كتب ياسين الحاج صالح مشكوراً مقالاً في موقع «الجمهورية» بعنوان «تحديق في وجه الفظيع»، أدلى فيه بآراء ومواقف بخصوص الكيفية التي يجري فيها التعامل مع ما أسماه «صور الأجساد المحطمة أو المحروقة، والأشلاء وفيديوهات التعذيب ومشاهد القتل».

هنا مشاركة بسيطة وردٌّ نقدي على مقال ياسين، الذي أراده بمثابة إثارة لنقاش واسع حول الصور، صورنا، وهذا كل ما أتمناه بالفعل.

الأجساد المحطمة والمكسرة في جلسات التعذيب، الجثث المقطعة والمشوهة والممثل بها، هذه الأجساد والجثث السورية التي يطالب بعضنا بضرورة عرضها والتفرج عليها وإمعان النظر فيها ونشرها على الملأ، لم تكن ولن تكون، لا في الحياة ولا في الممات، «جسداً جماعياً» كما يفترض ياسين عندما يدعونا إلى «إنعام» النظر فيها، قائلاً أن «الأجساد جسدنا المشترك وجسد بلدنا المشترك».

هذه الأجساد هي، أولاً وقبل أي شيء آخر، أجساد لأفراد سوريين لهم أسماؤهم وكرامتهم الإنسانية، ولهم كذلك عوائل وحكايا وحقوق. وإليهم ولذويهم فقط يعود بدايةً أمر تقرير مصير صور أجسادهم.

من هنا البداية وهنا المآل، واستناداً لهذا، سأكتفي بالرد على القضايا التي أثارها ياسين في مقاربته لهذا الموضوع الشائك، من خلال إيراد بعض النقاط البسيطة التالية:

ـ ما الفائدة والجدوى والهدف المرتجى من نشر وتعميم صور ومقاطع الفيديو هذه، والتي نميز من خلالها وجوه وهويات من تنتهك حرمة أجسادهم؟ وأشدد هنا على فكرة إمكانية التعرف على هويات الاشخاص من خلال هذه الصور. لقد نشرنا ولا نزال ننشر منذ بداية الثورة صور موتنا وتعذيبنا وقتلنا، فهل غيرت أو ستغير هذه الطريقة في تداول واستهلاك الصور شيئاً كبيراً في مسلسل الموت السوري، وفي طريقة تعامل السوريين معه، أو في تعامل العالم معه؟

من جهتي لا أعترض بالمطلق على تصوير وتوثيق الموت والبشاعة والفظاعة والمجازر، ومن واجب وسائل الإعلام ومن واجب المشتغلين بالثقافة وبالصورة التعامل مع هذه المواد، وإطلاع الرأي العام على هول وفداحة ما يجري وفقاً لمحددات مهنية معينة، بعيداً عن الفرجة والاستعراض، ومن دون انتهاك لحرمة وخصوصية الإنسان الفرد وحقه في التصرف بصورته.  أما عندما يتعلق الأمر بصور لأشخاص محددي الهوية، فالمكان الأول والأمثل لهذه الصور هو في المحاكم، وفي لجان توثيق الجرائم وفي مواد أي أرشيف وطني.

ـ لكل إنسان الحق، ضمن حدود القانون في الدول التي تحترم حقوق مواطنيها، في أن ينشر ما يريد من صوره الشخصية ومن مقاطع الفيديو التي تخصه على الملأ. لكن، كيف نعطي لأنفسنا الحق بأن ننشر صور ومقاطع فيديو لأناس وبشر مأخوذة رغماً عنهم، وفي أوضاع يندى لها الجبين، ومن دون أن نكلف أنفسنا حتى سؤالهم إذنهم؟ من أعطانا هذا الحق، وكيف، ولماذا؟

هل هو الابداع؟ الفن؟ الثقافة؟ الهدف النبيل؟ الثورة؟ السلطة؟ وهل يمكن لأي من هذا كله أن يلغي وينتهك حق الإنسان في منع نشر وتداول صوره على الملأ؟

كيف يمكننا إقناع أم أو أخت أو زوجة أو ابن، أنه يحق للبعض أن ينشر على الملأ صورة ابنهم المعذب أو الميت والممثل بجثته، من دون حتى سؤالهم عن رأيهم؟ كيف نسمح لأنفسنا بهذا، وبأي حق، ووفقاً لأي مبدأ إنساني أو شريعة سماوية أو تشريع وضعي أو منطق سليم أو فن رفيع؟

 مظفر سلمان
مظفر سلمان

ـ يتصور البعض أن حرية الرأي والتعبير والإبداع لدى المثقف أو الفنان لا يمكن  أن تحدّها أي من القيود أو الحدود، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالحياء العام أو بالقيود الأخلاقية أو الدينية أو السياسية. لكن ما يتناساه أصحاب هذا المنطق أن هذه الحريات يحدها في أكثر دول العالم ديموقراطية، حدود وقيود تتعلق بحقوق الفرد الشخصية وبحرمة حياته الخاصه وبحرمة جسده وحرمة موته وحرمة صوره.

ترى ما الذي  يدفعنا الى الاحتفاء بالقيم الديمقراطية عندما يتعلق الأمر بحرية الرأي والابداع؟ ولماذا نتناسى ذات القيم وذات المبادئ عندما يتعلق الأمر بحقوق الأفراد وبخصوصياتهم؟

– للأسف فإن أغلب صور التعذيب والتشنيع بأجساد السوريين تنشر في العالم الغربي، وتستهلك هناك من دون أدنى مساءلة، على العكس من صور الغربيين أنفسهم، التي تحميها القوانين والأنظمة المرعية في تلك الدول، كما هو الحال مع ضحايا 11 أيلول!

كيف، ولماذا نرضى ونساهم بإرادتنا في أن يُعامل السوريون في هذا العالم كمواطنين من الدرجة الثانية؟ فلو كانت هذه الصور ومقاطع الفيديو تخص مواطنين يحملون جنسية دولة قانون تحترم حقوق مواطنيها فسيكون هناك استحالة في نشرها!

يعرف القائمون على نشر صور التعذيب والموت السوري في الدول الغربية، من «رجال بيض» أو سوريين، أنه لو كان هناك أوربيٌ أو أمريكيٌ واحدٌ مصورٌ كضحية في جلسات التعذيب المصورة والمعممة، لاستحال نشر مثل هكذا صور ومقاطع فيديو، لأن القوانين المرعية في هذه الدول ستطالهم في حال رفع صاحب الصور (وهو سيفعل) دعوى ضدهم، هذا ناهيك عن دعوى الحق العام.

قد تكون الحدود انمحت ولم يبق من معنى للداخل والخارج! لكن بدلاً من القول بمشاعية الصورة السورية، لماذا لا ندافع عن حقها وحق الصورة الراوندية والصورة البوسنية والصورة العراقية والصورة الصومالية في أن تعامل من قبلنا وفي بلادنا، وفي أن تعامل في بلدان العالم الغربي كذلك، كما تعامل صور الضحايا الغربيين؟

ـ يعتقد البعض أن الطلب من الإنسان السوري المعذب والمنتهكة حرمة جسده، موافقته على نشر صوره، قد تكون مسألة مطروحة في أوضاع سياسية عادية قائمة على احترام حقوق الإنسان، أما في الوضع السوري الراهن  حيث تسود حالة الاستثناء والعنف المعمم وغياب أية ضوابط قانونية او دستورية، فإن هناك شبه استحالة في الحصول على موافقة الضحية أو أهلها، وعليه فإنه لا يبقى أمامنا في مثل هذه الحالة سوى النظر في وجه موتنا والتحديق فيه ملياً وطويلاً. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا تحديداً هو، ألا تفرض وتتطلب منا بالضبط حال السوريين الاستثنائيه هذه، أن نكون أكثر تطلباً وحرصاً على احترام كرامة السوريين واحترام حقهم في امتلاك حق التصرف بصورهم، بدلاً من أن نمعن في انتهاك حرمة أجسادهم وحرمة خصوصياتهم وحرمة صورهم ؟

ـ أليس التحديق وإمعان التحديق في وجه الفظيع والأفظع، هو ما أرادته لنا داعش في مسرحتها الممنهجة والمصورة للموت السوري. هل علينا هنا أيضاً، وفي مواجهة داعش، أن نحدق في وجوه وعيون رؤوس السوريين التي قطعتها داعش وعلقتها على أسوار الحدائق العامة في مدينة الرقة، وتركتها لأيام مشاعاً لأعين المارة الرقاويين شيباً وشباباً؟ هل علينا لكي نهضم الفظيع أن نحملق في حرق الإنسان في قفص أو أن ننعم النظر في أجساد السوريين المصلوبة على ناصيات الطرق العامة؟

ـ يفترض ياسين بخصوص صور التعذيب أن «معظم عمال الثقافة كانوا محميين شخصياً من هذا الهول، فلا أقل من أن يعاينوه مصوراً ويحفظوا الأجساد المحطمة في أرشيفات أجسادهم هم».

لكن ياسين أول من يعرف كم من مثقفينا سجنهم نظام الأسد في الماضي وعذبهم وانتهك حرمة أجسادهم. من هنا، وبدلاً من أن نطلب من هؤلاء المثقفين التمعُّنَ بصور هذا الهول والأجساد المحطمة، أليس من الأجدى أن نسألهم: ترى هل يقبلون هم، مهما كان الهدف نبيلاً، أن تنشر صور جلسات تعذيبهم على الملأ، ومن دون مشورتهم وإذنهم؟

يفرق ياسين محقاً بين «الوقوف في موقف المتفرجين، مستهلكي الصور والنصوص والخطابات عن الانتهاك والتحطيم، وليس بحال موقف من وقع عليهم الانتهاك والتحطيم، وهو الموقع الذي يجدر كفاعلين عامين بنا تقمصه، وجعله تجربة عامة».

لكنه لا يلبث أن يضيف مبرراً ضرورة مشاهدة واقعة الانتهاك الجنسي لولد سوري لنتقمص معاناته! قائلاً الآتي:

«هل الانتهاك الجنسي للولد يذله؟ طبعاً، ليس هناك سؤال في هذا الخصوص. لكننا بتقمصه واعتبار أنفسنا مغتصبين مثله، ندافع عن كرامته، ونقلب الإذلال إلى فعل تمرد وصناعة للفن والقيم، وهو ما ليس ممكناً دون أن نشاهد الواقعة الإجرامية وندخل في المشهد».

من هنا تحديداً سأسمح لنفسي، في الختام، أن أقول مستخدماً مصطلحات ياسين ذاتها، أن لا انهيار النظام الثقافي العام، ولا دخول حالة الاستثنائية، ولا دمار الشرعية، ولا افتقاد المعايير التي تحدد ما هو السلوك الصحيح والخيار الأنسب، يمكن لها أن تسمح لمن يسميهم ياسين بالفاعلين العامين، تحت أي حجة كانت، حتى لو كانت صناعة الفن والقيم، أن يشاهدوا وينشروا ويروجوا لمشاهد الانتهاك الجنسي لولد سوري لم يبلغ سن الرشد.

يقول ياسين أن «أول مسؤولية هذا الجيل أن يضع عينه في عين الفظيع، وأن يقول: أنا من فعلت ذلك!».

ومن بين أبشع ما فعله بعض  أبناء هذا الجيل، وفي أحيان كثيرة بنية حسنة، هو أنه  أجاز لنفسه أن يستخدم ويروج وينشر صور انتهاك كرامة الإنسان السوري من دون إذنه أو موافقته.