قد يكون المنفى ضرورةً لبناء وطن انطلاقاً من الفكرة، لا الدولة. تعمد الديكتاتوريات على الخلط في أذهان الناس بين الوطن والدولة، ما سيصير مع مرور الزمن (أربعون عاماً في الحالة السوريّة) بديهيّة في الذهن الجمعي لمواطني هذه الدولة، الأصحاب الفعليين للوطن. لكن المقابل لهذه الفكرة، بالتزامن، هو المنفى، واللاحق لها زمنياً هو الوطن المنفصل عن دولة الديكتاتور، هو الوطن الذي تمّ تشكيله، أو بناء فكرته، في المنفى. لذلك يمكن لهذا المنفى أن يكون مرحلةً ضروريّة لأصحاب الوطن، أفراداً وجماعات، لتأسيس الفكرة/ الوطن، خارج الحدود الجغرافيّة لدولة الديكتاتور، ما ستصير لاحقاً الوطن/ الدولة. أي الدولة في أكثر حالاتها قرباً من الفكرة التي تشكّلت في المنفى، دولة المواطنين حين يكون هؤلاء، فعلاً، أصحاب الوطن.

يضرب المنفى المجتمع السوري كما ضرب، وما يزال، المجتمع الفلسطيني. كما أنّي لا أعتقد بأنّ هنالك مجتمعاً فلسطينياً واحداً بل مجتمعات تُقسّم جغرافياً بتراكمات تاريخيّة جعلها مُقسّمة سوسيولوجياً (في الـ 48، في الضفة، في غزة، في المخيّمات خارج الوطن، في الخليج، في أوروبا..)، فإنّي لا أعتقد بأنّ الحالة السورية بعيدة عن ذلك. في الحالة الفلسطينيّة تمّ تشكيل الوطن كفكرة في المنفى. تجسّد ذلك أوّلاً في المجموعات الثوريّة التي أسّست لاحقاً للثورة الفلسطينية، وكان ذلك في المخيّمات، وتجسّد في الأدب والفن الفلسطيني الموازي للثورة وكان في المنفى، وتجسّد شعبيّاً في التجمّعات الفلسطينية المختلفة خارج الوطن كرافد أساسي ومرجعي للحِراكيْن السياسي والثقافي في صناعة فكرة فلسطين، فصارت فلسطين قضيّة مبنيّة على الفكرة التي تمّ تأسيسها في المنفى، أو الشتات كوننا نتحدّث عن منافي جماعيّة شملت أكثر من نصف الشعب.

في الحالة الفلسطينية، كانت القوّة المشتِّتة للشعب «احتلالاً أجنبياً»، ولم يتغيّر شيء فيه حتى اليوم بعد أكثر من سبعين عاماً. اليوم، يعيش السوريون (معهم فلسطينيو سوريا) حالة شتات، أو منفى جماعياً، تماماً كالحالة الفلسطينيّة، إنّما القوّة المشتِّتة للشعب هي «احتلال وطني». هناك بدأ الشتات عام النكبة بالاحتلال، واستمرّ الشتات وتطوّرت المجتمعات الفلسطينية ضمنه مع استمرار الاحتلال. هنا، في سوريا، بدأ الشتات بعد فترة طويلة من الاحتلال، النظام الديكتاتوري، أيّ أتت مكمّلة له وليس مرافقة كما في الحالة الفلسطينية. ما أودّ الإشارة إليه بذلك هو أنّ السوريّين مرّوا بنظام حكم ظالم لأكثر من أربعين عاماً تلحقه حرب يشنّها النظام لأكثر من أربعة أعوام (حتى اليوم) تلحقه بداية «سفر» جديد لهذا الشعب يتمثّل بالشتات وانقسام المجتمع السوري، لا تبعاً لطوائف ولا لمناطق، بل تبعاً للتجمّعات التي لجأ إليها السوريون خارج الوطن. وهذا أسوأ ما قد يمرّ به شعب: ديكتاتورية طويلة تليها حرب طويلة تليها شتات قد يطول. وليست تعريفات كسوريي تركيا وسوريي هولندا وسوريي السويد بمزحة راهنة بل تهديد راهن لبنية المجتمع السوري.

الاستجابة لحالة المنفى الجماعي لأغلبية الشعب السوري لا تكون بغير بناء سوريا الفكرة، وهي الأقرب لسوريا التي انطلقت من أجلها الثورة. الحاجة لذلك سياسيّة، كي لا يُترك الوطن مُمزّقاً بين الشكل الذي قد يستمر عليه النظام الديكتاتوري، إن بحكم ذاتي أو بعصابات، وبين الجماعات الداخلة على الخط والساعية لبناء إمارات خاصة بها، وهي كذلك حاجة سوسيولوجيّة تجمع السوريين المشتّتين في منافي هذا العالم على سوريا ينتمون إليها ولا يجدون مانعاً من العودة إليها وإعادة تجميع مجتمعهم فيها، هنا تصبح العودة مطلباً، ويصبح «حق العودة» قضيّةً بحدّ ذاتها ضمن القضيّة الأساس.

دون سوريا الفكرة التي لا يمكن تأسيسها إلا في المنفى، لا يمكن للسوريين تأسيس الدولة الجامعة لكلّ التجمّعات في كلّ أماكن الشتات السوري، هذه مسؤولية العاملين في السياسة والثقافة قبل الآخرين، وهي كذلك مسؤولية الحركات الناشطة في المنافي للحقوق السورية ولدعم الثورة.

لا أحد يعرف ما يمكن أن تكون عليه سوريا الوطن/ الدولة بعد عام أو اثنين أو عشرة من الآن، لكن بالعمل على تأسيس سورية الفكرة/ الوطن/ القضيّة، بما يتفرّع عن ذلك من قضايا فرعيّة كحق العودة وغيرها ضمن الخصوصيّة السورية، يكون المنفى السوري مرحلة ضروريّة للعمل على بناء الدولة القادمة على أسس الفكرة التي أُوجدت في بدايات الثورة، وتطوّرت ونضجت في المنفى، فيكون المنفى صلة الوصل بين الثورة كما انطلقت والدولة التي انطلقت الثورة لأجلها. ويستنفد المنفى دوره بتحوّل الفكرة التي أسّسها إلى الدولة، وهو ما لم يصله الفلسطينيون حتى اليوم.