي يناضلون ضده. فقد كانت تؤدي أحياناً إلى تكريس سيطرة القوة السائدة من خلال إعطائها صورة العدو الذي لا يقهر، ومن ثم الوصول عبر ذلك إلى الأسطرة والعبادة المعكوسة. علماً بأن الإيمان بأسطورة ما، وتضخيم الأشياء ورفعها إلى حالة التقديس هي خاصية بشرية مألوفة في تاريخ البشر، وغالباً ما تظهر عند الوقوع تحت وطأة الحب الشديد أو الخوف الشديد، وسيتناول هذا المقال بعض حالات الأسطرة التي شهدناها في سياق المناهضة.
رأت عالمة النفس النسوية، جوليا كريستيفا، أن الحركة النسائية القديمة أسهمت في تعزيز سلطة الرجل، عندما اعتبرته مصدراً لجميع الشرور ورفعته إلى مرتبة القادر على ممارسة مستوى غير محدود من الاضطهاد. لذلك تعمل النسوية الحديثة على دراسة مواطن الضعف ومواطن القوة لدى كل من الرجل والمرأة، كي تعزز نظرة متوازنة محللة وعالمة، تعترف بالطرفين وتنتقدهما في الوقت نفسه. وهذا ما كان أساس النظرية النسوية التي أطلقت الموجة الثالثة للحركات النسوية.
وكذلك رأى الباحث بيتر جران أن المركزية الأوروبية، تجد في العالم الثالث، كما في الغرب، مدافعين عنها من اليسار ومن اليمين على السواء. وأضاف أن «الكثير من المؤرخين الماركسيين في العالم الثالث، يشاركهم في ذلك مؤرخون أوربيون متعاطفون معهم، جعلوا الاستعمار الغربي هو السبب في جميع مشكلات بلادهم». وقد ساهموا بذلك في أسطرة الغرب، وعدم البحث عن أسباب أخرى لهذه المشكلات. ورأى بأننا «إذا قبلنا الفرضية القائلة بأن كل ما هو مهم يتحكم فيه الغرب، وأن السياق المحلي لا يهم، لأصبح قادة العالم الثالث غير مسؤولين عما يقع في بلدانهم من مساوئ». وفي الوقت الراهن تتصدر أسطرة الولايات المتحدة الأمريكية وجدان المناهضين للغرب، لا فرق بين الإسلاميين والليبراليين أو بين اليسار واليمين.
لعل القراءة الإيديولوجية لعمل إدوارد سعيد في نقد «الاستشراق»، عززت عند النخب العربية خاصة ما سماه جورج طرابيشي «المرض بالغرب»؛ فإذ فكك سعيد الخطاب العنصري للاستشراق، بما هو خطاب استعماري، يتغذى من أسطورة «مركزية الذات في العالم»، وكشف، من ثم، عن تصور أوروبي استاتيكي للشرق، ولكل ما هو غير أوروبي، اتخذت النخب العربية من هذا النقد حجة دامغة على الغرب جملةً، تعزز مركزية عربية أو إسلامية مضادة، كانت «الإيديولوجيا القومية» للبعث والناصرية، و«الإيديولوجيا الإسلامية» لجماعات الإسلام السياسي أبلغ تعبير عنها. فما زال القوميون والإسلاميون يرون في «الغرب» والولايات المتحدة الأمريكية سبباً وحيداً لجميع مشكلات العالمين العربي والإسلامي، ومصدراً وحيداً لجميع الشرور. وهو القادر على كل شيء.
إن انتقاد المركزية الأوربية والغرب والولايات المتحدة من منطلق التعدد والاختلاف بعد التخلص من المقياس المعياري عند النضال من أجل الحقوق المتساوية، إضافة إلى النقد الجريء للثقافات والسياسات المحلية، يمكن أن يسهم في كسر النظارات أحادية اللون واستبدال الألوان المتعددة الحقيقية بها. وهذا ما حاوله فكر ما بعد الاستعمار الذي سعى إلى بناء عالم بديل متعدد الثقافات، والذي بدأ بالازدهار منذ ثمانيات القرن الماضي. في محاولة فكرية جادة لتجاوز الشكل السابق من المناهضة الذي يكرس السيادة والأسطرة.
وقد شهدنا في منطقتنا مثالاً ناصعاً على هذا النوع من المناهضة، وهو مثال مناهضة الصهيونية في خطاب الأنظمة العربية، التي كرست أسطورة «العدو الذي لا يقهر»،على عكس ما فعلته نضالات الفدائيين الفلسطينيين وأطفال الحجارة منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وكذلك ما فعله الإنتاج الفكري الذي ساهم في نقد المشروع الصهيوني على نحو عميق، والذي أتى من مفكرين إسرائليين وعرب وأوربيين.
لكن المثال الراهن جداً هو «الحرب على الإرهاب» والطريقة التي يتعامل بها الإعلام المرافق لها، والذي تقصفنا به وسائل الإعلام الغربي صباحَ مساء،على نحو يجعل الآلاف المؤلفة من الشباب يحلمون بأن يكونوا جزءاً من هذه الأسطورة التي تسمى «الإرهاب». هؤلاء الشباب اللذين جاؤوا إلى الغرب باعتباره أسطورة، ولم يجدوا لهم مكاناً فيه، لأسباب مختلفة تتعلق بالطرفين، اعتقد بعضهم بأن الحل السريع لعملية تهميشهم ونسيانهم هو أن ينضموا إلى الأسطورة الجديدة، التي يخاف منها من همشهم. ولذلك طالما رأينا كيف ساهم الإعلام العالمي في زيادة أعداد الذاهبين الى أماكن الجهاد كي يصبحوا جزءاً من هذه الأسطورة المرعبة.
لاحظنا أنه كانت هناك محاولات لتجاوز الخطابات السابقة، فقد كان يمكن للرجل، كما يمكن لأوروبا، الاحتفاظ بالدور القيادي البارز، الشرعية على النظريات المليئة بالشعور بالعظمة. إلا أن الشعور بالعزلة والخوف من حقيقة أن وجود البشرية أصبح مهدداً من العنف الذكوري الجائر على البيئة قد تعاظم، كما أخذت أوروبا منذ أواخر القرن العشرين تضعف وتخاف من العزلة ومن الشعور العدائي الخارجي، لذلك نشأت في داخلها نزعة لتجاوز نفسها من أجل تحدي البقاء.
يدرك الجميع اليوم أن البشرية أضحت في أمسِّ الحاجة إلى كل مكوناتها، القومية والثقافية والجنسانية والجغرافية …، كي تستطيع تخطي المآزق المتعددة التي باتت تواجهها ولا سيما خطر الفناء الذي بات يلوح في الأفق.
لم يتطرق هذا المقال للظروف والأسباب المتعددة والمتشابكة لكل ظاهرة من الظواهر الأربعة المذكورة أعلاه، بل اقتصر على عزل أحد العوامل ودراسته، وهو الخطاب الذي أدى إلى الأسطرة. ومحاولات تجاوزه. ولكن بقي خطاب المعركة ضد الإرهاب لم يتم تجاوزه، بل على العكس نراه يتفاقم، بسبب مصالح قوى مختلفة ودول تستفيد من تضخيمه. وهذا ما يدعو شبكات المقاومة الثقافية والإعلامية إلى إنتاج خطاب بديل كي نكون أكثر عقلانية وأكثر واقعية، وأكثر حباً للبشر، بعيداً عن الأسطرة والأسطرة المعاكسة.