«خلال عشرين عام لم يكن يفكر إلا بعودته. ولكن ما إن عاد حتى فهم متعجباً أن حياته، جوهر حياته بعينه، كنزه، كان موجوداً خارج إيثاكا، كان موجوداً في العشرين عام من الهيام. وهذا الكنز، فقده، وقد لا يستطيع استرداده إلا بالروي».
ميلان كونديرا، الجهل
كان مقدّراً لهذا النص أن يُكتب بلغة الحبل السري لشخصياته، ولكنهم آثروا في اللحظة الأخيرة أن يستروا آلامهم، خفراً، وراء فصحى كريمة. وكان مقدراً لكل واحد منهم أن ينفرد بقصته تحت عنوان عريض يخصه وحده، إلا أن مشاعرهم اختلطت وتلاقت في أكثر من مكان حتى أصبحت سرداً واحداً، وهم يعتذرون منكم إن اختلط عليكم الأمر بين «نحن»، «أنا»،«هو»،«هي».
لا تكترث نفوس الأفراد بالتصنيفات: «أحداث» «ثورة» «صراع مسلح» «حرب أهلية»، قد تكترث العقول ولكن ليس الأمزجة. الأفراد عكس المؤرخين، لا يرون موجات تاريخية جانحة نحو الاستقرار، هم يهتزون وحسب، مع الموجات، وقد يتحطمون، حطام شظايا.
الحدث الجمعي السوري قَطعٌ، قَطعٌ عنيف مع الماضي السياسي، ولكنه وَصلٌ، وَصلٌ عنيف وعميق مع تاريخ كل فرد. هذا ما يقوله مواطنيّ مغفلي الهوية، وأحياناً دون أن يقولوه. كان المنفى الفرصةَ ليملأوا أسطراً بقيت بيضاء. دفنت في لحظة ثم انبثقت من جديد.
سوريون غادروا سوريتهم في نفس العام الذي غادرتُ فيه، 2014، لأسباب مختلفة ومن خلفيات وأعمار وسير مختلفة. أمضوا أربعة أعوام في ظل حرب النظام السوري على بلدهم، دفعوا أثماناً متفاوتة، من الفقد، فقد الأحبة، إلى الخسارات المادية المتباينة، إلى الإصابات الجسدية، إلى معاينة وملامسة الأهوال و«الكيماوي» والمجازر الجماعية عن كثب. إلا أنهم اشتركوا جميعاً في لحظة المنفى والخروج من البلد بعنصر صغير، اختلط عليهم شيئاً ما. ما تطلبته آلاف السنين البشرية للفصل بين الحياة والموت أصبح وصلاً من جديد، لم تعد الأماكن قابلة للعيش دون موت، فُقِد المعنى بفقدان التضاد، وأضحى المسعى مسعىً نحو الموت. وأصبح الابتعاد عن الموت المشهدي غياباً، غياباً صعباً على عدة مستويات، رعباً من أن تنقطع لُحمة الألم مع أحبة تركوهم هناك فلا يعودون يتعرفون عليهم، يحكونها بمفردات قاصرة أحياناً. نُزعوا من تواطؤ الألم والشهادة على الموت. هو الهلع ألا يستطيعوا الانضمام إليهم يوماً ما، لأنهم قطعوا مصفوفة الألم المعرِّفة لهم وغابوا. سيستذكر الأحبة الباقون لحظات صنعت جماعة، المغادرون ليسوا منها. حين يرجعون هل سيجدون أماكنهم القديمة تنتظرهم؟ ورعب ألا يعودوا يتمكنون من تعريف أنفسهم بأي شيء آخر خارج الموت، الجسد يتشظى هنا، ليس كما هناك، هنا يتشظى دون وقع وزخم ولون أحمر، يتشظى إلى فراغ، دون ذاكرة، أو لنقل دون تلك الذاكرة المؤلمة المشتهاة.
كل منهم تعامل مع الألم بفرديته الخاصة جداً. منهم من اختار الانتحاب ومنهم من اختار عدم الرؤية، رؤية الكارثة، في تحقير مستمر للمنتحِب اليائس، وحضٍّ إرادويٍ قاسٍ على «الأمل»، ولكن الجميع أجمعوا في الفترة الأولى من منفاهم أن العيش الوحيد الممكن هو العيش هناك، تحت سقف الموت. كلهم متواطئون مع الجلاد. لم يعودوا يقبلون إلا أن يكونوا ضحايا نموذجيين كما يريدنا هو. لم يشعر الجلاد كفاية بالذنب، فقرروا أن يأخذوا عنه جزءاً من الحمل الثقيل. الجميع في قصتي يشعرون بالذنب لأنهم لم يموتوا بالقدر الكافي. كل ما هو فوق خطر الموت بميلمتر واحد غير مقبول للعيش.
أصبحت أبي فجأة
(…) خرجنا من سوريا إلى لبنان ولم أكن قد أكملت سنتي الثانية في الجامعة، حين قررت مغادرة لبنان إلى فرنسا سألت والدي عن رأيه فيما انتويته، والدي الستيني الذي كان مثالي الأعلى ورمزي، قال لي: افعل ما تراه مناسباً…حزّ في نفسي عميقاً، الآن يقول لأخوتي عند كل محّك وقرار: اسألوا أخاكم… أنا العشريني.
قرابين
(…) يقولون المنفى هو إعادة تعريف للوطن، لغة ثانية تقصينا عن اللغة الأولى لنتمثلها مرة أخرى، فقد وخسارة ضروريان لإعادة تشكيل الهوية الأولى؟ لم أعد أذكر. كان السؤالان الهوسيان للأيام الأولى: في أي لحظة بعينها قررتُ الرحيل؟ ولماذا؟ قوة جابذة كانت تدفعني نحو الموت. لماذا غادرت؟ كان الأولاد والمستقبل وإنقاذ حياة وحياتين وأربع، كلها تفاصيل باهتة مغشّاة، لم أعد أراها. في النهاية أنا لم أكن أواجه خطراً محدقاً في دمشق. غادرت كنوع من الخيار السياسي ألا أبقى في تلك الفصامية، حين لا تتمكن من المغادرة إلى المناطق المحررة أنت عملياً في حماية النظام. لم أرضَ أن أبقى في اللاتعريف. كانت مشكلة هوية بالنهاية. أنا لم أكن أنتمي لأي مكان، لا المحرر ولا دمشق النظام. من التعابير النزيهة التي كنت أقرأها في بداية الثورة ولا أعيها تماماً: «منحاز للثورة». أنا من المنحازين. لئيم هذا التعبير، هو يعني ضمناً أنك لست الثورة. ومتى تصبح في الثورة وليس فقط منحازاً؟ ميتاً. الآن أستحضر قسراً هذه الجمل لأني نسيت لماذا غادرت. بدأ فقدان الذاكرة مبكراً جداً في تجربتي الخاصة في الهجرة والمنفى. منتهى الخسارات هو فقدان الذاكرة. إدمان الذاكرة ومعاداة الزمن. حسناً فلأُعِد جرد الذكريات، عليها ألا تغيب أو تتسلل مثلما تتسلل بقية حياتي من بين أصابعي. أعيدُها مثل راعٍ فزع على خرافه. مرهقة حراسة متحف الذاكرة، وكلما تشبثت أكثر بملاحقة الأشباح كلما فرَّت مني.. لتباغتني غفلة… دون شكل، سيّالات تسري في الأطراف، خدر في الرأس … درجة الضياء عصراً والحرارة دمشقية … يرافقها صوت أذان من مكان ما في مدينة لا تقيم الأذان … تفاصيل كفيلة باستجلاب ذلك الجسد من تلك الذاكرة. المعركة للحد من الخسائر عند الخروج من البلد خاسرة. حين تتلكأ ابنتي بالتلفظ بكلمة عربية واحدة، أشعر أن شيئاً ما بداخلي يتداعى، تنسل البقية الباقية من بين أصابعي. «ما حلّها… ترك البلد يومين، رجع يسأل طريق النهر وين؟!» ليست المسألة مسألة هوية أو وطنية. هي إدراك لحجم الخسائر وحسب. حين تشعر أنه لم يتبق لك إلا اللغة فأنت لا تنهار بسبب حرصك على اللغة، في الحقيقة أنت تحسب ما خسرته فعلياً ما عدا اللغة، المفاضلة ليست بصالحك بأية حال. يتداعى داخلي كذلك من فكرة اللاعودة، أتنبه لكل ما يقال عن سير المهاجرين في العالم وقصص شتاتهم، أي جيل يعود؟ بقيت فصلاً دراسياً كاملاً أناقش مع الطلاب مسائل لغوية فيما يستعصي على الترجمة…في نهاية كل نقاش كانوا يقولون لي: حسناً، الآن قولي لنا اقتراحك! لم أنجح مرة واحدة في إعطاء اقتراحات، أناور وأقنعهم أن عرضي المسألة كان من باب تعريفهم بالتحديات النظرية. ما كان يمكنني اقتراحه كمعادل للخسارة؟ حين خرج أبي من السجن لم يخرج كله. هناك جزء منه لم يعد، ونحن قد لا نعود، مثل ذاك الجزء.
باريس… ما الذي يدفع المشرد إلى التهاوي؟ تلك الرائحة. سكنتني رائحة المشردين طوال شهور. الشمّ أقدم من السمع ومن البصر، هكذا قالت لي تلك المرأة. الرائحة هي الانحناء الأول نحو الأرض، قبل الكرامة العامودية والانتصاب، الأم والحاجات الأولى ورائحة ورق التين في مناخ جاف في بيت جدتي القديم في القرية… الرائحة… طوال الشهور الأولى من منفاي كنت أحلم بأني منبوذة بسبب رائحتي، كنت أرى نفسي في المنام أتغوط عارية وسط الناس وتنبعث الرائحة… قبل ثلاثين عاماً كان أبي ورفاقه يتكدّسون، لواحدهم سبعون سنتيمتراً في سجن قديم وسط دمشق القديمة. لا بد أن الرائحة كانت طاغية في ذلك المكان. متى يستسلم المشرّد لتهاويه؟ هل بلغ في فهمه شيئاً لم نفهمه بعد؟ كان ينبغي أن أتهاوى لو قُدِّرَ لي… منذ بداية الثورة بقي أبي فزعاً قلقاً من فكرة أن أُعتقل… «إنتي مو خرج سجون، ما بتتحملي»! مين خرج سجون؟ من يستطيع تحمل كل ذلك الشيء؟ كان ينبغي أن أحتمل لو قُدّر لي. ولكني استنكفت ولم أبق. أحدّق في بطانية المتشرد… شتاء 2013، كانت فاتنة تحدّق في البطانية جلد النمر التي تغطيها هي وأولادها، وتتساءل: «هل تؤكل هذه البطانية؟ لم يعد هناك شيء قابل للأكل في المخيم كله.» … متى يسمح المرء لنفسه بالانهيار؟
حجمي لا يناسب محيطي، مثل جمل، مثل «جولفر» في بلاد الأقزام. نحن شديدو الغرابة، كيف سيفهموننا؟… هذه الأرضيات الخشبية غير ثابتة، لا بد أنها تزيد من غرابتنا. البيوت صغيرة وليست أحجامنا الغريبة هي السبب… أعصابنا لا تتحمل كل هذا الضجيج، أو اللاضجيج.
حين وصل عدنان إلى باريس، استفقت مذهولة على هول الفجيعة التي نحن فيها. انطلقت الثورة ولم يكن يتجاوز الثانية والعشرين وخرج من سوريا بعمر السادسة والعشرين. خلال الأربع سنوات، اختبرَ كل شيء. الاعتقال، الملاحقة، الحصار في دوما، الضربة الكيماوية، البراميل، الصواريخ، المقابر الجماعية بعد الكيماوي، الأشلاء بعد البراميل. يبتسم ثم يضحك راوياً: «في نيسان 2011 هبت ملامسة جثمان الشهيد الأول في دوما الذي شيّع من الجامع الكبير في المدينة. بعد البراميل، لم تعد الأشلاء تعني شيئاً بالنسبة لي، المهم أي رأس مع أي ساقين، ودفن سريع ولملمة النتف وطمرها تجنباً للأمراض والروائح.» أتململ من ضحكاته غير المناسبة لسرده. حسناً حسناً، يضحك كي لا ينتحر. أعرف. يتابع بغضب مفاجئ بعد الضحكات: «القصف والطائرات والقذائف والصواريخ والبراميل ليست بذات أهمية. هي فعلاً لا شيء، لا تشعرين بها مع الوقت. الرعب الحقيقي هو الخروج من دوما والتعرض للحواجز»… صمت ثم ضحك مرة أخرى. لا أشاركه الضحك. «ألا ينبغي أن ترى اختصاصياً نفسياً؟» أسأل. «أتريدينني أن أنوح؟ أنا بكل الأحوال أفضل حالاً مما كنت عليه قبل 2011، على الأقل، هذه الثورة فتحت باب الأمل لنتكلم، قبل 2011 لم يكن لدي أمل بأي شيء، الآن مازال كل شيء ممكناً. لماذا خرجتِ من البلد إن لم تكوني على مستوى الموقف؟ أتريدينني أن أنوح؟ الكثير ممن يحصلون على حق اللجوء في أوربا والعالم لم يدفعوا أي ثمن في الداخل، لم يتعرضوا لأي أذى». «وهل حق اللجوء وسام شرف يتقلده المستحقون؟» «سيبقى كل شيء على حاله، في الماضي كان معاش والدي 1500 ل.س وكانت كل الأبواب مسدودة، لم نكن ننتمي لأحزاب معارضة أو موالية، كنا ندفع الثمن. والآن مازلنا ندفع الثمن… عليّ أن أعمل دون توقف لتأمين مصادر للداخل المحاصر، هذا المبرر الأخلاقي الوحيد لبقائي هنا.» تعبير «مبرر أخلاقي» يكاد يتكرر عشرات المرات في جلسة واحدة مع عدنان. يحتاج مبرراً أخلاقياً كي يبقى على قيد الحياة. نتذكر معاً صديقا مشتركاً اعتُقل عدة مرات خلال الثورة، ودفع ثمناً لاعتقاله الأخير عطباً دائماً في جسده. «طلبت منه في أكثر من مناسبة أن يلتحق بنا داخل الغوطة، كنا بحاجته هناك، لم يستجب … تحجج بوجوب بقائه في دمشق لأسباب سياسية ونضالية. ألم أقل لكِ أن لا أحداً مستعد لدفع الثمن؟!» أحاول أن أعد مرات توارد «ثمن»، أهي أكثر أم «مبرر أخلاقي»؟ ثم أشرد في فجيعتنا، وأستذكرُ نص سعيد البطل عن ناس داخل الحصار وناس خارج الحصار، وأتفكر في حالي، أنا «المنحازة للثورة»، وبـ«واحد، واحد، واحد/ الشعب السوري واحد!» وبذلك المساء الخريفي البعيد الذي فشلت فيه أن أركض إلى درج عمارتنا لأحذر أبي من خطر الاعتقال… فشلت في إصلاح الأضرار، فشلت في منع أمي وأبي من أن يصبحا قرباناً، ولم أصبح أنا نفسي قرباناً كما يجدر بي.
ناجي
(…) المنفى هو غدر الدموع، تنهال دون تخطيط ودون تحّسب. حين قبضت موظفة قسم الشرطة على كفي كي تتحكم ببصمتي على الأوراق انهالت دموعي. البصمة هي الموافقة الأقوى والأكثر رمزية على عبارة «statless» في جواز مروري إلى هنا. منفاي أصعب وأكثر تعقيداً. أنا كفلسطيني منفي من المنفى السوري، عليَّ أن أعيد تعريف ما نفيت منه. لا أشعر سوى أن سوريا هي بلدي، ولكن الثورة كانت منعطفاً صعباً على مستوى الهوية، أسئلة من قبيل: «أنت فلسطيني ومع الثورة؟ معنا؟ ممتاز!» «أنت فلسطيني؟ خليكم ملهيين بحالكم» كانت جرحاً. كنت أحدس منذ البداية بأني سأخسر سوريا… «من قتلت عاشقاً مارقاً فلها سدرة المنتهى». الآن هناك من يحاول التسويق للموضوع أو ينجر وراء مقولات ممجوجة من قبيل: «مصير الفلسطينيين السوريين الخروج». إن كان باستطاعة العالم أن يوّطن ست مائة ألف لاجئ فلسطيني خارج سوريا، فبإمكانه حتماً إعادتهم إلى فلسطين.
حين أصبت في عام 2012، حملني أحد عشر صديقاً إلى المشفى. اليوم لم يبق منهم سوى أربعة، السبعة الآخرون إما استشهدوا أو اعتقلوا ويواجهون خطر الموت في السجون. الأصدقاء كانوا دوماً ناظم تقدمي في الحياة. أرجع إليهم لأدرك أني أتقدم، نظرتهم تطمئنني أنني في طريقي. اليوم، أنا دون نقاط علام. بعد اغتيال نبيل في المخيم الخريف الماضي لا أعرف من أجل من عليَّ أن أسير في درب الحياة. نبيل صديق الطفولة. كنت أظن أن مشكلتي مع موتهم ستكون المستقبل وحسب، مع من سأشيخ؟ في الحقيقة مشكلتي هي الماضي… كيف سأحيا مع كل تلك الذكريات؟ كل المعاني والانتصارات لا تعادل الخسارة، أتحايل على نفسي لأتجنب الخسارات ولكن الذكريات تباغتني في كل لحظة. كل مشهد، كل تفصيل، أحيله لمقابله هناك. الحافلة، الشارع، الناس. الشجر. كنت أعرف أي الأشجار قُلّمت في شارع بيروت مقابل كلية الحقوق وأنا شبه مغمض العينين.
في سوريا كنت أتلاعب باللغة وأصوغ قواعدها على هواي، وكنت أُنظّر لتلاعبي ذاك. الآن أنا خاضع. أخاف من أبسط قواعد اللغة الفرنسية. كيف للفرنسي أن يعرف من خلال فرنسيتي أني كنت قيادياً في مجتمعي؟ كنت استثمر بالشباب. مدرساً ومدرباً وناشطاً. من استثمرت المستقبل بهم استشهدوا. كيف لهم أن يعرفوا؟ وكيف لي أن أتقدم، ولماذا؟ ربما لأستحق أن أضع ورداً على قبور أحبابي هؤلاء يوماً ما في مقبرة مخيم اليرموك؟.
انعدام وزن
(…) مشكلتي هنا أن الذكريات تبقى في القشرة الدماغية دون أن تلج أبعد. أرى مشهداً، يبقى مشهداً، لا يترافق مع دقات قلب أو تعرق أو رائحة. هذه ليست ذاكرة. ربما لهذا لم أعد أحتمل صوتي. لم أعد أفضل الكلام، أكتب للناس الضروري للتواصل على هواتفهم وأتجنب الاستفاضة صوتاً.
أنا هنا غير معرّفة، ليس أني تساويت مع الجميع في إغفال كل خصوصية وحسب، ولكني مبتورة من إشارات وطقوس كنت أتقنها وأجيد التحرك ضمنها، غرابتي وغرابة اللغة وقلة حيلتي وضيق هامش تحركي، كلها أشياء تجعلني «مشلوعة» مرتين، أنا التي كان بوسعي مساعدة عشرات العائلات في سوريا في يوم واحد بسبب طبيعة عملي. الآن عليّ أن أتلقى التوجيهات والمساعدات ورحمة من يترجم لي. لا يهم. أستحق أكثر من ذلك وأنتظره. أستحق أن أكون في الشارع لأني خرجت من سوريا. قبل خروجي كنا نناقش فكرة خروج العائلة ككل، كان رد أبي الوحيد: «نحن خرجنا مرة واحدة من فلسطين باتجاه سوريا، نعرف معنى الخروج ولن نخرج مرة أخرى من بيوتنا إلا إلى القبر». أفهمه تماماً.
لم أستطع الاعتراف بشرطي كلاجئة من حرب إلا بعد أشهر على تواجدي هنا. في البداية، استثمرت كل جهدي وأموالي المدّخرة في سبيل تجنب مواجهة هذه الحقيقة، في سبيل عدم الوقوع في دوائر منظومة تقبض على شعرك وتضع أنفك مقابل لصاقة «أنت لاجئ». لم أستطع. هنا، كأجنبي لا يمكنك ولوج الحياة الطبيعية بسرعة، مهما بلغ مستوى شهاداتك أو مهما كنت محصناً مادياً. لن يقبل أحد أن يؤجرك مسكناً، فعليك بالتالي أن تنتظر الدولة لتخصصك بسكن اجتماعي كلاجئ. في كل المعاملات الإدارية التي حاولت إنجازها لوحدي كنت أصطدم بالسدود في كل مرة، يفهمونك أنه لا يمكنك التوصل إلى نتيجة ما بسبب تواضع لغتك، وأنه عليك الاعتماد على المرشد الاجتماعي أو المؤسسات والجمعيات التي تدير أمور اللاجئين. في هذه الدوائر يعتمد كل شيء على مزاج الأشخاص القائمين وتفاعلهم معك. في النهاية ألا يقولون أن جزء كبير من مشاكل الجيل الثاني من المهاجرين المغاربة إلى فرنسا كان اعتماد العائلة الكلّي على البنى الاجتماعية التي سحبت رمزية سلطة الآباء العاجزين أمام أولادهم؟ لا أريد لأولادي أن يعيشوا هذه التجربة. أنا كنت شخصية مهمة في بلدي ومجتمعي. كنت أتحكم بكل عناصر حياتي. اليوم أهلع لكل تفصيل بشكل مرضي. أخاف من ألا يتقن الأولاد اللغة بسرعة، أخاف أن يضيعوا في النظام المدرسي الجديد، أخاف أن يتعرضوا لاضطهاد ما بسبب أصولهم، أخاف ألا يتأقلموا مع النظام الغذائي، أهلع لفكرة أن يتهاووا ضمن منظومة دراسية متسيبة، أعرف تماماً أن مخاوفي لا أساس لها أحياناً، ولكن قلقي آتٍ من شعوري أني لم أعد مسيطرة على شيء، في حالة انعدام جاذبية تامة.
غريب تمثلي للزمن، أريد أن تمضي كل الصعوبات، صعوبات التأسيس في مكان جديد بأقصى سرعة، بساعات… كان أبي يردد لنا أنهم لم يصبحوا بني-آدمين إلا في اللحظة التي خرجوا فيها من نظام المساعدات والأونروا، واستقلوا وبنوا حياتهم في دمشق. يبدو أني حاولت أن أختصر تلك المدة، قبل نحو سبعة وستين عاماً، بمفعول رجعي. ألهث متسابقة مع الزمن لدرجة وتَّرت كل من حولي. لا أتحمل السكون. على الجميع أن يكون في حركة دائمة مثل خلية نحل. أدرس اللغة وأسعى لتعديل دراستي وأتابع معاملاتي الإدارية وأتابع الأولاد. ماذا أريد أن أثبت؟ لمن؟ لا أعرف، ولكنها الطريقة الوحيدة التي تربطني بالمستقبل.
ما حدث في بلدنا جعلنا مثل الحيوانات المستشعرة للزلازل، نشعر بما لا يشعر به الآخرون. في الأيام الأولى لوصولي، كنت أحدق في الكارثة بكل وضوح. كارثة «لافوازييه»، كيف يمكن أن يتراكم ذاك القدر من العنف في بقعة مثل سوريا ينجو منها العالم الباقي؟ كيف؟ لا يمكن. هل كانوا يتوقعون ألا يتلطخوا برذاذ الدم القادم من هناك؟ بعد حادثة شارلي إيبدو شعرت أن واحداً من الأشياء عاد أخيراً إلى نصابه الطبيعي، أخيراً شيء من الموت.
تقول بينار سيليك في كتيب صغير عن المنفى أنها قبل المنفى الإجباري، عندما كانت في موطنها، في اسطنبول، كانت تردد دائماً مقولة فيرجينا وولف: «أنا امرأة، أنا لا وطن لي، أنا العالم كله وطني» وكانت تُعوِّدُ نفسها على أن تصنع من كثير من الأماكن بيتها الحميمي، وأن طبيعة نضالاتها الاجتماعية جعلتها تتعود المشي في الشوارع، ولكنها عندما ذاقت المنفى اختلف الأمر عليها، لم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق. قاومت بمحاولتها فتح النوافذ والأبواب لتوسيع موطنها لتتيح لرياح أخرى الولوج إلى بيتها وروحها. هل سأستطيع، أنا، أن أفتح أبواباً ونوافذ لرياح أخرى؟ لا أعرف، حالياً أعرف فقط أني سأكبّر أولادي بأقصى سرعة كي أستطيع العودة.
هنا وهناك
(…) ماذا تريدينني أن أقول؟ طوال حياتي لم أعتد على قول وفعل أشياء ظاهرة تفقأ عيون الآخرين… بكاء وصمت… أنا أكره من يقول ويفعل أشياء تفقأ عيون الآخرين. سأقول لك فقط توكلي على الله وسلّمي أمرك له، انظري! هذه الشمس هي ذاتها التي تشرق هناك.