لا يبدو أن ثمة منتصرين في الحرب الدائرة على الأراضي السورية، يتهاوى نظام الأسد وتتآكل دولته أكثر فأكثر، ويفشل الثوار السوريون في إنجاز أي من أهدافهم المعلنة حتى الآن، كذلك يفشل السلفيون الجهاديون ودعاة الخلافة الإسلامية في تحقيق ما يرمون إليه، ويعاني مشروعهم الأبرز، أعني «الدولة الإسلامية»، من مصاعب كبرى لا تبدأ بغارات التحالف الدولي، ولا تنتهي بالتمرد «الإسلامي السني» المتواصل عليه، إذا صحت التسمية.

ولكن إذا كان الجميع أقرب للهزيمة سواء أقروا بذلك أم لا، فإن ثمة وضوحاً وتحديداً نسبياً للأهداف والرؤى لدى نظام الأسد والجماعات قاعدية المنشأ وعلى رأسها داعش والنصرة، فيما يبدو الآخرون فاقدين لأي تحديد واضح للأهداف وكيفية إنجازها، يغرقون بمختلف مشاربهم وارتباطاتهم ومشاريعهم في مستنقع الأفكار الكبير الممتد من حلم الدولة الوطنية الذي حطمه نظام الأسد، إلى حلم الخلافة الإسلامية الذي ترفع رايته داعش.

يعلن نظام الأسد أنه يريد استعادة حكم سوريا كما كان يحكمها طيلة عقود، رافعاً من شأن رموزه وخطابه «الوطني/القومي» الذي يقدم نموذج التعايش بين الطوائف بضمانة قوة السلطة المركزية على حساب نموذج المواطنة، مؤسساً حكمه على علاقات سلطة باطنها سلطاني، وظاهرها جمهوري لا يحمل من الجمهورية إلا اسمها. ويعلن السلفيون أنهم يريدون الحكم بشرع الله، على اختلاف مناهج توظيفهم للنصوص الدينية وتفسيراتها المختلفة في تأسيس السلطة، وإخضاع الناس لها.

الفكرة الجمهورية

قبالة دولة السلالة الأسدية السلطانية المتهالكة، وقبالة طروحات الدولة الإسلامية البائسة التي لا تعد بشيء سوى بالمزيد من الحرب، أطرح هنا على نحو لا لبس فيه ولا مناورة فكرة الجمهورية. وعندما أتحدث عن فكرة الجمهورية، فإنني لا أعني العمل على بناء دولة يحكمها سياسيون منتخبون من قبل السكان، فهذا لا يعدو كونه ابتذالاً لفكرة الجمهورية، ومسخاً لها من فكرة عامة ناظمة للاجتماع السياسي في بلد من البلدان، إلى مجرد نظام انتخابي وإداري يمكن أن يقود إلى تحكم نخب فاشيةٍ بحياة عموم السكان.

تعني الفكرة الجمهورية السعي إلى نظام سياسي تتيح قوانينه ومؤسساته للجمهور امتلاك السياسية، والسير على طريق المزيد من اضطلاع أفراد هذا الجمهور بإدارة حياتهم وثرواتهم. وتعني أيضاً السعي إلى بناء دولة لا تحتكر فيها أي نخبة الحق في مزاولة السياسة والحكم، وتالياً فإن شروط المساواة الحقوقية وانتخاب الهيئات الحاكمة ليست نهاية الجمهورية وغايتها، بل إنها بداية الجمهورية ووسيلتها للسير على طريق المساواة السياسية، وهي لا تعدو كونها شروطاً لازمةً، لكنها غير كافية لبناء الجمهورية.

انطلاقاً من هذا، فإن المساواة الحقوقية هي نقطة الارتكاز التأسيسية في الجمهورية، أو «نابض الجمهورية وفضيلتها السياسية» وفق تعبير مونتيسيكيو، وهي يجب أن تكون مساواة تامة لا تشوبها شائبة ولا يخرقها استثناءٌ صغر أم كبر، لأن كل استثناء في المساواة الدستورية يعني أن ثمة فئة تحوز في النظام الأساسي للدولة حقوقاً أكثر من غيرها، وهو ما يعني نقضاً لأساس الفكرة الجمهورية وجذرها.

لا يكون أي نظام جمهورياً ما لم يساوي في الحقوق والواجبات تماماً بين جميع المواطنين، لا يفرض واحد منهم شريعته الدينية على غيره، ولا يتمتع واحد منهم بحقوق تزيد على حقوق غيره لأية أسباب منشأها الاعتقاد الديني أو السياسي أو المنبت الطائفي أو الإثني أو الجهوي. لكن هذا الطرح على بساطته الظاهرية يحتاج إلى توضيح ودخول إلى التفاصيل التي تسكنها شياطين العقائد والمنابت، وشياطين النص وآليات تطبيقه، ذلك لأن نظام الأسد يدعي أنه جمهوري، ويسمي دولته السلطانية المخيفة «الجمهورية العربية السورية»، وثمة كتاب ومثقفون يعرفون بلا شك أسسَ النظام الجمهوري، لكنهم يعتبرون أن دولة الأسد ليست إلا جمهورية منحرفة ينبغي إصلاحها، ولا شك أن اعتبارهم هذا تقف خلفه دوافع واعتبارات كثيرة للخوض فيها مقام آخر.

كذلك طرحت المعارضة السورية في زمن الثورة وثائق عديدة عن رؤيتها لمستقبل سوريا ما بعد الأسد، وتحفل كثير من الأوراق التي فشلت المعارضة السورية في التوافق على أي منها بالحديث عن المساواة. لكن أياً من الوثائق المعلنة لكتل وتيارات المعارضة لم تدخل في نقاش عمق التناقضات والمشكلات السورية التي حالت ولا تزال تحول دون بناء نظام سياسي سوري يساوي بين محكوميه، ولم تضع أي منها خطة واضحة وقابلة للتطبيق تشرح كيف يمكن إيقاف الحرب، والبدء ببناء دولة المساواة. وجاء فشل كتل وتيارات المعارضة السورية في إنجاز أي شي دليلاً لا يعوزه دليل آخر، على فشل رؤيتها لكيفية بناء «الجمهورية في سوريا».

لا جدال في أن الجمهورية ليست فردوس البشر، ذلك أنه لا فردوس على الأرض ولا جحيم أيضاً، بل ثمة الحياة بعنفها وصراعاتها التي لا تنتهي. ولا جدال أيضاً في أن فكرة الجمهورية ارتبطت في عصور الحداثة بفكرة الدولة القومية، وارتبط بناء كثير من الجمهوريات بصعود أنظمة فاشية ارتكبت ما ارتكبت من أعمال القمع السلطوي بهدف «تقليم أظافر» المجتمعات وإخضاعها، كذلك ارتكبت «جيوشٌ جمهوريةٌ» في طور تأسيس دولها مذابح وأعمال تهجير وإبادة في غير بقعة من العالم. لكن واقع الحال أن الفكرة الجمهورية لا تؤسس دولتها على أساس قومي بالضرورة، كذلك فإن الفكرة الجمهورية لا ترتبط بالضرورة بالنظام الجمهوري المعلن دستورياً، بل لعل كثيراً من الملكيات الدستورية تتيح لعموم السكان الاضطلاع بإدارة شؤونهم أكثر بما لا يقاس من جمهوريات عديدة.

ترتبط فكرة الجمهورية بالنزوع إلى المساواة، لكنها لا ترتبط بالضرورة بالأنظمة الجمهورية السائدة في العالم، والتي يقوِّض بعضها مبدأ المساواة على نحو فاضح من خلال دفاعها المستميت عن التفاوت الاقتصادي الذي يهدر أغلب مضامين المساواة الحقوقية، المساواة الحقوقية التي تعدُّ طريقاً إلزامياً ينبغي عبوره للوصول إلى إنجاز أكبر قدر ممكن من المساواة السياسية، وتالياً من «امتلاك الجمهور للسياسة».

معضلة المساواة

يبدو طرح المساواة الحقوقية طرحاً بسيطاً من وجهة نظر ما، فالبشر يولدون متساوين ويجب على القوانين الدفاع عن هذه المساواة وصيانتها. ولعل هذه تكون معضلة المساواة الكبرى عندما نتحدث عنها في حقل السياسة، ذلك أن تأسيس فكرة المساواة الحقوقية على القول بأن البشر يولدون متساوين هو تأسيس أخلاقي محض، وهو لا يصمد أمام المنظومات الأيديولوجية التي لا تعترف بالمساواة.

سيكون اعتقاد عموم البشر بالمساواة بوصفها قيمة أخلاقية متفقاً عليها مدعاة للبهجة دون شك، وهو اعتقاد أخلاقي يمكن أن يكون رافعة للدفاع الثقافي والسياسي عن فكرة الجمهورية، لكن واقع الحال أن عموم البشر لا يؤمنون بحقوق متساوية لبعضهم بعضاً، أو لنقل على وجه الدقة، إن المنظومات الأخلاقية والأيديولوجية للبشر لا تقر بالمساواة، وثمة دائماً تناقضات إثنية وعرقية ودينية صالحة للاشتغال عليها وتوظيفها في الصراع على السلطة، بل إن ثمة تناقضات يمكن اختلاقها دوماً لتبرير الصراعات وتجنيد المقاتلين.

ثمة أيديولوجيات وعقائد لا حصر لها تعتمد تقسيم البشر إلى جماعات على أسس مختلفة، دينية وقومية وسياسية، وهي إذ تقر بالمساواة، فإنها تمنح هذا الحق لأتباعها حصراً بذريعة الدفاع عن العدالة التي تقتضي أن لا «يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون»، وتقتضي أن لا يستوي العرب والكرد، وأن لا يستوي البيض والسود، وأن لا يستوي المؤمنون بالاشتراكية والمؤمنون باقتصاد السوق، وهكذا إلى آخر قائمة الأفكار والعقائد والأيدولوجيات المتصارعة، التي تصلح في كل مرة للتأسيس عليها في بناء السجون وخوض الحروب وارتكاب المذابح. وليست فكرة الجمهورية في هذا السياق استثناءاً بطبيعة الحال، ذلك أن المساواة التي تطرحها مشروطة بدورها بحمل جنسية الدولة الجمهورية، ومشروطة بالانضباط في قوانين الجمهورية أيضاً.

واقع الحال أنه لا وجود لأيديولوجيات تعترف بحقوق متساوية غير مشروطة لجميع البشر، لكن ما تقدمه الفكرة الجمهورية هو دعوة جميع السكان في بلد من البلدان إلى الإقرار بالمساواة فيما بينهم، ليس لأن المساواة حق مطلق وأصيل لجميع البشر، ذلك أن النقاش حول من يستحق المساواة ومن لا يستحقها نقاش لا قعر له، بل لأن المساواة وسيلة لإحلال السلام وإيقاف الحرب، ومن ثم مواصلة الصراع بأدوات غيرها. ما تقدمه الفكرة الجمهورية في مرحلة تأسيس الدولة هو الإقرار بأنه ينبغي الكف عن الحرب بذريعة تعدد الرؤى حول الطريق إلى العدالة، والاعتراف بأن علينا أن نقر لبعضنا بعضاً بذات الحقوق والواجبات، كي يكون بالإمكان اقتسام السلطة والثروة دون سفك الدماء وتعطيل عجلة الاقتصاد، وكي يكون بالإمكان مواصلة الصراع السرمدي على السلطة والثروة دون عنف ورعب.

الجمهورية في صورتها المثالية، هي حكم الجمهور لنفسه، وإدارة أفراده لشؤونهم من خلال مؤسسات الجمهورية، وكي يحكم الجمهور نفسه فإنه يجب البدء باعتراف أفراده لبعضهم بذات الحقوق والواجبات في النصوص الدستورية والقانونية، ذلك بصرف النظر عن مدى إيمان الأفراد بأحقية هذه المساواة وعدالتها.

وفي سوريا اليوم، سيكون مدعاة للبهجة أن يؤمن السوريون فعلاً بالمساواة فيما بينهم، لكن هذا متعذر في حقيقة الأمر، لأن ثمة علمانيين واٍسلاميين وعرباً وكرداً وعلويين وسنة … وإلى آخر القائمة، وثمة مخاوفهم المتبادلة وعقائدهم الصلبة التي يسهل توظيفها في تجنيد المقاتلين إلى ما لا نهاية. وفي مواجهة الانهيار الشامل في النسيج الاجتماعي السوري الذي حوله سلاح نظام الأسد وخطابه حطاماً، وفي مواجهة تخندق السوريين قبالة بعضهم بعضاً، وانضواء القادرين منهم على حمل السلاح في تشكيلات لا يرفع أي منها شعار المساواة لجميع السوريين، وفي مواجهة فشل المعارضة الوطنية السورية وانعزالها واهترائها، يبدو طرح فكرة الجمهورية في سوريا طرحاً بائساً لا أمل له، يتوسل بعض دعاته تحقيقه من خلال أوهام الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية وجيشها الذي لا يعدو كونه أداة في يد دولة السلالة الأسدية. في حين يتوسل بعض دعاته الآخرين تحقيقه من خلال أوهام الرهان على تدخل عسكريٍ دولي يفرض الجمهورية على عموم السوريين بالقوة، أو من خلال أوهام الرهان على إثمار نشاطات «التبشير» بالمساواة والدولة المدنية على طريقة المنظمات «غير الحكومية» الغربية.

طريقٌ ممكنٌ إلى الجمهورية

لن تفلح محاولات بناء جمهوريةٍ سوريةٍ مركزيةٍ بقوة أي جيش محلياً كان أم أجنبياً، ذلك لأن أي جيش لن يتمكن من إخضاع السوريين لنظام سياسي موحد بعد اليوم، دون ممارسة كمية كبيرة من العنف الدموي، ودون الاعتماد على عصبيات فئوية في الحكم، وهو ما سيعني في حال نجاحه المستبعد، بناء شيء آخر غير الجمهورية في سوريا. لكن ثمة طريقاً ممكناً إلى الجمهورية في «بلادنا»، وإذا لم يكن ثمة طريقٌ فإن على من يطرح الفكرة الجمهورية حلاً أن يفتح طريقاً كهذا، أقله نظرياً.

أقول في «بلادنا» وليس في سوريا، لأن بقاء الدولة السورية بعد هذه الحرب ليس حتمياً، ولأن الدفاع عن بقائها ليس قضيةً في ذاته، إلا بقدر ما يمكن إثبات أن هذا البقاء مفيدٌ لعموم السوريين. وكذلك أقول في «بلادنا» وليس في سوريا، لأن الانحياز الذي تطرحه هذه السطور ليس انحيازاً لفكرة الجمهورية السورية، بل هو انحياز لفكرة الجمهورية، سواء كانت سوريةً أم لم تكن.

لم يكن الطريق إلى بناء السلطة على أساس فكرة الجمهورية في كثير من دول العالم أقل وعورةً ودمويةً من الطريق المأمول إليها في «بلادنا»، كذلك فإن المساواة النظرية الدستورية التي تقرها القوانين في كثير من دول العالم، لم تأتِ وليدة قناعة أخلاقية شاملة بأحقية المساواة، وربما لا تكون مساواة ناجزة في أي دولة في العالم على صعيد التطبيق. لقد هُزم الجمهوريون في إسبانيا شر هزيمة قبل نحو ثمانين عاماً، وحكمت فاشية فرانكو إسبانيا بعدها عقوداً طويلة. ثم عادت الملكية أخيراً، لكن أحداً لا يستطيع القول إن الفكرة الجمهورية هُزمت في إسبانيا، ذلك أن ما تقره القوانين الاسبانية من حرية ومساواة، وما تلتزم أجهزة الدولة الإسبانية باحترامه وصيانته من هذه المساواة، يعني أن الكفاح المتواصل لأجل فكرة الجمهورية قد أنجز كثيراً من أهدافه في تلك البلاد.

كذلك لا ترتبط فكرة الجمهورية بالدولة المركزية على النموذج الفرنسي الذي بهر العالم في عصور الحداثة، بل كان سلوك الطريق إلى الجمهورية مشروطاً بالإقرار بالتنوع الإثني والطائفي، وبالتعبير السياسي عنه في دول كثيرة. وما كانت سويسرا لتكون جمهورية بغير الفدرالية، إذ فشلت الجمهورية السويسرية غير القابلة للتجزئة التي حاولت الجمهورية الفرنسية الأولى دعمها في مطلع القرن التاسع عشر فشلاً ذريعاً. وعلى الرغم من أن حقوق الأفراد التي كان يقرها دستور مشروع الجمهورية السويسرية غير القابلة للتجزئة الذي صيغ وفق مبادئ إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي، لم تكن تختلف في جوهرها عن تلك التي أقرها الدستور السويسري الاتحادي عام 1848، إلا أن إقرار هذه الحقوق كان متعذراً في ظل جمهورية مركزية، وكان ميسوراً في ظل جمهورية اتحادية تم إقرار دستورها على بحر من دماء أبناء المقاطعات السويسرية، الدماء التي سُفكت لأن معضلة المساواة إياها فعلت فعلها في تلك البلاد شديدة التنوع الطائفي والإثني.

تهدف هذه العودة القصيرة إلى التاريخ الذي «لا يعيد نفسه»، إلى القول بأنه ليس هناك طريق معروف باتجاه واحد يمكن سلوكه إلى الجمهورية، وأن الفكرة الجمهورية ليست رهينة بالأشكال الدستورية والإدارية والتنظيمية للدول، بل إن الدفاع عنها والكفاح لأجلها ضروري وممكن بصرف النظر عن قيام دولتها «المثالية» المفترضة. كذلك تهدف إلى القول بأن الكفاح السياسي لأجل المساواة التي هي وسيلة الجمهورية وغايتها في الوقت نفسه، لا يعني التمترس خلف شعارات الرفض المستميت للاعتراف بانقسامات البشر الطائفية والاثنية والجهوية، بل لعل الاعتراف بآثار دستوريةٍ لانقسام سكان إقليمٍ جغرافيٍ ما إلى جماعات «متخيلة»، قد يكون شرطاً لازماً وغير كافٍ لقيام الجمهورية على أرضه. دعونا لا ننسى أن الجماعات البشرية كلها، طائفية كانت أم إثنية أم وطنية، هي جماعات متخيلة، لأن البشر في كل مكان وزمان، هم البشر فحسب.

شروطٌ لازمة، وغير كافية

ثمة خصوم عنيدون لفكرة الجمهورية في سوريا، خصوم جذريون ومسلحون حتى أسنانهم، ولا بد من هزيمتهم حتماً قبل التفكير بالعبور إليها، وعلى رأسهم نظام الأسد الذي يمثل التكثيف الأكثر وضوحاً لما يمكن تسميته إرهاب الدولة المنظم، والذي وظف كل ما يمكنه توظيفه بما في ذلك شعارات المساواة وأقنعة الجمهورية لإحكام سلطته على الحجر والبشر في سوريا. كذلك لا بد من أن تلحق الهزيمة بداعش وأخواتها ومن يسير على نهجها، وبغير ذلك فإن لا طريق إلى الجمهورية يمكن السير فيه.

يمكن أن تتكفل إرادة الحياة والقتال عند الثوار السوريين دفاعاً عن أنفسهم وكراماتهم وحقوقهم بإلحاق الهزيمة بنظام الأسد والدولة الإسلامية ودعاة الخلافة المسلحين إذا ما توفرت ظروف دولية وإقليمية مساعدة، لكن هذا غير كافٍ للسير على طريق الجمهورية في سوريا. وأياً يكن من أمر الحرب الدائرة اليوم على الأرض السورية، فإن نهايتها يمكن أن تفتح طريقاً أمام عمل سياسي وثقافي جديٍ لأجل الجمهورية، ويمكن أن تغلقه لعقود طويلة لاحقة، هذا رهين بعوامل كثيرة داخلية وإقليمية ودولية.

بصرف النظر عن التسويات المحتملة وتقاطعات المصالح الدولية وتوازنات القوى، فإن السير على طريق الجمهورية يتطلب وجود قطب سياسي منظم يعمل لأجلها بدأبٍ وصبر، ووجود كتاب ومثقفين وحقوقيين وسياسيين يعملون بجدٍ لأجل الدفاع عن فكرتها. لا أعني هنا الدفاع عنها بتكرار شعارات المساواة والمواطنة، ذلك أن آلاف الكتابات والمقالات والتنظيرات حافلة بهذه الشعارات. بل أعني الدخول المنهجي والشجاع في نقاش عمق التفاصيل والتناقضات التي حالت دون بناء جمهوريات في «بلادنا» طيلة عقود من الاستقلال، والعمل على تقديم إجابات بعيدة عن الأوهام ونظريات المؤامرة على سؤال محدد: «ما الذي قد يمنع سكان هذه البلاد من العيش في ظل أنظمة سياسية تساوي بينهم؟».

دفاعاً عن فكرة الجمهورية، وليس عن دولتها

لم يكن هذا نصاً في الدفاع عن فكرة الدولة، وتالياً فإنه لم يكن نصاً في الدفاع عن الدولة الجمهورية، بل كان نصاً في الدفاع عن فكرة الجمهورية، بصرف النظر عن الدولة وأشكالها. ولتوضيح ذلك فإنه لا بد من الإشارة إلى أربع نقاط إشكالية ربما تسهم في فتح النقاش حول فكرة الجمهورية على آفاق أكثر تحرراً:

1- لم يكن المقصود بالقول أن مسألة المساواة في الجمهورية لا ينبغي نقاشها بوصفها قيمة أخلاقية، الذهاب نحو تجريد المساواة من بعدها الأخلاقي، بل كان المقصود الإشارة إلى أن القيم الأخلاقية نسبية دوماً، وأن المساواة لا تتطابق مع العدالة، ذلك لأن العدالة مشروطة بالطريق الذي يقود إليها، والذي تتعدد الرؤى حوله بتعدد عقائد البشر ومنظوماتهم القيمية. لهذا بالضبط، نقترح الجمهورية بوصفها فكرة تنطلق من قاعدة المساواة للسير نحو أوضاع أكثر تحرراً، الفكرة الجمهورية التي تقوم على الإقرار العام بضرورة المساواة الحقوقية، باعتبارها شرطاً لازماً وغير كافٍ للسير على طريق «امتلاك الجمهور للسياسة».

2- الدولة تحمل في بنيتها عدواناً بيناً على الحرية، فهي باحتكارها للعنف والهيمنة على عمليات الإنتاج والتبادل الاقتصادي، تفرض على الأفراد أنماطاً خطابيةً وسلوكيةً وإنتاجيةً ليست نابعة من خيارهم الحر. وحيث أنه لا خلاص قريباً من فكرة الدولة بالانتقال إلى أشكال اجتماع سياسي جديدة، فإن الكفاح التحرري الممكن، هو مواجهة الدولة دائماً بمطلب الحرية، من خلال السعي الدائم نحو المزيد من المساواة في حقوق الحياة والعمل والتنقل والتعبير والتجمع السلمي لسكان الدولة، ونحو التخفيف من تحكم الدولة المركزي في حياتهم.

3- جاءت كلمة بلادنا بين قوسين في كل مكان وردت فيه أعلاه، ذلك لأن هناك معضلة في هذه ال«نا»، ولأنه ليس ثمة إجابة متفق عليها على سؤال «من نحن؟»، من نحن حتى يكون لنا بلاد أو لا يكون؟ ذلك السؤال الذي لا يسعني اقتراح إجابة عليه، ولكن يسعني التأكيد على أنه أياً كانت الإجابة التي قد يتبناها واحد من سكان هذه البلاد، فإن الفكرة الجمهورية توفر فرصة مقبولة وممكنة النجاح، للخلاص من ضرورة البحث عن إجابة جمعية تستلب الأفراد وإراداتهم.

4- سيتطلب السير على طريق بناء دولة على أساس فكرة الجمهورية في سوريا وضع خارطة طريق سياسية واقعية تصل بسكانها إلى العيش في ظل نظام أو أنظمة تساوي بينهم في الحقوق والواجبات، وتنتصب عوائق كثيرةٌ أمام الوصول إلى هدف كهذا، لعل أبلغها أثراً عقائد السوريين وانتماءاتهم الطائفية والإثنية، ونزوع قادتهم المحليين وداعميهم وحلفائهم الإقليميين والدوليين إلى توظيف هذه العقائد والانتماءات في خوض الصراع وتأسيس السلطة. ولا أرى خلاصاً نظرياً ممكناً من أوضاع كهذه دون الدفاع عن اللامركزية الشديدة. أعني دون إعطاء المجتمعات المحلية أكبر قدر ممكن من الحق في إدارة شؤونها ذاتياً، عبر هيكل دستوري وإداري وتنظيمي واضح، أو لنقل عبر شكل من أشكال الفدرلة، التي تعطي لسكان «قطاعات» جغرافية محدودة صلاحيات تشريعية وإدارية واسعة، يشعر من خلالها السكان وقادتهم المحليون السياسيون والعسكريون بأنهم باتوا يملكون حق إدارة شؤونهم المحلية، وتكون مهمة السلطات المركزية ضبط وصيانة حقوق الأفراد و«القطاعات» على حد سواء.

ثمة ما يمكن التأسيس عليه في سوريا للسير على طريق الجمهورية، ثمة قتال الثوار السوريين الشجاع ضد نظام الأسد ودولة الخلافة الإسلامية، وثم الرغبة الجامحة في التحرر والانعتاق التي أظهرها المتظاهرون السوريون وهم يحاولون احتلال الساحات العامة وإعلان عصيانهم فيها. لكن المتظاهرين السوريين لم يخرجوا لأجل بناء دولة مدنية ديمقراطية كما يحلو لكثيرين القول، وكذلك لم يخرجوا لأجل بناء دولة إسلامية، بل إنهم خرجوا لأن الحياة لم تعد تطاق في ظل دولة الأسد، خرجوا انتصاراً لكراماتهم وحقوقهم وحريتهم، ينشدون من خلال ثورتهم الانتقال إلى حياة أفضل، أما كيف تصير حياتهم أفضل؟ فإنه السؤال الذي تنطح كثيرون لتقديم إجابات متعددةٍ عليه، من بينها إجابة أبي بكر البغدادي ومن معه من «أهل الحل والعقد»، وإجابة نظام الأسد الذي يدعوهم إلى المصالحة والعودة إلى حظيرته للسير «معاً على طريق الإصلاح»، وإجابات أخرى كثيرة غيرها، من بينها فكرة الجمهورية.