الحادية عشرة ليلاً. في طريق عودتي من باب توما، وجدت نفسي فجأة في مكان مجهول.. ظلمة دامسة تخترقها بقع ليزرية مسلطة علي: من أين جئتِ؟ وإلى أين تذهبين؟
هذا السؤال الذي نسمعه عشرات المرات يومياً على كل حاجز تجتازه داخل المدينة، وكأننا نجتاز حدوداً غريبة من حي لآخر تُلزمك أن تثبت هويتك وأنتماءك وحسن نيتك!
تنظر إلى وجوههم، لحى سوداء ولهجات من هنا وهناك. بعض الحواجز تطمئن لرؤية امرأة (سفور)، والبعض الآخر يستفزها الأمر، وأنت تبلع الموس على الحدين وتتابع ضياعك وسط مدينتك.
السابعة صباحاً. بين النوم واليقظة، رنين جرس الباب، أنهض مذعورة. تعود بي الذاكرة إلى ذاك الصباح الشتوي البعيد. يوم ظهر رجال الأمن على بابنا، واقتحموا المنزل واقتادوا والدي. وقفنا نحن الأطفال الخمسة ننظر من النافذة: أبي مقيداً بالأصفاد وضحكته مازالت ترن في أذني وهو ينظر إلى فردتي حذائي المختلفتين، واحدة بيضاء والأخرى سوداء.
مازال هذا الكابوس قابعاً على صدري، بل أنه ما يزال واقعاً يعيشه كل من قرر البقاء هنا داخل البلد. لكن أي بلد؟ وأي عيش ؟!
خمسون عاماً من القمع حولت لغة التواصل بين الناس إلى ما يشبه الأحجيات والطلاسم.
لا حواجز في الطريق من بيتي إلى مكان عملي. زحمة شديدة تدلّ على وجود حاجز طيار. أحاول التلهّي بمراقبة الشارع: أناس مسرعون، أطفال في طريقهم إلى المدارس، تجار يفتحون محلاتهم، لا شيء غير اعتيادي. الشابان الواقفان على الحاجز يتبادلان الحديث والنكات ويشربان المتة، لا يبديان أي اكتراث برتل السيارات المنتظر. هو مجرد رتل ذباب أسود!
هكذا تبدأ نهاراتنا وتنتهي في الوطن المنفى. محاصرون حتى النخاع الشوكي. كل نفس محسوب علينا. الخوف يجمعنا.. لكن ما الذي يبقينا وسط هذا الجحيم؟
رحل الأصدقاء والأهل، لكلّ أسبابه الملزمة. وبقي الكثيرون، ولكل منهم أسبابه ايضاً. العزلة في دمشق لا تشبه العزلة، لها خصوصيتها، إذ تصون وجودك وترديه إلى حالة العدم، وفي الوقت ذاته تحاول كسرها بالتكلم مع الغرباء: سائق التكسي ، بائع الصندويش.. أي أحد! تحتاج للتواصل لتشعر بأنك حي ضمن هذا الفضاء المشترك. تتفاجأ أحيانا بردود أفعال الناس، وخصوصاً عندما تتكلم بحرية وتبدي رأياً واضحاً، إذ تطفو على الوجوه نظرة شك وارتياب. حتى لو وافقك سامعك في أعماقه إلا أنك قد أثرت ريبته. خمسون عاماً من القمع حولت لغة التواصل بين الناس إلى ما يشبه الأحجيات والطلاسم، وأي خرق لهذا الواقع هو مولد ريبةٍ وشك في العقل العام. من يجرؤ على رفع رأسه؟ على فتح فمه؟ من، من؟
أن تستمر بالعيش، محاولاً تجاهل الرعب والقمع المحيط بك، هو بحد ذاته إدانة.
الاغتراب أن تكون داخل أرضك ووطنك وألا تشعر بأي قيمة لوجودك.
لا يقتصر الحصار على الناحية الأمنية المعيشية، بل يتعداه إلى العمق الوجودي. إحباط عميق ومشاعر اغتراب تتجلى بفقدان المعايير والعزلة، انعدام الثقة والعزوف عن المشاركة بأي نشاطٍ عام، سواء كان مدنياً أم سياسياً، لقناعة الفرد بأن مشاركته أو عدمها لن تشكل فارقا في مجريات الأمور. والانتخابات الرئاسية السورية خير مثال. وإذا ما حاولت مناقشة هذه الحالة مع أحدهم فسوف تصطدم بالتعبير القاتل: مافي أمل! إنه واقعٌ ساحق لأي بعد قيمي للشخصية الإنسانية، وأي محاولة لتحديد موقف مما يدور حول المرء هي مستحيلة التحقيق، وتحوّل الإنسان إلى كائن مستهلك ومسلوب الذات. حرمان الفرد السوري من أشياء يحبها، وابتعاده القسري عن أشخاص أحاطوا به وأحبوه من أصدقاء إلى عائلة، إما نتيجة القتل أو السجن أو الهجرة، فقدانه للحرية ولأبسط حقوق المواطنة، تهميشه المستمر منذ عقود، انعدام القدرة على تحقيق الذات، حوّل من تبقى منهم إلى مغتربين (aliene) داخل أوطانهم وعن ذواتهم. الغربة بمعنى الابتعاد عن الوطن أو الهجرة لا تعني بالضرورة أنها ستؤدي لشعور الفرد بالاغتراب، فكثير من المغتربين حققوا ذواتهم، بغض النظر عن مشاعر الحنين والشوق للوطن الأم.
الاغتراب أن تكون داخل أرضك ووطنك وألا تشعر بأي قيمة لوجودك؛ ألا تملك أي حقٍ إنساني؛ ألا يوجد اي قانون يحميك من أن تحاول الاتصال بالأصدقاء ويأتيك الجواب: خارج التغطية؛ أن تجرب الاعتماد على نفسك ومتابعة معاملة بسيطة في أي دائرة حكومية، وتمضي نهارك من شباك إلى آخر وسط رائحة العرق والفول، وهذا يستقبلك وذاك يرميك ككرة المطاط دون أن تستوعب الأسباب الداعية، إلى أن تفهم بأن لا شيء يمرّ دون دفع المعلوم.
الغربة في الوطن هي اغتراب عن الوجود البشري، لأن الطبيعة الإنسانية للبشر تكمن في القدرة على تشكيل وإعادة تشكيل العالم من حولنا، لكننا محرومون من ذلك بسبب الطبيعة اللا إنسانية للقمع الذي نعيشه. أي بؤسٍ أكبر من أن يصبح الخيط الرفيع الذي يربطك بالعالم الخارجي مقتصراً على صدى ثرثرة الجيران التي تحملها إليك رياح المساء، وصراخ أطفال يلعبون في باحة المدرسة، وصوت بائع متجول ينادي على بضاعته..
هذا كل ما تبقى لك من صلة: رجع الصدى!